المصطفى سالمي
كاتب
وأخيرا تحقق حلم سمير وتخرج بنجاح من مركز تكوين المعلمين. كان حظه كبيرا وهو يعين بمركز حضري. أصدقاؤه أغلبهم قذفت بهم التعيينات إلى مناطق قروية نائية. جلس على مكتبه تاركا لتلاميذه فرصة كتابة ما هو مدوّن على اللوح. سبحت به المخيلة نحو وجوه عزيزة شاركته التكوين في مركز التكوين خلال عامين كاملين. حمد الله في سره أن أتاحت له تكنولوجيا التواصل الحديثة أن يتعرف على تفاصيل وجزئيات معاناة أصدقائه عبر تعاقب الفصول والأيام. الشيء الوحيد الذي يغبطهم عليه هو أن الفصل الدراسي يكاد لا يتعدى فيه العدد عشرين تلميذا، وأحيانا يكون القسم مشتركا يضم أربعة أو خمسة عناصر من كل مستوى. أما هو فقد عين بمدينة صغيرة وسط سهول الشاوية.
وفعلا كان عدد تلاميذ المدرس "سمير" يتجاوز أربعين تلميذا. كان الشاب كله حيوية وحماس للعطاء والبذل. إلا أنه كان سريع الانفعال بحكم ضعف تجربته في الحياة. كان يعنف بقسوة كل الأخطاء الفادحة التي لا يجوز في عرفه الوقوع فيها. كان يعتقد أن الحزم والشدة يمكن أن يجعلا هؤلاء الصغار يقومون بواجباتهم في ظل تدليل كثير من الآباء لأولادهم وبناتهم. إن الكبار يشقون ويتعبون، بينما يجد هذا الجيل كل شيء جاهزا، مما يفقدهم تقدير قيمة الأشياء.
كان سمير قد انتهى من الشرح وجلس في انتظار أن يملي على تلاميذه أسئلة التحضير المنزلي، وفجأة سمع ضحكة مدوية من تلميذته "حنان". اتجهت أنظار تلاميذه بالقسم السادس ابتدائي نحوها منتظرين العقوبة المنتظرة من مدرس جدي لا يتنازل عن مبادئه المعهودة. كان الفضول يدفع الجميع متسائلا عن ردة فعل المعلم "سمير" اتجاه هذه التلميذة الأنيقة التي يأتي بها والدها كل صباح بسيارته الأنيقة، وينتظرها عند الخروج كذلك. هي مقارنة بكثير من زميلاتها أكثر حظا. لقد قام والدها بنقلها من مدرسة خصوصية هذه السنة، وذلك للوقوف على حقيقة مستواها، لأن هذه المؤسسات أصبحت في عرفه ومعتقده وسيلة لامتصاص جيوب الحريصين على مستوى أبنائهم ومردوديتهم دون أن تختلف نتائجها عن غيرها من أخواتها من المؤسسات العمومية. بل قد تزيف حقيقة مستوى التلميذ بنقط غير مستحقة لإظهار نجاح وتميز مزعومين وهميين لهذه المؤسسات الخاصة.
اتجه سمير نحو حنان وفتح دفترها، فوجدها لم تكتب سطرا واحدا في هذه الحصة، ثم فتح دفتر التحضير المنزلي لتلميذته، فوجد نقصا كبيرا في إنجاز الواجبات خلال الأيام الأخيرة. وهنا كان لابد من رد فعل يثبت من خلاله المدرس أنه لا يقيم أي تمايز بين تلاميذه، وأنه عادل بينهم. أخذ عصاه البلاستيكية، وطالب "حنان" بمد يديها. ومع أنه وجه لها ضربتين خفيفتين فقط. إلا أنها لم تكف عن الصراخ والبكاء، بل دخلت في نوبة هيستيرية، وكادت تنهار في الفصل. لم يأبه لها سمير واعتبرها تقوم بمسرحية هزلية لجلب تعاطف الغير نحوها. أو لتحويل الأنظار عن خطئها. استمرت بالنحيب والبكاء طيلة الحصة.
