تعتبر المبدعة مريم بن بخثة التي نحتفي اليوم بمنجزها السردي من بين القاصات الأكثر حضورا في فضاء الإبداع المغربي، بتنوع وتعدد اهتماماتها في كل الميادين من شعر وقصة ورواية. وجدير بالذكر أنها أصدرت سابقاً رواية وديوانا شعريا، وتعد للطبع إضمامة للقصة القصيرة جدا وديوانا زجليا.
والكتابة في جنس القصة القصيرة أو (الأقصوصة) كما يحلو للدكتور عبدالله العروي تسميتها اختصارا. تمثل بالنسبة إليها بداية لاهتمامات وامتدادا لهموم أخرى. لأنها تشكل السعي وراء مطلق الجمال. ومن أكثر الأشكال الأدبية ملاءمةً لاستيعاب الواقع الاجتماعي والسياسي، لأنه إذا كانت الرواية تفوز بالنقاط، فإن القصة القصيرة تفوز بالضربة القاضية، يحسب تقدير خوليو كورتاثار، وتعتبر مجموعتها (بأمر من مولانا السلطان) باكورتها في هذا الجنس الادبي، وقد صدرت سنة 2012، عن مطبعة دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، من 88 صفحة، وتشتمل على اثنا عشرة قصة قصيرة، بتقديم للأديبين محمد داني ومصطفى فرحات اللذين نوه كل منهما بالمجموعة، واعتبر الأستاذ محمد داني بأن انتقال القاصة من الرواية إلى القصة هو انتقال من الشساعة إلى الاقتضاب، ومن السرد والوصف وتعدد الشخصيات والمواقف إلى الاختزال، ويشكل هذا التحول في نفس الآن نوعا من التحدي. فيما أشار الأستاذ مصطفى فرحات إلى المقدرة التي تمتلكها الكاتبة في تصريف لغة ألحكي وتوظيفها بطريقة تضعنا حقيقة أمام نصوص سردية غنية بأساليبها ودلالاتها وخصائصها الأسلوبية، ذلك أنها تضعنا إزاء ما يسمى بالقصة/الأمثولة. أو الحكاية/المثال، لما تتضمنه حبكتها من مواعظ وعبر استقتها القاصة من واقع المجتمع.
اهتمت الدراسات السيميائية بالإشارات الموازية للعمل الإبداعي، واستقراء الوظائف النصية التي تساهم في توليد دلالاته، وتشكل كل الإيحاءات المعتمد عليها تفكيكاً وتركيباً: الغلاف وهندساته، العنوان ودواله، بنية الخطاب، الأسلوب، شبكة العلاقات بين الشخوص، الوصف المحايث علامات ايجابية لمعرفة النص وسبر أغواره.
وما دمنا في مقام هذه الإيقونات الموازية والملازمة فلا بد من التوقف عند الغلاف، باعتباره قيمته تشكيلية في العمل الإبداعي أولا، وأحد المداخل الأساسية لفك شفرة العمل الإبداعي، وتجسد اللوحة التي تجسم رأس امرأة مرفوع في شموخ ودلال وكبرياء وتمرد وجموح، وتوق لامتطاء حصان الرغبة ليشيلها بعيدا عن حراس الكلام المباح في بلد الأحلام المرعبة والشهوات الحبيسة والرغبات المسيجة بالعنف والقهر والخطيئة والسكوت عن الكلام المباح، وخلفية بإطار بحواشي منمنمة على شكل ركح، تلميحا إلى المظاهر الأسطورية التي تحيل على عالم ألف ليلة وليلة وأجوائها السحرية المفعمة بالغرابة والأسرار وعشق الحرية والتعلق بالحياة.
