المصطفى سالمي
كاتب
اشتعلت حواس (مرجان) بكل الأحقاد الدفينة، سيجعل هؤلاء المدرسين يحترقون باللهب الذي اكتوى به، لقد أمضى عقدا من العذاب بين فصول التدريس، لم يترك الأشقياء وسيلة إلا تفننوا في استعمالها وبأرقى وأخبث الطرق على السواء، دونوا على اللوح ألقابا له، رسموا رسوما كاريكاتورية، استفزوا وشاغبوا، قهقهوا وعاندوا وجرّحوا.. وها هو الآن أصبح مفتشا مرهوب الجانب، إنه يحس بهذه الهيبة التي تسكن جوانح المدرسين وهم يتحولون إلى خراف وديعة في حضرته، سيجعلهم مجرد تلاميذ خانعين، سيروضهم كما لم يروض سابقيهم.
وفعلا لاحظ المدرسون تعمد المفتش (مرجان) إلقاء ما يشبه الدروس عليهم، إذ يتعمد الوقوف والشرح كلما قُرع الجرس، حيث يتجمع التلاميذ حول الفصول، كانوا يطلون من النوافذ يرقبون مفتشا يسمعون عن صولاته وجولاته. وما لبثت علاقته مع المدرسين أن توترت واشتعلت بالخصومات التي وصل بعضها لردهات المحاكم الإدارية، كان (مرجان) يحمل الطبشورة، ويشرع في تدوين شروح ديداكتيكية لا معنى لها، المهم أن يقف والمدرسون جلوس على الطاولات، ليحولهم إلى ما يشبه التلاميذ، وأعين الصغار ترقب من النوافذ، هكذا كان المشهد، وأما النقاش فغير مسموح به، لأنه جرب الحوار قديما مع تلاميذ فصله، وكانت النتيجة أن كشفوا نقائص وفراغات استغلوها بشيطنة لا تضاهى، وها هو الآن لا يتوقف عن الحديث عن نفسه، وتدبيج سيرته الذاتية، لعل هذا يرمم ماضيا أليما ومعاناة في البيت والشارع والعمل، كان (مرجان) لا يتوقف عن رفع الصوت وتمطيطه، ثم تنتفخ أوداجه وتحمر وجنتاه وهو يتشدق بكلمات لا معنى لها، والحقيقة أن المدرسين وخاصة الجدد منهم بدأوا يتذمرون من مفتش ينتمي إلى أزمنة غابرة، بل يتعجبون كيف أصبح هذا الكائن مشرفا تربويا وهو يفتقد لغة التواصل مع محيطه، كان مجرد آلة للحفظ والاسترجاع كالببغاء، لا حس نقديا يمتلكه، ولا منهجيات حية يجيدها، إن هي إلا معلومات مستهلكة لا تزيل غشاوة ولا ترفع غباوة، ويصر (مرجان) بكل العنفوان على أن يحارب ما يزعمه تخاذلا من المدرسين، وخاصة الجدد منهم ممن يتصفون ـ في عرفه ـ كونهم مشاغبين، إنهم يذكّرونه بتلاميذه الأشقياء، أما القدامى من المدرسين فهم مرعوبون بالفطرة، لقد عاشوا أزمنة القهر والانبطاح، لا يناقشون ولا يتبرمون، هم حملان وديعة، وسيجعل الكل في مثل انصياعهم وخضوعهم..
لكن الزمن يفعل فعله حين يتمدد كعملاق مارد، يلتهم كل متطاول كما يلتهم الصدأ الحديد المتمدد الذي بلا مناعة أو صلابة حقيقية، وكما يلتهم السوس الخشب المغشوش، وكما يأكل الدود كل واهن من الثمار، إذ ما يلبث أن يظهر الضعف جليا على (مرجان) مع مرور الأزمنة، ويبدأ يكرر ذاته، ولا يجد السبل لتجديد نفسه، حيث يتجلى متقادما ينبعث منه غبار العهود السحيقة، طرق قديمة عفا عنها الزمن، ويظنها (مرجان) أرقى ما توصل إليه العلم، فيبزه أصغر المدرسين سنا، لكن صاحبنا لا يتواضع تواضع العلماء لعله يجدد آلياته، بل يصر على أن بضاعته المعرفية هي الأحسن والأرقى والأجود، فكان مثل أحد الملوك من الذين عبروا عبر مشهد التاريخ، فانغلقوا على أنفسهم معلنين مقاطعة الآخر الذي أسموه كافرا، حتى إذا جاءهم غازيا، واجهوا أسلحته النارية المتطورة بالسيوف والنبال، فكانت الهزيمة النكراء، هكذا كان (مرجان) يحمل سيوفا من ورق، ويتأبط تهما جاهزة بأن من يناقشه مارق لعين، وانتهى الأمر بأن تغيرت قواعد اللعبة، وما عاد التفتيش التربوي مؤثرا على المسار الوظيفي للمدرس في ترقيته وانتقاله، بل أصبح مجرد إشراف وتوجيه، وحل اليوم الذي اتحد فيه المدرسون ليقفوا بالمرصاد لشبح من ورق معلنين مقاطعة لقاءاته الفارغة من أية قيمة تربوية، والامتناع عن استقباله بفصول التدريس، فكان أن تشكلت لجان وزارية ضاقت ذرعا بحماقات السيد (مرجان)، وكان الحل الأمثل للتخلص من عبء عديم الصلاحيات، وتم ذات يوم تعليق منشور على السبورة النقابية من بضعة أسطر كتب بالخط العريض: "لقد تم إعفاء المفتش (مرجان) من مهام التفتيش بالمنطقة"، هكذا طويت صفحة يتذكرها الجميع بالتهكم على سخرية الأقدار، من كائن مجهري خال نفسه ذا شأن ومقدار...!
