نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

محمد داني - قراءة في ومضات محمد فري

جبران الشداني

المؤسس
طاقم الإدارة
تقديم
هل صحيح أن نقدنا المعاصر، نقد مأزوم؟. لم أصابه العجز عن مواجهة المذاهب النقدية العالمية المعاصرة – كما يقول الدكتور وهب احمد رومية-(1)
هل صحيح أن نقدنا العربي يغلب عليه طابع النخبوية؟.
كل هذه الأسئلة شكلت لدي هوسا، وهما ،جعلاني أقدم على الومضات بنوع من التحفظ… لكن جماليتها أغرتني بركوب المغامرة، ودخول التجربة… رغم أنني دخلتها مجردا من كل الأسلحة النقدية.
لن أقول أنني اعتمدت في دخولها على مناهج نقدية معينة…أبدا…
لقد دخلتها وأنا ممتلئ فضولا لاكتشاف عالم الومضات. فوجدت فيها ما لاءم مشاعري/ ومس أحاسيسي، وهز كياني… فأبحرت بدون مقدمات، لأجد نفسي غارقا في قراءات عدة ، ومتنوعة، باحثا عن أسئلة واستفسارات، وبالتالي باحثا لها عن إجابات تكون مقنعة.
إن الكتابة عن ( ومضات) محمد فري، هي في الواقع محاولة البحث في فنياتها، وفي خطابها القصصي، وهذا دفعني إلى البحث عن الوصول إلى ماهية الومضة عند هذا الأديب المتميز، للوقوف بصفة إجمالية على مفهومها، والوقوف على نظرته الخاصة لفن الومضة.
لماذا ( ومضات) محمد فري؟. لن استطيع حصر الأسباب التي دفعتني إلى هذه المجموعة القصصية… ولكن كل ما أعرفه هو أن اختياري لها كان عن وعي.
لقد وجدت فيها كنصوص إبداعية، تجربة جديدة علي… تمثل في منظوري الخاص رؤية سردية ذات فنية عالية، وذات بعد أدبي أصيل.
إن هذه الومضات لها ارتباط بالسردية العربية العامة في خروج واضح على الشكلانية العربية الموروثة، وخروج على التكنيك الكلاسيكي العام.
وكمتلقين نعرف أن النقد هو قراءة للنصوص… وتؤكد الدكتورة يمنى العيد أن القراءة نشاط ذهني يمارسه القارئ…وتحتاج ممارسة القراءة إلى أدوات كي تصبح فعلا نشاطا ومنتجا.
تكون القراءة نشطة ومنتجة حين يكون بمقدور القارئ أن يفهم النص، ويفسره، فيناقشه أو يحاوره(2).
وتؤكد كذلك أن < < مفهوم القراءة بمعناها النشط هو نقد ينتج معرفة النص. وإن النقد بمعناه المنتج هو قراءة تمكن من يمارسها من أن يكون له حضوره الفاعل في النتاج الثقافي في المجتمع>> ( 3).
هكذا كان المسعى، وهو أن نكون من خلال هذه القراءة المتواضعة فاعلين، مسائلين لهذه الومضات، باحثين في دلالاتها، وأبعادها، ورؤاها.
والومضات للمبدع سي محمد فري يمكن اعتبارها مجموعة من الرسائل الفنية، والأدبية. لها علاقة مع هذا الواقع الذي تصفه، وتنتقده، وتعريه.
إن هذه الومضات من خلالها يرفض محمد فري واقعا ثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديان يتحكم في السيرورة العامة. ويحدد أدوارها المحتملة Les rôles virtuels والتي يريد هذا الواقع الممسوخ أن تتحقق رغما عن انف الكل..
هذه الكتابة المتميزة، التي يمارسها محمد فري، ويلقيها إلينا كرسالة تواصلية لا اغتراب فيها… من خلالها ننفتح على هم كبير يشغل بال الكاتب، وهو البحث عن مجتمع فاضل، سعيد ، بدون منغصات.
إن هذه القراءة، تحاول أن تلامس الرؤية التي طبع بها محمد فري ومضاته، والوقوف على القضايا التي يطرحها… بالإضافة إلى فنيتها ، وجماليتها الخاصة…
وأخيرا أتمنى أن تكون هذه القراءة تقدم شيئا لقارئها، وتجلي بعض الرؤيا حول هذه الومضات، متمنيا التوفيق من الله تعالى…
الهوامش
1- الدكتور وهب أحمد رومية، شعرنا القديم والنقد الجديد، عالم المعرفة، الكويت،العدد 207، مارس 1996، ص: 5.
2- يمنى العيد،الراوي: الموقع والشكل، مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان،ط1، 1986،ص:13.
3- يمنى العيد، المرجع نفسه، ص: 13.
الومضة/ القصة القصيرة جدا: محاولة في تحديد المصطلح
القصة القصيرة تعتبر عند بعض النقاد فن اللحظة المأزومة. وقد استجابت طبيعة القصة القصيرة لإحداثات حركة المجتمع المغربي، فواكبت أحداثه وتقلباته، وتغيراته…وسيرورته الحياتية.
إن فن القصة القصيرة كمصطلح إشكالية تستلزم مجموعة من الأسئلة:< < لقد حار المنظرون والمهتمون بالنظرية الأدبية في الإجابة عن عدد من التساؤلات التي يبعثها البحث في تاريخ هذا الجنس الأدبي، أو قراءة واقعه ومحاولة التنبؤ بمستقبله. واستطاع فن القصة القصيرة أن يخلق حوله ثلة من البؤر المعرفية التي تجبر القارئ على محاولة اقتراح مشاريع أجوبة لأسئلة الفن. وبما أن هذا الجنس تتجاذبه تيارات عديدة، وتتناوشه منازع مختلفة، فقد كثرت تعريفاته، لأنهم وجدوا أن لا سبيل إلى الإحاطة به>>(1)
تحديد المصطلح:
وعندما نفق على تعريف فن القصة القصيرة، نجده يتنوع ما بين اعتبار أنها:< <سرد مكتوب أو شفوي يدور حول أحداث محدودة. وأنها ممارسة فنية محدودة في الزمان والفضاء ، والكتابة>>(2).
وأنها:< <نموذج فني يتصل بكثير مما يهم الناس مما قد يضمن الفنان عمله...تجمع الفن إلى شيء آخر هام. فهي تعطي اللذة الفنية، والمتعة الجمالية، التي يعطينا كل عمل فني ، إلى جانب ما لها هي من خاصية أخرى تتصل بما يشغل الناس ، ويهمهم في الحياة>>(3).
ويعتبرها ولسن ثورنلي، أنها:< < سلسلة من المشاهد الموصوفة التي تنشأ خلالها حالة مسببة، تتطلب شخصية حاسمة ذات صفة مسيطرة، تحاول أن تحل نوعا من المشكلة من خلالها بعض الأحداث التي ترى أنها الأفضل لتحقيق الغرض. وتتعرض الأحداث لبعض العوائق والتصعيدات حتى تصل إلى نتيجة قرار تلك الشخصية النهائي>>(4).
أما فاليري شو، فيرى أنها:< < انسجام بين المتناقضات، تفاعل بين التوترات والمقولات المتعاكسة. قصيرة لكنها رنانة...مكتوبة نثرا لكن بها كثافة الشعر...مصنوعة من كلمات سوداء، على صفحة بيضاء، لكنها تومض باللون والحركة...مكتوبة لكنها تحاكي الكلام الإنساني...يبدو أن العامل الوحيد المشترك فيها، هو هذا التوازن الذي تسعى إليه>>(5).
من هنا ندخل عالم الأديب والمبدع الأستاذ سي محمد فري، الذي يتحفنا بسردياته المعبرة. فمن حيث الشكل الفني، فإننا نقف أمام لون قصصي بدأ يجد مكانته لما أصبحت الحياة اليوم تعرفه من سرعة، وضيق الوقت، وانتشار ثقافة الفاست فود…
إننا أمام شكل من الكتابة-لا نقول جديدا- بدأ يفرض بنيته، وأسلوبه، وتيمته. إنها القصة الومضة.
وعندما نعود إلى ذاكرة ومرجعية الأجناسية القصة القصيرة، والأقصوصة، فإن الأمر يحيلنا إلى المقامة، والمقالة القصصية، والقصة الشعرية، والقصة القصيرة، والقصة التجريبية، ثم القصة الومضة.
وأمام حداثة عمر القصة الومضة، والتراكم الذي بدأت تعرفه اليوم، والأسماء الجيدة التي غامرت في أدغالها، استطاعت أن تتلون بكل التلوين، من الواقعية إلى الرمزية، إلى العبثية، إلى اللاواقعية، إلى العجائبية….الشيء الذي نوع من سحنتها، ووسع في مساحتها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو حول مفهوم المصطلح( القصة الومضة).
إن تحديد المفهوم يزيل كل لبوس. ويزيل كل خلخلة مفاهيمية…ويخلق نوعا من الاتزان، ونوعا من التواصل الإجرائي، الدلالي مع المصطلح، واستعماله.
فهل يمكن تسميتها بالقصة القصيرة؟…
إن هذه التسمية تهضم القصة الومضة حقها، وتجعلها تسير في مجال ضيق يشوبه التوصيف، والتبعية، والمعيارية.
نعم…صحيح أن الشكل الخارجي يوحي بالقصر المفرط. لكن هذا لا يمنع من أن القصة الومضة فن قصصي جديد. نقف على مفهومها الاصطلاحين نستشفه من ومضات سي محمد فري من كتابه ( ومضات). حيث يعتمد فيها على الحذف، والتكثيف، وعلى الإبراق السريع، والمكثف. كما أن شكلها عنده يأخذ شكل الأسطر الشعرية، والكتابة التلغرافية…وهذا هو الذي يعطيها جماليتها.
فالإيماض، والإشارة ، والتلميح، والإيجاز البليغ من خاصية القصة الومضة.
إن سي محمد فري في ومضاته، يعتمد يعتمد المفاجأة، والتأثير، والتبليغ الإشاري، والمجاز، والترميز…
إنه بذلك يكسر رتابة الحكي، وثقل السرد…ويخرج عن المألوف، والموروث…
إنه يتمرد على الشكل المعروف والمتبادل، أي رفض للنموذج القصصي المعروف. فيكسر البناء الدرامي الأرسطي، المستند إلى المقدمة، والعرض، والخاتمة.
إن سي محمد فري قاص متمكن من آلياته القصصية. متمرس في صياغة عوالم قصصية تجريبية، تشد إليها المتلقي…مؤمنا أن القصة الومضة، هي فن الحذف، والترميز، والتكثيف، وحضور النهاية القوية المركزة، والتضمين، والإيحاء، مع اعتماد لغة تلغرافية.
ومحمد فري يعمل جاهدا على ترسيخ هذا اللون الأدبي الجديد، إلى جانب ثلة من الأدباء المغاربة، أمثال: عبد الله المتقي ، وحسن برطال.وعز الدين الماعزي ، ومصطفى لغتيري ، وسعيد منتسب،والبشير الأزمي، ومحمد فاهي ، وغيرهم. متأثرين في ذلك برائدها في المغرب الأستاذ إبراهيم بوعلو في مجموعته( 50 قصة في دقيقة).
الهوامش
1- د. أحمد جاسم الحسين، القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين،نشر اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2001،ص:4.
