المصطفى سالمي
كاتب
قرر مع صديق له التوجه لمدينة أكادير، قيل لهما إن بها معامل ومصانع وميناء.. لِم لا يجرب؟ لقد مل عوالم البطالة، سنتان من الانتظار الممل المُمِيت. كان صديقه حاصلا على الإجازة في اللغة الإنجليزية وإجازته هو في تخصص اللغة العربية. لم يُفده سيبويه بأي نفع مادي كما لم يستفد صديقه من شكسبير وظيفة، إن هي إلا شهادة ورقية على كل واحد تعليقها في جدار وبكاء الحاضر الصعب. صديقه يعاني من حدة طباع والده الذي يطالبه ويلح عليه للاشتغال في دكان البقالة الذي ما عاد قادرا بحكم سنه على الوقوف والعمل به طوال النهار، أما مجاز العربية فلا يريد ـ في حالة أجبرته الظروف على مهنة أو حرفة يدوية ـ أن يظهر بمظهر الدونية في حيّه البئيس ووسط الأهل والمعارف، فلا مانع عند كل واحد منهما من العمل بائعا متجولا أو في معمل حقير، ولكن بعيدا عن أعين الشماتة والترصد والقيل والقال..
ركبا حافلة سوقية تتململ عند كل استدارة طريق أو التواءة جبل، وتهتز كراسيها وزجاجها عند كل صعود أو نزول أو توقف مما أصاب معظم ركابها بالدوار خاصة مع طول الطريق وكثرة الواقفين وقلة التهوية. وما زاد الطين بلة روائح القيء والبنزين المحترق، مما أحال المكان لجحيم لا يطاق.
في مدينة إنزكان توقفت الحافلة. كان الظلام ما يزال يخيم على المكان، شربا حساء في أحد المقاهي الشعبية، ودخلا سوق الجملة حيث اشتريا بعض طيور الدجاج ثم وقفا في نفس المكان من أجل إعادة بيعها. كانت الأرباح ضئيلة للغاية، ثلاث ساعات من الانتظار من أجل عشرين درهما. لقد ربحا ثمن الإفطار، وعليهما الآن التفكير في سكن رخيص للغاية. كان صديقه يعرف بعض الرفاق الذين أشاروا عليه بخوض هذه التجربة، اتصل من خلال مخدع هاتفي بأحدهم، مرت عدة دقائق متثاقلة قبل أن يحضر الرفيق ويتوجه بهما نحو حارة أشد بؤسا من حارة مدينتهم الكئيبة. دفعا ثمن الإيجار لصاحب البيت، كانت غرفة في السطح بطول مترين على ثلاثة، لا تكاد أشعة الشمس أو الهواء ينفد إليها، لا فراش ولا غطاء. قال له صديقه: غدا الثلاثاء، يوم السوق الأسبوعي الكبير بالمنطقة، هي فرصتنا لتحقيق ربح كبير لتغطية مصاريف الإيجار. خرج للشارع الكبير وبدأ يلتقط العلب الكرتونية، ستكون مفيدة كفراش، وأما الغطاء فهذه العباءة التي جاء بها معه قد تفي بالغرض ريثما يفرجها الله. فعل صديقه مثله وأمضيا بقية اليوم في تجوال واكتشاف لبلدة إنزكان التي هي تابعة إداريا لمدينة أكادير. اشتريا لوازم الطبخ وكانت كلها تقريبا من الطين لثمنه الزهيد. قال له صديقه سعيد: سنطبخ في الهواء الطلق الذي هو السطح، لن يشم رائحة طبخنا إلا نحن، ولن نشم رائحة طبخ الآخرين.