ويعتبر العنوان ثاني العتبات التي تصادف المتلقي، وغالبا ما يلجأ المؤلف إلى طريقة تقليدية في اختيار العنوان الكتاب، وعنونته بعنوان أحد النصوص, حيث يكون عنوانا رامز ينطوي على قصدية مفعمة بالإيحاءات, وغنية بالدلالات العاطفية والنفسية والتاريخية. ليؤدي وظيفته الإغرائية، ويساعد بشكل عام على فك مغاليق النصوص ومعرفة فحواها وتوجيه مسار القراءة، والإجابة على بعض الأسئلة الآنية التي يطرحها حول شخص السلطان ولغز أمره وعلاقته بالنصوص الأخرى، ونستنتج بأن العنوان مخاتل ويحمل قدرا من الرموز الدلالية سيكتشفه القارئ بشكل أوضح ضمن القصة التي تحمل نفس العنوان. خاصة في علاقتها بفضاء حكايات ألف ليلة وليلة، هذا الأثر الأدبي العربي الضخم والعظيم الذي مارس غوايته على الناس، وما زال يشكل أحد الحوافز الرئيسية للالهام، والمصادر الغنية للخيال الأدبي والفني، مطوفا في العالم حاملا كنوز شهرزاد السردية الفاتنة، وهي تفوح بروائح الطيب والأنس والدفء واللذة والمتعة والغرابة، وواضح هنا أن العنوان يكتسب طبيعة الإحالة المرجعية التي تعلن عن مقصدية ونوايا القاصة للسياحة في أجواء الليالي العربية. ذلك أنه - بحسب بورخيس - كل من يؤلف حكاية على منوال قصص الليالي وأجوائها يعمد من غير قصد آو سبق نية إلى وضع حكايات إضافية لا يتضمنها الكتاب الأم، الذي ظهر في بغداد وكتبت أجزاء منه بالشام وتمت إضافة نصوص في القاهرة، وأضاف أنطوان غالان مترجم الكتاب إلى اللغة الفرنسية قصص "علاء الدين والمصباح السحري وعلي بابا والأربعين حرامي"، وأغوى العديد من المؤلفين إلى النسج على منواله، ابتداء من "إمتاع ومؤانسة" آبي حيان التوحيدي، و"الديكاميرون" للايطالي جيوفاني بوكاشيو، و"مناجاة البلغاء" الليالي التركية ذات المصادر المجهولة، يورد الباحث عبدالفتاح كيليطو نقلا على لسان ريتشار برتون مترجم الليالي إلى الانجليزية، وخورخي لويس بورخيس مع قليل من الاختلاف بأن من يقرا كتاب الليالي إلى النهاية يموت، وتتجلى هذه العبرة في حكاية الحكيم دوبان والملك يونان، وحينما تستعين شهرزاد بمكيدة سرودها الغرائبية التي تدور حول صراع الخير والشر في النفس البشرية، في مسامرة شهريار وتسليته وتخفيف أرَقَ لياليه وإذابة همومه واكتئابه المزمن، فإنها تلجأ في نفس الآن لإرجاء الموت ودرء خطره، وحماية بنات جنسها من فناء محدق.
تنفتح تقنية السرد في الليالي على طريقة سردية تمارس فعلها ألإغوائي انطلاقا من فترة زمنية موغلة في القدم، "كان يا ما كان في قديم الزمان وفي سالف العصر والأوان"، أو "بلغني أن"، ذلك أن الأميرة شهرزاد تعني باختراع الوهم لمواجهة المجهول وتقتحم المحرم لشد فضول المتلقي، وتورد قصصها نقلا عن رواة سابقين، ومن خلال ما اطلعت عليه من أخبار وقصص وعلوم وتجارب حياتية، ومن خلال خزينها من الخام اللغوي ومعتق القول والحكمة والخرافة ورصيدها من الخيال والإفادة منه، وغالبا ما تنبثق حكايات فرعية عن القصة الأصلية، فيما يعرف لدى دارسي ألف ليلة وليلة بالحكاية العنقودية، واستغلال كل ذلك بهارمونية دون أن يشكل نشازا على مبنى النص، فكتب الأحاديث اهتمت بالأسانيد من منطلق ديني صرف، واستثمرت هذا التقليد بصيغ مغايرة كي تضفي على النصوص مصداقية ووثوقية مرجعية. كما يمكن القول بأن الحكايات تشبه المعمار الشرقي بالحواضر العتيقة، حيث تتفرع عن المدخل الرئيسي حواري وأزقة وبيوتات وتشعبات متعددة تختزن دفء التاريخ وسحر وأسرار حضارة الشرق، لان كتاب الليالي كتاب متجدد، ولا صيغة نهائية له.
