المصطفى سالمي
كاتب
كانت الأحلام الوردية عن دنيا العمل والوظيفة تلازم مخيلته في ذلك الوقت. كان يتمنى لو يصبح عنصرا صالحا في هذا الوطن الذي تشبع بحبه وعشقه. وبعد سنتين من البطالة المريرة، وجد الفرصة السانحة للعمل بإحدى الجماعات القروية، تدخل شخص طيب ـ صديق لوالده ـ ليصبح موظفا بسيطا في آخر سلالم الوظيفة العمومية. كان مترددا في قبول المنصب لأنه كان يحلم بأن يصبح أستاذا أو صحفيا، ولكن صديق والده أقنعه بأن تكون تلك هي البداية، وأنه إن وجد منصبا أفضل فلن يجبره أحد على البقاء موظفا بالجماعة. ثم إنه لابد له من بعض المال لاجتياز مباريات الوظيفة العمومية بمدن مختلفة. وكل هذا يحتاج لوثائق وتنقلات.
جمع صاحبنا متاعه البسيط وانطلق لبلدة في عمق سهول الشاوية بمنطقة: "أولاد سعيد"، هناك اكترى غرفة صغيرة في سطح منزل متواضع . وكان عليه أن ينتظر لأشهر للحصول على الأجرة. كما كان يتوجب عليه أن يتوجه للجماعة القروية خارج مركز بلدة (أولاد عبود) ببضعة كيلومترات عبر سيارات الأجرة يوميا. وفي مقر العمل ـ الذي يشبه شقة صغيرة ـ تعرف على زملائه في الوظيفة. مستواهم الدراسي متوسط في حدود المرحلة الإعدادية أو الثانوية في أحسن الأحوال، هو الوحيد بينهم الحاصل على الإجازة. كانت مهمته في البدء ملء مجلدات الولادات والوفيات، كان يتم إبعاده عن التعامل مباشرة مع المواطنين، فهذه مهمة مربحة لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم "بأصحاب الحظوة" ممن يضاعفون لأضعاف مضاعفة واجب الدمغة على نسخ الازدياد والشواهد الإدارية. وكان العمل يستمر للمساء، فكان الموظفون يأتون بالأكل معهم لوجبة الغذاء، ولا يتورع بعضهم على الإتيان بقدر مليئة بوجبة دسمة يشترك فيها الجميع، وتبقى رائحتها ليوم أو يومين بفضاء مقر الجماعة الضيق. كانت مداخيل هذه الجماعة القروية تعتمد على السوق الأسبوعي وموقف السيارات بالأساس . وكان الموظفون الذكور يتدرجون بالتناوب في الخروج لجباية المستحقات ، وكانوا يفرحون لأداء مهمة (المحفظة) كما كان يسميها رئيس الجماعة. وفجأة وجد صاحبنا نفسه مطالبا بالخروج لتعلم أصول وقواعد وظيفته. بارك له زملاؤه الأمر وكأنه يوم العيد. لم يفهم وقتئذ شيئا مما يدور حوله، كان عليه في الأول ـ فقط ـ مرافقة زميله الأكثر خبرة ليتلقن المهمة في الميدان استعدادا لما ينتظره. وحثه الرئيس على فتح العينين جيدا ليستفيد ويفيد، فربما تتأخر الأجرة. كانت كلمات الرئيس حازمة لأن الميزانية غير محددة بتواريخ قارة.
حل اليوم الموعود وسمع رئيسه ينادي على زميله الخبير (حميد) ليعلن له مجيء رجلي المخزن للمرافقة. كان المرافقان يرتديان رداء القوات المساعدة، يمتازان ببنية جسمانية قوية ونظرات حادة قاسية. وتبعهم صاحبنا باتجاه السوق. وهنا بدأت المهمة. كان زميله يشرف على توزيع ما يشبه التذاكر فيأخذ مقابلا عن كل رأس من الأغنام أو الأبقار وكل خيمة وكل عربة مجرورة بالدواب أو مدفوعة باليد وكل شاحنة وديك...لكنه غالبا ما يتفادى تقديم الإيصال، كما لم يكن الثمن موحدا، بل كان مضاعفا في كثير من الحالات.