كان النوم تلك الليلة عملية تعذيب حقيقية. برودة المكان تتسلل إلى العظام وإلى كل مكامن الإحساس في الجسد، أطرافه تكاد تُشل وتتجمد رغم كثرة و سُمك ورق العلب المفروشة والممددة على الأرض. كانت تلك الفترة الزمنية هي بدايات الشتاء. أحكم إغلاق المنافذ والشقوق تحت الباب. أما صديقه فكان يغط في نوم عميق كأنه من الموتى. استمر يتقلب في فراشه زمنا غير يسير. ما أنقذه من مأزقه هو الاستيقاظ المبكر. توجها في ظلمة الفجر إلى السوق، أشارا في الطريق لصاحب عربة، لكن الأخير توجس من الشبحين وحث دابته على الإسراع. التهما المسافات بأقدام تسارع الخطى بحثا عن الدفء من خلال الحركة، الأمعاء بدأت تتلوى والأنفاس تتلاحق. وفي مقهى شعبية تحت الأقواس كان كل واحد منهما يتحسس بإشفاق الدريهمات المعدنية التي هي رصيد لا ينبغي التفريط فيه بسهولة في بلاد الغربة. الخبز والحساء أرخص شيء في بلاده، يُشبع ويقوي. وفي وسط زحام سوق الجملة كانت الوجهة مكان بيع الخضر، اشتريا الفلفل الحار والثوم والليمون(الحامض) وأكياسا بلاستيكية صغيرة بيضاء. الكيس ينبغي أن يشمل ثلاث حبات من الثوم أو ثلاثا من الليمون أو ستة رؤوس فلفل، وثمن كل كيس بلاستيكي درهمان. افترش كل واحد لنفسه موقعا بعيدا عن الآخر لخلق المنافسة بينهما وتوسيع مساحة ودائرة الربح. وبدأ كل واحد يصيح مفاخرا بسلعته وسط معزوفات وألحان صوتية تصدر من حناجر الباعة في سوق شاسعة أطرافه ونواحيه، ووسط أمواج بشرية بعضها يجيء وبعضها يذهب، بعضها يشتري وبعضها كأنما يكتفي بالمساومة أو كأنما هو في نزهة، كان موقعهما بمحاذاة الشارع الرئيسي للسوق يشكل خطرا كبيرا عليهما، عدوهما الأول هو رجال المخزن الذين يمنعون افتراش الطريق العام، الحمد لله أن اليوم مرّ على خير، ووجدا نفسيهما يعدان الأرباح، ستون درهما مع بعض السلع المتبقية حملاها للغرفة الصغيرة، وفي طريق العودة اشتريا لوازم الأكل وامتطيا حافلة نقل عمومية ليريحا نفسيهما استعدادا ليوم جديد من العمل. كان عليهما تتبع الأسواق في تلك المنطقة: أربعاء أنزا ـ خميس (بني سرغاو) ـ (الباطوار) وهكذا.. وسيلتهما للتنقل بدأت تميل لصالح العربات المجرورة بالدواب لرخص ثمنها، وفي المساء ـ غالبا مع العصر أو بعد الظهر بقليل ـ تكون العودة للغرفة التي تبدو وقتها كجنة أو صدر حنون يتلقفهما وهما في غاية التعب والإرهاق.
نوعا في سلعهما في الأيام الموالية ، اشتريا يوما الكزبرة والشويلاء والنعنع، لكن تساقط الأمطار وتعفن الكزبرة سبب خسائر مفاجئة لم تكن في الحسبان. كان صديقه أحرص على العمل وجمع المال، لقد أمضى بعد التخرج من الجامعة معاناة مريرة مع والده الشحيح الذي يبخل عليه حتى بثمن الحلاقة أو الاستحمام. يعتبر صديقُه الدرهم أبا وأخا وصديقا، بل إنه أصبح يُعادي الكتاب والثقافة. كان (سعيد) يلومه بشدة إن رآه يقرأ الجرائد التي يلف فيها الكزبرة والشويلاء بدعوى أن وقت البيع لا ينبغي تخصيصه للقراءة العبثية. كان لا يتردد في حمل السلع على ظهره بدل عربة مجرورة بالدواب أو مدفوعة باليد. إن هذه الدراهم القليلة يعتبر أنهما أحوج إليها وأن التعب يزول سريعا. كان منظر صديقه يثير شفقته في بعض الأحيان وخاصة بعد العودة من السوق حيث يتمدد (سعيد) كالميت بلا حراك تاركا له مهمة الإشراف على القدر مخافة احتراق محتواها وهي على نار الفحم الخشبي في السطح بينما تنبعث منها روائح شهية، وكان هو يتمنى لو يستمر صديقه مستيقظا يحاوره ويسترجع معه ذكريات الجامعة وأيامها، ولكن نقطة ضعف صديقه هو