عبد الغني ورضي
كاتب
أب وإبنة وعَجلة.
كانت تسابق والدها بدراجتها الصغيرة، حتى وأنه لم يكن يسرع بدراجته ليسبقها، لم يكن يريد أن يكتفي من تلك السعادة التي يرسمها الشغف في قلبه بضحكتها تلك، ويسافر بشعرها الذي تداعبه الريح.. كانت الفتاة الصغيرة سعيدة جدا، تنساب هي كذلك مع والدها على دراجتيهما عبر سهول وديعة خضراء في تماهٍ موسيقي بديع، يخترقان الرُّبى معا ويصعدان التلال الصغيرة معا.. كانت تسير جنبه وتنعرج حيث ينعرج بسعادة وتنظر إليه بلهفة، وكأنها رفقة جنتلمان عظيم.
وهناك، أعلى التلة، أسند والدها دراجته إلى الشجرة، فترجلت هي الأخرى عن دراجتها وأسندتها هي أيضا على نفس الشجرة ونظرت إليه بنفس اللهفة، حملها بين يديه وأدارها في الهواء، كانت الطفلة الصغيرة سعيدة وهي ترى الكون كله يدور معها حول والدها العظيم..
قبَّل الوالد طفلته الجميلة قبلة دافئة على وجنتها ونظر إليها نظرة وديعة، لم ينبس ببنت شفة، حضنها ثم هبط عبر التلة الصغيرة حيث كان هناك قارب صغير مربوط إلى جذع صغير ميت. ركب الأب القارب في سفر نحو الأفق على صفحة البحر الزرقاء إلى أن غاب عن الأنظار.
ظلت الفتاة الصغيرة أعلى التلة في ذهاب وإياب تنتظر عودة والدها إلى أن مالت الشمس نحو المغيب ثم امتطت دراجتها وانصرفت آسفة.
في الغد، كانت الطفلة الصغيرة المرحة مرة أخرى هناك بيدها شتلة زهر تخطو الربوة ذهابا وإيابا تنتظر عودة والدها وقد أسندت دراجتها إلى الشجرة إلى أن مالت الشمس مرة أخرى نحو المغيب ثم غاصت بالأفق، فانصرفت معها الفتاة خائبة.
وهكذا فعلت الفتاة الصغيرة طوال أيام عديدة.
وفي يوم من الأيام وكان يوما حزينا والجو كئيبا وكانت الريح شديدة وصلت الفتاة الصغيرة أعلى التلة بصعوبة بالغة وهي تغالب ألمها وحزنها وتقاوم الريح التي تصدها وتمنع عجلة دراجتها من الدوران، فأسندت دراجتها إلى الشجرة، لم تعد الفتاة الصغيرة طفلة كما كانت بل صارت اليوم فتاة يافعة مقبلة على الحياة .. تسوق دراجتها كما يسوقها أي شخص يجيد ركوب الدراجات ..وكانت قد تعلمت كيف تسوق دراجتها أيضا في مثل هذا الجو العنيف، نظرت إلى الأفق البعيد طويلا وهي تتحدث إلى الريح، ثم امتطت دراجتها عائدة، لكن هذه المرة حين قفلت عائدة تركت للريح قيادها، فلم تكن تحتاج لتدير دواسة دراجتها، أخذتها الريح منسابة عبر المروج والحقول الغَنَّاء. وهناك كانت تلتقي في طريقها أناسا آخرين على دراجاتهم يسيرون هنا وهناك بين غاد ورائح.. بين طفل صغير يقود دراجته مرحا ورجل يغالب الريح وعجوز لا يكاد يستطيع تحريك دواسة دراجته..
وكان بعد أيام، أن مرت الفتاة مع جماعة من صديقاتها يمتطين دراجاتهن، مرت بالربوة بجانب الشجرة، فترجلت عن دراجتها وأخذت تنظر باسمة في الأفق البعيد هناك، تحدث الريح مرة أخرى بلغة لم يكن لأحد في هذا الكون أن يفهمها، لم تنتبه إلا على صوت جرس دراجات رفيقاتها اللاتي كن ينتظرنها.. امتطت دراجتها مرة أخرى ولحقت بهن.
ومر الزمان..
في الطريق نحو الربوة، وكانت أن صارت الفتاة أما لولدين رائعين، كانت هناك دراجتان مقبلتان في البعيد نحو الربوة.. نحو الشجرة، حيت تمتطي هي دراجة كبيرة يعانقها ابنها الصغير بلهفة خلفها، وعلى الدراجة الاخرى كان ابنها الثاني خلف زوجها، أسندا دراجتيهما إلى الشجرة وهبط الزوج مع ابنيه نحو السفح حيث الجذع، يلعبون ويمرحون، بينما ظلت هي واقفة أعلى الربوة تنظر إلى الأفق تحدث الريح حيث الشمس دافئة حانية تزين بأشعتها صفحة الماء الزرقاء.
ومر الزمان نديا هادئا منسابا بهذه العجوز التي جاءت إلى الشجرة أعلى الربوة تتهادى على دراجتها التي صارت تحدث صريرا حزينا كلما دارت دواستها المهترئة. ترجلت عن دراجتها بجسدها المتخشب وقد تقوس به الظهر، أسندتها إلى الشجرة، لكنها مالت إلى أن خرت أرضا، أسندتها مرة اخرى إلى الشجرة فمالت ثانية إلى الأرض .. نظرت العجوز إلى الأفق البعيد ثم نظرت إلى الدراجة طويلا، هذه المرة لم تحدث الريح ولم تكن الريح تنتظر منها كلاما بل سارت نحو السفح، حيث سار والدها ذات دهر.
وهناك لم تجد ماء، لم يعد هناك من بحر، بل لم يكن في الأصل أي بحر هناك.. كان هنالك سهل فسيح مد البصر يتخلله عشب مرتفع ندي، كانت ترى أن عليها الذهاب إلى هناك حيث اللاشيء في الأفق، وكانت ترى أيضا أنها صارت مستعدة للرحيل، فاتخدت سبيلها بين الأعشاب في نفس المسار الذي رحل عبره والدها ذات يوم، وسارت وكأنها تسير أبدا، وهناك وسط الأعشاب، وجدت قاربا.. كان القارب ذاته الذي ركبه والدها يومه وقد غاص نصفه تحت الرمال، كانت لحظة يتيمة مشرقة من بين اللحظات المرحة التي مرت بشريط حياتها العامر. وهناك فقدت رغبتها في المسير، حيث غاب الأفق واقتصرت نظراتها وغاياتها على القارب الصغير المائل المتخشب والغائر في الرمال.. جلست في مساحة صغيرة من الرمال وسط القارب وتكومت على نفسها .. وكان أن هبت ريح ناعمة تداعب المكان، وعندما أغمضت عينيها رأته.. كان هو، والدها الذي فتح هناك ذراعيه، كان لا يزال على صورته التي كان عليها آخر مرة رأته، نفس الهندام الكثيف ونفس الابتسامة الوديعة التي كان يستقبل بها رسائلها عبر الريح.. قامت..وعندها لم تعد تلك العجوز المتقوسة ولا تلك المرأة الغارقة في الحياة، كانت فتاة يافعة لكنها بروح الطفلة الصغيرة التي رافقت والدها ذات يوم في نزهة قصيرة بين المروج.
كانت تسابق والدها بدراجتها الصغيرة، حتى وأنه لم يكن يسرع بدراجته ليسبقها، لم يكن يريد أن يكتفي من تلك السعادة التي يرسمها الشغف في قلبه بضحكتها تلك، ويسافر بشعرها الذي تداعبه الريح.. كانت الفتاة الصغيرة سعيدة جدا، تنساب هي كذلك مع والدها على دراجتيهما عبر سهول وديعة خضراء في تماهٍ موسيقي بديع، يخترقان الرُّبى معا ويصعدان التلال الصغيرة معا.. كانت تسير جنبه وتنعرج حيث ينعرج بسعادة وتنظر إليه بلهفة، وكأنها رفقة جنتلمان عظيم.
وهناك، أعلى التلة، أسند والدها دراجته إلى الشجرة، فترجلت هي الأخرى عن دراجتها وأسندتها هي أيضا على نفس الشجرة ونظرت إليه بنفس اللهفة، حملها بين يديه وأدارها في الهواء، كانت الطفلة الصغيرة سعيدة وهي ترى الكون كله يدور معها حول والدها العظيم..
قبَّل الوالد طفلته الجميلة قبلة دافئة على وجنتها ونظر إليها نظرة وديعة، لم ينبس ببنت شفة، حضنها ثم هبط عبر التلة الصغيرة حيث كان هناك قارب صغير مربوط إلى جذع صغير ميت. ركب الأب القارب في سفر نحو الأفق على صفحة البحر الزرقاء إلى أن غاب عن الأنظار.
ظلت الفتاة الصغيرة أعلى التلة في ذهاب وإياب تنتظر عودة والدها إلى أن مالت الشمس نحو المغيب ثم امتطت دراجتها وانصرفت آسفة.
في الغد، كانت الطفلة الصغيرة المرحة مرة أخرى هناك بيدها شتلة زهر تخطو الربوة ذهابا وإيابا تنتظر عودة والدها وقد أسندت دراجتها إلى الشجرة إلى أن مالت الشمس مرة أخرى نحو المغيب ثم غاصت بالأفق، فانصرفت معها الفتاة خائبة.
وهكذا فعلت الفتاة الصغيرة طوال أيام عديدة.
