المصطفى سالمي
كاتب
كان المفتش مرجان أحجية وأعجوبة بين أوساط المدرسين، فبقدر فشله حين كان مدرسا، كان أفشل ـ بأسلوب التفضيل ـ وهو يمارس الإشراف التربوي. كان يحب أن يتسمى بلفظ: "المفتش التربوي" لأن هذا اللفظ يدل على السطوة البوليسية وعلى الترصد والمراقبة في أقوى صورها، كان يزور المدرس ـ الذي ينوي له على نية شريرة كما يقال ـ مرتين أو ثلاثا في اليوم الواحد دون كتابة تقارير عن زياراته. بينما كانت لقاءاته أو اجتماعاته بالمدرسين يخصصها لسرد أطوار من سيرته الذاتية، فتارة يتحدث عن استدعائه لندوة تربوية أو لإلقاء محاضرة في جامعة خارج أرض الوطن، وأنه لبى الدعوة وفمه ينزف دما بعد أن اقتلع ضرسا لعينا حتى لا يقال: "المفتش مرجان ليس لديه ما يقوله في مجال المعجم"، وتارة يتحدث على أنه جلس على نفس الكرسي التي كان يجلس عليها نجيب محفوظ في أشهر مقهى للأدباء بالقاهرة. وتارة يتحدث عن صفعه لدركي سأله عن بطاقة تعريفه الشخصية وهو في الطريـق إلى مقر عمله...
حكايات كثيرة كان المدرسون مجبرين على سماعها، لكن الأمور لا تبقى على حال واحدة، مرت سنوات وانتقلت كثير من الوجوه لتحل محلها أخرى، حل نوع متمرد من المدرسين، وكان صاحبنا يتوهم أن الزمن سيستمر في التسبيح بحمده، وأن هلع كبار السن من المدرسين من مجرد لفظ (المفتش) يعني الاستمرار في التسلط على الرقاب، وكبرت نفسه في عينيه، وفي الحقيقة كان الجيل القديم من المدرسين قد تربى على القهر والخوف في أزمنة سطوة المخزن والمعتقلات والدهاليز السرية. لكن أجيال التمرد في الجامعات وحلقات النضال حمل إلى عالم التدريس أفواجا جديدة عانقت عوالم البطالة وكرهت رجالات المخزن الفاسدين المفسدين. كان الصدام الأولي مع الوجوه الجديدة حين طالب المفتش مرجان أحد المدرسين بإنجاز حصة دراسية يوم السبت حيث يخلو جدول هذا الأستاذ من الدروس، ومبرر المفتش في ذلك أن عليه الانتقال لمنطقة أخرى بعيدة وأنه لا يتحمل الانتظار في الفندق ليوم الاثنين الموالي، فرد عليه المدرس الشاب بأنه لن يطرق أبواب منازل التلاميذ لتجميعهم ليوم هو أصلا خارج جدول عمله، وأن هذه ليست مهمته، فهدد صاحبنا الشاب حديث العهد بالتدريس بأنه سيقطع عنه الراتب، لم يتملك الخوف أو الرهبة الشاب كما كان كبار السن يفعلون، ورد على المفتش قائلا: (هل ستقطع عني مصروف أبي يا هذا؟!)، وكان المدرس الشاب وقتها لا يتلقى أي راتب، باعتبار أن الرواتب لا تصرف إلا بعد مرور بضعة أشهر على الالتحاق بالوظيفة، ولم يكد صاحبنا يستوعب الصدمة الأولى حتى تلقى صدمة أكبر حين طرده مدرس ثانٍ من الفصل بعد أن قاطعه السيد "مرجان" أثناء الدرس من أجل تنبيهه إلى جزئية في الحصة تعمد المدرس تأخيرها لحصة ثانية. وفي نفس الأسبوع صدم مدرس ثالث صاحبَنا داعيا إياه إلى التزام أدب الحوار مع المدرسين وعدم استعمال ألفاظ مخلة بالأدب. لم يجد المفتش مرجان من سلاح سوى النقطة لاسترجاع هيبته حسب اعتقاده، وبدأ بتخفيض النقط التقديرية التي هي في هذا الوقت مهمة في معايير الانتقال من منطقة لأخرى فضلا عن أدوار أخرى لها في الترسيم والكفاءة والترقية..
اجتمع الأساتذة ذات يوم من أيامهم المشهودة ليقرروا كتابة "تظلم" للسيد النائب الإقليمي يشتكون فيه من سلوكيات مفتش من الزمن الغابر. توالت أسابيع الانتظار دون جدوى. فقرر الأساتذة الاجتماع في مقر حزبي ليخرجوا بقرار تصعيدي يتمثل في عدم استقبال هذا المفتش في الفصل أو حضور اجتماعاته خاصة بعد أن طالبهم بعدم إنجاز المواضيع الوطنية في مهارة التعبير والإنشاء، بزعم أنها تخدم النظام، نفد المدرسون القرار رغم تشكيك البعض في مقدرتهم على الالتزام الكلي به. كان القرار يلزم الجميع بالامتثال، وأن أي خروج عن الإجماع يعرض صاحبه لتحمل المسؤولية كاملة، وأن الجماعة لن تحميه من أي تعسف مستقبلي من مفتش متقلب مزاجي ومتسلط.
