محمد ايت علو
كاتب
ضمن نصوص مشروع: منفلتة ومسافات:
مرة أخرى يستيقظ باكرا...تحت لهيب خيوط أشعة شمس الصيف الحارقة التي اخترقت غرفته عبر النافذة المشرعة، كان الضوء باهرا وعنيفا، أجهز على البقية الباقية من أرقه المحموم...لم ينم سوى دقائق معدودة.. نهض بصعوبة، بعد تردد وحيرة.. حالة شبه الميت تثير إحساسا بالوحدة القاتلة والضياع والتشتت حيث القلق والخوف، نهر من القلق يفيض داخله، الصمت لا شيء غير الصمت، فما أشد تعاسة المرء حين لا يجد من يؤنسه، يحاول استعادة صورته... يحاول ترميمها من جديد في دواخله المنكسرة..سماؤه وحدها ملبدة بالغيوم والضباب.. يحمل عبء قلبه وحده ويمضي، دون رغبة في الذهاب إلى مكان بعينه ثم الرجوع إلى البيت والجلوس والانتظار في عزلة وانطواء، كان يلزم الصمت دائما ويظل بمعزل عن الناس، ويبقى دائما منزويا على نفسه دون أن يقوم بشيء، كما صار لا يلبث في مكان بعينه..لم يكن هكذا من قبل..لقد وقعت أشياء غريبة بعد وفاة آخر من أحبهم وتعلق بهم بقوة..تلك جدته التي كانت بمنزلة أمه والتي عوضته حنان أمه كثيراً في غيابها وفقدها منذ أن كان صغيراً..ثم يرحل أبوه وعمته وفيما بعد أخواله وخالته، فأعمامه وتستمر الفواجع وكأنه طويس هذا الزمان، ثم ها هو يفجع في أحب الناس إليه صديقه ورفيق دربه والذي وضع حدا لحياته بانتحاره واستسلامه لحالة ضعف، فلكأن من يحبهم يتساقطون اتباعا كأوراق الخريف أمامه...نظرته الآن للحياة صارت شبه معقدة، تخيف وتزعزع وتبعث على الانطواء والانزواء وفقدان الثقة...أصبح متوترا ويزداد صمتا أكثر فأكثر...
ومع كل الألم قد يبدو راضيا مكابراً، يدندن، ويبتسم وحده غباء أو عبثا ليس يدري، وهو يعد لنفسه الغامضة كأس شاي وهو ينشغل بنحريك السكر في كأسه..وهو يتناول فطوره على عجل..ثم يغادرشقته، عبرسلاليم العمارة..كان جسده يسبح في أوهام يصطنعها الحر الزائد، وتسيطر عليه هواجس محمومة عجز عن إسكاتها، تقوده خطاه الواهنة نحو البنايات الشاهقة الزجاجية الرابضة على الضفة الأخرى في ذاك الشارع المزدحم رغم شدة الحر، ليقف أمام لافتة كبيرة وجد صعوبة في تهجيتها في بادئ الأمر، دفن ألمه كالمعتاد، وتوجه نحو مدخل المبنى الذي كان يعج بالجلبة حيث امتلأ بالناس والأصوات والروائح والوجوه الكالحة الشاحبة التي تبعث على الغثيان، وقد صفعتهم الأمراض والظروف...، ألقى نظرة على لوحات بأسماء الأطباء واختصاصاتهم، ازدادت دقات قلبه وهو يصعد بالمصعد إلى أعلى ...يدخل قاعة الاستقبال ذات الواجهة الزجاجية، تجلس خلفه شابة حسناء رقيقة نحيفة ترفع وجهها وفي عينيها بريق، تفرست وجهه..نظرت إليه وهي تعدل نظارتها مرحبة..فيشعر على الفور أن الوجه مألوف لديه..تستفهم بعينيها، تبتسم...كأنها تنتظر حواراً، يبتسم أخيراً لها...سرعان ما همست له:ـ ارتح هناك حتى يأتي دورك...ثم أخذت تدون في مذكرة صغيرة، وشغلت نفسها بتقليب الأوراق، فلكأنها ملَّت من السحنات المريضة والتطلع إلى الوجوه نفسها...
كانت القاعة مكيفة باردة، والمرايا تعكس بعنف صوراً لوجوه مبعثرة باهتة بالية وأفواه متثائبة...