2- د. سعيد علوش، في معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، سوشبريس، الدار البيضاء،1985، ص: 181.
3- د. محمد زغلول سلام ، دراسات في القصة العربية الحديثة: أصولها، اتجاهاتها، أعلامها، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1983،ص: 5.
4- ولسن ثورنلي، كتابة القصة القصيرة، ترجمة، د.مانع حماد الجهني، النادي الأدبي الثقافي، جدة، 1992، ص:20.
5- د. مجدي دومة، تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص:76.
الكتابة عند محمد فري من خلال الومضات
إن النصوص السردية التي أمامنا ، نصوص فاضحة، كاشفة،وواشية. فهي تفضح مسار سي محمد فري السردي، ومنهجيته في الكتابة.
إن سي محمد فر من خلال ( ومضات) يمارس تأثيره، وسحره فينا. فيشدنا إلى ومضاته شدا. هذا يجعلنا نجوب ومضاته بحثا عن فنية الكتابة عنده، وبحثا عن تحديد العوالم التي يريد أن ينقلها إلينا كمتلقين.
والسؤال الذي يشغلنا ونحن نقف على هذه الومضات، هو مفهوم الكتابة عند محمد فري.
إن الكتابة عنده هي فعل لقراءة الوجود…هي تركيب جمالي لمجموعة من المكونات الجمالية، واللغوية.
إن الكتابة عنده عمل تواصلي…رسالة ذات شفرات خاصة. يدفعنا إلى قراءتها،وإعادة تركيبها، وتحليلها،وفكها ترميزها.
إن الكتابة عند محمد فري تعبير عن الذات، وتحقيق لوجود،وفهم للعالم والمحيط. وبواسطة الكتابة ، يعيد بناء هذا العالم في صور مختلفة تتدرج من الواقعية، إلى التهكم، والنقد، والتعرية.
كما أنها إجابة على كثير من الأسئلة التي تشابكت في ذهنه، وفكره.
وأول نصوصه في ومضات ( قلم)، يتضمن رؤيته للكتابة، وغايته منها.
إن الكتابة التي يريد، هي الكتابة الأدبية، التي تقدم للقارئ شيئا. إنه في كتابته يعي مفهوم الكتابة. حيث تجعله يتساءل:< < هل ما يقدمه لقرائه الخواص يمكن أن يعتبر حقيقة أدبا مغربيا جديدا، يضيق مسافات أبعد مما كاد يغامر في الأسئلة ومستويات الكشف، والتأمل، كيف يمكن له أن يتميز عن آخرين( سابق-معاصر- و آت). ومن قواعد الكتابة المألوفة ( مغربيا- عربيا – وعالميا). ما حدود خروجه عن الشكل السطحي والرتيب(...). أليس في هذا ما يربك القارئ، ويخل بأفق انتظاره ويؤزمه>>.(1)
كل هذا جزء من الكتابة التي قرر محمد فري المغامرة فيها.
والجميل جدا، هو أن الكتابة عند محمد فري في ( ومضات)، هي انفلات من ربقة الموروث، ومن نير الكلاسيكية وقوانينها العتيقة. لقد أصبحت الكتابة عنده ميثاقا حداثيا، تطوريا، ثوريا على الموروث.حيث:< <يخرج المكتوب عن حدود خطيته إلى آفاق لا متناهية، خاصة وأن الدور الأساسي للأدب يكمن في فعل طرح الأسئلة وعلامات الاستفهام>>(2).
إن الكتابة عنده تصبح معارضة لهذا المجتمع، ومعارضة وفضحا لتناقضاته الكثيرة. بل هي أبعد من ذلك عنده. حيث تتحول الكتابة إلى استلهام لكل ما يرى ويسمع ويقرأ، ليحوله إلى كتابة ذات دلالة ومعنى،وفنية وجمالية. وهذا يتقارب مع ما أشار إليه ( ماريو بارغاس يوسا)، حين قال:< <إن الكاتب الكبير مخلوق شره، مخرب آثار، يضع في جرابه كل ما يمكن أن يصل إليه، يستعمل جميع الوسائل، يتناول ويدخل ويعيد تركيب كل أنواع المواد في جمع أو بناء إبداعه الخاص. يمكن لكل شيء على الإطلاق أن يمارس تأثيرا عليه. كتابا تأمله، أو قرأه بالمصادفة، قصاصة صحفية، إشهارا، جملة ملتقطة في مقهى، حكاية شائعة، استغراقا في وجه، في رسم، أو في صورة ما.
وإذا كانت الإعادة الحرفية لطوبوغرافيا( أوفيدو) تصلح قالبا ( لفتوستا)، وصور بعض الأبطال تصوب عمل كاتبنا جيدا، أو التأثر بالقراءات الفرنسية لستاندال وزولا ضرورية كذلك في روايته، فإن كلاران كان مثل ديكنز وبالزاك، وتولستوي، يستلهم من كل ما يرى ويقرأ>>(3).
هكذا نجد محمد فري. فالكتابة عنده هي استلهام لما يرى وما يقرأ.
والومضات ككتابة فنية، هي ميثاق الكاتب محمد فري، تجعل القارئ يتدخل رغما عنه في إعادة العالم المتخيل وفق طابع الومضات.
إن هذه الومضات ككتابة، تحيل على الحياة الاجتماعية، والسياسية، والتاريخية التي تتحدث عنها. والتي كتبت فيها. كما أنها تستجيب – أيضا- لقوانين الجنس الأدبي، وهو فن الومضة/ القصة القصيرة جدا، الذي تنتمي إليه.
هكذا تصبح الكتابة عنده تأملا،ونقدا اجتماعيا، ورؤية إصلاحية. بل تصبح في رؤياه نصا:< < يتشكل باستمرار دون أن يكف عن مساءلة نفسه>>(4).
وهذه الكتابة التي يقدمها سي محمد فري على شكل ومضات، نقول فيها ما قاله الكاتب المصري محمود أمين العالم:< < فهي ليست بالكتابة السطحية التي يمكن أن تمسح ، أو تنسى بمجرد مغادرتها. بل هي بالحق وفي غير مغالاة، كتابة بالحفر العميق في حقائق وظواهر تجاربنا الثقافية،القومية، والإنسانية، التراثية ،والمعاصرة عامة، التي تظل تتابعنا وتلاحقنا بعد قراءتها>>(5).
هكذا نجد مجمد فري في قصته القصيرة الأولى، التي يفتتح بها ومضاته، يؤسس فيها لعالمه في الكتابة، ويضع لبناته لطريقته في الكتابة، واستراتيجيته التي جعلته يعتمد فن الومضة كطريقة.
إن ومضة( قلم) نجد فيها الحكي داخل الحكي، والقصة داخل القصة.
لقد كان في كتاباته السابقة يبحث عن الطريق الأمثل للوصول إلى المتلقي…لقد اتبع الطريقة المعروفة، والموروثة، الكلاسيكية التي تلعب على دغدغة مشاعر القارئ، واستيلاب مشاعره. ولكن ما لبث أن عدل عن الفكرة، وبدأ يبحث عن طريقة ثانية. لأنه أحس أن الطريقة المتبعة لا تعجبه. ولم ترق له:< < توقف القلم بيدي ، وأحسست كأنه يسخر مني...فوجئت في البداية...لكنني أدركت أن علي أن تغيير القفرة>>.
هكذا قرر تغيير الطريقة، والتناول،ونهج أسلوب آخر. ثم بدأ التجريب ثانية، وانغمس في الكتابة العاطفية، متلمسا قصص إحسان عبد القدوس، وعبد الحليم عبد الله، وكتابات رومانسية فرنسية، ذات العواطف المريضة. لكنه لم يقتنع بهذا النهج:< < وأحسست بالقلم يهتز من جديد،وفضح سخريته بتهتهة حادة. أحسست بنوع من الخجل المشوب بالحيرة ينتابني، وقررت أن أبدأ فقرة تكون الأخيرة>>.
وبدأ التجريب ثالثة، حيث نزل إلى المجتمع ، واختلط بالناس. وأحس بهم، وعبر عن مشاعرهم،وأحاسيسهم، وما يؤلمهم، لأنه واحد منهم. ومن ثم جاءت كتاباته اجتماعية، معبرة عن التهميش والمهتمين، والمحرومين والمنبوذين، والمقهورين. وهنا وجد ضالته، وأحس أنه وجد الخيط الرفيع الذي كان يبحث عنه،وعثر على ميزان طوباز الذي جعله يبدع، ويحس بقيمة ما يبدع:< < وكادت تنحبس أنفاسي عندما لاحظت نشاطا يعم القلم...وتستبد به خفة غير معهودة...واكتشفت أنه لم يسخر مني هذه المرة...ثم تابعت الفقرة>>.
هكذا وجد في تصوير المجتمع،ونقل وقائعه، وتعرية مظاهره ،وظواهره، وانتقاد سلوكاته، مجالا خصبا للكتابة…وبالتالي جاءت كتابته بلزاكية الروح، إنسانية الملامح.
الهوامش
1- حسن بورقية ، وهج الكتابة ،المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،2000، ص: 6.
2- حسن بورقية، المرجع نفسه،ص:7.
3- حسن بورقية، المرجع نفسه، ص:8.
4- حسن بورقية، المرجع نفسه، ص:9.
5- فاطمة ناعوت، الكتابة بالطباشير، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط1، 2006،ص:9.
عالم الومضات السيميوطيقي
العتبات النصية/ النص الموازي:
عندما نعود إلى هذه المجموعة، يستوقفنا العنوان( ومضات)، وهو دال في معناه، وفي سياقه على محتوى المجموعة الأجناسي…
فالكاتب سي محمد فري، يقصد بها الإبراقات، أو التلكسات، أو التلغرافات المرسلة إلى المتلقي.
وكعتبة نصية، والذي يقصد منها سي محمد فري مهمة التقديم، والتبليغ، ننفذ من خلالها إلى داخل هذه الومضات، وتساهم في جمالياتها…
وحتى نحدد هذه العتبات النصية، والتي هي نصوص موازية، فإن قراءتنا المنهجية نحدد من خلالها العناصر التالية:
- الغلاف: وهو عبارة عن لوحة معبرة، تمثل زقاقا وشرفة، وهي مضاءة بنور خافت، شاحب تتناسب ألوانه، عنوان المجموعة ودلالاتها. ويتوسط هذا الغلاف العنوان( ومضات) الذي يمثل وميضا داخل سواد ليلي، يعطي للمكان إشراقا ونورانية…فتطابق بذلك الدال والمدلول.
< < والواقع أن الذات في اللوحة التشكيلية تستجمع القوى لخوض غمار التجربة والرحلة الباطنية، وللجمل في هذا السفر بدلالاته الواقعية والرمزية ألق الابتهاج ووحشة المتاه في صحراء الذات والعالم. وليس الصبر والمجاهدة والظمأ، والارتواء بماء الحياة سوى سكرة من سكرات الانخطاف بنور الوجود الجوهري. ولهذا تستحق اللوحة التشكيلية ولوج العالم التخييلي الكتابي، فتنسل إلى الفضاءات النصية لتؤشر على رحلة السفر في الكينونة الوجودية الحافلة بإشراق الوجوه والذوات والأمكنة. إنه العشق الذي يثبتنا في المكان، ويثبت المكان فينا>>.(1).