وفي يوم من الأيام وكان يوما حزينا والجو كئيبا وكانت الريح شديدة وصلت الفتاة الصغيرة أعلى التلة بصعوبة بالغة وهي تغالب ألمها وحزنها وتقاوم الريح التي تصدها وتمنع عجلة دراجتها من الدوران، فأسندت دراجتها إلى الشجرة، لم تعد الفتاة الصغيرة طفلة كما كانت بل صارت اليوم فتاة يافعة مقبلة على الحياة .. تسوق دراجتها كما يسوقها أي شخص يجيد ركوب الدراجات ..وكانت قد تعلمت كيف تسوق دراجتها أيضا في مثل هذا الجو العنيف، نظرت إلى الأفق البعيد طويلا وهي تتحدث إلى الريح، ثم امتطت دراجتها عائدة، لكن هذه المرة حين قفلت عائدة تركت للريح قيادها، فلم تكن تحتاج لتدير دواسة دراجتها، أخذتها الريح منسابة عبر المروج والحقول الغَنَّاء. وهناك كانت تلتقي في طريقها أناسا آخرين على دراجاتهم يسيرون هنا وهناك بين غاد ورائح.. بين طفل صغير يقود دراجته مرحا ورجل يغالب الريح وعجوز لا يكاد يستطيع تحريك دواسة دراجته..
وكان بعد أيام، أن مرت الفتاة مع جماعة من صديقاتها يمتطين دراجاتهن، مرت بالربوة بجانب الشجرة، فترجلت عن دراجتها وأخذت تنظر باسمة في الأفق البعيد هناك، تحدث الريح مرة أخرى بلغة لم يكن لأحد في هذا الكون أن يفهمها، لم تنتبه إلا على صوت جرس دراجات رفيقاتها اللاتي كن ينتظرنها.. امتطت دراجتها مرة أخرى ولحقت بهن.
ومر الزمان..
في الطريق نحو الربوة، وكانت أن صارت الفتاة أما لولدين رائعين، كانت هناك دراجتان مقبلتان في البعيد نحو الربوة.. نحو الشجرة، حيت تمتطي هي دراجة كبيرة يعانقها ابنها الصغير بلهفة خلفها، وعلى الدراجة الاخرى كان ابنها الثاني خلف زوجها، أسندا دراجتيهما إلى الشجرة وهبط الزوج مع ابنيه نحو السفح حيث الجذع، يلعبون ويمرحون، بينما ظلت هي واقفة أعلى الربوة تنظر إلى الأفق تحدث الريح حيث الشمس دافئة حانية تزين بأشعتها صفحة الماء الزرقاء.
ومر الزمان نديا هادئا منسابا بهذه العجوز التي جاءت إلى الشجرة أعلى الربوة تتهادى على دراجتها التي صارت تحدث صريرا حزينا كلما دارت دواستها المهترئة. ترجلت عن دراجتها بجسدها المتخشب وقد تقوس به الظهر، أسندتها إلى الشجرة، لكنها مالت إلى أن خرت أرضا، أسندتها مرة اخرى إلى الشجرة فمالت ثانية إلى الأرض .. نظرت العجوز إلى الأفق البعيد ثم نظرت إلى الدراجة طويلا، هذه المرة لم تحدث الريح ولم تكن الريح تنتظر منها كلاما بل سارت نحو السفح، حيث سار والدها ذات دهر.
وهناك لم تجد ماء، لم يعد هناك من بحر، بل لم يكن في الأصل أي بحر هناك.. كان هنالك سهل فسيح مد البصر يتخلله عشب مرتفع ندي، كانت ترى أن عليها الذهاب إلى هناك حيث اللاشيء في الأفق، وكانت ترى أيضا أنها صارت مستعدة للرحيل، فاتخدت سبيلها بين الأعشاب في نفس المسار الذي رحل عبره والدها ذات يوم، وسارت وكأنها تسير أبدا، وهناك وسط الأعشاب، وجدت قاربا.. كان القارب ذاته الذي ركبه والدها يومه وقد غاص نصفه تحت الرمال، كانت لحظة يتيمة مشرقة من بين اللحظات المرحة التي مرت بشريط حياتها العامر. وهناك فقدت رغبتها في المسير، حيث غاب الأفق واقتصرت نظراتها وغاياتها على القارب الصغير المائل المتخشب والغائر في الرمال.. جلست في مساحة صغيرة من الرمال وسط القارب وتكومت على نفسها .. وكان أن هبت ريح ناعمة تداعب المكان، وعندما أغمضت عينيها رأته.. كان هو، والدها الذي فتح هناك ذراعيه، كان لا يزال على صورته التي كان عليها آخر مرة رأته، نفس الهندام الكثيف ونفس الابتسامة الوديعة التي كان يستقبل بها رسائلها عبر الريح.. قامت..وعندها لم تعد تلك العجوز المتقوسة ولا تلك المرأة الغارقة في الحياة، كانت فتاة يافعة لكنها بروح الطفلة الصغيرة التي رافقت والدها ذات يوم في نزهة قصيرة بين المروج.