استوى أخيرا على كرسي فارغ، ثم أطلق شيئا من التنهد المكتوم المليء بالاستسلام والاذعان مثل إناء من زجاج وقد انكسر، أحكم أزرار قميصه وهو شارد الفكر في أشياء كثيرة لاتعني شيئا.. انتابته حالة الشك مرة أخرى في قواه العقلية..فابتسم... ثم مضى بقية الوقت يعبث في الندبة المحفرة أسفل الذقن..
في صالة الانتظار لم ينتبه أنه كان من بين الرجال الخمسة إلا فيما بعد، حيث انشغل على حين غرة بشد فردة حذائه، يستفيق من الشرود ليرصد الساعة المعلقة على الجدار البنفسجي عقاربها تشير إلى اليأس وتبعث الملل...تثاءب، كانت عيناه ترصد صوت الألم...ثم سرعان ما أثاره ضجيج نسوة وفتاتين في مقتبل العمر، والقلق باد على وجوههن التي كساها الوجوم، لربما أجهدهن طول الانتظار وشرد ذهنهن ينتظرن بصبر بالقرب من باب غرفة الفحص...أخذ بتقليب بعض المجلات المبثوتة على المنضدة الزجاجية وسط الصالة، ثم نزع إحداها كي يدفع عنه بعض الرتابة...
لَمْ يدْرِ، لِمَ كان تركيزه على الأفواه والوجوه فقط، أفواه أفعوانية، فم يزبد كثيرا حتى انتفخت أوداج وجهه، ثم يستمرفي الصراخ والشتم...كان الوجه قذرا ومنكمشا، بلحية طالت وتبعثر شعرها، لم يكن راضيا عن نفسه، متضايقا جدا ...، ووجه آخر فوقه نظارة شمسية داكنة تقع خلفها عينان زائغتان بفم منفرج، يصدر منه صوت مبحوح بائس، ينظر إلى السيدة ذات الثوب الأنيق نظرة شفقة...بعدها أدار وجهه نحو سيدة أخرى حائرة تحس بأنها مراقبة، أما الرجل الثالث فقد وقف هنيهة يحملق مليا وهو يحك جسده، فوجد نفسه معه وجها لوجه، ثم تمتم بكلمات غير مفهومة امتزج فيها شيء من الآيات بأدعية لم تكتمل...وكأن حوارا كان يتدفق بين سمعه ووجهه، ثم ساد الصمت...كان فمه يلوك علكا، وكانت نظراته تمسح أيضا بهدوء كل ما يقع أمامه في الصالة، وإذا بوجهه يرتفع إلى أعلى ليفتعل متابعة الشاشة المعلقة في أعلى الحائط، ولكن ماتزال سحناته المتضايقة تفضحه، وكأنه هو الآخر غير راض، أما النسوة فكن يثرثرن ويتناقلن آخر الأخبار ويتابعن رجلا نحيفا في الخمسين من العمر والذي جلس خلف باب الفحص مباشرة ينتظر دوره القادم، جلس على الأرض، كان يتصرف بشكل غريب وفي عصبية غير محسوبة، يلعب بأطراف أصابعه يشابكها ثم يفتحها، ويرفع حاجبا للأعلى وكأنه يتنصت على شيء، ثم ينقر الباب نقرات خفيفة، ثم إذا به يصرخ منزعجا: السلاسل السلاسل، البوليس...كما لو أنه تحت المكائد والمؤامرات وقد أثار فضول كل الحاضرين بهلوسته، ثم بدأ بهمهمة حين نهرته إحدى مساعدات الطبيب البدينات بالصالة، حملته بكلتا يديها وأجلسته على كرسي، وكان لا يزال متوترا مشدودا حاول مقاومتها ثم صرخ: أيتها الجاسوسة إياك عني...، بعدها ناولته قرصا للتهدئة، حاولت بكلامها اكتساب وده لكن لم تفلح...ولم يتمكن من الولوج لغرفة الفحص وغادر رفقة ممرضين اثنين...ثم تقدم الرجل الآخر قليلا وكان مقطب الجبين، يعاني بدانة مفرطة يمسح العرق بكم يده اليمنى ولم تتح رؤية وجهه، يفتح فمه صامتا فوقه شارب كثيف كمن يتثاءب، ثم إذا بابتسامة سمجة ترتسم على زاوية فمه، قبل أن يفكر في الانقضاض على شيء إلى أن قام بجر كرسي بحدة وتحد على بلاط الأرضية واصطكاكه مع الباب بقوة أحدث دويا صارخا هز الجميع...