دق الجرس وخرج التلاميذ، ورافقت أميمة صديقتها "حنان" خارج المؤسسة حيث كان الوالد في الانتظار.
في اليوم الموالي، دخل تلاميذ الفصل، وبقي مكان " حنان" شاغرا. لم يشأ المدرس أن يسأل عن تلميذته في بداية الحصة، وفجأة جاء الحارس يطلب من المدرس الالتحاق بالمدير في الإدارة.
بدا السيد المدير متجهم الملامح. حرك نظارته الصغيرة وقال بهدوء:
ـ هل تعلم عواقب ما قمت به أيها المدرس؟
وقبل أن يجيب سمير بكلمة واحدة، أردف قائلا:
ـ ألا تعلم بأن العقاب البدني ممنوع في المؤسسات التربوية؟!
ـ ولكنني وكل المدرسين نعاقب المتكاسلين واذا توقفنا عن فعل ذلك لن ينجز أي واحد منهم تمارينه، أو يحفظ دروسه. وكان فوق هذا مجرد ضرب خفيف تأديبا لها لزجرها على ضحكها في الفصل، إنها دائما تثير أعصابي.
ـ والد التلميذة ساخط، غاضب. لقد لزمت ابنته فراش المرض النفسي. ولها شهادة طبية مدتها خمسة عشر يوما، حين يدق الجرس مع الساعة الثانية عشرة، التحق بي. سأذهب أنا وأنت عند السيد الراضي لاستعطافه قبل أن يكبر المشكل.
ولما لاحظ تسمر المدرس مكانه ووجومه وكأنه همّ بأن يقول شيئا، خاف أن يتعنّت "سمير"، فنظر إليه نظرات أشبه بالاستعطاف.
عاد سمير أدراجه للفصل كئيب الملامح. هذه أول مرة يقف مثل هذا الموقف. ربّاه ماذا يفعل؟! هل يدوس كرامته ويعتذر لطفلة صغيرة لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها؟! هل يعاند ويترك الأمور لنهاياتها التي لا يدري إلى أين تسير؟ ماذا يمكن أن يفعل والدها؟ هو متأكد أن لا أثر في يدَيْ الصغيرة. هل حزن تلميذة مدللة سيصبح تهمة في حق مدرس؟! يقول السيد المدير إنها تعاني اكتئابا، كل المدرسين في مجتمعنا المتخلف مكتئبون! هنيئا لكم يا زملائي بالعالم القروي على كآبتكم المعزولة عن عوالم الطبقات الاجتماعية. فليس لكم إلا المغرب المنسي الذي لا يشتكي أو يتبرم.
كان مدير المؤسسة رجلا طيبا، لا يريد مشاكل مع أحد ، وكان حريصا على إحداث التوازن في علاقته بكل الأطراف. ولعل طيبته هي ما شجع المدرس الشاب للموافقة على مصالحة تلميذته، رغم يقينه بأنه ليس السلوك السوي لمعالجة حالة التدليل المفرط لها.
دق جرس منتصف النهار ، وجمع صاحبنا لوازمه الدراسية في حقيبته وتوجه نحو مكتب السيد المدير. ركبا السيارة التي شقت بهما طريقا مكتظة بالراجلين والراكبين: دراجات وسيارات نقل مدرسي وسيارات أجرة.. انحرفت سيارة المدير نحو منطقة أنيقة، لم يسبق لسمير أن جاء هنا. كان السيد المدير يوصي مدرسه الجديد بوجوب حسن التصرف مع الرجل المهم وأن يختصر الكلام معه، وأن يتلطف في الحوار ويتقبل كل انتقاداته.
وضع المدير أصبعه على جرس الباب. خرجت خادمة في عمر "حنان" . أدخلت الرجلين كأنما تعلم بمقدمهما. في صالة أنيقة جلس السيد المدير، وبالقرب منه جلس سمير على طرف الفراش كأنما هو متوثب للقفز.
