كفاح الزهاوي
كاتب
كانت الغيوم المتناثرة في فسحة السماء، عاجزة عن حجب حضور الشمس وظهورها، وهي تصب بأشعتها البنفسجية على أجساد الكون العارية. والصخور القابعة منذ آلاف السنين في تلك البقعة النائية تفرز من أجسادها مخزون الحر، حيث تبدو على مرمى البصر كأنها ألسِنة نيران بيضاء أو أبخرة ماء مغلي قد انبلجت وتصاعدت رويدا رويدا، فشكلت حزمة من الهواء الساخن تنساب عبر أخاديد الصخور، تلسع بشرة الوجه، فتترك خلفها لمسات خشنة.
في ساعة من تلك الظهيرة، خيم السكون على سفوح الجبال ووديانها، عدا خرير الماء يتدفق من ينابيع الجبال، فينساب نحو الوادي باتجاه الصخور المشبعة بتلك المياه من سحيق الزمان.
حان الوقت لينطلق مع الريح، شاب في الثلاثين من عمره، متوسط القامة، ذو شعر اسود كثيف، مشرق الوجه، متهلل الاسارير، وتحت انفه البارز ينبت على شَفته العليا شارب، قوي البنية، سريع الحركة تنسجم مع هيئة رياضي. وضع حقيبته الصغيرة على ظهره وهو يستعد للرحيل قاصدا هدفه عبر الطرق الجبلية الوعرة.
تحرك باتجاه المنحدرات المليئة بالنتوءات المدببة، البارزة من الصخور الصلدة، تاركا خلفه تلك الوديان، التي عاش فيها، وقضى جل شبابه في الدفاع عن القيم. واصل سيره تحت وهج الشمس المشرقة، يجتاحه القلق كلما اتسعت المسافة مع مرور الزمن وابتعاده عن نقطة انطلاقه. قبل ان يتوقف ليفاجئ بقطع صخري استوقفه ليصده ويمنعه من التقدم وجعله حائراً..
ظل واقفاً فوق صخرته واجما جامدا بغير حراك، كأن قدميه لصقت بالأرض. تشنجت عضلات حنجرته لبعض الوقت، بقيت الكلمات تتزاحم في فمه، تتسابق وتصطدم ببعضها من أجل ان تخرج إلى الهواء، ما لبث ان جف حلقه لبرهة، سرعان ما انبسطت عضلات حنجرته، وعادت لصوته قوته وراح يستعيد هدوءه وتفاؤله وإصراره على مواصلة المشوار..
بدأ يحدث نفسه بألم يشوبه شيء من الندم
- اي ريح لعينة قادتني في هذه الساعة الى هذا العبث المفاجئ، وأنا أشق طريقي في المنحدرات المعقدة للجبل.
ثم قال بعد ان أطلق زفيرا عميقا، كمن يزيح عن كاهله هما ثقيلا يجثم على صدره:
- أي حظ بائس هذا؟ جعلني ان اكون وحيدا في هذا العالم، حيث أصبحت عاجزا عن التطلع للأمام.
فاضت من مقلتيه دموع اشعرته بالوحدة.. وأردف محدثا نفسه بعتب:
- ما هذا السكون الغامض الذي يجثم على النفوس، كأن الجميع صامتون وأموات.
شرع يجول برأسه يمنة ويسرة في وجل، كأن هناك مَنْ يناديه، وصدى لأجراس تقرع في هذا الخلاء مخترقاً جدار الصمت والسكون، حاول معرفة مصدر الصوت قبل ان يخفت ويتبدد.
وبينما كان يواصل السير بخطوات حثيثة في الطرق الوعرة بين الصخور القاسية، التي تفتقد لأية آثار من أقدام بشرية سابقة، مما تطلب التركيز وبذل المزيد من الجهد كي يتمكن من مواصلة المسير خطوة بعد أخرى تحت أشعة الشمس الحارقة، التي كانت تبعث نيران حرارتها في ذلك اليوم اللاهب، فتتدفق معها قطرات عرق من ثقوب بشرته، لتزيد من لزوجة جسده المتعب وهواجسه الحائرة في تلك اللحظات الحرجة.