كان هذا جنونيا، ثم قال بصوت جهوري: ماذا يفعل الطبيب كل هذا الوقت...؟ شعر بضرورة إنهاضه وتهدءته بأي شكل ..لكن الأمر يحتاج إلى قوة وجهد، أما هو فلن يجرؤ على فعل ذلك،لم يكن يعرف بالضبط ماذا يفعل، ثم تدخل أحد الممرضين والمرأة البدينة مرة أخرى، وقد ارتسمت على محياها ابتسامة شيطانية فحقنته بإبرة هدأت من روعه، ثم نزع إلى التخاذل والتراخي مع الاذعان والامتثال والطاعة، ومد لسانه بوجه منتصب مطموس خجول، وبعد أن هدأ وعاد إلى صوابه تركوه في النهاية...التف حول نفسه كما لو كان به دوار ولا يستطيع التوقف، وهو يقرض أظافره أو ينزع جلده قطعة قطعة...، كان وخز الإبرة شديدا، أخذ يهلوس بكلام عن نفسه، وبلا انقطاع يكرر الأشياء نفسها يعجنها ويمططها بين الحين والآخر، كمن ينبش بأصابعه كي يخلص الشعرة منها، حين جلس القرفصاء فوق المقعد، بدأ يتلوى مادا عنقه جاحظ العينين، يشعر بشيء من الخوف والقلق، كان خائفا يكاد يطيش صوابه، وكان يهتز كالثعبان أمام مزمار تلاعبه أصابع طائشة فوق ثقوبه الكثيرة المنتشرة على امتداده، أحس بحالته التي أصبحت درجة ما بين الخدر والجنون، صار مثل كائن لاوجود له، ضاق من نفسه وتصرفاته، ثم هدأ قليلا، وكان هدوءه مخيفا ووديعا، مثل الهدوء الذي يسبق العاصفة...، ثم انطوى على نفسه ينظر ولا يفعل شيء، كمن يتأمل بواطن انشغالاته اليومية، ثم إذا بباب غرفة الفحص ينفرج لحظة، فتدخل سيدة عجوز متحفزة بدت بشعة شاحبة تتجلى نظرة القهر على وجهها... أما الفتاة الشقراء ذات الخدود الوردية، فقد كان وجهها أملسا ومسطحا، كان وجهها مختلفا فقد بدا في الوهلة الأولى كأن توترا داخليا قد جعلها تقلب صفحات المجلة المصورة بقوة وخفة في الآن نفسه، وهي قابعة قبالة الباب، لكن المسحوق أضفى عليه بهاء جافا مما جعله هذه المرة يظهر بنظرة لا حياة فيها، ولا ينم عن أي تعبير، ثم انفرجت أسارير وجهها، وكأنها لاتفكر في شيء، تجلس وقورة هادءة لاتتحرك، لكنها تهلوس بأشياء غير مفهومة... هي تعلم أن دورها سيأتي، هكذا بدت وجوههم وأفواههم بالنسبة له، وكأنهم يشربون من الكأس نفسها، الهلوسة والنظرات الشاردة، هنا تتجسد قبالته الحقيقة المضاءة، الحقيقة التي يبحث عنها دون قناع أو زيف، وقد قاده البحث إلى ضالته وأطاح بالشغف..الذي أخرجه من حياته الاعتيادية ليعثر على الحقيقة التي بحث عنها بنفسه...كأنه فهم السر، أدرك ما هو معقد للآخرين، ذلك أنه من تمام العقل أن نعتقد أن هذا العالم مجنون، إنه يعرف الآن بأنه مريض كحقيقة تابثة مثلهم تماما لا يساوره شك في ذلك الآن، وبأنه البومة والشر، وبأن الكل مريض...وما عليهم سوى أخذ الموعد والإنتطار فالحرباء تنتظر...والدور سيأتي لامحالة، ودوره هو الآخر سيأتي، والفرصة أمامه لترويضها مليا، ستكون الجلسات والاختبارات النفسية بعدها، ليفصح عن مكنوناته، ومشاعر الاكتئاب والرغبة والزهد في الحياة، وعن فواجعه التي لا تنتهي، وأسراره، وعن كل ما يحسن إخفاءه..لكن هل سيتكلم... عن أي شيء سيتكلم ؟ ماذا سيقول؟ من أين سيبدأ؟ ثم تعود أسئلته خائبة إلى صدره المتخشب تذروها الرياح والزوابع الهامسة، ثم تخرج في صفير وتنهيد حزين، شرد...ازدادت رغبته في تجنب ما قد يحصل!! صوت المفتاح في مزلاج الباب الآن، والباب حتما سيغلق بقوة...