وتستهل القاصة مريم بن بخثة نصها القصصي بكلمة "جاءنا"، و"في زمن النسيان"، وهي صيغة أسلوبية مقاربة للجملة الاستهلالية الأثيرة لذا الأميرة شهرزاد، فالقاصة لا تعنى فقط بتأليف الحكاية، بل تضيف حكاية أخرى ترويها الماشطة للأميرة، إذ تتولد من صلب الحكاية الأصل، وتتناسل حكايات أخرى وأحداث ومفاجآت لخلق عنصر الفرجة، فالساردة في القصة لا تهتم إلا بنقل الأحداث عن رواة متعددين، لتعطينا عبرا عن الغدر ومآل الخونة، وحكاية العشق، وهي ثيمة اساسية تعالجها بقية النصوص القصصية بشكل أو بآخر.
كل قصص المجموعة تختتم بنهاية مفجعة ومأساوية، عاكسة طبيعة الواقع المزري والبائس، بلغة تصويرية هادفة ذات دور جمالي تتنوع بتنوع ثيمات القصص، مركزة على معاناة الإنسان بشكل كبير، دون الابتعاد عن الرؤية النمطية النسوية التقليدية لواقع المرأة ضمن السلم المجتمعي، فالنصوص على اختلاف مضامينها تلامس الواقع وتناقش قضاياه بلغة سردية سهلة ومتينة تتدثر بملاءة شعرية شفيفة، تسندها مفارقات مدهشة، تساهم بقدر وفير في عكس أصالة مستوى الموقف الفكري للقاصة، ناهيك عن مهارتها في سبك تلك اللغة والعناية بها، دون تجنب مناطق البوح. وطرق مناطق الاصطدام بين نمطين من التفكير الأنثوي والذكوري. ووضعها إزاء منظومة القيم وأنماط الوعي السائدة في المجتمع الشرقي بكل تراكماته الدينية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية، والذي ما يزال يموقع المرأة طبقيا في خانة ترتكز في قراءتها للواقع على منظور مغاير فيه الكثير من التظلم والتجني والغبن، وهذا أمر نمطي في اغلب الكتابات النسائية.
وكما سنرى فهناك علاقة وطيدة بين عناوين قصص المجموعة، إذ تكون وحداث ثنائية لثيمات معينة ومتباينة، تعالج كل وحدة موضوعا يرتبط بالأساس بالحياة اليومية وهموم ومكابدات الطبقة المسحوقة والمشاكل القومية، وما يكابده الشخوص من محن وضغوط وإكراهات.
- فمن الحنين للمدينة الأصل الدار البيضاء في قصص رمادية كالضياء - وفلوريدا.
- إلى إحباط البطل ومعاناته إزاء مشاغل الحياة، وحيث الحياة لا تنتهي عادة بمتعة مشتهاة، والانتهاء بالموت انتحارا أو قتلا وانتقاما أو نفسيا في قصص بأمر من مولانا السلطان - حب مجنون - الخطيئة - بلا هوية. ساعة الحقيقة.
- إلى عنف الواقع تجاه المرأة خاصة في مجتمع شرقي متخلف ينظر للمرأة نظرة دونية، حيث يبادر الكل إلى تعريتها بدل سترها وتغطيتها في قصص - بعد الرحيل - ذاكرة النسيان - هل سيعود.