وفي لمحة بصر توالت في ذهنه أفكار وهواجس تتناغم بين الافراح والأشجان، لتلطم مزاجه وتجعله متقلبا ومتردداً.. انعكس قلقه عبر الأحداق، وهو ينظر نحو الوادي العميق، ليقرر في لحظة الاختيار. لم يكن أمامه المزيد من الوقت وعليه ان يحسم موقفه في هذه الومضة من الزمن العصيب ليجد طريقاً للخلاص.
ـ الأشياء تذبل وتضمحل وتندثر. قالها بصوت خافت
تناهى الى سمعه، حفيف أوراق الأشجار المتفرقة على المنحدرات الجبلية، تحركت، بعد ان عصفت بها ريح ثقيلة في فسحة الوادي. اشرأب عنقه، وحرك نصف جسده العلوي للأمام حتى يمنح عينيه فرصة التمعن كي يتحقق من قدرته على اجتياز الامتحان، فهو يدرك مخاطر الرهان. عندما استقام بجسده وتراجع خطوة الى الوراء، غفل عن باله الحقيبة التي على ظهره، ارتطمت بالجدار الصخري للجبل فاختل توازنه، ومال بجسده إلى الأمام، وحاول جاهدا تحريك يديه ليحتفظ بتوازنه، كاد ان يحلق كطير مجروح الجناحين في فناء الوادي السحيق. استبد به الهلع، أراد ان يصرخ، لكنه احتفظ بقدرته على التوازن.
قال بصوت متهدج
- حتى لو صرخت بأعلى صوتي، من سيسمعني في هذا الخلاء الموحش. وأضاف.. لا أستطيع البقاء في هذا العراء طويلا، لن اسمح لهذا الوادي اللعين أن يلتهمني ويضع نهاية لحياتي..
تناهى اليه نقنقة قبج جبلي اخترقت جدران الصمت جعلته يكتم صرخة اليمة في نفسه. كان يخشى من ان يقبل الليل، ويبقى جاثما في مكانه وحيدا بلا حراك يواجه الموت. الآلام تجتاحه كبحر تسونامي تصنع الفزع وتنتج الهلاك..
نظر الى الأشجار الصامتة التي تحملت غضب السماء وعواصف الطبيعة الهوجاء، إلا أنها نمت وقوى عودها بصبر واناة، وهكذا الحال عندما يتعلق الأمر بقراره عليه ان يكون كتلك الأشجار الصامتة ويستمد منها الصبر والقوة.
ففي تلك اللحظات تناثر الشعاع من قلبه مثلما تتناثر ندف القطن في الهواء. ارتفع منسوب الضياء المبهج ليزيح الصمت ويمنحه العزم على اتخاذ القرار. ارتعشت الأشجار على قمة الجبل وفي السفوح لتسقط المزيد من الأوراق الميتة في الهواء كأنها أم تبكي ولدها.. أَلَمَّ به احساس طفولي وهو ينظر للأوراق المتساقطة كأنها دموع تتناثر من عيني امه في تلك الساعة.
ما أصعب تلك اللحظات العصيبة، عندما ينفصل الإنسان عن المجموعة الثائرة، ويلقى نفسه وحيدا في مواجهة تحديات وقسوة الطبيعة. لا بد من وجود الارادة القوية، والنظر الى الأفق البعيد، فترى اوتار الحياة، تصنع منها الحاناً، وتعزف سمفونية الامل، كربيع بهي قادم تتراقص فيه الزهور والطيور تحت رذاذ المطر. ومن الأرض الندية المفروشة بأشجار الصنوبر الكثيفة يتصاعد عبق رائحتها، فتزيل من وطأة أحزاننا، وتزيح عنا همومنا وتمنحنا الرؤية والتركيز لننظر للسماء والشمس المتوهجة، الزاهية، كي ننسى الكوابيس المزعجة، ونطوي الصفحات المرعبة، ونمسح صور الموت من ذاكرتنا المتعبة وكل المعوقات التي تعترض خطواتنا..
