المصطفى سالمي
كاتب
ارتفعت الأهازيج ومراسيم الفرح وطقوسه بحلول (البهلول) المدعو: "أبو البركات"، جاء من بلاد بعيدة ليحل ضيفا على بلدة (الطيبة) التي اشتهر أهلها بالكرم وحسن استقبال الغرباء، كانوا أحيانا يوسمون بسذاجة لا حدود لها، أقام الناس له خيمة كبيرة، ووضعت صنوف الأكل والشرب، وقدمت الهدايا الثمينة، والعجيب أنه كان يقابل بعضها بعطايا غريبة، فقد يعطيه أحدهم سجادة أو برنسا، فيقدم له (البهلول) قلادة البركة لامعة براقة تلقّاها في الحقيقة في ضيافة ناس آخرين. وبدأ الطمع يستبد بالنفوس، فانهالت العطايا سخية وإن لم يكن أبو البركات يقابلها غالبا إلا بدعوات وبثمور البركة التي تمنح صاحبها وكل أفراد البيت السعد وحسن الطالع. ونظرا لكثرة الخلافات والصراعات التي كانت قائمة بين أفراد بلدة (الطيبة)، فقد توافقت آراؤهم لأول مرة على أمر موحد لم يختلفوا فيه وهو أن يجعلوا (البهلول) واليا عليهم، وهكذا بنى الناس للوافد الجديد ـ الذي لم يكن يمتلك من متاع الدنيا قليلا أو كثيرا ـ بيتا فخما وجهزوه له بالأثاث الفاخر، وبدأ الرجل يقتطع الأراضي التي هي في الملك الجماعي (للطيبة) ويوزع بعضها على رجالات البلدة التي يتوسم فيهم ما يعتبره نبوغا، بينما يرى فيهم بعض الحكماء خبثا وانتهازية. ولم يستمع أحد من عموم السذج للتحذيرات التي أطلقها بعضهم اتجاه الرجل المهرج الغريب، كان الأخير يأتيه الناس بقطعة ذهبية فيضعها تحت قبعته المسماة غطاء البركة، ثم يرفعها فيصبح محتواها مضاعفا لمرات، فيخرج الشخص فرحا يبدو وكأن قلبه سيغادر من بين أضلاع صدره، وقد يتحول الذهب البرّاق عند آخرين إلى كومة من الحديد أو النحاس، ولكنه لا يحتج، فقد قبل شروط اللعبة من الأول، ولا أحد أعمل عقله وتتبع شأن من حلت بهم البركة أو عرف قصتهم، لكن الحكماء الذين أقصاهم (البهلول) أو الانتهازيين كما سماهم أعداؤهم كانوا يعرفون كل شيء، فقد اكتشفوا حقيقة صناع ومفبركي مشاهد الفوز المزيف، وحقيقة ما كان يدعيه المهرج من مداواة المرضى وإغناء الفقير وإسعاد الشقي..
أصبح (البهلول) بعد مدة من الزمن أشبه بالأمير، وتحول بيته إلى قصر عظيم، وجاء الناس بفلذات أكبادهم وقدموها قرابين للوالي حتى يحضوا بالبركة والرضى، ولم يكن أحدهم يقول ـ حتى مع نفسه ـ أو يزعم أن فتاته سيفجُرُ بها "أبو البركات"، فقط يضع يده الكريمة الشريفة عليها، حتى ينعم أهلها بالبركة، والحقيقة أنه كان يمرر يديه الكريمتين على الجسد الطري كما يمررهما على باقي أجساد العذارى المرمرية في الليالي الحالكة..
أصبح قصر أبي البركات يضج بالجواري وبالغلمان، وساد بين الناس السذج كثير من الدجل والكذب والانتهازية والنفاق لمداراة أنانيتهم وغشهم وعارهم، فقد كانت أرضهم قبل حضور المهرج الغريب عامرة بالخيرات، وكانوا لا يحتاجون من يجعلونه عليهم حاكما، لكنهم وقعوا في المحذور، وساءت طباعهم، خاصة بعد أن نفوا من بلدتهم كل ذي عقل وحكمة استجابة لأوامر (البهلول)، وها هو الأخير يستقدم راقصات من بلاد الفرنجة في نهاية كل موسم تقل فيه المحاصيل الزراعية، وكأنما للترويح عن النفوس المهمومة، ولكن تدريجيا عمت هذه الطقوس في كل الفصول مهما قلت أو كثرت الخيرات، وتقوم الراقصات الشقراوات بإظهار مفاتنهن أمام الرجال، وزعم أتباع الوالي أن هذه الطقوس والاحتفالات ستهذب أخلاقهم، وأنها ستجعلهم يتسامحون فيما بينهم، فتقل خشونتهم وخصوماتهم لكثرة تشددهم، وفعلا زالت الشدة والقوة وذاب ما تبقى من أنفة بلدة (الطيبة)، ومع طرد ونفي المعترضين لم يبق في الأخيرة إلا البهلول وعبيده والعار الذي أصبح سمة راسخة في ناس البلدة الذين استعذبوا ما جرى ويجري، وبدأ بعضهم يردد جهرا ودون خجل: (لقد كنا في حياة أشبه بالعدم قبل حلولك أيها "البهلول" المبارك!).
أصبح (البهلول) بعد مدة من الزمن أشبه بالأمير، وتحول بيته إلى قصر عظيم، وجاء الناس بفلذات أكبادهم وقدموها قرابين للوالي حتى يحضوا بالبركة والرضى، ولم يكن أحدهم يقول ـ حتى مع نفسه ـ أو يزعم أن فتاته سيفجُرُ بها "أبو البركات"، فقط يضع يده الكريمة الشريفة عليها، حتى ينعم أهلها بالبركة، والحقيقة أنه كان يمرر يديه الكريمتين على الجسد الطري كما يمررهما على باقي أجساد العذارى المرمرية في الليالي الحالكة..
أصبح قصر أبي البركات يضج بالجواري وبالغلمان، وساد بين الناس السذج كثير من الدجل والكذب والانتهازية والنفاق لمداراة أنانيتهم وغشهم وعارهم، فقد كانت أرضهم قبل حضور المهرج الغريب عامرة بالخيرات، وكانوا لا يحتاجون من يجعلونه عليهم حاكما، لكنهم وقعوا في المحذور، وساءت طباعهم، خاصة بعد أن نفوا من بلدتهم كل ذي عقل وحكمة استجابة لأوامر (البهلول)، وها هو الأخير يستقدم راقصات من بلاد الفرنجة في نهاية كل موسم تقل فيه المحاصيل الزراعية، وكأنما للترويح عن النفوس المهمومة، ولكن تدريجيا عمت هذه الطقوس في كل الفصول مهما قلت أو كثرت الخيرات، وتقوم الراقصات الشقراوات بإظهار مفاتنهن أمام الرجال، وزعم أتباع الوالي أن هذه الطقوس والاحتفالات ستهذب أخلاقهم، وأنها ستجعلهم يتسامحون فيما بينهم، فتقل خشونتهم وخصوماتهم لكثرة تشددهم، وفعلا زالت الشدة والقوة وذاب ما تبقى من أنفة بلدة (الطيبة)، ومع طرد ونفي المعترضين لم يبق في الأخيرة إلا البهلول وعبيده والعار الذي أصبح سمة راسخة في ناس البلدة الذين استعذبوا ما جرى ويجري، وبدأ بعضهم يردد جهرا ودون خجل: (لقد كنا في حياة أشبه بالعدم قبل حلولك أيها "البهلول" المبارك!).