ولذلك ليست اللوحة المثبتة في الغلاف هامشا، أو مفسرا، أو مساعدا على الفهم، وإنما هي غوص في الأصح مشروع قرائي أولي للنص.
- الأجناسية: في الغلاف أثبتت أجناسية المجموعة، وحددت نوعيتها( قصص قصيرة جدا). وهذا يدل على وعي المبدع سي محمد فري بهذا الفن القصصي، والكتابة فيه، ونسب عمله إليه.
- والسؤال المطروح هو: هل سي محمد فري تعمد تسمية المجموعة بالومضات، وتجنيسها إلى القصة القصيرة جدا، حتى لا يقع في التكرارية؟. هل تعمد الإشارة وبوضوح إلى أن العنوان( ومضات)، يقصد به في نفس الوقت تجنيس هذا العمل الأدبي؟. هذا ما لا شك فيه.
- الإهداء: الإهداء كعتبة نصية، يبين المرسل إليه،ولمن وجه إليه هذا العمل. فنجده يهدي ( ومضات) إلى صديقه الأستاذ ( مرتضى العبيدي)، وهو الذي قام بترجمة نصوص( ومضات) إلى الفرنسية، وهي مثبتة داخل هذه المجموعة.
كما يشكره في هذا الإهداء على الجهود التي بذلها الأستاذ العبيدي لإنجاز هذا الكتاب.
– العنوان: العنوان كما نجده عند ليو هوكLéo Hock هو:< < مجموعة من الأدلة اللسانية التي يمكن أن تعتلي النص، والإشارة إلى محتواه العام، وإغراء الجمهور المقصود>>(2).
وهو الوجه الذي نتعرف به على النص، ونلجه من خلاله. فهو يفتح شهيتنا للقراءة، ويغرينا بالسفر في ثنايا النص، واكتشاف أغواره.كما أنه يمدنا بالدهشة واللذة الأوليتين لولوج عالم النص.
< <ويتخذ العنوان أهميته عندما نربطه بالنص. فتصبح له دلالات وإيحاءات تفسيرية، وتعليلية لوجود العلاقات الجدلية بينه وبين هذا النص. بل هو نص واصف للنص( نص موازParatexte (. ما دام يحكي عنه بطريقة إيحائية ودلالية.
والعنوان الذي اختاره سي محمد فري لهذه المجموعة القصصية القصيرة جدا هو: ( ومضات).
ومن خلاله تداهمنا مجموعة من الأسئلة تتمحور حول قراءتنا لهذه العنوان وكيفية التعامل معه.
ومباشرة بعد قراءة هذا العنوان، نجد التحديد الأجناسي( قصص قصيرة جدا)، وهي إشارة تنضاف إلى التركيبة الاسمية( ومضات) وهو في موقعيته خبر لمبتدإ محذوف تقديره ( عنوان المجموعة: ومضات).
وهو كعنوان له دلالته الاستعارية التي تشير إلى الومضات ( القصص القصيرة) المدرجة في المجموعة.
والذي نلاحظه هوان سي محمد فري قد وقع اختياره على هذا العنوان بعد انتهائه من كتابة هذه الومضات ونشرها متفرقة ،وجمعها كمشروع كتاب. فهو كعنوان يترجم مضمون المجموعة.
ولذلك نعتبر ( ومضات) تجربة صادمة،عميقة، لأنها تفجر فينا الدهشة الأولية، وتولد فينا صراعا يمارس في داخلنا الهدم والبناء.
إنها خطاب قصصي متميز في شكليته ودلالته، يندد بالعادي، والمألوف،والابتذال، من خلال المزج بين الواقعي والخيالي، في صورة محك جميل، فني.
و(ومضات)، جمع ومضة، وهي اللمعة الخفيفة،والتي لم ينتشر ضياؤها في نواحي الغيم.ومن معانيها أيضا: (أومض البرق): لمع خفيفا،( وأومض فلان إلى صاحبه):أشار بإشارة خفية. و (أومضت المرأة): تبسمت. و( تومضت): سارقت النظر.(3).
من هنا نخرج بمفهوم دلالي يقترب من مفهوم الكلمة معجميا، وهي أن ( ومضات) سي محمد فري هي إشارات ،وتلميحات، ولمعات خفيفة،وتبسمات ساخرة ونقدية لأوضاع، وتمظهرات اجتماعية ، وقيمية وإنسانية.
- محتويات الومضات:والمجموعة( ومضات) تشتمل على 39 قصة ومضة. وهي ( قلم- صيد- أجرة- مواجهة- برنامج- روزمانة- سور- متاهة- مقابلة- العصفور- اعتبار- يوم عادي- خصام- خطبة- الكاتب- إسعاف- نظرات- انتظار- حروف- شعر- بركة- التفاحة- خيط من النور- فطور- بطاقة هوية- عينان- المحاضرة- اللوحة- نشيد- انتصار- ضجيج- غروب- الصلصال- تسوق- انفجار- أحلام- دمعة- وعود- شكوى).
- ميزة الومضات: تمتاز هذه الومضات المدرجة في المجموعة بميزات شكلية، وأخرى أسلوبية. فقد أوردها سي محمد فري في صورة تأخذ شكل القصيدة، حيث اعتمد على الأسطر الشعرية. الشيء الذي وفر لها نوعا من الجمالية الشعرية، ونوعا من الإيقاعية، والسرعة السردية.
كما أنها تأخذ شكل التلغراف والإبراق، أو الرسالة التلغرافية. إنها ومضات وإشارات فنية، ملمحة.
أما من حيث الأسلوب، فإنها جاءت غنية بالتكثيف، والإيجاز، والاختصار، والحذف، والإزاحة.
كذلك امتازت بالدقة في التعبير، والفنية في التصوير، والغنى الدلالي.
ويلاحظ أن 31 ومضة جاء عنوانها نكرة، و6 نصوص عنوانها معرف ب(ال)، ونص واحد عنوانه معرف بالإضافة، و نص واحد عنوانه معرف بشبه الإضافة.
- فنية الومضات: كما أن سي محمد فري، اعتمد لغة واضحة،ممتعة وممتنعة...تصل إلى هدفها بسرعة.
إن سي محمد فري، يتنقل في ومضاته هذه من وعي إلى وعي في صياغة فنية بديعة، معتمدا فيها على ضمير الغائب، ليعطينا صورة مجتمعية جديرة بالمتابعة.
وهذا العمل لا يخلو من موضوعية، وفنية، والتي تشهد على وعي سي محمد فري، وذاتيته المبدعة...نتصور من خلالها هذا العمل الأدبي المتميز.
فسي محمد فري لم يضع هذا العمل( ومضات)، ولكن ومضات هي التي وضعت نفسها بنفسها، كما تقول مقولة ميشيل بوتور...
فمن خلال هذه الومضات ، يمكن أن نخرج بخلاصة/ صورة عن المجتمع، وعن شخوصه المحركة له. كما نتبين من خلالها أيضا إسهام سي محمد فري في نقد المجتمع، وتحليله، وتبيان ظواهره المتنوعة، والكثيرة.
إنها بصريح العبارة، مشروع أدبي/ قصصي/ نقدي/ انتقادي/مجتمعي...
وعند قراءة ( ومضات)،نجد أن هناك علاقة خفية، أو ضمنية،موجودة بين وعي الكاتب الجمعي، وبين الومضات المدرجة في المجموعة.
ويظهر ذلك جليا في التطابق التام بين الخط العام لومضات، والمحتوى أو المضمون الواقعي، والاجتماعي.
وهذا أعطى لهذا العمل الأدبي نوعا من الجمالية، والفنية والأدبية،ما جعل مضمونه السطحي يطابق الوعي الاجتماعي، والنقدي، والقيمي الذي يعبر عنه، ولو أنها تتخذ صياغة متميزة عما يجري في الواقع.. وذلك أن المبدع سي محمد فري، يصوغ عالما من العلاقات، والمظاهر التي تدخل في نطاق التركيب الواقعي والخيالي...وهذا يجعلنا نقف على العلاقة الموجودة بين مضمون الومضات، والانتماء الاجتماعي للأديب محمد فري، ونقف على وعيه ذي الأبعاد الإنسانية.
الهوامش
1- د. عبد القادر الغزالي، الصورة الشعرية وأسئلة الذات، دار الثقافة، الدار البيضاء،ط1،2004، ص:19.
2-Gérard Genette :Seuils, Ed, DE SEUIL, 1987, p : 54
3- قاموس المعتمد ، دار صادر ، بيروت ، ط 1، ص:799.
الواقعية والوعي المجتمعي في الومضات
والجميل عند محمد فري، هو انه ينظر إلى المجتمع كوحدة يجب التعبير عنها، معتمدا على الإشكالية الفنية بدل الإشكالية الاجتماعية، ومقدما ذلك كله في أسلوب إشكالي يجسم فيه عيوب المجتمع، ونقده.
وفي هذا الوعي المجتمعي، نجد محمد فري يوظف فيه ضمير الغائب، ليبين فداحة هذا الواقع، وعيوبه، والقهر الذي يمارس فيه. كما أنه يفقد الزمان والمكان أهميتها، فيتلاشى الزمان، ولا يظهر إلا في الصياغة الجملية، وبنية الأفعال الموظفة. أما المكان فيفقد بريقه، لأن محمد فري يهدف إلى الإبلاغ، والتلميح السريعين، وإلى موسوعية الحدث، وكونيته. وعدم خضوعه لزمان ومكان محددين…
إنه يصور علاقات إنسانية، واجتماعية تسير الفعل الإنساني والمجتمعي. وتساهم في سيرورته…بالإضافة إلى أن هذه الومضات هي رحلة فكرية، وصور ومشاهد مجتمعية.
فاللحظات مكثفة زمنيا…بالإضافة إلى مسحة السخرية التي تغلف هذه الومضات. فهو يسخر من هذه المظاهر الاجتماعية الشاذة، ومن هذه العلاقات الاجتماعية السالبة…والسلبية…إنه يوظف السخرية في أسلوبه، ولغته.
وعمل سي محمد فري هذا فيه نوع من الإغراء للمتلقي/ القارئ، وشده له على القراءة، والمتابعة. وقد خلق عمله هذا تفاعلا بينه وبين المتلقي/ القارئ. وأحدث معه نوعا من الاكتمال النسبي.
وهذه الومضات تعتبر نصوصا تأسيسية لفن القصة الومضة عند محمد فري، ولعالمه السردي. فالسرد القصصي فيها يمتاز بالجدة ، والحداثة، والخروج عن الكلاسيكية الموروثة… إنها تغيير في الأصول.
كما نجد فيها نوعا من التجاوز، أو التعدي للسرد الواقعي، إلى السرد المشهدي. والاعتماد على الحركة، واللقطة القصصية المعبرة.
وهذا يبين وعي محمد فري بفنية القصة الومضة، وتقنياتها، وتقنيات خطابها السردي.
فهي عنده تحد للشكلانية الموروثة، والمعروفة، والابتعاد عن التفاصيل السردية، والحكائية. فانعدمت التفاصيل، وبرزت النتائج، والأثر النهائي.
إن محمد فري، ينسج ومضاته بواقعية مباشرة، يستهدف منها تعرية الواقع، ونقد المجتمع، ورصد معالم الانتكاس والتخلف، والقهقرة، بأسلوب لاذع، ساخر…
وعندما نمعن النظر في (ومضات)، نجد أن البنية السردية للخطاب فيها تتشكل من ثلاثة مكونات، هي:
- الراوي/ الكاتب( المرسل).