انها لحظة ولادة وتجلِّ، وفي لمحة البصر، ارتفعت القدم لتسقط متشبثة بالصخر الذي أصبح نقطة الخلاص والانتقال لمواصلة واستكمال بقية خطوات المسيرة.
في ساعة من تلك الظهيرة، خيم السكون على سفوح الجبال ووديانها، عدا خرير الماء يتدفق من ينابيع الجبال، فينساب نحو الوادي باتجاه الصخور المشبعة بتلك المياه من سحيق الزمان.
حان الوقت لينطلق مع الريح، شاب في الثلاثين من عمره، متوسط القامة، ذو شعر اسود كثيف، مشرق الوجه، متهلل الاسارير، وتحت انفه البارز ينبت على شَفته العليا شارب، قوي البنية، سريع الحركة تنسجم مع هيئة رياضي. وضع حقيبته الصغيرة على ظهره وهو يستعد للرحيل قاصدا هدفه عبر الطرق الجبلية الوعرة.
تحرك باتجاه المنحدرات المليئة بالنتوءات المدببة، البارزة من الصخور الصلدة، تاركا خلفه تلك الوديان، التي عاش فيها، وقضى جل شبابه في الدفاع عن القيم. واصل سيره تحت وهج الشمس المشرقة، يجتاحه القلق كلما اتسعت المسافة مع مرور الزمن وابتعاده عن نقطة انطلاقه. قبل ان يتوقف ليفاجئ بقطع صخري استوقفه ليصده ويمنعه من التقدم وجعله حائراً..
ظل واقفاً فوق صخرته واجما جامدا بغير حراك، كأن قدميه لصقت بالأرض. تشنجت عضلات حنجرته لبعض الوقت، بقيت الكلمات تتزاحم في فمه، تتسابق وتصطدم ببعضها من أجل ان تخرج إلى الهواء، ما لبث ان جف حلقه لبرهة، سرعان ما انبسطت عضلات حنجرته، وعادت لصوته قوته وراح يستعيد هدوءه وتفاؤله وإصراره على مواصلة المشوار..
بدأ يحدث نفسه بألم يشوبه شيء من الندم
- اي ريح لعينة قادتني في هذه الساعة الى هذا العبث المفاجئ، وأنا أشق طريقي في المنحدرات المعقدة للجبل.
ثم قال بعد ان أطلق زفيرا عميقا، كمن يزيح عن كاهله هما ثقيلا يجثم على صدره:
- أي حظ بائس هذا؟ جعلني ان اكون وحيدا في هذا العالم، حيث أصبحت عاجزا عن التطلع للأمام.
فاضت من مقلتيه دموع اشعرته بالوحدة.. وأردف محدثا نفسه بعتب:
- ما هذا السكون الغامض الذي يجثم على النفوس، كأن الجميع صامتون وأموات.
شرع يجول برأسه يمنة ويسرة في وجل، كأن هناك مَنْ يناديه، وصدى لأجراس تقرع في هذا الخلاء مخترقاً جدار الصمت والسكون، حاول معرفة مصدر الصوت قبل ان يخفت ويتبدد.
وبينما كان يواصل السير بخطوات حثيثة في الطرق الوعرة بين الصخور القاسية، التي تفتقد لأية آثار من أقدام بشرية سابقة، مما تطلب التركيز وبذل المزيد من الجهد كي يتمكن من مواصلة المسير خطوة بعد أخرى تحت أشعة الشمس الحارقة، التي كانت تبعث نيران حرارتها في ذلك اليوم اللاهب، فتتدفق معها قطرات عرق من ثقوب بشرته، لتزيد من لزوجة جسده المتعب وهواجسه الحائرة في تلك اللحظات الحرجة.
وفي لمحة بصر توالت في ذهنه أفكار وهواجس تتناغم بين الافراح والأشجان، لتلطم مزاجه وتجعله متقلبا ومتردداً.. انعكس قلقه عبر الأحداق، وهو ينظر نحو الوادي العميق، ليقرر في لحظة الاختيار. لم يكن أمامه المزيد من الوقت وعليه ان يحسم موقفه في هذه الومضة من الزمن العصيب ليجد طريقاً للخلاص.