دخل رجل مهيب، تنحنح قليلا ثو حيا الرجلين، وإن بدا مقطبا قليلا.. قدّم المدير مدرسه الذي تلعثم قليلا قبل أن يبدي حسن نواياه، وأنه يعتبر "حنان" بمثابة ابنته أو أخته الصغرى. أكد له الرجل أن "حنان" هي وحيدته ولا يملك غيرها، وأنه يغمرها بكل حنانه وعطفه، وأنه لم يسبق أن عنّفها في حياته. وأنه لولا صداقته للسيد المدير ما كانت لتدرس في التعليم العمومي، وأنه يريدها أن تعتمد على نفسها وأن تتقوّى شخصيتها. وأن يقف على حقيقة مستواها الدراسي.
ألح السيد المدير على أن يقوم المدرس "سمير" بتقديم كلمات بها يتم جبر خاطر الفتاة، وستعود الأمور لمجاريها على الفور. قبل الأب هذا المقترح، وربما كان كل شيء مرتبا لهذا الأمر. تقدم الأب وتبعه المدرس لغرفة البنت، بيت كالقصر أو كبناية البلدية في اتساعه. انحرفا نحو غرفة جانبية، دخل الأب أولا ثم عاد وجذب المدرس من يده. كانت الفتاة مستلقية على سرير يسع اثنين. وما إن رأت "حنان" مدرسها حتى صرخت بأعلى صوتها: "اخرج ، اخرج .." كان الصوت قويا له رنين، مع مدّ حرف الراء وتطويلها. أحس المدرس بأن ما يشبه السكين قد انغرز في قلبه من شدة مرارة الموقف المخجل الذي وجد نفسه فيه مُرجعا اللوم لذاته حين ارتضى أن يأتي بقدميه إلى هنا.
عاد أدراجه إلى حيث المدير مازال جالسا. بينما الصوت ما زال يتناهى إلى أذنيه: "اخروووج اخروووج ..." والأب يقول لها ـ دون مراعاة مشاعر الآخرين ـ : سيخرج، سنطرده حالا.
لم يتمالك سمير نفسه، فاعتذر للسيد المدير، وغادر البيت فورا رغم توسلات الأخير.
تمر بضعة أيام، وتعود حنان للمؤسسة، ولكن بعد أن تمّ تنقيلها لفصل آخر. أما سمير فأصبح شخصا آخر... ما عاد أول عنصر يأتي للمؤسسة وآخر من يخرج من فصولها. لقد أصبح يمضي كل الوقت جالسا على مكتبه يضع رجلا على أخرى، لا يراه تلاميذه إلا حاملا هاتفه النقال يتصفح المواقع الإلكترونية، بينما لو ناداه أحد التلاميذ مشتكيا من زميله، فإنه يرد عليه ببرودة أعصاب: "اشتكه للإدارة"، وربما لا يرد بالمرة. دفاتر التلاميذ لم يعد يصححها، والتحضير المنزلي ما عاد يطالب به. وحين زاره السيد المشرف التربوي في آخر تلك السنة الدراسية اعتبر أنه وجد جدية ومردودية، وكتب تقريرا أشاد فيه بتطور أداء المدرس "سمير" وتفانيه في أداء مهمته النبيلة.
ترددت تعليقات متباينة. قال أحد زملاء "سمير" من كبار السن: (كان على زميلنا الشاب أن لا يبدأ بحماسة زائدة مبالغ فيها، ها هو قد انطفأ وانتهى في بداية مشواره). وردد أحد أولياء الأمور: (كبار هذا المجتمع قتلوا تعليمنا العمومي ومسخوا معالمه). بينما تمتم السيد المديرالحمد لله أن عجل بإصلاح حال هذا المدرس المميز، وجعل المسؤولين التربويين راضين عن مردوديته). وحدهم الصغار ابتهجوا بأن مدرسهم أصبح يمنحهم مساحة كبيرة للشغب وما عاد يثقل عليهم بأي واجب يذكر. لكن أسئلة كثيرة حيرت العارفين وبقيت معلقة دون إجابة، و كانت تصب في الآتي: (لماذا انطفأت الشعلة بهذه السهولة؟ وهل هذا الحادث ـ الذي يبدو بسيطا ـ وحده السبب حتى يجعل مدرسا يفقد حماسته بهذه السهولة؟ ولمن يتوجه سمير بردة فعله تلك؟ هل لنفسه أم للمجتمع، أم لكليهما؟؟
وفعلا كان عدد تلاميذ المدرس "سمير" يتجاوز أربعين تلميذا. كان الشاب كله حيوية وحماس للعطاء والبذل. إلا أنه كان سريع الانفعال بحكم ضعف تجربته في الحياة. كان يعنف بقسوة كل الأخطاء الفادحة التي لا يجوز في عرفه الوقوع فيها. كان يعتقد أن الحزم والشدة يمكن أن يجعلا هؤلاء الصغار يقومون بواجباتهم في ظل تدليل كثير من الآباء لأولادهم وبناتهم. إن الكبار يشقون ويتعبون، بينما يجد هذا الجيل كل شيء جاهزا، مما يفقدهم تقدير قيمة الأشياء.
كان سمير قد انتهى من الشرح وجلس في انتظار أن يملي على تلاميذه أسئلة التحضير المنزلي، وفجأة سمع ضحكة مدوية من تلميذته "حنان". اتجهت أنظار تلاميذه بالقسم السادس ابتدائي نحوها منتظرين العقوبة المنتظرة من مدرس جدي لا يتنازل عن مبادئه المعهودة. كان الفضول يدفع الجميع متسائلا عن ردة فعل المعلم "سمير" اتجاه هذه التلميذة الأنيقة التي يأتي بها والدها كل صباح بسيارته الأنيقة، وينتظرها عند الخروج كذلك. هي مقارنة بكثير من زميلاتها أكثر حظا. لقد قام والدها بنقلها من مدرسة خصوصية هذه السنة، وذلك للوقوف على حقيقة مستواها، لأن هذه المؤسسات أصبحت في عرفه ومعتقده وسيلة لامتصاص جيوب الحريصين على مستوى أبنائهم ومردوديتهم دون أن تختلف نتائجها عن غيرها من أخواتها من المؤسسات العمومية. بل قد تزيف حقيقة مستوى التلميذ بنقط غير مستحقة لإظهار نجاح وتميز مزعومين وهميين لهذه المؤسسات الخاصة.
اتجه سمير نحو حنان وفتح دفترها، فوجدها لم تكتب سطرا واحدا في هذه الحصة، ثم فتح دفتر التحضير المنزلي لتلميذته، فوجد نقصا كبيرا في إنجاز الواجبات خلال الأيام الأخيرة. وهنا كان لابد من رد فعل يثبت من خلاله المدرس أنه لا يقيم أي تمايز بين تلاميذه، وأنه عادل بينهم. أخذ عصاه البلاستيكية، وطالب "حنان" بمد يديها. ومع أنه وجه لها ضربتين خفيفتين فقط. إلا أنها لم تكف عن الصراخ والبكاء، بل دخلت في نوبة هيستيرية، وكادت تنهار في الفصل. لم يأبه لها سمير واعتبرها تقوم بمسرحية هزلية لجلب تعاطف الغير نحوها. أو لتحويل الأنظار عن خطئها. استمرت بالنحيب والبكاء طيلة الحصة.
دق الجرس وخرج التلاميذ، ورافقت أميمة صديقتها "حنان" خارج المؤسسة حيث كان الوالد في الانتظار.
في اليوم الموالي، دخل تلاميذ الفصل، وبقي مكان " حنان" شاغرا. لم يشأ المدرس أن يسأل عن تلميذته في بداية الحصة، وفجأة جاء الحارس يطلب من المدرس الالتحاق بالمدير في الإدارة.
بدا السيد المدير متجهم الملامح. حرك نظارته الصغيرة وقال بهدوء:
ـ هل تعلم عواقب ما قمت به أيها المدرس؟
وقبل أن يجيب سمير بكلمة واحدة، أردف قائلا:
ـ ألا تعلم بأن العقاب البدني ممنوع في المؤسسات التربوية؟!
ـ ولكنني وكل المدرسين نعاقب المتكاسلين واذا توقفنا عن فعل ذلك لن ينجز أي واحد منهم تمارينه، أو يحفظ دروسه. وكان فوق هذا مجرد ضرب خفيف تأديبا لها لزجرها على ضحكها في الفصل، إنها دائما تثير أعصابي.
ـ والد التلميذة ساخط، غاضب. لقد لزمت ابنته فراش المرض النفسي. ولها شهادة طبية مدتها خمسة عشر يوما، حين يدق الجرس مع الساعة الثانية عشرة، التحق بي. سأذهب أنا وأنت عند السيد الراضي لاستعطافه قبل أن يكبر المشكل.
ولما لاحظ تسمر المدرس مكانه ووجومه وكأنه همّ بأن يقول شيئا، خاف أن يتعنّت "سمير"، فنظر إليه نظرات أشبه بالاستعطاف.
عاد سمير أدراجه للفصل كئيب الملامح. هذه أول مرة يقف مثل هذا الموقف. ربّاه ماذا يفعل؟! هل يدوس كرامته ويعتذر لطفلة صغيرة لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها؟! هل يعاند ويترك الأمور لنهاياتها التي لا يدري إلى أين تسير؟ ماذا يمكن أن يفعل والدها؟ هو متأكد أن لا أثر في يدَيْ الصغيرة. هل حزن تلميذة مدللة سيصبح تهمة في حق مدرس؟! يقول السيد المدير إنها تعاني اكتئابا، كل المدرسين في مجتمعنا المتخلف مكتئبون! هنيئا لكم يا زملائي بالعالم القروي على كآبتكم المعزولة عن عوالم الطبقات الاجتماعية. فليس لكم إلا المغرب المنسي الذي لا يشتكي أو يتبرم.
كان مدير المؤسسة رجلا طيبا، لا يريد مشاكل مع أحد ، وكان حريصا على إحداث التوازن في علاقته بكل الأطراف. ولعل طيبته هي ما شجع المدرس الشاب للموافقة على مصالحة تلميذته، رغم يقينه بأنه ليس السلوك السوي لمعالجة حالة التدليل المفرط لها.
دق جرس منتصف النهار ، وجمع صاحبنا لوازمه الدراسية في حقيبته وتوجه نحو مكتب السيد المدير. ركبا السيارة التي شقت بهما طريقا مكتظة بالراجلين والراكبين: دراجات وسيارات نقل مدرسي وسيارات أجرة.. انحرفت سيارة المدير نحو منطقة أنيقة، لم يسبق لسمير أن جاء هنا. كان السيد المدير يوصي مدرسه الجديد بوجوب حسن التصرف مع الرجل المهم وأن يختصر الكلام معه، وأن يتلطف في الحوار ويتقبل كل انتقاداته.
وضع المدير أصبعه على جرس الباب. خرجت خادمة في عمر "حنان" . أدخلت الرجلين كأنما تعلم بمقدمهما. في صالة أنيقة جلس السيد المدير، وبالقرب منه جلس سمير على طرف الفراش كأنما هو متوثب للقفز.
دخل رجل مهيب، تنحنح قليلا ثو حيا الرجلين، وإن بدا مقطبا قليلا.. قدّم المدير مدرسه الذي تلعثم قليلا قبل أن يبدي حسن نواياه، وأنه يعتبر "حنان" بمثابة ابنته أو أخته الصغرى. أكد له الرجل أن "حنان" هي وحيدته ولا يملك غيرها، وأنه يغمرها بكل حنانه وعطفه، وأنه لم يسبق أن عنّفها في حياته. وأنه لولا صداقته للسيد المدير ما كانت لتدرس في التعليم العمومي، وأنه يريدها أن تعتمد على نفسها وأن تتقوّى شخصيتها. وأن يقف على حقيقة مستواها الدراسي.
ألح السيد المدير على أن يقوم المدرس "سمير" بتقديم كلمات بها يتم جبر خاطر الفتاة، وستعود الأمور لمجاريها على الفور. قبل الأب هذا المقترح، وربما كان كل شيء مرتبا لهذا الأمر. تقدم الأب وتبعه المدرس لغرفة البنت، بيت كالقصر أو كبناية البلدية في اتساعه. انحرفا نحو غرفة جانبية، دخل الأب أولا ثم عاد وجذب المدرس من يده. كانت الفتاة مستلقية على سرير يسع اثنين. وما إن رأت "حنان" مدرسها حتى صرخت بأعلى صوتها: "اخرج ، اخرج .." كان الصوت قويا له رنين، مع مدّ حرف الراء وتطويلها. أحس المدرس بأن ما يشبه السكين قد انغرز في قلبه من شدة مرارة الموقف المخجل الذي وجد نفسه فيه مُرجعا اللوم لذاته حين ارتضى أن يأتي بقدميه إلى هنا.
عاد أدراجه إلى حيث المدير مازال جالسا. بينما الصوت ما زال يتناهى إلى أذنيه: "اخروووج اخروووج ..." والأب يقول لها ـ دون مراعاة مشاعر الآخرين ـ : سيخرج، سنطرده حالا.
لم يتمالك سمير نفسه، فاعتذر للسيد المدير، وغادر البيت فورا رغم توسلات الأخير.
تمر بضعة أيام، وتعود حنان للمؤسسة، ولكن بعد أن تمّ تنقيلها لفصل آخر. أما سمير فأصبح شخصا آخر... ما عاد أول عنصر يأتي للمؤسسة وآخر من يخرج من فصولها. لقد أصبح يمضي كل الوقت جالسا على مكتبه يضع رجلا على أخرى، لا يراه تلاميذه إلا حاملا هاتفه النقال يتصفح المواقع الإلكترونية، بينما لو ناداه أحد التلاميذ مشتكيا من زميله، فإنه يرد عليه ببرودة أعصاب: "اشتكه للإدارة"، وربما لا يرد بالمرة. دفاتر التلاميذ لم يعد يصححها، والتحضير المنزلي ما عاد يطالب به. وحين زاره السيد المشرف التربوي في آخر تلك السنة الدراسية اعتبر أنه وجد جدية ومردودية، وكتب تقريرا أشاد فيه بتطور أداء المدرس "سمير" وتفانيه في أداء مهمته النبيلة.
ترددت تعليقات متباينة. قال أحد زملاء "سمير" من كبار السن: (كان على زميلنا الشاب أن لا يبدأ بحماسة زائدة مبالغ فيها، ها هو قد انطفأ وانتهى في بداية مشواره). وردد أحد أولياء الأمور: (كبار هذا المجتمع قتلوا تعليمنا العمومي ومسخوا معالمه). بينما تمتم السيد المديرالحمد لله أن عجل بإصلاح حال هذا المدرس المميز، وجعل المسؤولين التربويين راضين عن مردوديته). وحدهم الصغار ابتهجوا بأن مدرسهم أصبح يمنحهم مساحة كبيرة للشغب وما عاد يثقل عليهم بأي واجب يذكر. لكن أسئلة كثيرة حيرت العارفين وبقيت معلقة دون إجابة، و كانت تصب في الآتي: (لماذا انطفأت الشعلة بهذه السهولة؟ وهل هذا الحادث ـ الذي يبدو بسيطا ـ وحده السبب حتى يجعل مدرسا يفقد حماسته بهذه السهولة؟ ولمن يتوجه سمير بردة فعله تلك؟ هل لنفسه أم للمجتمع، أم لكليهما؟؟