النوم الذي يستسلم له بسهولة ولا يسترد قواه إلا حين يوقظه لمشاركته وجبة ترد لهما طاقتهما المهدرة في مشاق لم يتعودا عليها في حياتهما السابقة. كانا في بادئ الأمر يشتريان الخضر وقليلا من الدجاج أو الديك الرومي لرخص ثمنه والخبز والزيتون والموز المتوفر في المنطقة بأثمنة بخسة جدا. لكن تعرفهما على الباعة في أسواق المنطقة جعلهما يمارسان المقايضة. وتبادل السلع هنا عملة رائجة بين التجار البسطاء للاحتفاظ بالنقود للصعب من الأيام. كان رفاقه من الباعة يرددون عبارةالضعفاء يعض بعضهم بعضا)، لم يفهم هذه العبارة إلا حين جاورهم واحتك بهم زمنا، فهم يتقاسمون الألم في صمت كمن يعض على الجمر. وكل واحد هو سند وجدار للآخر في رغيف الحياة. والعجيب أنه في بادئ الأمر نشبت صراعات بينهم وبين رفيقه من أجل المكان، في وقت كان هو يفضل أي مكان بعيدا عن الصراعات. لم يكن مسموحا لأي كان بالسطو على أماكن بعينها في السوق بدعوى أنها محجوزة ولو كانت تبدو فارغة، وقد تسيل الدماء لهذا السبب. إنها مأجورة يقولون لك، وكان صديقه مستعدا للموت من أجل ممارسة هذه المهنة. أما هو فكأنّ الأمر لا يعنيه، إنها مجرد رحلة كالنزهة، يتأمل من خلالها الآخرين وكأنه خارج الموضوع. صديقه واقعي أكثر من اللزوم، قليل الكلام كثير العمل والأكل "كما الدواب" قالها صاحبنا في نفسه مستغفرا الله على هذا التشبيه.
كانت الأمور تسير بشكل طبيعي . هو، له سلعته يفترش لها فراشا في طرف الشارع ولصديقه مثل ذلك في الطرف الآخر من الشارع. وقد ترك كل منهما لحيته تكبر قليلا لتقي وجهه حرارة الشمس ولانعدام الوقت للحلاقة ولتكاليفها ثالثا، وليس تشبها بالسلفيين أو المتدينين. وفجأة وفي عز البيع والشراء يأتي صاحبه بوجه كئيب مخبرا إياه بمصادرة السلعة، وعزا ذلك ربما لشكله الذي يبدو عليه التدين خاصة أنهم هددوه بالاعتقال حين حاول مقاومتهم. وقع الخبر كالصاعقة عليه، لكن رفاقه هونوا عليه الأمر حين قالوا: "عشرة دراهم وتسترد سلعتك من الحجز، إنها مجرد حوامض وكزبرة وشويلاء لن تنفعهم في شيء. ولو كانت من الفواكه أو الخضر فعليها السلام". وفعلا كان الأمر كذلك ـ بمساعدة أحد الباعة ـ وعادت البسمة للشفاه، لكن المقابل ـ على بساطته ـ كان مؤلما، إذ عليهما الاقتصاد في المأكل لتعويض الخسارة خاصة مع التأخر في البيع وقت الذروة، وإلا فرأس المال في خطر.
تزداد الأمطار قوة وعنفوانا، ويحس الاثنان بالتعب ، وتبدأ الشكوى محتشمة. ولأول مرة يجاريه صديقه هذا الأنين بعد أن كان مقلا في الكلام والتبرم في أول الأمر. بدأ كل منهما ـ بصوت مسموع ـ يفترض مرضا مفاجئا لا قدر الله، أو حالة عارضة تنتابهما، فكيف التصرف وقتئذ؟ خاصة وأن عودا صغيرا كان قد نشب قرب أحد أظفاره وسبب له آلاما مبرحة قبل التخلص منه في المستوصف المجاور. هذه المرة تدخلت الألطاف الإلهية، تُرى ماذا لو أصيب أحدهما بإنفلونزا حادة وهما عرضة للأمطار ولا يتوفران على خيمة تقيهما البلل؟ رأسمالهما لن يكون كافيا للدواء، وبعد ذلك الضياع..
كان إصرار صديقه على العمل جارفا مسنودا بفكرة التوكل الكلي على الله، واضعا في اعتباره سخرية الساخرين إن هو عاد صفر اليدين لمدينته البئيسة، سيقولون عنه: (عاجز حتى في وطنه فبالأحرى أن يهاجر للبلاد البعيدة!). كل هذا جعله يمدد فترة البقاء مع صديقه منتظرين الفرج من الله. بعض رفاقهما من الباعة في السوق لا حديث لهم إلا عن الهجرة للبلاد العربية أو الأوربية، والبعض يتحدث عن الجنوب المغربي وعوالم البحر والسمك، وأوراش البناء..