- المروي( الحكاية/ الحدث).
- المروي له ( المرسل إليه)( المتلقي/ القارئ).
وهو سرد تابع، لأن الومضات تتضمن سرد أحداث وقعت قبل زمن السرد.
وسي محمد فري، قدم للمرسل إليه( المتلقي/ القارئ)، هذه الومضات في أسلوب تيار الوعي، حيث عرض أحداثها في فترة وجيزة. فجاء زمن الومضات أقل من زمن الحكاية.فهو لا يتعدى بعض لحظات.(1).
ورغم قصر المدة الزمنية، فهي تتوفر على بنية عميقة للمروي/ الحدث. وللكشف عنها لا بد من الوقوف على وظائف القص:< < باعتبارها العنصر الثابت الذي يستخرج من أحداث مماثلة، ومن القائمين بهذه الأحداث الذين هم أشخاص القصة>>(2) .
وبتطبيق نموذج كلود بريمون، الذي جعل منطق تتابع الوظائف في الحكاية/ الحدث/ المروي، في ثلاث محطات، هي:
- تحديد الهدف.
- عملية تحقيق الهدف.
- النجاح أو الإخفاق.
هكذا نجد أن البنية السردية للمروي في( ومضات)، يتجاذبها فعلان، هما:
- إرادة الكاتب / الراوي سي محمد فري.
- التغييرات الواقعة في المجتمع.
وهما يشكلان معا منظور الكاتب محمد فري،ونظرته للمجتمع ، ووقائعه.
ومن هذه الومضات يتبين أن سي محمد فري مهمته الإصلاحية،والانتقادية صعبة…لأنه يكتب عن مجتمع ، وواقعه من خلال عمليات ثلاث: الملاحظة، والمعاينة، والتساؤل، ثم الكتابة.
إن هذا الواقع ومظاهره ، استفزه، ودفعه إلى الكتابة، وبذلك جمع بين الكتابة، والتعرية، والسخرية والإصلاح… والتي تعبر كلها مجتمعة عن مأساة يعانيها المجتمع، مواطنوه. وهذا ما آلم الكاتب ، ودفعه إلى الكتابة… والجهر بأحاسيسه…
إن الكاتب يهتم بالحياة العامة، ويتأثر بمشاكلها…فهو يرصد الواقع بكل تجلياته، رصد الناقد، والمصلح، والمتتبع…
من هنا فومضات محمد فري لا تخلو من واقعية…فالعنوان في مضمونه يؤسس لهذه الواقعية… إنها ومضات تعج بالحياة، ومتناقضاتها…
فمحمد فري ينطلق في كتاباته( ومضات) من ترسباته، ومرجعياته، وملاحظاته، ومشاهداته…وهذا غلف الومضات بواقعية اجتماعية، اهتم فيها سي محمد فري باليومي، والسياسي، والثقافي، والمحكي الشعبي… فكانت ومضاته طبقا دسما، يغري بالقراءة…
إن ( ومضات) نستخلص منها مشاهدات خاصة، تعطينا تأكيدا ، أننا في بلد المفارقات، وبلد الفوارق، والطبقات، والصراعات الإيديولوجية.
كل هذا غلفه بسخرية سوداء، تضحك الفم وتدمي القلب…
سخرية لا تخلو هي أيضا من واقعية… الشيء الذي أعطى لومضاته نوعا من الدعابة الفنية، الجميلة…


- القيم في الومضات: وهذه الومضات لا تخلو من قيم، والتي ترتبط بالسلوك الإنساني عامة. فمفهوم القيمة:< < يرتبط بالسلوك الإنساني وما يولده من مستويات معرفية، تنبثق عنها موضوعات اجتماعية وفنية، وحضارية، وفلسفية، تتناول قضايا الإنسان وموقفه من الكون، والوجود. ومن ثم موقعه من عالم لا متناهي الحركة>>.
فليست القيمة شكلا مكتملا، جاهزا، ثابتا. بل هي شكل صوري يقبله المنطق من خلال عملية استقراء الواقع الإنساني، وما ينتج عنه من حقائق ترسخ تفاعل الإنسان مع الكون.
فالقيمة التي نتغياها بالدرجة الأولى في ومضات سي محمد فرين هي القيمة الإبداعية، المرتبطة بعملية الخلق الفني. فتتحول الرؤيا بالفعل الإبداعي إلى خلق جديد يعكس تغيير ملامح العالم.
إن القراءة لهذه الومضات، تجعلنا تقف على معرفة حدسية، والتي تساعدنا على:< < تفتيت العمل الإبداعي إلى عناصره الجزئية، وبعد ذلك تفحص العلاقات الموجودة بين هذه العناصر، وتدمجها من جديد غي وحدة كلية>>(3).
مستويات القراءة ومستيات المعرفة في الومضات: فهذه الومضات هي مكتوب، له شكله الهندسي الخاص، يتضمن عبقرية إبداعية وفنية، الشيء الذي أعطاها صورة قابلة للقراءة و التأويل…الشيء الذي يجعل مستويات القراءة تقابل مستويات المعرفة، والتي يجعلها الناقد والباحث الدكتور حميد لحميداني، كالتالي: (4).
مستويات المعرفة مستويات القراءة الوظيفة
المعرفة الحدسية القراءة الحدسية التذوق- المتعة
المعرفة الإيديولوجية القراءة الإيديولوجية المنفعة
المعرفة الذهنية القراءة المعرفية التحليل
المعرفة الإبستيمولوجية القراءة المنهاجية التأمل المقارن
إدراك الأبعاد
من هما ، فإن سي محمد فري يجعل من ومضاته مستويات للقراءة. فنصوصه مفتوحة على الكل. تجعل عملية التلقي حميمية. الشيء الذي يخلق نوعا من التمازج بين هذه الومضات، وبين القارئ/ المتلقي في أثناء القراءة.
وهذا يولد في القارئ/ المتلقي توافقا أو تخييبا لآماله، ويركز:< < ياوس على عامل التخييب الذي من شأنه زحزحة الموروث وتطعيمه، أو تحويله وتبديله، وخلق أفق جديد يخلفه، فيتيح للنص سبل تقديم معايير جديدة، تتجاوز السائد(5).
وهذا ينتج عنه نوع من التأثير، جراء تلقيه كما يقول بذلك إيبرهارت لمرت Eberhardt Lammert (6).
- البناء في الومضات :إن الومضات، تنطوي على حكايات،وأحداث متنوعة، فهي تشكل وعي الومضات لما تشمل عليه من قضايا،ووقائع مجتمعية، وظواهر اجتماعية.
ويعتبر الأستاذ محمد خضير في مقاله بجريدة الجمهورية( 27/8/1987)، أن الحكاية شكل من :<< أشكال الوعي الفكري لابتداء مرحلة جديدة من مراحل الإنجازات البشرية العظمى في عملية الكتابة الأدبية>> (7).
وقد تمظهرت الحكاية/ الحادثة في ومضات في أوجه عديدة، استخدمها سي محمد فري وسيلة لإيصال ما يريد إيصاله إلى هذا المتلقي/ القارئ.
وفي هذه الومضات، نجد الراوي، وهو الشخص الذي يروي القصة، أو هو الصوت الخفي الذي لا يتجسد إلا من خلال ملفوظه، هو الكاتب نفسه. فهو :< < يأخذ على عاتقه سرد الحوادث، ووصف الأماكن، وتقديم الشخصيات، ونقل كلامها، والتعبير عن أفكارها ومشاعرها، وأحاسيسها>>(8).
فهو – كما يقول الأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم- الواسطة بين مادة الومضات، والمتلقي. وله حضور فاعل لأنه يقوم بصياغة تلك المادة(9).
والومضات اتخذت هذا الشكل الذي هو مثبت في المجموعة، لأن هذه رؤية محمد فري، و< <الطريقة التي اعتبر بها الراوي الأحداث عند تقديمها>>(10).
ولذا جاءت نوعية البناء خاضعة لهذه الرؤية. ومحمد فري في جل ومضاته يتحدث إلى القارئ/ المتلقي مستعينا بضمير الغائب.
و محمد فري، يمرر خطابه السردي بلغة واحدة، تستدعي قارئا/ متلقيا متعددا، يستطيع بمرجعياته الثقافية المتعددة، تفكيك هذه اللغة، والتوصل إلى فك شقرتها.
وهذه اللغة السردية، أدبية، تؤطر النصوص/ الومضات، وتشكل وعيها الموضوعي.
الهوامش
1- كواري مبروك، مجلة الموقف الأدبي، ع 438، تشرين الأول، 2007).
2- السيد إبراهيم، نظرية الرواية، ص:177.
3- د.حميد لحميداني، مستويات التلقي: القصة القصيرة نموذجا، مجلة دراسات سيميائية أدبية، ع 6 ، 1992،ص:98.
4- المرجع نفسه، ص:99.
5- د. حبيب مونسي، مجلة الموقف الأدبي، دمشق،ع 443، آذار 2008.
6- مجلة دراسات سيميائية أدبية، ع6،1992، ًص:2.
7- عبد الله إبراهيم،المتخيل السردي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، حزيران 1990، ص: 19.
8- د. سيزا قاسم، بناء الرواية، ص: 158.
9- المرجع نفسه، ص: 61.
10- حسين الواد، البنية القصصية في رسالة الغفران، ص: 64.
السخرية في الومضات
كما أن هذه الومضات، لا تخلو من سخرية، والتي يعرفها جورج لوكاش، قائلا:< < وتدل السخرية من حيث هي مكون للجنس الأدبي الروائي، على أن الذات المعيارية، والمبدعة تنشطر ذاتيتين: إحداهما هي تلك التي تجابه، من حيث هي طوية القوى المركبة الغريبة عنها، وتجهد في سبيل جعل محتوياتها نفسها تخيم على عالم غريب. والأخرى هي التي تكتشف الطابع التجريبي لعالمي الذات، والموضوع. وبالتالي طابعهما المحدود>> (1).
وتتأسس السخرية في ( ومضات) على أساس المفارقة الضدية(2).
< < فكلما ازداد العالم الواقعي الراهن مفارقات ازدادت درجة التهكم، والسخرية لدى السارد. وكلما ازدادت السخرية ازداد الحنين إلى الماضي والاحتماء بفضاءاته. فالسارد وهو يسخر من الواقع الفعلي بخيباته يواجهه ويضع محله واقعا آخر يحاول أن يسترجعه من الماضي. مما يضعنا أمام علاقة توتر بين الماضي والحاضر. فإذا كان الماضي حرية، فإن الحاضر قيد>>(3).
وتتحقق السخرية في ومضات على مستويين بارزين، هما:
- المستوى الأول: يتخذ طابع الهجاء، والتهكم، والنقد، والاستعراض، لهذا الواقع المتعفن، وللظواهر التي تسود هذا المجتمع.
- المستوى الثاني: ويتمثل في تمرد الكاتب على الموروث الشكلين وعلى المعيارية، والتقليدية. ويتمثل أيضا في تبنيه شكل السطر الشعري/ القصيدة، والجملة التلغرافية، واللغة المكثفة، والصورة المشهدية المعبرة،والموقف القصصي المؤثر.
وهذه السخرية، والتهكم، والنقد اللاذع، نجده في نصوصه كلها واضحة، وبارزة.