وفعلا لاحظ المدرسون تعمد المفتش (مرجان) إلقاء ما يشبه الدروس عليهم، إذ يتعمد الوقوف والشرح كلما قُرع الجرس، حيث يتجمع التلاميذ حول الفصول، كانوا يطلون من النوافذ يرقبون مفتشا يسمعون عن صولاته وجولاته. وما لبثت علاقته مع المدرسين أن توترت واشتعلت بالخصومات التي وصل بعضها لردهات المحاكم الإدارية، كان (مرجان) يحمل الطبشورة، ويشرع في تدوين شروح ديداكتيكية لا معنى لها، المهم أن يقف والمدرسون جلوس على الطاولات، ليحولهم إلى ما يشبه التلاميذ، وأعين الصغار ترقب من النوافذ، هكذا كان المشهد، وأما النقاش فغير مسموح به، لأنه جرب الحوار قديما مع تلاميذ فصله، وكانت النتيجة أن كشفوا نقائص وفراغات استغلوها بشيطنة لا تضاهى، وها هو الآن لا يتوقف عن الحديث عن نفسه، وتدبيج سيرته الذاتية، لعل هذا يرمم ماضيا أليما ومعاناة في البيت والشارع والعمل، كان (مرجان) لا يتوقف عن رفع الصوت وتمطيطه، ثم تنتفخ أوداجه وتحمر وجنتاه وهو يتشدق بكلمات لا معنى لها، والحقيقة أن المدرسين وخاصة الجدد منهم بدأوا يتذمرون من مفتش ينتمي إلى أزمنة غابرة، بل يتعجبون كيف أصبح هذا الكائن مشرفا تربويا وهو يفتقد لغة التواصل مع محيطه، كان مجرد آلة للحفظ والاسترجاع كالببغاء، لا حس نقديا يمتلكه، ولا منهجيات حية يجيدها، إن هي إلا معلومات مستهلكة لا تزيل غشاوة ولا ترفع غباوة، ويصر (مرجان) بكل العنفوان على أن يحارب ما يزعمه تخاذلا من المدرسين، وخاصة الجدد منهم ممن يتصفون ـ في عرفه ـ كونهم مشاغبين، إنهم يذكّرونه بتلاميذه الأشقياء، أما القدامى من المدرسين فهم مرعوبون بالفطرة، لقد عاشوا أزمنة القهر والانبطاح، لا يناقشون ولا يتبرمون، هم حملان وديعة، وسيجعل الكل في مثل انصياعهم وخضوعهم..
لكن الزمن يفعل فعله حين يتمدد كعملاق مارد، يلتهم كل متطاول كما يلتهم الصدأ الحديد المتمدد الذي بلا مناعة أو صلابة حقيقية، وكما يلتهم السوس الخشب المغشوش، وكما يأكل الدود كل واهن من الثمار، إذ ما يلبث أن يظهر الضعف جليا على (مرجان) مع مرور الأزمنة، ويبدأ يكرر ذاته، ولا يجد السبل لتجديد نفسه، حيث يتجلى متقادما ينبعث منه غبار العهود السحيقة، طرق قديمة عفا عنها الزمن، ويظنها (مرجان) أرقى ما توصل إليه العلم، فيبزه أصغر المدرسين سنا، لكن صاحبنا لا يتواضع تواضع العلماء لعله يجدد آلياته، بل يصر على أن بضاعته المعرفية هي الأحسن والأرقى والأجود، فكان مثل أحد الملوك من الذين عبروا عبر مشهد التاريخ، فانغلقوا على أنفسهم معلنين مقاطعة الآخر الذي أسموه كافرا، حتى إذا جاءهم غازيا، واجهوا أسلحته النارية المتطورة بالسيوف والنبال، فكانت الهزيمة النكراء، هكذا كان (مرجان) يحمل سيوفا من ورق، ويتأبط تهما جاهزة بأن من يناقشه مارق لعين، وانتهى الأمر بأن تغيرت قواعد اللعبة، وما عاد التفتيش التربوي مؤثرا على المسار الوظيفي للمدرس في ترقيته وانتقاله، بل أصبح مجرد إشراف وتوجيه، وحل اليوم الذي اتحد فيه المدرسون ليقفوا بالمرصاد لشبح من ورق معلنين مقاطعة لقاءاته الفارغة من أية قيمة تربوية، والامتناع عن استقباله بفصول التدريس، فكان أن تشكلت لجان وزارية ضاقت ذرعا بحماقات السيد (مرجان)، وكان الحل الأمثل للتخلص من عبء عديم الصلاحيات، وتم ذات يوم تعليق منشور على السبورة النقابية من بضعة أسطر كتب بالخط العريض: "لقد تم إعفاء المفتش (مرجان) من مهام التفتيش بالمنطقة"، هكذا طويت صفحة يتذكرها الجميع بالتهكم على سخرية الأقدار، من كائن مجهري خال نفسه ذا شأن ومقدار...!