وداخل خيمة كبيرة وجد صاحبنا نفسه أمام صاحب الشواء، اعتقد للوهلة الأولى أن مرافقه سيطالبه بالواجب، فإذا بالثلاثة يجلسون على الكراسي وزميله يشير عليه بالجلوس، بينما تعالت كلمات الترحيب ـ المبالغ فيه ـ من صاحب المحل وهو يقدم وجبات شهية، انسل صاحبنا مدعيا قضاء غرض "ما" باتجاه خيمة أخرى يقوم صاحبها بتقديم الشاي وحساء البادية التقليدي. نقد صاحبنا صاحب الخيمة والتحق بمرافقيه الذين انتهوا من وجبتهم الشهية على وقع كلمات واضحة الزيف من مقدم الشواء. وأمام الجزار لاحظ صاحبنا تجهم وجه الأخير وهو ينتقي أجود ما لديه من لحم مصفى من العظام. وكان حميد لا يتوقف عن توجيه الرجل إلى اختيار أحسن اللحوم للسيد (القايد) والسيد رئيس الجماعة. دس الجزار لفافتين كبيرتين من أجود ما لديه داعيا بطول العمر لأسياد البلد. حمل صاحبا البنية القوية كل منهما قفة مليئة بالفواكه الشهية وأجود الخضر واللحم للمسؤولين الكبيرين. ودس حميد مبلغا ماليا في جيبي رجلي المخزن، فعلت حمرة الفرح وجوه الثلاثة. لقد أوشكت المهمة على الانتهاء..
في مكتب الإدارة بدأ حميد يعد حصيلة اليوم بافتخار، لقد أبقى له حصة كبيرة بعد تسديد مستحقات الجهات المعنية. وتعبيرا عن مودته لصديقه الجديد قدم حميد مبلغا لصاحبنا حتى لا ينساه هو أيضا من الإكرامية في يومه الموعود، تردد في قبول المبلغ حتى لا يجرح إحساس زميله، لكن الآخر أقسم أن يأخذ المبلغ ليمحو زلة ترك المجموعة في خيمة الشواء.
كانت الورقات في جيب صاحبنا كالجمر الحارق، أحسها تلسعه كعقارب سامة. كانت ليلته ـ تلك ـ مختلفة عن كل الليالي السابقة، عادته في الأمسيات الأخرى هنا ببلدة (أولاد عبود) أن يمضي الوقت في المقهى مع زملاء العمل في لعب الورق ، يشربون الشاي أو المشروبات الغازية ، يشاهدون التلفاز، وبالفيديو يتابعون أشرطة سينمائية أغلبها تجارية سوقية. وكان هذا أرحم من سجن غرفة صغيرة بمساحة مترين على مترين. أحس صاحبنا أنه سيصبح قرصانا قاطع طريق تلاحقه الدعوات أينما حل وارتحل. إن منظر تجهم الوجوه بدءا من الجزار إلى الخضار إلى بائع الفواكه والأغنام.. لا يمكن نسيانه بسهولة. كان زميله حميد أشبه باللص المستعين بالفتوات الذين يحمونه وهو يسلب الناس أرزاقهم. لصوصية بحماية القانون. كان يرى مبادئه تتهدم أمام عينيه ، أين أنت يا أرسطو ؟! أين أنت يا أفلاطون، و أين أنت أيتها المدينة الفاضلة؟! جمع أغراضه البسيطة في تلك الليلة، كان قراره نهائيا لا رجعة فيه. في الصباح الباكر توجه لصاحب البيت ـ في دكانه ـ وأعطاه المفتاح وأجرة الشهر وواجب الماء والكهرباء.
أمام محطة سيارات الأجرة المتوجهة لبلدته الحبيبة، اقترب منه شخص مدعيا أنه تقطعت به السبل ويحتاج لمبلغ مالي للذهاب لمدينة الدار البيضاء، فدس صاحبنا يده في جيبه ليخرج مبلغا ماليا ما زال يحترق بلهبه وقدّمه للرجل الذي ابتسمت أساريره من شدة الفرح ، أما هو فقد تنفس الصعداء وكأنما أخرج أفعى سامة من بين ثيابه. واستشعر سعادة يعرف أن أحاديث اللوم والعتاب ـ مهما بلغت ـ لن تؤثر على حجمها ولا على أعماقه الهادئة الوادعة.
جمع صاحبنا متاعه البسيط وانطلق لبلدة في عمق سهول الشاوية بمنطقة: "أولاد سعيد"، هناك اكترى غرفة صغيرة في سطح منزل متواضع . وكان عليه أن ينتظر لأشهر للحصول على الأجرة. كما كان يتوجب عليه أن يتوجه للجماعة القروية خارج مركز بلدة (أولاد عبود) ببضعة كيلومترات عبر سيارات الأجرة يوميا. وفي مقر العمل ـ الذي يشبه شقة صغيرة ـ تعرف على زملائه في الوظيفة. مستواهم الدراسي متوسط في حدود المرحلة الإعدادية أو الثانوية في أحسن الأحوال، هو الوحيد بينهم الحاصل على الإجازة. كانت مهمته في البدء ملء مجلدات الولادات والوفيات، كان يتم إبعاده عن التعامل مباشرة مع المواطنين، فهذه مهمة مربحة لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم "بأصحاب الحظوة" ممن يضاعفون لأضعاف مضاعفة واجب الدمغة على نسخ الازدياد والشواهد الإدارية. وكان العمل يستمر للمساء، فكان الموظفون يأتون بالأكل معهم لوجبة الغذاء، ولا يتورع بعضهم على الإتيان بقدر مليئة بوجبة دسمة يشترك فيها الجميع، وتبقى رائحتها ليوم أو يومين بفضاء مقر الجماعة الضيق. كانت مداخيل هذه الجماعة القروية تعتمد على السوق الأسبوعي وموقف السيارات بالأساس . وكان الموظفون الذكور يتدرجون بالتناوب في الخروج لجباية المستحقات ، وكانوا يفرحون لأداء مهمة (المحفظة) كما كان يسميها رئيس الجماعة. وفجأة وجد صاحبنا نفسه مطالبا بالخروج لتعلم أصول وقواعد وظيفته. بارك له زملاؤه الأمر وكأنه يوم العيد. لم يفهم وقتئذ شيئا مما يدور حوله، كان عليه في الأول ـ فقط ـ مرافقة زميله الأكثر خبرة ليتلقن المهمة في الميدان استعدادا لما ينتظره. وحثه الرئيس على فتح العينين جيدا ليستفيد ويفيد، فربما تتأخر الأجرة. كانت كلمات الرئيس حازمة لأن الميزانية غير محددة بتواريخ قارة.
حل اليوم الموعود وسمع رئيسه ينادي على زميله الخبير (حميد) ليعلن له مجيء رجلي المخزن للمرافقة. كان المرافقان يرتديان رداء القوات المساعدة، يمتازان ببنية جسمانية قوية ونظرات حادة قاسية. وتبعهم صاحبنا باتجاه السوق. وهنا بدأت المهمة. كان زميله يشرف على توزيع ما يشبه التذاكر فيأخذ مقابلا عن كل رأس من الأغنام أو الأبقار وكل خيمة وكل عربة مجرورة بالدواب أو مدفوعة باليد وكل شاحنة وديك...لكنه غالبا ما يتفادى تقديم الإيصال، كما لم يكن الثمن موحدا، بل كان مضاعفا في كثير من الحالات.
وداخل خيمة كبيرة وجد صاحبنا نفسه أمام صاحب الشواء، اعتقد للوهلة الأولى أن مرافقه سيطالبه بالواجب، فإذا بالثلاثة يجلسون على الكراسي وزميله يشير عليه بالجلوس، بينما تعالت كلمات الترحيب ـ المبالغ فيه ـ من صاحب المحل وهو يقدم وجبات شهية، انسل صاحبنا مدعيا قضاء غرض "ما" باتجاه خيمة أخرى يقوم صاحبها بتقديم الشاي وحساء البادية التقليدي. نقد صاحبنا صاحب الخيمة والتحق بمرافقيه الذين انتهوا من وجبتهم الشهية على وقع كلمات واضحة الزيف من مقدم الشواء. وأمام الجزار لاحظ صاحبنا تجهم وجه الأخير وهو ينتقي أجود ما لديه من لحم مصفى من العظام. وكان حميد لا يتوقف عن توجيه الرجل إلى اختيار أحسن اللحوم للسيد (القايد) والسيد رئيس الجماعة. دس الجزار لفافتين كبيرتين من أجود ما لديه داعيا بطول العمر لأسياد البلد. حمل صاحبا البنية القوية كل منهما قفة مليئة بالفواكه الشهية وأجود الخضر واللحم للمسؤولين الكبيرين. ودس حميد مبلغا ماليا في جيبي رجلي المخزن، فعلت حمرة الفرح وجوه الثلاثة. لقد أوشكت المهمة على الانتهاء..
في مكتب الإدارة بدأ حميد يعد حصيلة اليوم بافتخار، لقد أبقى له حصة كبيرة بعد تسديد مستحقات الجهات المعنية. وتعبيرا عن مودته لصديقه الجديد قدم حميد مبلغا لصاحبنا حتى لا ينساه هو أيضا من الإكرامية في يومه الموعود، تردد في قبول المبلغ حتى لا يجرح إحساس زميله، لكن الآخر أقسم أن يأخذ المبلغ ليمحو زلة ترك المجموعة في خيمة الشواء.
كانت الورقات في جيب صاحبنا كالجمر الحارق، أحسها تلسعه كعقارب سامة. كانت ليلته ـ تلك ـ مختلفة عن كل الليالي السابقة، عادته في الأمسيات الأخرى هنا ببلدة (أولاد عبود) أن يمضي الوقت في المقهى مع زملاء العمل في لعب الورق ، يشربون الشاي أو المشروبات الغازية ، يشاهدون التلفاز، وبالفيديو يتابعون أشرطة سينمائية أغلبها تجارية سوقية. وكان هذا أرحم من سجن غرفة صغيرة بمساحة مترين على مترين. أحس صاحبنا أنه سيصبح قرصانا قاطع طريق تلاحقه الدعوات أينما حل وارتحل. إن منظر تجهم الوجوه بدءا من الجزار إلى الخضار إلى بائع الفواكه والأغنام.. لا يمكن نسيانه بسهولة. كان زميله حميد أشبه باللص المستعين بالفتوات الذين يحمونه وهو يسلب الناس أرزاقهم. لصوصية بحماية القانون. كان يرى مبادئه تتهدم أمام عينيه ، أين أنت يا أرسطو ؟! أين أنت يا أفلاطون، و أين أنت أيتها المدينة الفاضلة؟! جمع أغراضه البسيطة في تلك الليلة، كان قراره نهائيا لا رجعة فيه. في الصباح الباكر توجه لصاحب البيت ـ في دكانه ـ وأعطاه المفتاح وأجرة الشهر وواجب الماء والكهرباء.
أمام محطة سيارات الأجرة المتوجهة لبلدته الحبيبة، اقترب منه شخص مدعيا أنه تقطعت به السبل ويحتاج لمبلغ مالي للذهاب لمدينة الدار البيضاء، فدس صاحبنا يده في جيبه ليخرج مبلغا ماليا ما زال يحترق بلهبه وقدّمه للرجل الذي ابتسمت أساريره من شدة الفرح ، أما هو فقد تنفس الصعداء وكأنما أخرج أفعى سامة من بين ثيابه. واستشعر سعادة يعرف أن أحاديث اللوم والعتاب ـ مهما بلغت ـ لن تؤثر على حجمها ولا على أعماقه الهادئة الوادعة.