- إلى الهم القومي ومحاولة إنقاذ التاريخ من التزييف وطمس الذاكرة الوطنية التي يقوم بها الآخر في قصص جداريات الوهم - ورجل بعد الدمار، حيث تلخص وجع الوطن العربي.
ونلاحظ أيضا بأن أبطال القصص لا أسماء محددة لهم باستثناء ثلاثة نصوص، حيث يرد اسم محمد ومرام في قصة حب مجنون، ومرام كما يفيد اسمها هو المطلب والمشتهى، لكن الآمال لا تتحقق دوما إذ سرعان ما تتكسر على صخرة المستحيل، وفرح في قصة بعد الرحيل، وسلام في قصة رجل.. بعد الدمار، وكما نرى فهي أسماء متناقضة تماما مع واقع الحال، ففرح لا فرحة في افق حياتها غير الغدر، وسلام يحيا حياة ملؤها الخوف في بلد تتآكله الحروب الطائفية والدمار
للمكان والزمان دور هام في الكتابة القصصية، ولا يقلان أهمية عن الأحداث والوقائع، ويشكلان جزءا من الفضاء الموضوعي لتحرك الشخوص، لهذا يوليهما القاص اهتماما بالغا، فقد تكررت لفظة الليل بمختلف صيغها 46 مرة، فيما ترد كلمة النهار 5 مرات، بينما يتكرر لفظ المكان 35 مرة، والزمن 24 مرة، الاغتراب والغربة 12 مرة النسيان مرة، الحب مرة، الكراهية مرة، السلام مرة، الحرب مرة، وترد هذه الألفاظ تحت صيغ مغايرة مثل المساء الصباح الفجر الملاذ الزاوية غريب إلى غير ذلك من التسميات والإشارات المماثلة.
وتعتمد القاصة على الأفضية المفتوحة، فقلما نجد نصا انحصر فيه زمان الحدث، أو انعدم فيه احدهما بشكل قطعي، وسينتبه القارئ إلى قدرة الكاتبة من خلال خلق تكنيك يساعد على جعل القارئ يحيا في أكثر من مكان ويعيش في أكثر من زمان. إلى العناية بالبناء اللغوي وصياغة الجمل واختيار الألفاظ للتعبير عن فكرتها أو رسم الصور الخيالية التي تود تجسيدها بالإضافة إلى نقل الأحاسيس والانفعالات، فالقصة عندما تجسد واقع المجتمع، فبناؤها الفني يعكس ثقافتها ومعتقدها الديني ومواقفها الفكرية من العديد من الأشياء، الدعارة والبطالة واهمال الاسرة، ولا غرابة إن صادفنا بعض الأساليب الوعظية والحكم. والاستعانة ببعض الاستشهادات من الشعر العربي ابو البقاء الرندي، سميح القاسم، نزار قباني...
إنها بلاغة القص القصير لدى المبدعة مريم بن بخثة، فهي لا تكتفي بمراقبة الحياة وهمومها عن بعد، بقدر ما يجتذبك إلى قاع الكون وتغطسك في قتامته وسديميته وقهره، وابتكار طرائق ناجعة وحازمة لمواجة عدمية الحياة وبؤسها، وعكس رؤى وتصورات وإيحاءات تسافر بالمتلقي إلى أقاصي حدود المتعة الفنية، وقمم الخيال في نفس الآن. موظفة أبنية سردية متعددة وأساليب أنيقة تتموقع في المنطقة الواصلة بين الشعري والقصصي، كساردة عالمة تتحكم في نسيج القصة وحبكتها وشخوصها. وفي عملية الحذف والاختصار والتوقف والانتقال داخل الحيز الزمكاني، ثم راوية وشخصية رئيسية تحكي عن همومها الشخصية الصغيرة واغترابها القسري داخل متاهات الحياة بعيدا عن مدينتها الأصلية برغم ضخامتها وصخبها وعنفها. وهذا التنويع في معمار القص يدل على مدى تمكنها من أدواتها السردية وتقنياته الحكائية وانفتاحها على الإبداع القصصي بمختلف أجناسه.