مزق أوراق الملف التي كان يحملها معه وغاب متظاهرا بالذهاب إلى المرحاض، ثم هرول مسرعا كمن يطلب النجدة وهو ينفث هذيان أفكاره، أكمل سيره عبر الممر في أروقة الجنون، والكلمات مازالت ترن في أدنه، فهو البومة والشر، كان المصعد مشغولا، ثم تدحرج عبر السلاليم، داهمه الإحساس بأنه مراقب، انزعج..رفع عينيه ليجد شخصا ما ينظر إليه، العينان النافذتان تتربصان وتترصدان، وكأن وجها يريد أن يطعنه، وفما فاغرا يصر على غرس أنيابه، يريد مضغه وعجنه بلا رحمة،كانت ظلال الدكتور وكأنه يشرف من أعلى السلاليم، يمد رأسه ووجهه نحو الأسفل، نظارته توشك على السقوط...صارت تخترقه النظرات، تدور عيناه، الخطر قادم من الخلف...تراوده احتمالات حمقاء رعناء وتقفز أمامه، نسي في رمشة عين وجوه وأفواه الجميع سوى وجه وفم الذي يريد أن يطعنه في ظهره دون سبب، التفت بتوتر وخوف ينبضان في عروقه، جفل بسرعة طائشة لم يكن ثمة أحد..اتكأ بجسده الهزيل على الإطار الحديدي للسلاليم...توقف فلم يجد إلا خياله يطارده، تتراقص عيناه من جديد، دق قلبه بسرعة، توقف نبضه وسقط...غدا سيأتي آخرون للصالة ولا يرون مايثير اهتمامهم..
مرة أخرى يستيقظ باكرا...تحت لهيب خيوط أشعة شمس الصيف الحارقة التي اخترقت غرفته عبر النافذة المشرعة، كان الضوء باهرا وعنيفا، أجهز على البقية الباقية من أرقه المحموم...لم ينم سوى دقائق معدودة.. نهض بصعوبة، بعد تردد وحيرة.. حالة شبه الميت تثير إحساسا بالوحدة القاتلة والضياع والتشتت حيث القلق والخوف، نهر من القلق يفيض داخله، الصمت لا شيء غير الصمت، فما أشد تعاسة المرء حين لا يجد من يؤنسه، يحاول استعادة صورته... يحاول ترميمها من جديد في دواخله المنكسرة..سماؤه وحدها ملبدة بالغيوم والضباب.. يحمل عبء قلبه وحده ويمضي، دون رغبة في الذهاب إلى مكان بعينه ثم الرجوع إلى البيت والجلوس والانتظار في عزلة وانطواء، كان يلزم الصمت دائما ويظل بمعزل عن الناس، ويبقى دائما منزويا على نفسه دون أن يقوم بشيء، كما صار لا يلبث في مكان بعينه..لم يكن هكذا من قبل..لقد وقعت أشياء غريبة بعد وفاة آخر من أحبهم وتعلق بهم بقوة..تلك جدته التي كانت بمنزلة أمه والتي عوضته حنان أمه كثيراً في غيابها وفقدها منذ أن كان صغيراً..ثم يرحل أبوه وعمته وفيما بعد أخواله وخالته، فأعمامه وتستمر الفواجع وكأنه طويس هذا الزمان، ثم ها هو يفجع في أحب الناس إليه صديقه ورفيق دربه والذي وضع حدا لحياته بانتحاره واستسلامه لحالة ضعف، فلكأن من يحبهم يتساقطون اتباعا كأوراق الخريف أمامه...نظرته الآن للحياة صارت شبه معقدة، تخيف وتزعزع وتبعث على الانطواء والانزواء وفقدان الثقة...أصبح متوترا ويزداد صمتا أكثر فأكثر...