بدأ كل منهما مع اقتراب إطلالة شهر جديد التفكير في إيجار الغرفة. كان هذا الواجب همّا كبيرا يقتطع من عرقهما وجهدهما وكأنهما يشتغلان من أجل صاحب البيت. أربعمائة درهم شهريا ثم لا يتبقى لهما سوى العذاب وآلام كالإبر في كل ركن من مفاصل الجسد المنخور بسنوات الدراسة والسهر والامتحانات.. وهكذا يتضاءل رأسمالهما عند أداء واجب الإيجار مرة بعد أخرى. وهذه المرة ادعى صاحب البيت أن الماء والكهرباء كانت فاتورتهما مرتفعة، أحس صاحبنا أن الأمور ما عادت محتملة، فهما تدريجيا يقللان من المأكل عند كل خسارة، وذات ليلة من ليالي فبراير القاسية المتجمدة، جمع أغراضه المتواضعة، وحلق لحيته ولبس أحسن بدلة ما زال يحتفظ بها، وانتظر إلى ساعة الفجر، ولن تكون الوجهة هي السوق هذه المرة، بل مدينته الكئيبة، فهو لم يُخلق للعذاب الأبدي. وصديقه هذه المرة لم يلزم الصمت كالمعتاد، بل صدر عنه أخيرا صوت كالتضرع: "ولكنك تعرف أني أعتمد على ذكائك في استدراج الزبائن، فأنت تربح أكثر مني، ومهارتك كبيرة في الطبخ". فقال له صاحبنا: "ابحث لك عن زوجة تطبخ لك وعن مساعد يساعدك على أيامك الصعبة!" .
تبعه صاحبه إلى محطة الحافلات، وأخيرا ووسط هدير حافلة متوجهة نحو مدينتهما البئيسة قال له سعيد:" لا تخش علي يا صديقي، فأنا أجيد كل شيء من الطبخ إلى البيع، كنت فقط أريد أن تبقى معي، أتعرف!؟ أنا لم أعد أصلح لشيء، لقد نسيت كل ما درستُهُ بالجامعة، ليس مثلك أنت. لا تُفوّت أية فرصة لاجتياز مباريات التوظيف. وفقك الله. اغفر لي أنانيتي". وتعانق الصديقان عناق الأخوة الصادقة.
كان فراقا طويلا، لقد مرت السنوات الطويلة قبل أن يسمع صاحبنا أن رفيقه قد تزوج بابنة صاحب البيت حيث كانا يقطنان، واشتغل بائعا في متجره. بينما القدر اختار له هو مهنة التدريس، وأصبح الماضي طيفا من المتعة وخيطا من الذكرى المنسابة في الخيال كشبح من الوهم والمحال.
ركبا حافلة سوقية تتململ عند كل استدارة طريق أو التواءة جبل، وتهتز كراسيها وزجاجها عند كل صعود أو نزول أو توقف مما أصاب معظم ركابها بالدوار خاصة مع طول الطريق وكثرة الواقفين وقلة التهوية. وما زاد الطين بلة روائح القيء والبنزين المحترق، مما أحال المكان لجحيم لا يطاق.
في مدينة إنزكان توقفت الحافلة. كان الظلام ما يزال يخيم على المكان، شربا حساء في أحد المقاهي الشعبية، ودخلا سوق الجملة حيث اشتريا بعض طيور الدجاج ثم وقفا في نفس المكان من أجل إعادة بيعها. كانت الأرباح ضئيلة للغاية، ثلاث ساعات من الانتظار من أجل عشرين درهما. لقد ربحا ثمن الإفطار، وعليهما الآن التفكير في سكن رخيص للغاية. كان صديقه يعرف بعض الرفاق الذين أشاروا عليه بخوض هذه التجربة، اتصل من خلال مخدع هاتفي بأحدهم، مرت عدة دقائق متثاقلة قبل أن يحضر الرفيق ويتوجه بهما نحو حارة أشد بؤسا من حارة مدينتهم الكئيبة. دفعا ثمن الإيجار لصاحب البيت، كانت غرفة في السطح بطول مترين على ثلاثة، لا تكاد أشعة الشمس أو الهواء ينفد إليها، لا فراش ولا غطاء. قال له صديقه: غدا الثلاثاء، يوم السوق الأسبوعي الكبير بالمنطقة، هي فرصتنا لتحقيق ربح كبير لتغطية مصاريف الإيجار. خرج للشارع الكبير وبدأ يلتقط العلب الكرتونية، ستكون مفيدة كفراش، وأما الغطاء فهذه العباءة التي جاء بها معه قد تفي بالغرض ريثما يفرجها الله. فعل صديقه مثله وأمضيا بقية اليوم في تجوال واكتشاف لبلدة إنزكان التي هي تابعة إداريا لمدينة أكادير. اشتريا لوازم الطبخ وكانت كلها تقريبا من الطين لثمنه الزهيد. قال له صديقه سعيد: سنطبخ في الهواء الطلق الذي هو السطح، لن يشم رائحة طبخنا إلا نحن، ولن نشم رائحة طبخ الآخرين.