ـ الأشياء تذبل وتضمحل وتندثر. قالها بصوت خافت
تناهى الى سمعه، حفيف أوراق الأشجار المتفرقة على المنحدرات الجبلية، تحركت، بعد ان عصفت بها ريح ثقيلة في فسحة الوادي. اشرأب عنقه، وحرك نصف جسده العلوي للأمام حتى يمنح عينيه فرصة التمعن كي يتحقق من قدرته على اجتياز الامتحان، فهو يدرك مخاطر الرهان. عندما استقام بجسده وتراجع خطوة الى الوراء، غفل عن باله الحقيبة التي على ظهره، ارتطمت بالجدار الصخري للجبل فاختل توازنه، ومال بجسده إلى الأمام، وحاول جاهدا تحريك يديه ليحتفظ بتوازنه، كاد ان يحلق كطير مجروح الجناحين في فناء الوادي السحيق. استبد به الهلع، أراد ان يصرخ، لكنه احتفظ بقدرته على التوازن.
قال بصوت متهدج
- حتى لو صرخت بأعلى صوتي، من سيسمعني في هذا الخلاء الموحش. وأضاف.. لا أستطيع البقاء في هذا العراء طويلا، لن اسمح لهذا الوادي اللعين أن يلتهمني ويضع نهاية لحياتي..
تناهى اليه نقنقة قبج جبلي اخترقت جدران الصمت جعلته يكتم صرخة اليمة في نفسه. كان يخشى من ان يقبل الليل، ويبقى جاثما في مكانه وحيدا بلا حراك يواجه الموت. الآلام تجتاحه كبحر تسونامي تصنع الفزع وتنتج الهلاك..
نظر الى الأشجار الصامتة التي تحملت غضب السماء وعواصف الطبيعة الهوجاء، إلا أنها نمت وقوى عودها بصبر واناة، وهكذا الحال عندما يتعلق الأمر بقراره عليه ان يكون كتلك الأشجار الصامتة ويستمد منها الصبر والقوة.
ففي تلك اللحظات تناثر الشعاع من قلبه مثلما تتناثر ندف القطن في الهواء. ارتفع منسوب الضياء المبهج ليزيح الصمت ويمنحه العزم على اتخاذ القرار. ارتعشت الأشجار على قمة الجبل وفي السفوح لتسقط المزيد من الأوراق الميتة في الهواء كأنها أم تبكي ولدها.. أَلَمَّ به احساس طفولي وهو ينظر للأوراق المتساقطة كأنها دموع تتناثر من عيني امه في تلك الساعة.
ما أصعب تلك اللحظات العصيبة، عندما ينفصل الإنسان عن المجموعة الثائرة، ويلقى نفسه وحيدا في مواجهة تحديات وقسوة الطبيعة. لا بد من وجود الارادة القوية، والنظر الى الأفق البعيد، فترى اوتار الحياة، تصنع منها الحاناً، وتعزف سمفونية الامل، كربيع بهي قادم تتراقص فيه الزهور والطيور تحت رذاذ المطر. ومن الأرض الندية المفروشة بأشجار الصنوبر الكثيفة يتصاعد عبق رائحتها، فتزيل من وطأة أحزاننا، وتزيح عنا همومنا وتمنحنا الرؤية والتركيز لننظر للسماء والشمس المتوهجة، الزاهية، كي ننسى الكوابيس المزعجة، ونطوي الصفحات المرعبة، ونمسح صور الموت من ذاكرتنا المتعبة وكل المعوقات التي تعترض خطواتنا..
انها لحظة ولادة وتجلِّ، وفي لمحة البصر، ارتفعت القدم لتسقط متشبثة بالصخر الذي أصبح نقطة الخلاص والانتقال لمواصلة واستكمال بقية خطوات المسيرة.
التعديل الأخير: