محمد ايت علو
كاتب
وجه نحاسي، أجدني مرارا أعصر مخي لأتذكر أين واجهني، أو واجهته، فهذه الأسنان المتآكلة، وهذا الأنف العريض، وهذا الفم المنفرج باستمرار، وهذان الحاجبان المقوسان مثل القارب، وهاتان العينان الحزينتان ليستا غريبتان عني، كان يرتمي على كؤوس الشاي والقهوة والمشروبات التي يجدها فوق الموائد المتراصة عبر بوابات المقاهي، بعد مزج بعضها ببعض، ثم ينظر إلى الجالسين بابتسام، ثم يقوم بإلقاء الدروس في الفلسفة والأدب والتاريخ...نصوص ونصوص من المقدمة، والغربال وشعر لشعراء رومانسيين...ثم يرتشف من الكأس الممزوج وهو يلعن البشر...الناس ينظرون إليه في امتعاض، وهو غارق في الضحك والابتسام...فجأة انقض عليه النادل المشدوه وهو مستمر بحركات يده وفمه التي لم تتوقف وهو يلقن الدروس بالعربية والفرنسية وكلمات بالانجليزية أيضا...يتكلم باستمرار، يكرر ويعيد الصياغات، ويقلبها ثم يعيدها ويقلبها مرة أخرى، على وجه ثم على الوجه الآخر، ويعجنها ثم يعجنها كورة قوية دامغة يقذفها في وجه المتطفلين المتعطشين الذين لا يشبعون من التشفي والسخرية من الآخرين كلما سنحت الفرصة، ثم هو يلوح بحركات تليق بمقام الأستاذ، كان يشرح ثم يشد بيده لحيته ثم يبتسم رافعا تارة أصبعه وطورا يده إلى الأعلى، ثم يقوس إحدى عينيه كأنه خلص إلى الفكرة السديدة، ثم يعود إلى حالته الأولى فيزمجر ويفيض غيضا وشتما لأعداء وهميين، ولعناته تجلجل المكان، النادل ينهره بحدة..لكن ذو الوجه الفحمي يصير مثل طير الصاعقة، يرفرف مثل شبح أعمى، المخالب كأظافر النسر، ثم ما لبث أن بدل هيأته فصار ساعداه مثل جناحي الطائر الكاسر مكسوتين بالريش الكثيف، ثم بدأ يعريه من ملابسه، أخذ يخنقه بمخالبه الحادة المكسوة بالصوف أيضا، والشطط ينبعث من مسامات وجهه الحانق، والشرر يتطاير من عينيه الداميتين، وفمه يلتهب بالنار الحارقة التي انبثقت من أعماقه ينفثها عليه كالتنين، حتى خمدت أنفاسه، ثم أمسكه وقاده يسلك الطريق الذي لا عودة لسالكه إلى دار الظلمة، إلى الذي لا يرجع من دخله، والذي حرم ساكنوه من النور، حيث الحجر والطين، والتراب طعامهم وهم كالطيور مكسوون بأجنحة من ريش، ويعيشون في ظلام دامس لايرون نورا.. والناس هنا وهناك يجلسون في طوابير متراصة على جنبات المقاهي والمحطات ينتظرون عودة ذو الوجه النحاسي، فهل تراه يعود؟!