ومع كل الألم قد يبدو راضيا مكابراً، يدندن، ويبتسم وحده غباء أو عبثا ليس يدري، وهو يعد لنفسه الغامضة كأس شاي وهو ينشغل بنحريك السكر في كأسه..وهو يتناول فطوره على عجل..ثم يغادرشقته، عبرسلاليم العمارة..كان جسده يسبح في أوهام يصطنعها الحر الزائد، وتسيطر عليه هواجس محمومة عجز عن إسكاتها، تقوده خطاه الواهنة نحو البنايات الشاهقة الزجاجية الرابضة على الضفة الأخرى في ذاك الشارع المزدحم رغم شدة الحر، ليقف أمام لافتة كبيرة وجد صعوبة في تهجيتها في بادئ الأمر، دفن ألمه كالمعتاد، وتوجه نحو مدخل المبنى الذي كان يعج بالجلبة حيث امتلأ بالناس والأصوات والروائح والوجوه الكالحة الشاحبة التي تبعث على الغثيان، وقد صفعتهم الأمراض والظروف...، ألقى نظرة على لوحات بأسماء الأطباء واختصاصاتهم، ازدادت دقات قلبه وهو يصعد بالمصعد إلى أعلى ...يدخل قاعة الاستقبال ذات الواجهة الزجاجية، تجلس خلفه شابة حسناء رقيقة نحيفة ترفع وجهها وفي عينيها بريق، تفرست وجهه..نظرت إليه وهي تعدل نظارتها مرحبة..فيشعر على الفور أن الوجه مألوف لديه..تستفهم بعينيها، تبتسم...كأنها تنتظر حواراً، يبتسم أخيراً لها...سرعان ما همست له:ـ ارتح هناك حتى يأتي دورك...ثم أخذت تدون في مذكرة صغيرة، وشغلت نفسها بتقليب الأوراق، فلكأنها ملَّت من السحنات المريضة والتطلع إلى الوجوه نفسها...
كانت القاعة مكيفة باردة، والمرايا تعكس بعنف صوراً لوجوه مبعثرة باهتة بالية وأفواه متثائبة...
استوى أخيرا على كرسي فارغ، ثم أطلق شيئا من التنهد المكتوم المليء بالاستسلام والاذعان مثل إناء من زجاج وقد انكسر، أحكم أزرار قميصه وهو شارد الفكر في أشياء كثيرة لاتعني شيئا.. انتابته حالة الشك مرة أخرى في قواه العقلية..فابتسم... ثم مضى بقية الوقت يعبث في الندبة المحفرة أسفل الذقن..
في صالة الانتظار لم ينتبه أنه كان من بين الرجال الخمسة إلا فيما بعد، حيث انشغل على حين غرة بشد فردة حذائه، يستفيق من الشرود ليرصد الساعة المعلقة على الجدار البنفسجي عقاربها تشير إلى اليأس وتبعث الملل...تثاءب، كانت عيناه ترصد صوت الألم...ثم سرعان ما أثاره ضجيج نسوة وفتاتين في مقتبل العمر، والقلق باد على وجوههن التي كساها الوجوم، لربما أجهدهن طول الانتظار وشرد ذهنهن ينتظرن بصبر بالقرب من باب غرفة الفحص...أخذ بتقليب بعض المجلات المبثوتة على المنضدة الزجاجية وسط الصالة، ثم نزع إحداها كي يدفع عنه بعض الرتابة...
لَمْ يدْرِ، لِمَ كان تركيزه على الأفواه والوجوه فقط، أفواه أفعوانية، فم يزبد كثيرا حتى انتفخت أوداج وجهه، ثم يستمرفي الصراخ والشتم...كان الوجه قذرا ومنكمشا، بلحية طالت وتبعثر شعرها، لم يكن راضيا عن نفسه، متضايقا جدا ...، ووجه آخر فوقه نظارة شمسية داكنة تقع خلفها عينان زائغتان بفم منفرج، يصدر منه صوت مبحوح بائس، ينظر إلى السيدة ذات الثوب الأنيق نظرة شفقة...بعدها أدار وجهه نحو سيدة أخرى حائرة تحس بأنها مراقبة، أما الرجل الثالث فقد وقف هنيهة يحملق مليا وهو يحك جسده، فوجد نفسه معه وجها لوجه، ثم تمتم بكلمات غير مفهومة امتزج فيها شيء من الآيات بأدعية لم تكتمل...وكأن حوارا كان يتدفق بين سمعه ووجهه، ثم ساد الصمت...كان فمه يلوك علكا، وكانت نظراته تمسح أيضا بهدوء كل ما يقع أمامه في الصالة، وإذا بوجهه يرتفع إلى أعلى ليفتعل متابعة الشاشة المعلقة في أعلى الحائط، ولكن ماتزال سحناته المتضايقة تفضحه، وكأنه هو الآخر غير راض، أما النسوة فكن يثرثرن ويتناقلن آخر الأخبار ويتابعن رجلا نحيفا في الخمسين من العمر والذي جلس خلف باب الفحص مباشرة ينتظر دوره القادم، جلس على الأرض، كان يتصرف بشكل غريب وفي عصبية غير محسوبة، يلعب بأطراف أصابعه يشابكها ثم يفتحها، ويرفع حاجبا للأعلى وكأنه يتنصت على شيء، ثم ينقر الباب نقرات خفيفة، ثم إذا به يصرخ منزعجا: السلاسل السلاسل، البوليس...كما لو أنه تحت المكائد والمؤامرات وقد أثار فضول كل الحاضرين بهلوسته، ثم بدأ بهمهمة حين نهرته إحدى مساعدات الطبيب البدينات بالصالة، حملته بكلتا يديها وأجلسته على كرسي، وكان لا يزال متوترا مشدودا حاول مقاومتها ثم صرخ: أيتها الجاسوسة إياك عني...، بعدها ناولته قرصا للتهدئة، حاولت بكلامها اكتساب وده لكن لم تفلح...ولم يتمكن من الولوج لغرفة الفحص وغادر رفقة ممرضين اثنين...ثم تقدم الرجل الآخر قليلا وكان مقطب الجبين، يعاني بدانة مفرطة يمسح العرق بكم يده اليمنى ولم تتح رؤية وجهه، يفتح فمه صامتا فوقه شارب كثيف كمن يتثاءب، ثم إذا بابتسامة سمجة ترتسم على زاوية فمه، قبل أن يفكر في الانقضاض على شيء إلى أن قام بجر كرسي بحدة وتحد على بلاط الأرضية واصطكاكه مع الباب بقوة أحدث دويا صارخا هز الجميع...كان هذا جنونيا، ثم قال بصوت جهوري: ماذا يفعل الطبيب كل هذا الوقت...؟ شعر بضرورة إنهاضه وتهدءته بأي شكل ..لكن الأمر يحتاج إلى قوة وجهد، أما هو فلن يجرؤ على فعل ذلك،لم يكن يعرف بالضبط ماذا يفعل، ثم تدخل أحد الممرضين والمرأة البدينة مرة أخرى، وقد ارتسمت على محياها ابتسامة شيطانية فحقنته بإبرة هدأت من روعه، ثم نزع إلى التخاذل والتراخي مع الاذعان والامتثال والطاعة، ومد لسانه بوجه منتصب مطموس خجول، وبعد أن هدأ وعاد إلى صوابه تركوه في النهاية...التف حول نفسه كما لو كان به دوار ولا يستطيع التوقف، وهو يقرض أظافره أو ينزع جلده قطعة قطعة...، كان وخز الإبرة شديدا، أخذ يهلوس بكلام عن نفسه، وبلا انقطاع يكرر الأشياء نفسها يعجنها ويمططها بين الحين والآخر، كمن ينبش بأصابعه كي يخلص الشعرة منها، حين جلس القرفصاء فوق المقعد، بدأ يتلوى مادا عنقه جاحظ العينين، يشعر بشيء من الخوف والقلق، كان خائفا يكاد يطيش صوابه، وكان يهتز كالثعبان أمام مزمار تلاعبه أصابع طائشة فوق ثقوبه الكثيرة المنتشرة على امتداده، أحس بحالته التي أصبحت درجة ما بين الخدر والجنون، صار مثل كائن لاوجود له، ضاق من نفسه وتصرفاته، ثم هدأ قليلا، وكان هدوءه مخيفا ووديعا، مثل الهدوء الذي يسبق العاصفة...، ثم انطوى على نفسه ينظر ولا يفعل شيء، كمن يتأمل بواطن انشغالاته اليومية، ثم إذا بباب غرفة الفحص ينفرج لحظة، فتدخل سيدة عجوز متحفزة بدت بشعة شاحبة تتجلى نظرة القهر على وجهها... أما الفتاة الشقراء ذات الخدود الوردية، فقد كان وجهها أملسا ومسطحا، كان وجهها مختلفا فقد بدا في الوهلة الأولى كأن توترا داخليا قد جعلها تقلب صفحات المجلة المصورة بقوة وخفة في الآن نفسه، وهي قابعة قبالة الباب، لكن المسحوق أضفى عليه بهاء جافا مما جعله هذه المرة يظهر بنظرة لا حياة فيها، ولا ينم عن أي تعبير، ثم انفرجت أسارير وجهها، وكأنها لاتفكر في شيء، تجلس وقورة هادءة لاتتحرك، لكنها تهلوس بأشياء غير مفهومة... هي تعلم أن دورها سيأتي، هكذا بدت وجوههم وأفواههم بالنسبة له، وكأنهم يشربون من الكأس نفسها، الهلوسة والنظرات الشاردة، هنا تتجسد قبالته الحقيقة المضاءة، الحقيقة التي يبحث عنها دون قناع أو زيف، وقد قاده البحث إلى ضالته وأطاح بالشغف..الذي أخرجه من حياته الاعتيادية ليعثر على الحقيقة التي بحث عنها بنفسه...كأنه فهم السر، أدرك ما هو معقد للآخرين، ذلك أنه من تمام العقل أن نعتقد أن هذا العالم مجنون، إنه يعرف الآن بأنه مريض كحقيقة تابثة مثلهم تماما لا يساوره شك في ذلك الآن، وبأنه البومة والشر، وبأن الكل مريض...وما عليهم سوى أخذ الموعد والإنتطار فالحرباء تنتظر...والدور سيأتي لامحالة، ودوره هو الآخر سيأتي، والفرصة أمامه لترويضها مليا، ستكون الجلسات والاختبارات النفسية بعدها، ليفصح عن مكنوناته، ومشاعر الاكتئاب والرغبة والزهد في الحياة، وعن فواجعه التي لا تنتهي، وأسراره، وعن كل ما يحسن إخفاءه..لكن هل سيتكلم... عن أي شيء سيتكلم ؟ ماذا سيقول؟ من أين سيبدأ؟ ثم تعود أسئلته خائبة إلى صدره المتخشب تذروها الرياح والزوابع الهامسة، ثم تخرج في صفير وتنهيد حزين، شرد...ازدادت رغبته في تجنب ما قد يحصل!! صوت المفتاح في مزلاج الباب الآن، والباب حتما سيغلق بقوة...
مزق أوراق الملف التي كان يحملها معه وغاب متظاهرا بالذهاب إلى المرحاض، ثم هرول مسرعا كمن يطلب النجدة وهو ينفث هذيان أفكاره، أكمل سيره عبر الممر في أروقة الجنون، والكلمات مازالت ترن في أدنه، فهو البومة والشر، كان المصعد مشغولا، ثم تدحرج عبر السلاليم، داهمه الإحساس بأنه مراقب، انزعج..رفع عينيه ليجد شخصا ما ينظر إليه، العينان النافذتان تتربصان وتترصدان، وكأن وجها يريد أن يطعنه، وفما فاغرا يصر على غرس أنيابه، يريد مضغه وعجنه بلا رحمة،كانت ظلال الدكتور وكأنه يشرف من أعلى السلاليم، يمد رأسه ووجهه نحو الأسفل، نظارته توشك على السقوط...صارت تخترقه النظرات، تدور عيناه، الخطر قادم من الخلف...تراوده احتمالات حمقاء رعناء وتقفز أمامه، نسي في رمشة عين وجوه وأفواه الجميع سوى وجه وفم الذي يريد أن يطعنه في ظهره دون سبب، التفت بتوتر وخوف ينبضان في عروقه، جفل بسرعة طائشة لم يكن ثمة أحد..اتكأ بجسده الهزيل على الإطار الحديدي للسلاليم...توقف فلم يجد إلا خياله يطارده، تتراقص عيناه من جديد، دق قلبه بسرعة، توقف نبضه وسقط...غدا سيأتي آخرون للصالة ولا يرون مايثير اهتمامهم..