كان النوم تلك الليلة عملية تعذيب حقيقية. برودة المكان تتسلل إلى العظام وإلى كل مكامن الإحساس في الجسد، أطرافه تكاد تُشل وتتجمد رغم كثرة و سُمك ورق العلب المفروشة والممددة على الأرض. كانت تلك الفترة الزمنية هي بدايات الشتاء. أحكم إغلاق المنافذ والشقوق تحت الباب. أما صديقه فكان يغط في نوم عميق كأنه من الموتى. استمر يتقلب في فراشه زمنا غير يسير. ما أنقذه من مأزقه هو الاستيقاظ المبكر. توجها في ظلمة الفجر إلى السوق، أشارا في الطريق لصاحب عربة، لكن الأخير توجس من الشبحين وحث دابته على الإسراع. التهما المسافات بأقدام تسارع الخطى بحثا عن الدفء من خلال الحركة، الأمعاء بدأت تتلوى والأنفاس تتلاحق. وفي مقهى شعبية تحت الأقواس كان كل واحد منهما يتحسس بإشفاق الدريهمات المعدنية التي هي رصيد لا ينبغي التفريط فيه بسهولة في بلاد الغربة. الخبز والحساء أرخص شيء في بلاده، يُشبع ويقوي. وفي وسط زحام سوق الجملة كانت الوجهة مكان بيع الخضر، اشتريا الفلفل الحار والثوم والليمون(الحامض) وأكياسا بلاستيكية صغيرة بيضاء. الكيس ينبغي أن يشمل ثلاث حبات من الثوم أو ثلاثا من الليمون أو ستة رؤوس فلفل، وثمن كل كيس بلاستيكي درهمان. افترش كل واحد لنفسه موقعا بعيدا عن الآخر لخلق المنافسة بينهما وتوسيع مساحة ودائرة الربح. وبدأ كل واحد يصيح مفاخرا بسلعته وسط معزوفات وألحان صوتية تصدر من حناجر الباعة في سوق شاسعة أطرافه ونواحيه، ووسط أمواج بشرية بعضها يجيء وبعضها يذهب، بعضها يشتري وبعضها كأنما يكتفي بالمساومة أو كأنما هو في نزهة، كان موقعهما بمحاذاة الشارع الرئيسي للسوق يشكل خطرا كبيرا عليهما، عدوهما الأول هو رجال المخزن الذين يمنعون افتراش الطريق العام، الحمد لله أن اليوم مرّ على خير، ووجدا نفسيهما يعدان الأرباح، ستون درهما مع بعض السلع المتبقية حملاها للغرفة الصغيرة، وفي طريق العودة اشتريا لوازم الأكل وامتطيا حافلة نقل عمومية ليريحا نفسيهما استعدادا ليوم جديد من العمل. كان عليهما تتبع الأسواق في تلك المنطقة: أربعاء أنزا ـ خميس (بني سرغاو) ـ (الباطوار) وهكذا.. وسيلتهما للتنقل بدأت تميل لصالح العربات المجرورة بالدواب لرخص ثمنها، وفي المساء ـ غالبا مع العصر أو بعد الظهر بقليل ـ تكون العودة للغرفة التي تبدو وقتها كجنة أو صدر حنون يتلقفهما وهما في غاية التعب والإرهاق.