* ورقة ألقيت في محفل الاحتفاء بتوقيع المجموعة بالدار البيضاء
والكتابة في جنس القصة القصيرة أو (الأقصوصة) كما يحلو للدكتور عبدالله العروي تسميتها اختصارا. تمثل بالنسبة إليها بداية لاهتمامات وامتدادا لهموم أخرى. لأنها تشكل السعي وراء مطلق الجمال. ومن أكثر الأشكال الأدبية ملاءمةً لاستيعاب الواقع الاجتماعي والسياسي، لأنه إذا كانت الرواية تفوز بالنقاط، فإن القصة القصيرة تفوز بالضربة القاضية، يحسب تقدير خوليو كورتاثار، وتعتبر مجموعتها (بأمر من مولانا السلطان) باكورتها في هذا الجنس الادبي، وقد صدرت سنة 2012، عن مطبعة دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، من 88 صفحة، وتشتمل على اثنا عشرة قصة قصيرة، بتقديم للأديبين محمد داني ومصطفى فرحات اللذين نوه كل منهما بالمجموعة، واعتبر الأستاذ محمد داني بأن انتقال القاصة من الرواية إلى القصة هو انتقال من الشساعة إلى الاقتضاب، ومن السرد والوصف وتعدد الشخصيات والمواقف إلى الاختزال، ويشكل هذا التحول في نفس الآن نوعا من التحدي. فيما أشار الأستاذ مصطفى فرحات إلى المقدرة التي تمتلكها الكاتبة في تصريف لغة ألحكي وتوظيفها بطريقة تضعنا حقيقة أمام نصوص سردية غنية بأساليبها ودلالاتها وخصائصها الأسلوبية، ذلك أنها تضعنا إزاء ما يسمى بالقصة/الأمثولة. أو الحكاية/المثال، لما تتضمنه حبكتها من مواعظ وعبر استقتها القاصة من واقع المجتمع.
اهتمت الدراسات السيميائية بالإشارات الموازية للعمل الإبداعي، واستقراء الوظائف النصية التي تساهم في توليد دلالاته، وتشكل كل الإيحاءات المعتمد عليها تفكيكاً وتركيباً: الغلاف وهندساته، العنوان ودواله، بنية الخطاب، الأسلوب، شبكة العلاقات بين الشخوص، الوصف المحايث علامات ايجابية لمعرفة النص وسبر أغواره.
وما دمنا في مقام هذه الإيقونات الموازية والملازمة فلا بد من التوقف عند الغلاف، باعتباره قيمته تشكيلية في العمل الإبداعي أولا، وأحد المداخل الأساسية لفك شفرة العمل الإبداعي، وتجسد اللوحة التي تجسم رأس امرأة مرفوع في شموخ ودلال وكبرياء وتمرد وجموح، وتوق لامتطاء حصان الرغبة ليشيلها بعيدا عن حراس الكلام المباح في بلد الأحلام المرعبة والشهوات الحبيسة والرغبات المسيجة بالعنف والقهر والخطيئة والسكوت عن الكلام المباح، وخلفية بإطار بحواشي منمنمة على شكل ركح، تلميحا إلى المظاهر الأسطورية التي تحيل على عالم ألف ليلة وليلة وأجوائها السحرية المفعمة بالغرابة والأسرار وعشق الحرية والتعلق بالحياة.
ويعتبر العنوان ثاني العتبات التي تصادف المتلقي، وغالبا ما يلجأ المؤلف إلى طريقة تقليدية في اختيار العنوان الكتاب، وعنونته بعنوان أحد النصوص, حيث يكون عنوانا رامز ينطوي على قصدية مفعمة بالإيحاءات, وغنية بالدلالات العاطفية والنفسية والتاريخية. ليؤدي وظيفته الإغرائية، ويساعد بشكل عام على فك مغاليق النصوص ومعرفة فحواها وتوجيه مسار القراءة، والإجابة على بعض الأسئلة الآنية التي يطرحها حول شخص السلطان ولغز أمره وعلاقته بالنصوص الأخرى، ونستنتج بأن العنوان مخاتل ويحمل قدرا من الرموز الدلالية سيكتشفه القارئ بشكل أوضح ضمن القصة التي تحمل نفس العنوان. خاصة في علاقتها بفضاء حكايات ألف ليلة وليلة، هذا الأثر الأدبي العربي الضخم والعظيم الذي مارس غوايته على الناس، وما زال يشكل أحد الحوافز الرئيسية للالهام، والمصادر الغنية للخيال الأدبي والفني، مطوفا في العالم حاملا كنوز شهرزاد السردية الفاتنة، وهي تفوح بروائح الطيب والأنس والدفء واللذة والمتعة والغرابة، وواضح هنا أن العنوان يكتسب طبيعة الإحالة المرجعية التي تعلن عن مقصدية ونوايا القاصة للسياحة في أجواء الليالي العربية. ذلك أنه - بحسب بورخيس - كل من يؤلف حكاية على منوال قصص الليالي وأجوائها يعمد من غير قصد آو سبق نية إلى وضع حكايات إضافية لا يتضمنها الكتاب الأم، الذي ظهر في بغداد وكتبت أجزاء منه بالشام وتمت إضافة نصوص في القاهرة، وأضاف أنطوان غالان مترجم الكتاب إلى اللغة الفرنسية قصص "علاء الدين والمصباح السحري وعلي بابا والأربعين حرامي"، وأغوى العديد من المؤلفين إلى النسج على منواله، ابتداء من "إمتاع ومؤانسة" آبي حيان التوحيدي، و"الديكاميرون" للايطالي جيوفاني بوكاشيو، و"مناجاة البلغاء" الليالي التركية ذات المصادر المجهولة، يورد الباحث عبدالفتاح كيليطو نقلا على لسان ريتشار برتون مترجم الليالي إلى الانجليزية، وخورخي لويس بورخيس مع قليل من الاختلاف بأن من يقرا كتاب الليالي إلى النهاية يموت، وتتجلى هذه العبرة في حكاية الحكيم دوبان والملك يونان، وحينما تستعين شهرزاد بمكيدة سرودها الغرائبية التي تدور حول صراع الخير والشر في النفس البشرية، في مسامرة شهريار وتسليته وتخفيف أرَقَ لياليه وإذابة همومه واكتئابه المزمن، فإنها تلجأ في نفس الآن لإرجاء الموت ودرء خطره، وحماية بنات جنسها من فناء محدق.
تنفتح تقنية السرد في الليالي على طريقة سردية تمارس فعلها ألإغوائي انطلاقا من فترة زمنية موغلة في القدم، "كان يا ما كان في قديم الزمان وفي سالف العصر والأوان"، أو "بلغني أن"، ذلك أن الأميرة شهرزاد تعني باختراع الوهم لمواجهة المجهول وتقتحم المحرم لشد فضول المتلقي، وتورد قصصها نقلا عن رواة سابقين، ومن خلال ما اطلعت عليه من أخبار وقصص وعلوم وتجارب حياتية، ومن خلال خزينها من الخام اللغوي ومعتق القول والحكمة والخرافة ورصيدها من الخيال والإفادة منه، وغالبا ما تنبثق حكايات فرعية عن القصة الأصلية، فيما يعرف لدى دارسي ألف ليلة وليلة بالحكاية العنقودية، واستغلال كل ذلك بهارمونية دون أن يشكل نشازا على مبنى النص، فكتب الأحاديث اهتمت بالأسانيد من منطلق ديني صرف، واستثمرت هذا التقليد بصيغ مغايرة كي تضفي على النصوص مصداقية ووثوقية مرجعية. كما يمكن القول بأن الحكايات تشبه المعمار الشرقي بالحواضر العتيقة، حيث تتفرع عن المدخل الرئيسي حواري وأزقة وبيوتات وتشعبات متعددة تختزن دفء التاريخ وسحر وأسرار حضارة الشرق، لان كتاب الليالي كتاب متجدد، ولا صيغة نهائية له.
وتستهل القاصة مريم بن بخثة نصها القصصي بكلمة "جاءنا"، و"في زمن النسيان"، وهي صيغة أسلوبية مقاربة للجملة الاستهلالية الأثيرة لذا الأميرة شهرزاد، فالقاصة لا تعنى فقط بتأليف الحكاية، بل تضيف حكاية أخرى ترويها الماشطة للأميرة، إذ تتولد من صلب الحكاية الأصل، وتتناسل حكايات أخرى وأحداث ومفاجآت لخلق عنصر الفرجة، فالساردة في القصة لا تهتم إلا بنقل الأحداث عن رواة متعددين، لتعطينا عبرا عن الغدر ومآل الخونة، وحكاية العشق، وهي ثيمة اساسية تعالجها بقية النصوص القصصية بشكل أو بآخر.
كل قصص المجموعة تختتم بنهاية مفجعة ومأساوية، عاكسة طبيعة الواقع المزري والبائس، بلغة تصويرية هادفة ذات دور جمالي تتنوع بتنوع ثيمات القصص، مركزة على معاناة الإنسان بشكل كبير، دون الابتعاد عن الرؤية النمطية النسوية التقليدية لواقع المرأة ضمن السلم المجتمعي، فالنصوص على اختلاف مضامينها تلامس الواقع وتناقش قضاياه بلغة سردية سهلة ومتينة تتدثر بملاءة شعرية شفيفة، تسندها مفارقات مدهشة، تساهم بقدر وفير في عكس أصالة مستوى الموقف الفكري للقاصة، ناهيك عن مهارتها في سبك تلك اللغة والعناية بها، دون تجنب مناطق البوح. وطرق مناطق الاصطدام بين نمطين من التفكير الأنثوي والذكوري. ووضعها إزاء منظومة القيم وأنماط الوعي السائدة في المجتمع الشرقي بكل تراكماته الدينية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية، والذي ما يزال يموقع المرأة طبقيا في خانة ترتكز في قراءتها للواقع على منظور مغاير فيه الكثير من التظلم والتجني والغبن، وهذا أمر نمطي في اغلب الكتابات النسائية.
وكما سنرى فهناك علاقة وطيدة بين عناوين قصص المجموعة، إذ تكون وحداث ثنائية لثيمات معينة ومتباينة، تعالج كل وحدة موضوعا يرتبط بالأساس بالحياة اليومية وهموم ومكابدات الطبقة المسحوقة والمشاكل القومية، وما يكابده الشخوص من محن وضغوط وإكراهات.
- فمن الحنين للمدينة الأصل الدار البيضاء في قصص رمادية كالضياء - وفلوريدا.
- إلى إحباط البطل ومعاناته إزاء مشاغل الحياة، وحيث الحياة لا تنتهي عادة بمتعة مشتهاة، والانتهاء بالموت انتحارا أو قتلا وانتقاما أو نفسيا في قصص بأمر من مولانا السلطان - حب مجنون - الخطيئة - بلا هوية. ساعة الحقيقة.
- إلى عنف الواقع تجاه المرأة خاصة في مجتمع شرقي متخلف ينظر للمرأة نظرة دونية، حيث يبادر الكل إلى تعريتها بدل سترها وتغطيتها في قصص - بعد الرحيل - ذاكرة النسيان - هل سيعود.
- إلى الهم القومي ومحاولة إنقاذ التاريخ من التزييف وطمس الذاكرة الوطنية التي يقوم بها الآخر في قصص جداريات الوهم - ورجل بعد الدمار، حيث تلخص وجع الوطن العربي.
ونلاحظ أيضا بأن أبطال القصص لا أسماء محددة لهم باستثناء ثلاثة نصوص، حيث يرد اسم محمد ومرام في قصة حب مجنون، ومرام كما يفيد اسمها هو المطلب والمشتهى، لكن الآمال لا تتحقق دوما إذ سرعان ما تتكسر على صخرة المستحيل، وفرح في قصة بعد الرحيل، وسلام في قصة رجل.. بعد الدمار، وكما نرى فهي أسماء متناقضة تماما مع واقع الحال، ففرح لا فرحة في افق حياتها غير الغدر، وسلام يحيا حياة ملؤها الخوف في بلد تتآكله الحروب الطائفية والدمار
للمكان والزمان دور هام في الكتابة القصصية، ولا يقلان أهمية عن الأحداث والوقائع، ويشكلان جزءا من الفضاء الموضوعي لتحرك الشخوص، لهذا يوليهما القاص اهتماما بالغا، فقد تكررت لفظة الليل بمختلف صيغها 46 مرة، فيما ترد كلمة النهار 5 مرات، بينما يتكرر لفظ المكان 35 مرة، والزمن 24 مرة، الاغتراب والغربة 12 مرة النسيان مرة، الحب مرة، الكراهية مرة، السلام مرة، الحرب مرة، وترد هذه الألفاظ تحت صيغ مغايرة مثل المساء الصباح الفجر الملاذ الزاوية غريب إلى غير ذلك من التسميات والإشارات المماثلة.
وتعتمد القاصة على الأفضية المفتوحة، فقلما نجد نصا انحصر فيه زمان الحدث، أو انعدم فيه احدهما بشكل قطعي، وسينتبه القارئ إلى قدرة الكاتبة من خلال خلق تكنيك يساعد على جعل القارئ يحيا في أكثر من مكان ويعيش في أكثر من زمان. إلى العناية بالبناء اللغوي وصياغة الجمل واختيار الألفاظ للتعبير عن فكرتها أو رسم الصور الخيالية التي تود تجسيدها بالإضافة إلى نقل الأحاسيس والانفعالات، فالقصة عندما تجسد واقع المجتمع، فبناؤها الفني يعكس ثقافتها ومعتقدها الديني ومواقفها الفكرية من العديد من الأشياء، الدعارة والبطالة واهمال الاسرة، ولا غرابة إن صادفنا بعض الأساليب الوعظية والحكم. والاستعانة ببعض الاستشهادات من الشعر العربي ابو البقاء الرندي، سميح القاسم، نزار قباني...
إنها بلاغة القص القصير لدى المبدعة مريم بن بخثة، فهي لا تكتفي بمراقبة الحياة وهمومها عن بعد، بقدر ما يجتذبك إلى قاع الكون وتغطسك في قتامته وسديميته وقهره، وابتكار طرائق ناجعة وحازمة لمواجة عدمية الحياة وبؤسها، وعكس رؤى وتصورات وإيحاءات تسافر بالمتلقي إلى أقاصي حدود المتعة الفنية، وقمم الخيال في نفس الآن. موظفة أبنية سردية متعددة وأساليب أنيقة تتموقع في المنطقة الواصلة بين الشعري والقصصي، كساردة عالمة تتحكم في نسيج القصة وحبكتها وشخوصها. وفي عملية الحذف والاختصار والتوقف والانتقال داخل الحيز الزمكاني، ثم راوية وشخصية رئيسية تحكي عن همومها الشخصية الصغيرة واغترابها القسري داخل متاهات الحياة بعيدا عن مدينتها الأصلية برغم ضخامتها وصخبها وعنفها. وهذا التنويع في معمار القص يدل على مدى تمكنها من أدواتها السردية وتقنياته الحكائية وانفتاحها على الإبداع القصصي بمختلف أجناسه.
* ورقة ألقيت في محفل الاحتفاء بتوقيع المجموعة بالدار البيضاء