كانت تلك الأيام لا نظير لها، فقد امتد صداها في كل المنطقة، وقف كل مدرس أمام باب فصله الدراسي معلنا استحالة الدخول على المفتش مرجان، كان صاحبنا عند كل منع يصبح لونه في حمرة الطماطم ووجهه في انتفاخ الباذنجان. انضمت النقابات وبعض الصحف للحرب المعلنة بين المفتش والمدرسين، وعلى الفور تمّ إيفاد لجنة وزارية للتحقيق في الأمر، وانتهى الأمر بإعفاء مفتش من زمن الاستبداد وإلحاقه بأرشيف إحدى المكتبات العامة، لتطوى صفحة من التفتيش التربوي وتحل محلها مرحلة جديدة من الإشراف والتوجيه والمراقبة.
حكايات كثيرة كان المدرسون مجبرين على سماعها، لكن الأمور لا تبقى على حال واحدة، مرت سنوات وانتقلت كثير من الوجوه لتحل محلها أخرى، حل نوع متمرد من المدرسين، وكان صاحبنا يتوهم أن الزمن سيستمر في التسبيح بحمده، وأن هلع كبار السن من المدرسين من مجرد لفظ (المفتش) يعني الاستمرار في التسلط على الرقاب، وكبرت نفسه في عينيه، وفي الحقيقة كان الجيل القديم من المدرسين قد تربى على القهر والخوف في أزمنة سطوة المخزن والمعتقلات والدهاليز السرية. لكن أجيال التمرد في الجامعات وحلقات النضال حمل إلى عالم التدريس أفواجا جديدة عانقت عوالم البطالة وكرهت رجالات المخزن الفاسدين المفسدين. كان الصدام الأولي مع الوجوه الجديدة حين طالب المفتش مرجان أحد المدرسين بإنجاز حصة دراسية يوم السبت حيث يخلو جدول هذا الأستاذ من الدروس، ومبرر المفتش في ذلك أن عليه الانتقال لمنطقة أخرى بعيدة وأنه لا يتحمل الانتظار في الفندق ليوم الاثنين الموالي، فرد عليه المدرس الشاب بأنه لن يطرق أبواب منازل التلاميذ لتجميعهم ليوم هو أصلا خارج جدول عمله، وأن هذه ليست مهمته، فهدد صاحبنا الشاب حديث العهد بالتدريس بأنه سيقطع عنه الراتب، لم يتملك الخوف أو الرهبة الشاب كما كان كبار السن يفعلون، ورد على المفتش قائلا: (هل ستقطع عني مصروف أبي يا هذا؟!)، وكان المدرس الشاب وقتها لا يتلقى أي راتب، باعتبار أن الرواتب لا تصرف إلا بعد مرور بضعة أشهر على الالتحاق بالوظيفة، ولم يكد صاحبنا يستوعب الصدمة الأولى حتى تلقى صدمة أكبر حين طرده مدرس ثانٍ من الفصل بعد أن قاطعه السيد "مرجان" أثناء الدرس من أجل تنبيهه إلى جزئية في الحصة تعمد المدرس تأخيرها لحصة ثانية. وفي نفس الأسبوع صدم مدرس ثالث صاحبَنا داعيا إياه إلى التزام أدب الحوار مع المدرسين وعدم استعمال ألفاظ مخلة بالأدب. لم يجد المفتش مرجان من سلاح سوى النقطة لاسترجاع هيبته حسب اعتقاده، وبدأ بتخفيض النقط التقديرية التي هي في هذا الوقت مهمة في معايير الانتقال من منطقة لأخرى فضلا عن أدوار أخرى لها في الترسيم والكفاءة والترقية..
اجتمع الأساتذة ذات يوم من أيامهم المشهودة ليقرروا كتابة "تظلم" للسيد النائب الإقليمي يشتكون فيه من سلوكيات مفتش من الزمن الغابر. توالت أسابيع الانتظار دون جدوى. فقرر الأساتذة الاجتماع في مقر حزبي ليخرجوا بقرار تصعيدي يتمثل في عدم استقبال هذا المفتش في الفصل أو حضور اجتماعاته خاصة بعد أن طالبهم بعدم إنجاز المواضيع الوطنية في مهارة التعبير والإنشاء، بزعم أنها تخدم النظام، نفد المدرسون القرار رغم تشكيك البعض في مقدرتهم على الالتزام الكلي به. كان القرار يلزم الجميع بالامتثال، وأن أي خروج عن الإجماع يعرض صاحبه لتحمل المسؤولية كاملة، وأن الجماعة لن تحميه من أي تعسف مستقبلي من مفتش متقلب مزاجي ومتسلط.
كانت تلك الأيام لا نظير لها، فقد امتد صداها في كل المنطقة، وقف كل مدرس أمام باب فصله الدراسي معلنا استحالة الدخول على المفتش مرجان، كان صاحبنا عند كل منع يصبح لونه في حمرة الطماطم ووجهه في انتفاخ الباذنجان. انضمت النقابات وبعض الصحف للحرب المعلنة بين المفتش والمدرسين، وعلى الفور تمّ إيفاد لجنة وزارية للتحقيق في الأمر، وانتهى الأمر بإعفاء مفتش من زمن الاستبداد وإلحاقه بأرشيف إحدى المكتبات العامة، لتطوى صفحة من التفتيش التربوي وتحل محلها مرحلة جديدة من الإشراف والتوجيه والمراقبة.