نوعا في سلعهما في الأيام الموالية ، اشتريا يوما الكزبرة والشويلاء والنعنع، لكن تساقط الأمطار وتعفن الكزبرة سبب خسائر مفاجئة لم تكن في الحسبان. كان صديقه أحرص على العمل وجمع المال، لقد أمضى بعد التخرج من الجامعة معاناة مريرة مع والده الشحيح الذي يبخل عليه حتى بثمن الحلاقة أو الاستحمام. يعتبر صديقُه الدرهم أبا وأخا وصديقا، بل إنه أصبح يُعادي الكتاب والثقافة. كان (سعيد) يلومه بشدة إن رآه يقرأ الجرائد التي يلف فيها الكزبرة والشويلاء بدعوى أن وقت البيع لا ينبغي تخصيصه للقراءة العبثية. كان لا يتردد في حمل السلع على ظهره بدل عربة مجرورة بالدواب أو مدفوعة باليد. إن هذه الدراهم القليلة يعتبر أنهما أحوج إليها وأن التعب يزول سريعا. كان منظر صديقه يثير شفقته في بعض الأحيان وخاصة بعد العودة من السوق حيث يتمدد (سعيد) كالميت بلا حراك تاركا له مهمة الإشراف على القدر مخافة احتراق محتواها وهي على نار الفحم الخشبي في السطح بينما تنبعث منها روائح شهية، وكان هو يتمنى لو يستمر صديقه مستيقظا يحاوره ويسترجع معه ذكريات الجامعة وأيامها، ولكن نقطة ضعف صديقه هو النوم الذي يستسلم له بسهولة ولا يسترد قواه إلا حين يوقظه لمشاركته وجبة ترد لهما طاقتهما المهدرة في مشاق لم يتعودا عليها في حياتهما السابقة. كانا في بادئ الأمر يشتريان الخضر وقليلا من الدجاج أو الديك الرومي لرخص ثمنه والخبز والزيتون والموز المتوفر في المنطقة بأثمنة بخسة جدا. لكن تعرفهما على الباعة في أسواق المنطقة جعلهما يمارسان المقايضة. وتبادل السلع هنا عملة رائجة بين التجار البسطاء للاحتفاظ بالنقود للصعب من الأيام. كان رفاقه من الباعة يرددون عبارةالضعفاء يعض بعضهم بعضا)، لم يفهم هذه العبارة إلا حين جاورهم واحتك بهم زمنا، فهم يتقاسمون الألم في صمت كمن يعض على الجمر. وكل واحد هو سند وجدار للآخر في رغيف الحياة. والعجيب أنه في بادئ الأمر نشبت صراعات بينهم وبين رفيقه من أجل المكان، في وقت كان هو يفضل أي مكان بعيدا عن الصراعات. لم يكن مسموحا لأي كان بالسطو على أماكن بعينها في السوق بدعوى أنها محجوزة ولو كانت تبدو فارغة، وقد تسيل الدماء لهذا السبب. إنها مأجورة يقولون لك، وكان صديقه مستعدا للموت من أجل ممارسة هذه المهنة. أما هو فكأنّ الأمر لا يعنيه، إنها مجرد رحلة كالنزهة، يتأمل من خلالها الآخرين وكأنه خارج الموضوع. صديقه واقعي أكثر من اللزوم، قليل الكلام كثير العمل والأكل "كما الدواب" قالها صاحبنا في نفسه مستغفرا الله على هذا التشبيه.
كانت الأمور تسير بشكل طبيعي . هو، له سلعته يفترش لها فراشا في طرف الشارع ولصديقه مثل ذلك في الطرف الآخر من الشارع. وقد ترك كل منهما لحيته تكبر قليلا لتقي وجهه حرارة الشمس ولانعدام الوقت للحلاقة ولتكاليفها ثالثا، وليس تشبها بالسلفيين أو المتدينين. وفجأة وفي عز البيع والشراء يأتي صاحبه بوجه كئيب مخبرا إياه بمصادرة السلعة، وعزا ذلك ربما لشكله الذي يبدو عليه التدين خاصة أنهم هددوه بالاعتقال حين حاول مقاومتهم. وقع الخبر كالصاعقة عليه، لكن رفاقه هونوا عليه الأمر حين قالوا: "عشرة دراهم وتسترد سلعتك من الحجز، إنها مجرد حوامض وكزبرة وشويلاء لن تنفعهم في شيء. ولو كانت من الفواكه أو الخضر فعليها السلام". وفعلا كان الأمر كذلك ـ بمساعدة أحد الباعة ـ وعادت البسمة للشفاه، لكن المقابل ـ على بساطته ـ كان مؤلما، إذ عليهما الاقتصاد في المأكل لتعويض الخسارة خاصة مع التأخر في البيع وقت الذروة، وإلا فرأس المال في خطر.
تزداد الأمطار قوة وعنفوانا، ويحس الاثنان بالتعب ، وتبدأ الشكوى محتشمة. ولأول مرة يجاريه صديقه هذا الأنين بعد أن كان مقلا في الكلام والتبرم في أول الأمر. بدأ كل منهما ـ بصوت مسموع ـ يفترض مرضا مفاجئا لا قدر الله، أو حالة عارضة تنتابهما، فكيف التصرف وقتئذ؟ خاصة وأن عودا صغيرا كان قد نشب قرب أحد أظفاره وسبب له آلاما مبرحة قبل التخلص منه في المستوصف المجاور. هذه المرة تدخلت الألطاف الإلهية، تُرى ماذا لو أصيب أحدهما بإنفلونزا حادة وهما عرضة للأمطار ولا يتوفران على خيمة تقيهما البلل؟ رأسمالهما لن يكون كافيا للدواء، وبعد ذلك الضياع..
كان إصرار صديقه على العمل جارفا مسنودا بفكرة التوكل الكلي على الله، واضعا في اعتباره سخرية الساخرين إن هو عاد صفر اليدين لمدينته البئيسة، سيقولون عنه: (عاجز حتى في وطنه فبالأحرى أن يهاجر للبلاد البعيدة!). كل هذا جعله يمدد فترة البقاء مع صديقه منتظرين الفرج من الله. بعض رفاقهما من الباعة في السوق لا حديث لهم إلا عن الهجرة للبلاد العربية أو الأوربية، والبعض يتحدث عن الجنوب المغربي وعوالم البحر والسمك، وأوراش البناء..
بدأ كل منهما مع اقتراب إطلالة شهر جديد التفكير في إيجار الغرفة. كان هذا الواجب همّا كبيرا يقتطع من عرقهما وجهدهما وكأنهما يشتغلان من أجل صاحب البيت. أربعمائة درهم شهريا ثم لا يتبقى لهما سوى العذاب وآلام كالإبر في كل ركن من مفاصل الجسد المنخور بسنوات الدراسة والسهر والامتحانات.. وهكذا يتضاءل رأسمالهما عند أداء واجب الإيجار مرة بعد أخرى. وهذه المرة ادعى صاحب البيت أن الماء والكهرباء كانت فاتورتهما مرتفعة، أحس صاحبنا أن الأمور ما عادت محتملة، فهما تدريجيا يقللان من المأكل عند كل خسارة، وذات ليلة من ليالي فبراير القاسية المتجمدة، جمع أغراضه المتواضعة، وحلق لحيته ولبس أحسن بدلة ما زال يحتفظ بها، وانتظر إلى ساعة الفجر، ولن تكون الوجهة هي السوق هذه المرة، بل مدينته الكئيبة، فهو لم يُخلق للعذاب الأبدي. وصديقه هذه المرة لم يلزم الصمت كالمعتاد، بل صدر عنه أخيرا صوت كالتضرع: "ولكنك تعرف أني أعتمد على ذكائك في استدراج الزبائن، فأنت تربح أكثر مني، ومهارتك كبيرة في الطبخ". فقال له صاحبنا: "ابحث لك عن زوجة تطبخ لك وعن مساعد يساعدك على أيامك الصعبة!" .
تبعه صاحبه إلى محطة الحافلات، وأخيرا ووسط هدير حافلة متوجهة نحو مدينتهما البئيسة قال له سعيد:" لا تخش علي يا صديقي، فأنا أجيد كل شيء من الطبخ إلى البيع، كنت فقط أريد أن تبقى معي، أتعرف!؟ أنا لم أعد أصلح لشيء، لقد نسيت كل ما درستُهُ بالجامعة، ليس مثلك أنت. لا تُفوّت أية فرصة لاجتياز مباريات التوظيف. وفقك الله. اغفر لي أنانيتي". وتعانق الصديقان عناق الأخوة الصادقة.
كان فراقا طويلا، لقد مرت السنوات الطويلة قبل أن يسمع صاحبنا أن رفيقه قد تزوج بابنة صاحب البيت حيث كانا يقطنان، واشتغل بائعا في متجره. بينما القدر اختار له هو مهنة التدريس، وأصبح الماضي طيفا من المتعة وخيطا من الذكرى المنسابة في الخيال كشبح من الوهم والمحال.