ففي ومضته( إسعاف)، نرى المفارقة الساخرة عالية جدا:< < شق رنين منبه سيارة الإسعاف الشارع المكتظ ... بمهارة فائقة استطاع السائق تجاوز الاكتظاظ ... وإشارات الوقوف والأضواء الحمراء ... في وقت قياسي وصل المريض إلى مقرالمستعجلات...هناك وضعوه في آخر طابور طويل لا حد له... >> .
وهذه السخرية،وهذا الانتقاد اللاذع يعتمدها محمد فري كآلية دفاعية ضد القهر، والتخلف(4).
إنها تمثل صراع الكاتب محمد فري مع واقع مهزوم، ووضع منهزم، متخاذل، مترد، فاشل، مقهور:< < يلجا السارد إلى المقاومة في صيغة ساخرة تلتقط مفارقات الواقع، وانتقاد الخطاب الرسمي>>(5).
< < خطب الطبيب المحاضر في الجمع...
بين مساوئ التدخين...
حذر من عواقبه...
اجتهد في طرح الأمثلة...
عند الانتهاء...
شكر الجميع، وودعهم...
ثم...
أشعل سيجارة...
ونزل من المنصة>> ( ومضة :المحاضرة).
وكذلك في ومضته( بركة):< < حملوا اللافتات...
اعتصموا أمام القبة...
ثم...
التمسوا بركتها...
فجأة...
أمطرت السماء...
هراوات مختلفة العيار...>>.
وتحاول هذه الومضات رصد، والتقاط المفارقات التي تناسل يوما عن يوم داخل واقعنا(6).
فيقول:< < في الصباح: نال الشهادة، وفرح بنجاحه...
في الظهيرة: أقام حفلا بسيطا للأصدقاء، وتلقى الهدايا...
في المساء: اعتصم مع المحتجين، وتلقى هدايا من نوع آخر>>( ومضة: برنامج).
ويقول أيضا:< < كان يسير بسيارته مسرعا...
أوقفه الشرطي،وطلب منه أوراقه...
سلمه السائق ورقة واحدة...
تركه بعدها يتابع سرعته...>> ( ومضة: بطاقة هوية).
الهوامش
1- جورج لوكاش،نظرية الرواية، ترجمة الحسين سحبان، منشورات التل، الرباط، 1988، ص: 70.
2- د. محمد العمري، البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2005، ص: 97.
3- بوشعيب الساوري، رهانات روائية: قراءات في الرواية المغربية، جذور للنشر، الرباط، ط1، 2007، ص: 10.
4- د. محمد العمري، المرجع نفسه، ص: 100.
5- بوشعيب الساوري، المرجع نفسه، ص:15.
6- بوشعيب الساوري، المرجع نفسه، ص: 15.
التناص في الومضات
إن ومضات كنصوص قصصية قصيرة جدا لم تأت من فراغ، ولا تتحرك في فراغ. فهي تتفاعل، وتفعل معرفيا وأدبيا….بما أنها ذات حمولة لغوية،وأدبية، وفنية في نفس الوقت. وبذلك هي ليست معزولة،بل :< < الفعل اللغوي( الملفوظات) عندما تتحقق( تخرج إلى العالم)، تخرج أساسا لكي تحاور، لكي تجابه ملفوظات أخرى، لكي تحطم رؤى للعالم، وتؤكد أخرى، لكي تفند طرحا، وتساند آخر>>.(1).
وهذه الومضات، كنصوص قصصية تحمل في طياتها تفاعلا حواريا لنصوص متعددة، وأفكار…
وهذا يدفعنا إلى البحث عن التناصات التي تحبل بها نصوص( ومضات). لأن التناص:< < هو آلية ملازمة لأي نصن كيفما كان جنسه، وفي كل زمان ومكان. إنه بهذا المعنى فعل لغوي وثقافي مؤسس لعملية الكتابة التي لا تعرف بالحدود الأجناسية>>(2).
أي، إنها كنصوص تندرج ضمن الإنتاجية النصية المرتبطة بالمبادلة بين النصوص، والإنتاجية:< < إذ إنه داخل فضاء النص الواحد نجد عددا من الملفوظات. إنما أخذت من نصوص أخرى فتقاطعت معه، وتفاعلت>>.(3).
< < في آخر الشهر توجه الموظف نحو شباك الأداء. أدخل بطاقته البنكية، وانتظر...بسرعة جاءه الرد: صورة قبضة يد منكمشة...وحدها كانت الأصبع الوسطى منتصبة>> ( أجرة).
< < أنهى زعيم الحزب خطبته كالعادة...دعا الحاضرين للختم بالنشيد كالعادة...بادر متحمسا: بلدونا ... وطنو... ونا... ثم التزم الصمت لكمل الحاضرون بحماس ... روحي فداه>> ( انتصار).
إن الصورة التي تتضمنها الومضتان، والحركة التي تمثلانها:< < لا تنتج صورة مطابقة للواقع، بل ينتج أثرا معينا للواقع. وهذا الأثر في شكله، وتحديده يشير إلى الواقع في تناقضاته الأكثر حدة. يشير إليه في تدهوره وانحطاطه، أي أنه ينتج عند القارئ مفعولا قريبا من التغريب، يجعله يضحك ويتساءل عن سبب ضحكه ليجده بعد فترة قائما في علاقات عالم يدعو إلى الاحتجاج، والاستنكار...وهكذا يتحدد دياليكتيك الساخرLe satiriqueبين الواقع واللاواقع، بين الظاهر والجوهر، بين الضحك والسؤال، بين الضحك والضحك الأسود>> (4).
هكذا تظهر السخرية في الصورة، والفعل والحركة… وهذا أعطى لهذه الومضات جمالية ، وفنية.. وانجذابا إلى القراءة، والتتبع. وهنا تكمن فنية، وبراعة محمد فري القصصي، والأدبية.
الهوامش
1- عبد السلام أقلمون، النص الروائي والتراث السردي، الأحمدية للنشر، الدار البيضاء،ط1، 2000، ص: 30.
2- د. عبد القادر بقشى، التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء،2007، ص: 11.
3-Kristiva,(Julia) : semiotiké, recherche pour une sémanalyse, Ed, seuil, 1969, p : 113 .
4- محمد العافية، الخطاب الروائي عند إميل حبيبي،مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الدار البيضاء،ط1، 1997،ص:102.
الفضاء صوره ودلالاته في الومضات
لقد تضمنت ( ومضات) الفضاء، واهتمت بأنواعيته: الفضاء النصي، والفضاء الدلالي، والفضاء المكاني.
فالفضاء النصي يظهر جليا في اعتماد كل ومضة صفحة خاصة، وتوظيف شكل هندسي توزيعي، حيث توزعت الأسطر على مساحات الورقة…وحجم انتشارها على الورقة، وحجم تنظيم البياض والسواد عليها…ونوعية الكتابة وأحرفها الطباعية…إنه النظر إلى:< < طريقة تنظيم البياض والسواد على الصفحة>>(1).
أما الفضاء الدلالي، فقد اعتبره جيرار جينيت امتدادا دلاليا للغة الأدبية بشكل عام. إنه فضاء الصورة:< < إن الصورة هي في نفس الوقت الشكل الذي يتخذه الفضاء، وهي الشيء الذي تهب اللغة نفسها له، بل إنها رمز فضائية اللغة الأدبية في علاقتها مع المعنى>>(2).
وقد جاء الفضاء المكاني في رمضان بدون وصف، أو مقدمات، بما أنها اعتمدت الاختصار والتكثيف، والاختزال…وبالتالي هذا الفضاء المكاني لا يؤسس السرد. بالمقابل الفضاء الدلالي يؤسس السرد،ويعطي للخيال مظهر الحقيقة، الذي يقطع شك القارئ/ المتلقي.
كما نقف على ملاحظة هامة، وهي أن هذه الصور، أو الفضاء الدلالي يتمحور داخل فضاء مكاني مقنن، وأحيانا غير محدود. وهذا وسم الفضاء بالانفتاح أو الانغلاق.
وهذا الفضاء الموظف في ومضات،
يعكس الموقف الاجتماعي، والحالة،والصورة القلقة، والساخرة التي يقدمها السارد/ الكاتب للمتلقي/ القارئ…
والمكان ثابت ، لكن الزمان ومجرياته متحرك…وفي هذا التحرك الزماني، تتوالى الصور والمواقف، وتتغير الأحداث…وبالتالي تتوالى المسوخات les métamorphose، وهذا كله يعكس أثر الواقع، وظواهره على مخيلة الكاتب محمد فري…
وعندما نتتبع هذا الفضاء المكاني في ومضات، نجده محددا في ( الزنزانة، والشارع، والغرفة، والبحر، والبنك،وساحة المعركة ، والسور، والبيت ، والبناية الإدارية، ومكتب المسؤول ، والقفص ، والحي الشعبي، والخمارة ، ومنصة الخطابة ، ومنبر المسجد، وقسم المستعجلات، وقاعة البرلمان ، وتحت الشجرة، والمطبخ، والمعرض،ومقر الحزب، والملعب،والسوق، والمقهى،والطوار…).. وهو فضاء- كما أسلفت- يتنوع ما بين المفتوح والمغلق…
وقد نجح محمد فري، في جعل هذا الفضاء رغم محدوديته، واختزاله، أن يوحي للقارئ / المتلقي بأشياء كثيرة…
الهوامش
1- Jean-Yves Tadié : le récit poétique, P .U.F, écriture, Paris 1978 ,p :47
2- Gérard Genette : Figures II, collection poétique, Ed : seuil, Paris 1972, p : 47 .
اللغة والخطاب في الومضات
لقد تميزت الومضات بلغة تتميز بالتكثيف، والإيجاز، والاختزال… الشيء الذي طبع النصوص بالقصر، معتمدة على جمل قصيرة، وإشارات جملية، تشبه كتابة البرقيات…
إنها ومضات لغوية ، ذات فنية… تعكس العنف الاجتماعي المنغرس في الذات الكاتبة، لأنها لا يرضيها هذا الواقع…
إن ( ومضات)،ذات جمل قصيرة… معبرة…دلالية…قوية…سريعة… بالإضافة إلى بساطة اللغة، وجمالية السرد…
هكذا نجد محمد فري ينوع في استخدام القوالب، ليحصل على ومضات ذات رؤى متعددة، وعلى خطاب متنوع، ومتعدد المقاصد… وهذا كله يبين لنا المنظور السردي لمحمد فري.
وتتميز الومضات، كذلك بخطابها ذي اللغة الواحدة، والوحيدة…
غير أنها توحي من خلال المشاهد، والتصوير، والسرد إلى الإيحاء بالأصوات ، واللغات التي تتضمنها، وتختبئ وراءها، والتي تعبر عن وعي الفئات الاجتماعية الواسعة التي تصورها، وتشخصها هذه الومضات…
< < غير أن هذا الوعي البطليموسي المنطلق من مقولة اللغة الوحيدة... ليس في الحقيقة إلا تعبيرا نظريا عن السيرورات التاريخية للتوحيد والمركزة اللسانية التي تنجزها قوى اللغة الجابذة نحو المركز...>>(1).
وهذه اللغة المجسدة للمعنى والحقيقة،والتي تتضمنها الومضات، بارتباطها بالمشاهد السردية، والحركة…وانسيابية المشاهد والمعاني، تتجسد الحركات عبر التمثل ، والمتخيل…وتتجسد حوارية اللغة فيما بينها، فتعكس بصورة فنية، وضمنية التنوع الاجتماعي للغة. وبالتالي تعكس في حوارها القوى الاجتماعية في حركيتها، وتعايشها… وندرك من خلال المشاهد أن لكل فئة اجتماعية لغتها وأسلوبها، وطريقة عيشها، وتحاورها…
إنها تخفي وراءها تعددا لغويا، الشيء الذي جعل هذه الومضات تكون ناضجة…لأنها جعلت أصواتها ولغاتها المخفية، والضمنية تتفاعل ، وتتساكن مشكلة نصوصا متماسكة.
وعندما نستحضر الخطاب القصصي في الومضات، نجد أن لغته الوحيدة، متعددة الأساليب…وهذا التمظهر اللغوي يمثل لغة معاصرة، خالية من العتاقة. تمتاز ببساطتها، وسهولتها، ووضوحها… وفصاحتها…
ولغة الومضات:< < هي لغة إخبارية، ناقلة مهما اتخذت من صيغ بنائية، سواء أكانت جملة اسمية أم فعلية أم شبه جملة. وسواء أكانت جملة بسيطة مباشرة أم جملة شعرية تحمل انزياحات لغوية. ذلك أن أساس جملة القص يتمثل في عملية الإخبار>>(2).
هذا الإخبار الذي يتم عبر التفاعل بين كل مكونات القص، وتقنياته التي يعتمدها محمد فري في (ومضات). ولو أنه يستخدم أنساقا لغوية تعتمد مبدأ الانزياح اللغوي،بعيدا عن الخبر الدقيق… وبالتالي ينفي الخبر ليعوضه بالمشهد، واللقطات، والصورة المشهدية، والقصصية….
وهذا كتكنيك فني، يجعل من الومضات مخالفة تماما للقصة القصيرة في بنيتها…وسي محمد فري يعي ذلك… ويعمل على تركيز هذا الاختلاف… والتميز.
كما أن جل الومضات، تعتمد في خطابها على الأسلوب غير المباشر الحر، يثبت من خلاله صوت الغائب… وهذا أعطى لومضات فنية، وبعدا جماليا…
< < الخطاب الأدبي جملة علائقية إحالية مكتفية بذاتها، حتى تكاد تكون مغلقة. ومعنى كونها علائقية، أنها مجموعة حدود لا قوام لكل منها بذاتها، وهي مكتفية بذاتها، أي أنها مكانا وزمانا وجودا ومقاييس...لا تحتاج إلى غيرها. فالروابط التي تقيمها مع غيرها تؤلف جملة أخرى. وهكذا بلا نهاية. فالخطاب الأدبي بهذا المنظور لا تنطبق عليه الثنائيات التي أربكت الفكر الكلاسيكي كالذات والموضوع، والداخل والخارج، والشرط والمشروط، والصورة والمضمون، والروح والمادة.. فهو إذن يأخذ في حضوره لذاته وبذاته>>(3).
الهوامش
1- Mikhail Bakhtine : Esthétique et théorie du roman , Gallimard, Paris 1978, p :88-96 .
2- عبد الله رضوان،مجلة الموقف الأدبي، العددان 419، مارس/ آذار، 2006.
3- أنطوان المقدسي، الحداثة والأدب، الموقف الأدبي ، عدد 9 يناير 1975، دمشق، ص: 225.
الجمالية والرمزية والقصدية في الومضات
وعندما نعود إلى ( ومضات) نلج عالم ومضة( أجرة)، والتي قول فيها:< <في آخر الشهر، توجه الموظف نحو شباك الأداء. أدخل بطاقته البنكية... وانتظر ... بسرعة جاءه الرد: صورة قبضة يد منكمشة... وحدها كانت الأصبع الوسطى... منتصبة>>.
وفي ومضة ( شعر):< < ألقى الشاعر القصيدة على الناس... كانت الشمس محرقة...ارتفعت القصيدة فوق الرؤوس...تحولت غمامة...وتساقط رذاذا...>>.
وكذلك ومضته ( خيط من النور):< < أوصد السجان باب الزنزانة...أحكم الإغلاق...وضع الأقفال والمتاريس...فسادت العتمة الأركان، وغشت الملامح لحظة حالكة...أتاحت للكآبة اجتياح النفوس...عندها ...تطلعت العيون إلى الأعلى... فلاحظت شعاعا يخترق القضبان هازئا بالأقفال...ويغمر المكان بنوره>>.
وومضة ( الصلصال):< < ركب الصلصال رأسه...اشرأب يشمخ بعنقه... تطاول وتاه ، وعربد... عند ملامسته للسحاب...أذابته رطوبة الماء...فساح متلاشيا في الأرض>>.
في هذه الومضات مجتمعة، والتي لا تخلو من رمزية معبرة، نجد سي محمد فري يعتمد فيها نوعا من أسطرة الواقع، وتوظيف اللاواقعية. وهذا أعطى للومضات بعدا رمزيا، وفنيا، ودلاليا.
كما أعطاها عمقا كبيرا، حقق لها التأثير ، والتفاعل.
وعندما نتمعن في هذه اللاواقعية الموظفة، وبفنية عالية، وبوعي فني كبير. نجد أن هذا التوظيف لا يخلو من قصدية:< < وليس لا واقعية الواقع غاية مقصودة في حد ذاتها. بل هي على حد تعبير تودوروف، مجرد وسيلة أو تعلة لوصف ما تعجز الأحداث الواقعية عن وصفه، إما لتقيتها، وغما لأنها تقول المحرم، أو لأنها تسعى إلى خلخلة المعهود بخرق يعبر عن اللامعبر عنه>>(1).
ومحمد فري، يمنح السارد الكلمة ليحكي هذه الومضات، مختفيا وراء ضمير الغائب. وهو بهذا المعنى:< < يعدي النص بعبق قلق متلبسا الوظيفة التقليدية للسارد كشاهد عيان، مادام غير مشارك في الأحداث. ذلك انه لا يتجسد داخل المحكي hétèrodiégétique>>(2).
فهذا السارد الذي يمنحه محمد فري هذه السلطة، وهي سلطة الحكي، موجود بكل مكانomniprésent . في المقابل سي محمد فري عالم بكل خبايا الومضات…
هذا أعطى للومضات جمالية، تفجر عنها تفاعل دينامي بين الومضات كنصوص أدبية، وبين المتلقي/ القارئ…
إن سي محمد فري يريد من متلقيه/ قارئه، أن يوقظ هذه الومضات من سباتها، حتى يتم اكتشاف وميضها، ووقعها، وسماع صيتها، ورؤية حركتها، والوقوف على محاوراتها…
< < هكذا يتضح أن الموضوع الجمالي هو تجل أو انبثاق لتلك الإمكانات، أو القوى المباطنة للنص، ولتلك المظاهر التخطيطية الكائنة في حالة تأهب، بحيث لا تتجلى بغير التلقي الذي هو إنصات يقظ لنداء النص، واحتفاء بأشيائه، وعلاماته...وتفتح موجوداته الصامتة، وانفعال خالص بقيمته، وكيفياته ومتعه. وكشف آلياته التلفظية، وأشكال إضماراته وثنياته>>(3).
و( ومضات) محمد فري،تنبني على خصوصيات فنية، وهي التكثيف، والاختزال، والاختصار…
فهو يبتعد عن التفاصيل ، والجزئيات الصغيرة في ومضاته.
هذه التفاصيل والجزئيات المتعلقة بالزمان، والمكان، والشخوص كلها كاملة يعوضها بالاهتمام بالحدث، وتكثيف سيرورته… والاهتمام كذلك بالمشاهد السردية، والحركة التي يتضمنها…
وهذا كله، يتخذه سي محمد فري وسيلة لتقديم مقصدياته الفكرية،والانتقادية، والإصلاحية أيضا…
فالملحوظ أن هناك اختصارا شديدا للمستنسخات الوصفية، وللصراع الدرامي في بنية الأحداث… وفي الانسياب اللغوي، وتوالدات اللغة… لأنه يعرف أن كل هذه الأشياء زائدة عن الحاجة، خاصة وأنه يعتمد هذه التقنية: تقنية التلغراف، والإشارة، والتلميح، والترميز لإيصال الرسالة المبتغاة…
فمحمد فري ، اعتمد تقنيات الومضة، لتأسيس البناء الفني لقصصه القصيرة جدا/ ومضاته… والتي لا تخلو من توحد ما بينها وبينه…
والجميل جدا في هذه الومضات، هو أننا نستكشف، ونستشف منها عالم محمد فري القصصي، والذي يتأسس على:
- القدرة على بناء محمد فري عالمه الخاص، والذي طبعه بفرادته الخاصة…
- خلق تواصل فعال ما بين الومضات، والمتلقي/ القارئ، مؤسس على أبعاد فنية ، وأدبية، وجمالية.
- خلق علاقة فاعلة، تركز على التفاعل والتماسك، والتكثيف، والسخرية، والفنية…
- جمالية الحكي، وفنية الخطاب القصصي المركز،والجميل.
وفي (ومضات) نجد السارد/ الكاتب، يتخذ زاوية للرؤية… من خلالها ينظر الأحداث، ويسردها. وبالتالي فهو من خلال هذه الزاوية، يستعمل ضمير الغائب.
هذا الضمير هو منظوره الخاص للأحداث، وخطابها…. وبالتالي:< < فإن ضمير الغائب هو الذي يستخدمه الراوي في القصة، يملك في داخله"أنا" معينة، ولا يخلو أن تكون هذه الأنا الخاصة بالراوي على علاقة ما بصورة ما غير مباشرة، مشابهة أو مخالفة ل"أنا" السارد نفسه. لأن الراوي هو في الحقيقة من خلف السارد ن ومن تكوينه، وهو يحمل كل رؤاه>>(4).
ويبدو ضمير الغائب هو المسيطر، والأكثر انتشاران وسيرورة في الومضات… والتي يتطابق فيها ضمير الغائب بالسارد/ الراوي/ الكاتب…
الهوامش
1- محمد العافية، المرجع السابق،ص:58.
2- د. أحمد فرشوخ، حياة النص: دراسات في السرد، دار الثقافة، الدر البيضاء، ط1، 2004،ص:85.
3- د. أحمد فرشوخ، المرجع السابق، ص:25.
4- أحمد زياد محبك، الموقف الأدبي، العددان 416، كانون الأول، 2005.
الشعرية والسرد القصصي في الومضات
إن ” ومضات”، سرديتها تحقق، وتؤسس لشعرية النص السردي، وتساهم لغتها، وتقنيتها في هذه الشعرية…
والسارد في ومضات، هو الكاتب نفسه، أوكلت إليه العملية التلفظية. وسي محمد فري يعي ذلك، ويقصد إلى توقيع المروي له، وهو القارئ/ المتلقي في متعة/ لعبة الحكي، والسرد، وتأثيث الفضاء بأحداث تلازم الواقع، وتعبر عنه. وبالتالي يتطابق القارئ/ المتلقي مع السرد القصصي الذي يبني محمد فري من خلاله عالما يريد أن يلجه هذا المتلقي، ويبقى فيه…
هذا البناء القصصي، هو تمثل للواقع، ومشاهدة له من عدة زوايا…حيث يأتي هذا البناء مطابقا للواقع في كل مشاهده، وبناه…وبالتالي أصبح الواقع في الومضات حكاية أو حدثا قصصيا، تنبني عليه فنية الومضات… وتظهر من خلاله فنية محمد فري، وتقنياته الكتابية.
وبالتالي يعمل بفنية، ووعي على:< < تحويل الواقع من مستواه المادي المحسوس، إلى مستوى شعري مجرد يبيح فيه كاتبها بتحديد ملامح ذلك المشهد المعيش، وتشذيبه>>(1).
ورغم أن محمد فري يعرف أنه يشخص الواقع في ومضاته، ويماثل بين نصوصه المكتوبة، والنص الواقعي، فهو يبدع وبفنية عالية عالما لغويا يوازي العالمين السابقين: عالم النص المكتوب، والنص الواقعي. حيث تنعدم ، وتزول فيه المسافة بين الأدبي، والواقعي، أو بين الأدب والواقع.
وهذا ما أعطى للومضات نوعا من السحر، والجاذبية، والفنية، التي تجعل القارئ/ المتلقي يتوحد مع الومضات، وأحداثها، ويجد فيها نفسه، وصورة حية لواقعه….من ثمة وفر للومضات تفاعلا متبادلا، وتواصلا كبيرا، وتاما…
وكما أسلفت، فمحمد فري، لم يهتم اهتماما كبيرا في بنائه عالم الومضات بالفضاء ين، الزماني والمكاني. لأنهما عنده: لا يحملان أهمية كبرى، خاصة في القصة القصيرة جدا، لكون هذه الأخيرة تعتمد على الومضات السريعة، وعلى الإشارات الخاطفة، وتلعب على بديهة القارئ، ونباهته، وقدرته على التأويل، والتفسير، وخلق التكملات للمشاهد….
وقد عبر محمد فري عن هذا الواقع، وعمل على بنائه من خلال اللغة، التي ضمنت للومضات الحياة، والحركة، والفاعلية… فكانت اللغة حاملا لها.. ولفنيتها ، وبلاغتها…
وهذه اللغة أخذ فيها الإنسان، وصورته اليومية بعدا كبيرا، ومسافة أوسع… وبالتالي كانت اللغة إلى جانب الاعتماد على السرد المشهدي، واللقطة المختزلة، والمعبرة، الوسيلة للتعبير عن هذا الإنسان، وتشخيصه في لقطات متنوعة… تطابق الواقع ، والمعيش اليومي.
وبذلك طاوعته اللغة في تصوير هذا الواقع، وتشخيصه تشخيصا فنيا، لا يخلو من بعد دلالي، وفني…
من هنا جاءت اللغة في الومضات مشحونة، ومكثفة، وحابلة بالمعاني، وبليغة في تواصلها، وتوصيلها… فصيحة في طرحها، وتعابيرها.. خالية من العامي، وغامض اللفظ…
وهذا الاختيار اللغوي الفصحوي، هو عن وعين لأنه يعرف أن اللغة العربية هي الأبلغ، ولذا يتمثل قول الكاتب التونسي محمود المسعدي ، حين قال:< <لم أجد لغة تمكنني من التعبير عن أعمق ما أجد في أعماقي، وأعمق ما أشعر به في باطني، وأعمق ما استنبطه واقف عليه بتفكيري من اللغة العربية، وهي لغة الدقة وهي لغة الباطن، وهي لغة لدقائق في الفكر ، وفي الإحساس ، وفي الوجدان>>(2).
الهوامش
1- عبد الدائم السلامي،شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا: قصص عبد الله المتقي، ومصطفى لغتيري أنموذجا، منشورات أجراس، ص:7.
2- ماجد السمرائي، حوار مع محمود المسعدي، الحياة الثقافية، عدد 13، 1981، ص: 59.
الومضات وجماليات التلقي
إن الكاتب محمد فري يهدف إلى أن تكون قراءة ومضاته من طرف المتلقي/ القارئ هادفة نشطة، و:< < تكون القراءة نشطة ، ومنتجة، حيث يكون بمقدور القارئ أن يفهم النص ويفسره، فيناقشه أو يحاوره. ويقبل ما يقوله النص أو يرفضه. يعرف كيف يصغي إليه، فيسأله،ويقرأ أسئلته، فيرى إلى احتمال الأجوبة>>(1).
فالقارئ في هذه القراءة النشطة ، لا يبقى متلقيا، وقارئا فحسب، بل يعمل على توليد النص ، وتفريغ حمولته النصية:< < إن مفهوم القراءة بمعناها النشط، هو نقد ينتج معرفة بالنص،وإن النقد بمعناه المنتج، هو قراءة تمكن من يمارسها من أن يكون له حضوره الفاعل في النتاج الثقافي في المجتمع، أي من أن يكون معنا بالحياة التي تنمو وتتغير حوله. فيساهم هو ومن موقعه في المجتمع في تطويرها>>(2).
إن القارئ الفعال، والنشط، يستطيع أن يظهر المعادل الجمالي للنص بواسطة إقامة علاقة مع النص، وبواسطة استنطاقه، مستعملا في ذلك مجموعة من الأدوات المفاهيمية التي تمنح القراءة، وتمكن من ثمة إلى النظر إلى النص ،ورؤيته من الداخل.
إن ما يقوله النص، نوع من البحث في أسلبته، وإظهار للمخفي فيه… وهذا يجعل لنا القدرة- كما تقول الدكتورة يمنى عيد- على الانتقال من التلقي إلى المساءلة، ومن التقليد إلى التملك(3).
والمقروء أو العمل الأدبي، يقوم من مواقع مختلفة:< <أي في نمط البنية في الشكل، في أثره على مسار انتظام التركيب التعبيري، على توالي الجمل، على منطق تمفصل البنيان اللغوي، على أصوات الشخصيات في القول الذي يقص، وعلى حركة الزمن فيه>>(4). وكشفنا عن هذه المواقع من خلال قراءتنا المنهجية، هو في الواقع الكشف عن الإيديولوجي، والاجتماعي، وعن هويتها التي ترخي بخيوطها في بنية النص، ومنطقه.
والعمل الأدبي ليس موقعا فقط، أو حديث لموقع:< < بل إن العمل الأدبي، إذ ينهض من موقع، هو بنية عالم لا يمكنه أن ينمو إلا بصراع فيه، هو ديناميته، وهو انفتاحه على تعدد الأصوات، وتناقض المواقع أو تفاوتها>>(5).
ومحمد فري كقاص، وكمبدع، يتمنى أن يشغل النص/ومضات في التواصل مع المتلقي/ القارئ، ويتفاعل معه. كما يأمل من القارئ أن يحاسب النصوص/ ومضات. لذا يؤكد وولف ديتيرا شتمبل، أن النص :< < لكي يشتغل يجب أن يحاسب من طرف المتلقي الذي يربطه بعالم قارئه عبر جملة من التناسبات الخفية>>(6).
وتعدد القراءات للومضات، دليل على حدوث أثرها التواصلي لدى القارئ/ المتلقي. كما أنها حققت هدفها ، وهو الوصول إلى القارئ/ المتلقي، والتفاعل معه ، والتأثير فيه، وتحفيزه على مساءلتها، وكشف أسرارها، وسبر أغوارها، بما أنها إبداع قصصي جيد..
والقارئ الذي يتوخاه محمد فري، هو ذلك القارئ الذي يستطيع التعرف على قصدية المؤلف، والجواب على: لماذا كتب المؤلف هذه النصوص…< < فعند تلقي النص قراءة(...) يتم تدريجيا إعادة بناء البنية النصية العميقة من طرف القارئ(...)الذي يقوم اعتمادا على مجموع الأخبار التي تضمنها النص المرسل بعدد من التعميمات ابتداء من العوامل ، والعناصر الدلالية المشتركة لمتوالية الجمل...>>(7)..وهذا يختلف من متلق/ قارئ إلى آخر.
وقد قصد سي محمد فري إلى هذا الاقتضاب، والاختزال،والإبراق الفني، الموحي بالدلالات والمعاني…. إلى تنبهه إلى ما قد يكون لهذا من إيحاءات، وإشارات، وأثر، وتأثير على عملية التفاعل النفسي، والذهني مع الومضات.
فهو يبتغي أن يكون القارئ/ المتلقي إيجابيا، متفاعلا مع نصوصه( ومضات)، لأن:< < التفاعل مع النص لا يتم من جانب واحد، بل يتم في إطار تتواصل فيه اهتمامات المتلقي بمشاعر الملقي>>(8).
ولذا يتمنى أن تقوم علاقة بين نصوصه ومضات، والقارئ/ المتلقي. وأن تكون هذه العلاقة مبنية على قناعة، بأن ما يلقى إليه هو أدب، وليس نوعا من الأدب… وأن يستحسن ما يلقى إليه… فكل مخاض تأتي بعده ولادة النص، يحب أن يسمع عن ولادتهن وصورتهن وخلقته…
وهذا لا يكون إلا إذا تفاعل هذا القارئ/ المتلقي مع هذا النص…
هذا القارئ الذي يتخيله سي محمد فري بمواصفات معينة…. أي انه ليس قارئا عاديا…إنه قارئ/ متلق تتوفر فيه بعض الشروط التي يتحقق معها التفاعل، وبالتالي تتحقق جمالية التلقي، وهي كالتالي:
• أن يكون القارئ/ المتلقي حرا:إذ إن سي محمد فري يعرف أن نظرية التلقي، ومنظريها لا يريدون القارئ/ المتلقي أن يكون< <غير ملتزم بالضوابط الفنية، ولا يريدونه قارئا وجوديا، يستقبل النص في فوضى لا تخضع للمعايير، ولا قارئا رمزيا يعايش التجربة من غير فهمز ولا يريدونه كذلك قارئا بنيويا تقف أهميته عند سطحية الدور الوصفي المنوط به، فهم ينأون بالقارئ عن هذه النماذج السائدة من ناحية، ويريدون له أن يتحرر من الجبرية التي فرضها النقد الماركسي على الفن من ناحية أخرى>>(9). إنه يريد أن يكون القارئ/المتلقي حرا من كل نظام عقدي أو ثقافي محدد…لأن الارتباط والتزامه بمذهب معين يحجب عن المتلقي/ القارئ الرؤية الكاملة في عملية التلقي…
كما يمكن أن يجعله يتبنى سلوكا معاكسا للسلوك العام، أو أن تكون له رؤيا سلبية، معاكسة للقيم التي تختلف مع قناعاتهن وميوله…وبالتالي يتم رفض الآخر، ورفض عمله مهما اشتمل عليه من فنية وجمالية وأدبية…
لهذا ف:< < إن القارئ إذا لم يحاول التغلب على التزامه الإيديولوجي، فإن القراءة الصحيحة للنص ستكون مستحيلة>>(10). أن يكون قارئا مشاركا في صنع المعنى جراء تفاعله مع النصوص، وأن لا:< < يقف عند مهمة التفسير التقليدي الذي يؤدي بدوره إلى الثنائية بينه وبين النص. أي يصبح القارئ عنصرا خارجا عن النص. ولكنه بالمشاركة في صنع المعنى يتحول التركيز من موضوع النص إلى سلوك القراءة. فلا تكون مرجعية العمل الفني إلى الموضوع ولا إلى ذاتية القارئ ، بل إلى الالتحام بينهما>>(11).
وهذه المشاركة كما يؤكد ذلك الدكتور محمود عباس عبد الواحد، تتم عبر مهمتين للقارئ/ المتلقي، هما:
1- مهمة الإدراك المباشر، وتتعلق باللقاء الأولي ما بين القارئ/ المتلقي والنصوص، والوقوف على هيكلها الخارجي اللغوي، والأسلوبي.
2- مهمة الاستذهان. وهي مرحلة يستعمل فيها القارئ/ المتلقي ذهنه، وخياله لكشف العوالم الداخلية للنصوص…
وهذا الكشف ينتج عنه جمالية لا حد لها…حيث إن القارئ/ المتلقي يمارس سلطته كقارئ في عملية التأويل، والتفسير، والتكميل، والإتمام ، وخلق استنتاجات يسد بها الفراغات التي يجدها في النصوص، مثل خلق نهايات يسد بها ثغرة النهاية المفتوحة مثلا… وهنا يصبح صانع معنى، ومشاركا في خلق الحدث…
إن سي محمد فري، يتوخى قارئا من هذا النوع، القادر على استذهان الغموض. فهو يتم بتصور المواقف التي يقرأها ، والشخوص التي تبني حدثها. فيختلق أبعادها النفسية، وميزتها الفيزيولوجية، وأبعادها الإنسانية ، والاجتماعية. وهذه كلها تناستها النصوص ، أو تجاهلتها بحكم تقنيتها المعتمدة، وتعتبر عند القارئ/ المتلقي ثغرة، وغموضا يكتنف السرد، يجب استجلاؤه.
وكلما كانت النصوص تحتوي على فراغات، زادت من غموضه المحبوب، وجعلت القارئ/ المتلقي يشعر باللذة، والمتعة في القراءة، واستذهان الغموض، والفراغات…
وهذا كله يزيد من جمالية النصوص ن وفنيتها. وهذا ما دفع ب ( آيزر) إلى القول:< <والعمل الناجح للأدب- على سبيل المثال- يجب ألا يكون واضحا تماما في الطريقة التي يقدم بها عناصره، وإلا فإن القارئ سيخسر اهتمامه. فلو نظم النص الأدبي عناصره بعلانية شديدة، فإن الفرص أمامنا كقراء إما أن تكون في رفض النص بسبب السأم. وغما أن نكون قراء سلبيين... إن متعة القارئ حين يصبح منتجا...وأن على القراء الاستمتاع فقط حين يكونون منتجين، أو أن على الأدب أن يربط قراءه بطريقة فعالة>>(12).
القارئ الذي يرى في تلقيه متعة جمالية… بل ويشارك في خلقها وإبداعها… الشيء الذي لا يكون إلا إذا اتخذ موقفا من النصوص جراء ما تثيره فيه من مشاعر، وقيم.
هكذا يتصور سي محمد فري القارئ/ المتلقي لنصوصه… خاصة وانه وفر فيها جميع البهارات، والتوابل التي تغري هذا المتلقي/ القارئ بالقراءة، واستكشاف كوامن الومضات…
الهوامش
1- يمنى العيد، الراوي: الموقع والشكل، دراسة في السرد الروائي، مؤسسة الأبحاث العربية، ش.م.م، بيروت، لبنان، ط1، 1986، ص: 13.
2- يمنى العيد، المرجع نفسه، ص: 13.
3- يمنى العيد، المرجع نفسه، ص: 18.
4- يمنى العيد، المرجع نفسه، ص: 30.
5- يمنى العيد، المرجع نفسه، ص: 32.
6- د. نزار التجديتي، مفهوم التلقي من خلال الأنموذج التواصلي لنظرية زيجفريد شميث،مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد 4 ، أبريل/ يونيو، 2007، ص:522.
7- د. نزار التجديتي، المرجع السابق، ص:522.
8- د. محمود عباس عبد الواحد،قراءة النص وجماليات التلقي، دار الفكر العربي، مصر، ط1، 1996، ص:14.
9- د. محمود عباس عبد الواحد، المرجع نفسه، ص: 20.
10- روبرت سي هولب، نظرية الاستقبال، ترجمة، وعد عبد الجليل، دار الحوار اللاذقية،1992، ص: 186.
11- د. محمود عباس عبد الواحد، المرجع نفسه/، ص: 22.
12- د. محمود عباس عبد الواحد، المرجع نفسه، ص: 24.
موضوعات الومضات
و( ومضات) كمجموعة قصصية، تشتمل – كما سبق- على 39 ومضة… تعالج مواضيع كثيرة، مفتوحة على العديد من التأويل، والتمثل ، والتفسير…
ولومضات دلالتها الاجتماعية. فانطلاقا من المشاهد التي تعرضها، والصور السوداوية التي تقدمها، فإننا نقف على الصورة الحقيقية للمجتمع الذي يكتب عنه سي محمد فري…ويستعرض مشاهده، ووقائعه.
إن سي محمد فري يقرب هذا المجتمع المتعفن إلينا كقراء/ متلقين…ويقدم لنا صورتنا من خلاله في كاريكاتوريتها، وفي إحباطها وانكسارها.
إن الموقف البطل الذي يغلف الومضات كلها، تجعلنا كمتلقين نتعاطف مع هذه الومضات… ونجد فيها رؤيا مزدوجة لواقعنا الحابل بالفساد السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، والتربوي…وكثير من الومضات نشير إلى ذلك في وضوح ساخر.
إن هذه الصور التي تقدمها ( ومضات)، نجد فيها سخرية دامية، تسخر من هذا الواقع الذي تخشبت قيمه، وتحجرت معاييره، واتجاهاتهن وضاعت حقيقته… وبرزت وبشكل عياني ظاهر معاناته المواطن…وقهره وحرمانه…
إن سي محمد فري تفنن في واقعيته النقدية، الشيء الذي جعل الومضات تنبني على موضوعات أو تيمات، منها:
- الكتابة والإبداع…الهم الإبداعي…لحظات الكتابة.
- الوجدانيات- الارتباط بالواقع- سلبية المجتمع- القيم السلبية- الانحرافات السلوكية.
- الاغتراب والاستلاب- الخوصصة- الأوربي وعقدة الأجنبي.
- الوضع الاجتماعي لفئة اجتماعية عريضة( الموظفون والسلف ومضاعفات هذه الظاهرة).
- الصراع الإقليمي/ العربي.
- الاندحار النفسي، والقمع- الاهتزاز- الشرخ- الشعور بالدونية- الشعور بالفشل- صراع القيم والإيديولوجيات.
- الحالة الاجتماعية للموظف- العسر الاجتماعي- سيكولوجية الإنسان المقهور- الحرية- التأمل- الانعتاق.
- التخليق الإداري.
- المحسوبية- الزبونية- التحرش الجنسي.
- الانهزامية- اليأس- القدرية.
- عصر الانفتاح والتفسخ الأخلاقي والاجتماعي.
- الروتين- حياة عادية/ كاريزمية.
- التفسخ الأسري- التفكك الأسري- الأنانية- سوء التفاهم- انعدام الحوار- تربية الحوار والإنصات للآخر.
- الشعارات الرنانة- أغنياء الحرب- النفاق السياسي والاجتماعي.
- الفراغ العاطفي- تفسخ القيم- الماديات.
- الإهمال- الوطنية- خدمة الوطن.
- نفسخ القيم.
- الإبداع والكتابة.
- البهرجة/ التشدق- الخطابة.
- الشعر والمجتمع.
- القمع/ الكبت-الحرمان/ العدوان والاعتداء
- الأنثوية/ الصراع الجنسي.
- الحرية.
- التأمل والتفلسف.
- الرشوة/ العلاقات الاجتماعية.
- الخواء العاطفي- الادعاء- النفاق- التقنع.
- عدم الاقتناع بالمبادئ- التظاهر والادعاء.
- النظرة إلى الفن- الفن في المجتمع- الوضع المقلوب.
- الادعاء السياسي- التمثيل- النفاق السياسي.
- الخداع الإيديولوجي والسياسي- البهرجة.
- المواطنة وحقوق الإنسان.
- الغرور/ السخرية والنكتة.
- الفوبيا/ الدونكيشوطية.
- الحزن والأسى- الكذب البرلماني.
خاتمة:
ومضات سي محمد فري لا تخلو من تجريب، خاصة وأنها رحلة تكوُّن،وسيرورة متكاملة من الحلقات الإشكالية،والأطر المحددة لمرتكزات التأسيس القصصي لفن الومضة.
وهذا يجعل الواقعية تظهر جلية في هذه الومضات، وتشكل إشكاليتها الأساسية التي تقوم عليها…
إنها واقعية تأخذ المجتمع وصوره، ووقائعه مرجعية،ولو انه :< < ليس بإمكاننا الحكم على ما إذا كان العمل واقعيا أم لا بمجرد مضاهاته بالأعمال الموجودة التي يقال عنها إنها واقعية، أو قيل عنها كذلك في حينها...وعلينا في كل حالة أن نقارن الصورة المقدمة للحياة في عمل فني بالحياة نفسها التي يصورها بدلا من مقارنتها بصورة أخرى>>(1).
إن الكاتب محمد فري كمثقف في بلد نام، هو كاتب إيجابي، واع بالتزامه، وحلمه في أن يكون مجتمعه متمدنا، راقيا، خال من كل ألوان المهانة، والتعتيم، والإهانة.
هذا كله شكل في دواخله سلطة مضادة، ورافضة ، تمثلت في كتاباته الساخرة ، والفاضحة ، والمعرية لعيوب المجتمع . وهذا فرض عليه هذه الواقعية التي ميزت كتاباتهن وطبعتها بنفسها. ولو أنها واقعية بالضرورة وليس بالحرية…
هذه الضرورة فرضت عليه أن تكون واقعيته الكتابية في (ومضات) إما تصويرا لهذا الواقع، أو شهادة، أو انعكاسا له، أو نقلا، أو تعرية ، وانتقادا له…وفي الواقع الومضات، الواقع فيها كل هذه الأشياء.
إنه يكتب عن واقع جرد نفسه عناء التساؤل عنه: أي واقع يكتب عنه؟. فهو يعرف هذا الواقع، معرفة حقة، لأنه يعيش هذا الواقع، وهو جزء منه.
إن كتابة ( ومضات) هي حسرة اجتماعية لما آل إليه المجتمع…وهي شعور بالصدمة لما يراه عكس تمثلاته، وطموحاته، وما كان يحلم به، وما كان يتمناه أن يكون ، ويراه في مجتمعه.
لكن الجميل، هو أن تصويره لهذا الواقع، لم يأت تصويرا فجا، بل وفر له وفيه جميع الأولويات الأدبية، والفنية، والجمالية.
وأمام هذه الوظيفة الأدبية، والفنية، والجمالية، فإن محمد فري دفع بمشروعه هذا ( ومضات) إلى تأصيل فن الومضة القصصي لتساهم في بلورة فن القصة القصيرة جدا…وتعطيها نوعا من الشرعية والنمو…
الهوامش
1- د. محمد أمنصور، استراتيجيات التجريب في الرواية المغربية المعاصرة، شركة النشر والتوزيع، المدارس، الدار البيضاء، ط 2006، ص:53.
 
هذه (ومضات) نقدية تعطينا(نبضات)أدبية
فتبعث فينا روحا فكرية .
النقد الادبى البناء عبارة عن (ومضات)تنير الطريق للمبدعين.
وتكشف الاسرار للمجتهدين.
جهد شاق وقراءة بصوت عذب.
بورك فيك استاذنا الفاضل.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى