محمد بن ربيع الغامدي
كاتب
قلت لزوجتي وأبنائي ونحن على أبواب هجرة عكسية: هل سيأخذكم الحنين يوما إلى هذه المدينة؟ أجابوا كلهم نعم، وأنا معهم قلت نعم. هذه مدينة عشت فيها جلّ حياتي وفيها أبْصَرَتْ زوجتي النور وفيها تزوجنا وفيها أنجبنا. تشربت مسامنا ترابها وماءها وهواءها، هي منّا ونحن منها فكيف لا نشتاق إليها إذا تركناها غدا؟ نعم كانت هي مدينة منفى؛ نُفي إليها أبي وعمي، أرغما على الانتقال إليها والعيش فيها، تركوا ديارهم وجاءوا هنا غرباء، فرض عليهم الاستعمار غربة لا يد لهم فيها. فَصَل عيونهم عن وجوه أحبتهم ثم طوّح بهم في هذه المدينة البعيدة عن مدينتنا، أبعدهم عدة عقود بل أبعدهم حتى ماتوا هنا، لكن المُدُن العظيمة تستدني القلوب قبل الأجساد، تجعل من أرضها ومن سمائها بديلا لمدائن سرقها عدو، المُدُن العظيمة تتسع لكل الناس.
قالت لي ابنتي الكبرى: ما تركت زاوية في بيتنا إلا وصوّرتها ولا شارعا في المدينة إلا صورته ولا موضع ذكرى فيها إلا وصورته، قلت لها: والدكان الذي عمل فيه جدّاك أول غربتهما؟ قالت: وهو، ودكانهما الثاني، وبيتهما الأول كل ذلك صوّرته. قالت زوجتي عندما جاءت سيرة الدكان: دكان أبي وأبيك من أعرق ذكرياتي، رائحته باقية في أنفي وأصوات زبائنه مسجلة في سمعي ومشاهده عالقة بذهني، وعندما كبرت كنت أشاركهما البيع، كنت مثلهما أحسن البيع وأتفهم حاجات الزبائن. تذكرتني زوجتي فاستدركَتْ: وأنت أيضا، أليس كذلك؟ أجبت: بلى، ثم أضفت منظّرا: ما الذكريات إلا روائح وأصوات ومشاهد. قالت ابنتي: كنت سأسألكما ما إذا كان الدكان باق على حاله، هل حالته الآن هي حالته نفسها عندما عمل فيه جدّاي؟ قلت نعم. وقالت زوجتي نعم، لم يتغير فيه شيء.
قال ابني الأوحد: هل سنغادر هذه المدينة ثم لا نعود إليها؟ قلت وأنا أحدق في الغد: قد نعود وقد لا نعود، التفتُّ نحوه وقلت: هذا يتوقف على حالتنا هناك. لم يفهموا شيئا مما عنيت، زوجتي وأبنائي، جميعهم ما فهموا شيئا مما قلت، كانت أعينهم تتنقل بين بعضهم البعض من جهة وبيني وبينهم من جهة، كأنما كانت عيونهم تستحلب جوابا من الفضاء الذي يحتوينا في تلك اللحظة. قلت لهم لعلي أجلو الحيرة عنهم: بيتنا هناك مهجور منذ عقود، منذ نفى المستعمر أبي وعمي، والبيت المهجور يحتاج إلى صيانة، ونحن رهن تلك الصيانة، إن طلبت مالا كثيرا بعنا هذا البيت، وإن لم تطلب فقد سلم هذا وسلم ذاك.
قالت ابنتي الصغرى: سنتحرّق شوقا في كل حال، لكن أن بقي هذا البيت لنا فسوف يكون ملاذا آمنا لأشواقنا نعود إليه كلما استبدت بنا، ابتسمت زوجتي وهي تقول: وما يدريكم؟ لعل الحياة هناك تأخذنا بالكامل، تملأ فراغات الذاكرة فلا تترك متسعا لذكرياتنا في هذه المدينة ولا تترك حتى خلية واحدة من خلايا الذاكرة يستقر فيها هذا البيت. أضافت وهي تضحك: خاصة لو فتحنا غرفة الجبصين هناك وكشفنا أسرارها. ضَحِكْتُ أنا وانتبهَتْ في داخلي غرفة الجبصين بعد أن نامت فيه عقودا كاملة، ضحكت وقلت: من يسمع الحديث عن غرفة الجبصين تلك يعتقد أنها غرفة اسرار الفرعون توت عنخ آمون. قلت ذلك وضحكنا جميعنا.
بزغ فضول ابني من تحت ركام ضحكتنا المجلجلة تلك، قال: غرفة الجبصين تلك غرفة حقيقية، موجودة في بيتنا هناك، سمعت جدتي تحدث أمي عنها ذات يوم، كانت آخر كلماتها لأمي: "المرحوم عمّك كان يخبئ فيها شيئا، كان يخبئ فيها سرّا لا يسمح لأحد بأن يراه، المرحومان أبوك وعمك يعرفان السر وما عداهما لا". أتم ابني عبارته ثم توجه بكامله نحوي: الغرفة مؤكدة يا أبي والسر مؤكد، لكني لا أدري إن كنت تعرفه أم لا؟ قلت له ولهم: أتذكر غرفة داخل معمل الجبس الذي يعمل فيه أبي وعمي، كان دخول هذه الغرفة محرما إلا عليهما، كنت أنا في بداية المرحلة الابتدائية لم أبلغ التاسعة بعد.
قالت ابنتي الكبرى: صبي التاسعة يدرك ما يرى يا أبي، ليتك سألتهما أو ليتك اقتحمت أسوارها، قلت لها ولهم: رأيتها، رأيتها مليئة بالخشب والمسامير، أتذكر أن شرطة المحتل قد جاءت وسألت عنها، شاع ذكرها بين الناس والمحتل عنده حساسية من كل شيء، حساسية السارق المغتصب، لذلك جاءوا، طلبوا فتحها، فتحها لهم فلم يجدوا سوى الخشب، قال لهم هذه الأخشاب نصنع منها قوالب لصب الجبس، أخشاب مليئة بالمسامير الجارحة، لذلك منعت الدخول إليها، لا يدخلها غيري وغير أخي، طاف العسكر داخلها، قلبوا الخشب، نقلوه من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين فلما لم يجدوا شيئا تركونا وانصرفوا، هذا المشهد لا أنساه أبدا.
قالت زوجتي: المرحومتان أمي وأمك أكدتا لي أن سبب نفي زوجيهما إلى هذه المدينة كان بسبب تلك الغرفة، قلت لها كلا، قرار النفي كان بشبهة التعاون مع المقاومة، إيواء المخربين كما يسمون المقاومة آنذاك، قرار النفي قرأته شخصيا، بقي مع أبي وعمي إلى عهد قريب. قلت لهم وقد مضى الليل: حادثة النفي مضى عليها حتى الان خمسين عاما وتزيد، وأنا قد تجاوزت الستين بسنوات، أمامنا غدا سفر طويل، دعونا نفكر بالسفر وننسى أحداثا وقعت منذ عقود، وبالنسبة لغرفة الجبصين كما تقولون فإنها باقية هناك، يفصل بيننا وبينها أربعة أيام فقط، أربعة أيام نقطع فيها القفار والفيافي فإذا استقرت أقدامنا هناك فتحت لكم غرفة توت عنخ آمون التي شغلت أفكاركم.
دخلت لأنام، ارتميت على فرشة على الأرض فأنا مرهق تماما، أمضيت أكثر من عشرة أيام أرتب للسفر، أتممت اليوم كل شيء وشحنت أثاث البيت لذلك جاءت ليلتنا هذه غير عادية، ليلة بلا مراتب ولا أغطية ولا وسائد. انقلبت على شقي الأيمن، تذكرت غرفة الجبصين، قلت لنفسي: عائلتي محقة في الاهتمام بها لكني أحاول صرفهم عن التفكير فيها. حاولت الاستسلام للنوم دون جدوى، عادت هواجس غرفة الجبصين تحلق في سمائي ثانية، قلت في داخلي: لو لم يكن في غرفة الجبصين تلك شيء ما لما جاء العسكر أربع مرات، قلت لهم منذ قليل جاءوا مرة فقط وهي أربع، أربع مداهمات قام بها عسكر المحتل، عسكر متمرّس في البحث والتدقيق والتحرّي، لم يدفعهم لذلك إلا أمر مهم، لكن أبي وعمي كانا أذكى من عسكر العدو.
ملت على ظهري قليلا وقلت في داخلي: لم تكن الأخشاب والمسامير موجودة عندما دخلتها أول مرّة، دخلتها ذات يوم وأبي وعمي في شغل شاغل مع الجبس، دخلتها بلا هدف وأنا في الخامسة أو السادسة من عمري، كانت خالية تماما عندما دخلت ومع ذلك فقد أسرع أبي وعمي نحوي، صاحا بصوت واحد أخرج، لا تدخل. خرجت بعد ان قرصني أبي قرصة كأنها جمرة غضى كاوية، لم يكن في الغرفة أخشاب ولا مسامير، ولم يكن فيها شيئا يخافان عليه، غرفة لا شيء فيها فلماذا خوف أبي وعمي منها ولماذا خوفهما عليها؟ على كل حال تلك أمة قد خلت لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، أمامي سفر طويل وقيادة قارية بعيدة المدى.
أصبح الصباح، كنت أحمل همّ إيقاظهم لكني فوجئت بهم على مطلع النور شهود، تناولت معهم طعاما على عجل، قالت زوجتي بأنّ الطريق عامر بالمطاعم والبقالات والمحطات لذلك أكلنا أكل شبعان، سبقتهم إلى السيارة، أدرت محركها وبقيت في انتظارهم، تأخروا كثيرا، نظرت باتجاه البيت فإذا بهم جميعا واقفون ببابه، متشبثون بحائطه تشبث الحجّاج بجدار الكعبة، نزلت من السيارة وأخذت طريقي نحوهم، صرخت: يا إلهي، فيم التصاقكم بجدار البيت؟ لم يتحرك منهم أحد وكأنما قد شدهم على الحائط ملاط بيد معماري حاذق. تقدمت نحوهم، شرعت في إزاحتهم واحدا بعد الآخر، أزحت ولدي فابنتي الصغرى فالكبرى فزوجتي، رأيت دموعهم تبلل وجوههم والحائط وملابسهم أيضا، تكسّر البكاء في صدري، أشحت بوجهي عنهم مخافة أن يروا أدمعي.
مشينا في طريقنا بأعين دامعة، كنا مثل أم أخذوا منها طفلها عنوة، ذكرتهم بالمرحومين أبي وعمي، قلت لهم: خرجا من مدينتهما عنوة، خرجا دون معرفة إلى أين وماذا ينتظرهم ومع ذلك وجدوا حضن مدينة رؤوم. قلت لهم مهدئا: سنعود مرارا وتكرارا فلم البكاء، أبي وعمي كانوا كمن يخرج من داره معصوب العينين ومع ذلك واجهوا أقدارهم بقلوب مؤمنه، واجهوها بعقول مفتوحة فالإنسان هو الانسان، كائن لا يضيع أبدا إلا إذا رغب هو أن يضيع، الأماكن لا تصنع البشر بل هم من يصنع الأماكن، تقوم بيننا وبين الأماكن علاقات حميمة ثم نتركها لتصبح ذكرى جميلة، علاقة تقوم على أنقاض علاقة ودفتر الذكريات الجميلة تتزايد صفحاته. توقفت عن الكلام إذ بدا لي أن كلامي قد وصل إليهم كاملا وعادت الحياة إلى داخل السيارة.
سألتْ ابنتي الصغرى عن أمتعة البيت، هل ستسبقنا أم سنسبقها؟ قال أخوها: سيارة النقل انطلقت منذ الأمس، سيارات نقل الأثاث لا تتوقف عادة، لذلك أتوقع وصولهم قبل أن نصل. سمعتْ زوجتي ذلك الحديث، خشيتْ أن تسبقنا سيارة العفش فلا تجدنا وعندها تكون ربكة كبيرة. قلت لها: ليست هناك ربكة أبدا، هاتفهم الجوال معي وهاتفي معهم وما دامت الهواتف النقالة بين أيدينا فلا خوف. تجاذبنا أطراف الحديث حول الهاتف الجوال، حمدنا له ما يقدم من خدمة للناس، وما يحققه لهم من اطمئنان على أبنائهم وعلى محبيهم في الإقامة والسفر. كلنا كنا نشيد بالهاتف الجوال إلا زوجتي، قالت بأنّه قد أصابنا بالتوتر والقلق، رأت أيضا أنّه قد فصم عرى العلاقة بين الناس وشغل البنين عن أهلهم وعن مصالحهم. قلت لها: وأزيدك من الشعر بيتا، كثير من الحوادث المهلكة كانت بأسبابه.
وقف أبنائي موقفا محايدا ملأني بهم فخرا، قالت ابنتي الكبرى: هو سلاح ذو حدين، وقال: ابني: كل آلة فيها النفع وفيها الضرر حتى سكين المطبخ فيها ضرر وفيها نفع، وقالت ابنتي الصغرى دعما لأخيها: والماء أيضا، الماء الذي فيه حياة الكائنات له أضرار لا تخفى على الناس. قلت لهم خارج إطار حديثنا: بنزين السيارة على وشك النفاذ فإذا رأيتم محطة وقود فذّكروني بها. عدنا للحديث عن الهاتف الجوال فقالت زوجتي: المسألة ليست مسألة ضرر ونفع، كل آلة فيها ضرر وفيها نفع، لكن المسألة كيف نأخذ المنافع وكيف نتجنب المضار؟ قلت: نحتكم في ذلك إلى العقل، لا يمكن للعقل أن يقود صاحبه إلى الهاوية، وقد سمّوه عقلا لأنه يعقل جماح النفس فلا تتهور ولا تلقي بصاحبها إلى التهلكة.
هذه الفكرة قد استخرجت درّة ثمينة من عمق خزائن ولدي حين قال: سبحان الله العظيم الذي وصف النفس بأنّها أمارة بالسوء، قلت له أرأيت؟ قرار الانسان تتنازعه نفسه وعقله، نفس الانسان تستلذ بأكل السكريات مثلا لكن عقله يقول له توقف، لو تمكن منك السكري لأعطب فيك كل شيء، كل جهاز فيك تتدنّى كفاءته مع مرض السكر، قالت ابنتي الصغرى حماكم الله جميعا من السكر. في هذه الأثناء لمحت زوجتي لوحة كأنها ترشد إلى محطة وقود، سألتها: كم يفصل بيننا وبينها من الطريق؟ قالت: لم أنتبه. قلت: لا بأس، المسافات عادة بالأمتار ولدينا ما يكفي لمسافات أبعد. قطعنا مسافة طويلة قبل أن نجد المحطة وقبل أن نتضجر ظهرت لوحة تقول: محطة بنزين بعد ألف متر.
قلت: يبدو أن اللوحة السابقة كانت ثلاثة آلاف متر، قالت زوجتي: يبدو ذلك. وصلنا المحطة أخيرا، توقفت فيها وطلبت وقودا، خرج كل رفاقي وانتشروا خارج السيارة، كان على هامش المحطة متجرا لبيع المواد الغذائية فتوافدوا إليه، شربت السيارة ماء الحياة حتى ارتوت فأدرتها وتقدمت نحو المتجر، لحقت بهم هناك، كان المتجر متوسط الحجم لكنه حوى كل فن، تجولنا في أطرافه، رأيت فيه سلعا كنت أبحث عنها في المدينة فلا أجدها، اشترينا ما نحتاج وخاصة قِنان الماء المبرد، وبعض المعلبات التي تقيم الأود، عدنا جميعنا للسيارة، ركبنا فأدرت محركها وانطلقت تتهادى بنا على اسم الله، تولانا صمت لا يقطعه إلا صوت أكل أو شرب، كنا جوعى وعطشى ولا ملامة علينا في ذلك.
سرنا المسافات الطويلة نتجاذب أطراف الحديث كما يفعل سائر المسافرين، وصلنا إلى ضاحية صغيرة فيها استراحة نظيفة وليست كل استراحات الطريق نظيفة، هذه قد أوصانا بها جارنا الذي يعرف الطريق واستراحاته. بحثنا عنها باسمها حتى وجدناها، وجدناها نظيفة بالفعل على وصف جارنا الطيب. طلبنا شقة مناسبة آوينا إليها، كان الوقت على آخر النهار فأقمنا حتى صباح اليوم التالي. نمت نوما كافيا وافيا لكني استيقظت مكسور الخاطر، كان الهمّ باديا على وجهي فأدركت زوجتي ذلك. اقتربت مني في خفة ولطف ونحن نغادر الاستراحة، قالت أراك مكسور الخاطر ما بك؟ قلت وأنا أخبئ عنها الواقع: حالة حزن عابرة ستنجلي في الطريق، تذكرت أبي وعمي وأمي وخالتي.
قبلت مني زوجتي ما قلت، لكني في واقع الأمر رأيت رؤيا قلقت لها كثيرا، رأيت كأن زوجتي وأبنائي نائمون على حمادة صخرية في قلب الصحراء، ورأيت أني أدور عليهم أنضحهم بالماء المثلّج ليستيقظوا، وقد فسرته بان السيارة ستنقلب بهم وسوف يموتون وأنجو أنا وحدي. وجدت أنّه ليس من الحكمة في شيء أن أخبرهم، لذلك كذبت على زوجتي. قلت في نفسي لا بد أن أعقل وأتوكل، سأقود السيارة بهدوء وحذر ولن نغير من أمر الله شيئا إذا أمر. عقدت العزم على مقاومة الانكسار، وعلى دفن الهم في صدري حتى لا يراه أحد على وجهي، ثم ركبنا سيارتنا على اسم الله وانطلقنا في آخر مراحل الطريق الذي قسمناه على مرحلتين.
اقترحت عليهم أن نصدح بالغناء، فقد أدركت في قرارة نفسي أنّه الحل الأمثل لانقشاع الغيم من على وجهي، وفيه أيضا تطمين لزوجتي فلربما أنّها لم تقتنع في قرارة نفسها بما قلت. اقترحت ذلك لكني أعطيتهم مطلق الحرية في المشاركة، من كان مزاجه عاليا فليشارك، ومن كان تحت تأثير النوم فلينم. قلت ذلك ثم أضفت موضحا خطة الغناء: سأغني منفردا وعند الإعادة نغني سويا، وهكذا قلت: طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع، وجب الشكر علينا ما دعا لله داع. أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع، جئت شرّفت المدينة مرحبا يا خير داعي. وما أن أتممت دوري حتى رددوا ورددت معهم هذه الأغنية الأثيرة عندنا جميعا.
وصلنا أطراف مدينتنا الأم، مدينتنا التي تحررت من ربقة المحتل، خيّل إليّ أن تلك العمائر والمآذن قد رأيتها من قبل وعندما أخبرتهم عن إحساسي هذا قالت زوجتي: لعلها روحك كانت تغادر جسدك أثناء النوم فتأتي لتطوف على هذه المدينة التي فيها نيطت عليك تمائمك. كان كلامها مقبولا عندي فأنا لست ماديا، أدرك أن في الحياة ما هو أبعد من أن يقاس بمساطر مادية. لم نشأ أن ننشغل عن تملّي مدينتنا الأم، كنا نتمهل إذا راق لنا التمهل لكن اقتراب الليل لم يسمح لأنفسنا بما تشتهي. اتفقنا على النزول في أول فندق نقابله في طريقنا، ونحن محقّون في ذلك. بيتنا مهجور منذ نصف قرن إلا قليلا، ثم أنّه لا أحد منا يعرف مكانه.
طابت لنا الإقامة في الفندق الذي يتوسط المدينة كما علمنا، ومنه بدأت التواصل مع ابن خالي. ابن الخال هذا قريب من سنّي وهو همزة الوصل الوحيدة بيننا وبين مدينتنا الأم، كان مفتاح بيتنا أمانة عند أبيه فلما مات انتقلت الأمانة عند الابن. فرح كثيرا بوصولنا وضربنا بيننا موعدا في غداة الغد، نلتقي ثم نعاين بيتنا سويا. بتنا ليلتنا تلك في الفندق، قضينا شطرا منها في شبابيكه المطلة على مدينتنا الأم من علٍ، كنت أنا الوحيد الذي أشعر ببعض الحنين إلى هذه المدينة أما البقية فلا، لا أحد منهم يحنّ إليها فليس لهم فيها من حياة أبدا، كانوا مثل موظفين جدد جرى تعيينهم في مدينة أخرى، أقبلوا عليها وقبلوا بها نزولا عند لقمة العيش التي لا تجامل.
خرجت مع ابن خالي في ضحى اليوم التالي، أخذني بسيارته حتى وقف ووقفت معه أمام باب البيت، سألني إن كان الباب باق في ذاكرتي قلت له نعم، الباب باق والبيت باق وحتى الشارع المؤدي إليه لم يتغير كثيرا. دخلنا البيت فتفتحت أكمام ذاكرتي كما تتفتح أكمام زهرة، ما شعرت أن غيابي عن جنباته قد بلغت نصف القرن، كل شيء كان في مكانه كما وسمته عيني قبل النفي. كان البيت نظيفا وإن بدت حجراته أصغر مما كان، لكنه قابل للسكنى ولو شئنا لنزلنا فيه الآن، رأيت أن أجدد دهاناته وأرمم بعض عيوبه، غير أني قررت أن أفتح غرفة الجبصين أمام زوجتي وأولادي ليعرفوا أنها غرفة خاوية ليس فيها الا الغبار.
أرسلت موقع البيت لولدي، قلت له أن يأخذ سيارتي وبقية أهلي ويأتي. هؤلاء الشباب أقدر وأسرع في فهم تقنيات العصر. ماهي إلا دقائق حتى وصلوا ودخلوا معي إلى قلب البيت، نشبت عبرة في حلق زوجتي، بررت ضعفها الإنساني ذلك بأنّها تجد رائحة أبيها وأبي وأمها وأمي. قلت لهم البيت نظيف لكننا سنجدد دهاناته ونرمم ما هرم منه ثم نسكن، أضفت: والان سنذهب سويا إلى غرفة الجبصين، إلى غرفة الأسرار والكنوز، كنوز الفرعون توت عنخ آمون. ذهبنا للغرفة، وقفنا أمام بابها، تحسسنا قفلها الكبير الذي لا مفتاح له، هويت عليه بمطرقة ثقيلة فانكسر ودخلنا. دخلنا فوجدنا فيها بضعة ألواح من الخشب ولا شيء غير ذلك سوى الغبار، تركناها للغبار وخرجنا.
لاحظت ابنتي الكبرى ملاحظة غيّرت قناعاتي كلها بعد ذلك، ملاحظات غابت حتى عن عسكر الاحتلال في مداهماتهم لغرفة الجبصين هذه. قالت بعد أن رأت جدار الغرفة المطل على الفناء: طول هذا الحائط لا يناسب عمق الغرفة يا أبي، قلت لها: كيف؟ لم أفهم. فتحنا باب الغرفة ثانية، وقفت عند صدر الغرفة وشرعت تشرح لي الفكرة. تحققت من الأمر، دخلت الغرفة ثم خرجت وعاينت الجدار، تأكد لي صواب ما قالت بل ذكاء ما وصلت إليه، غرفة الأخشاب تشغل ثلثي الغرفة بينما الثلث الباقي محجوب عنّا، الجدار الذي في صدر الغرفة يحجب عنا ذلك الثلث الباقي، لو أزلنا ذلك الجدار لظهرت لنا بقية الغرفة.
قررنا كسبا للوقت وتوفيرا للجهد أن نفتح ثقبا واسعا في الحائط بدلا من هدمه، شرعنا في تنفيذ الفكرة وفتحنا الثقب، أخذ الحائط يتهاوى شيئا فشيئا ثم سقطت كتلة كبيرة منه دفعة واحدة. تراجعنا للخلف حفاظا على سلامتنا، حاولنا رؤية شي لكن كثافة الغبار والظُلمة ما سمحا بذلك، انتظرنا أن ينقشع الغبار. بدأ الغبار ينجلي ليشفّ عن منظر هالنا تماما، عشرات الوجوه التي صُنعتْ من الجبس، وجوه لرجال ونساء تمتلئ بها الغرفة. سكن الغبار فدخلنا، فتحنا مصابيح هواتفنا، سرت فينا رعدة لمنظر الوجوه، وجوه مشرقة تنبض بالحياة رغم أنها من الجبس، ثلاثون رجلا وتسع نساء وطفل واحد كلهم من أبناء المدينة، تحت كل وجه اسم صاحبه وتاريخ استشهاده.
قالت لي ابنتي الكبرى: ما تركت زاوية في بيتنا إلا وصوّرتها ولا شارعا في المدينة إلا صورته ولا موضع ذكرى فيها إلا وصورته، قلت لها: والدكان الذي عمل فيه جدّاك أول غربتهما؟ قالت: وهو، ودكانهما الثاني، وبيتهما الأول كل ذلك صوّرته. قالت زوجتي عندما جاءت سيرة الدكان: دكان أبي وأبيك من أعرق ذكرياتي، رائحته باقية في أنفي وأصوات زبائنه مسجلة في سمعي ومشاهده عالقة بذهني، وعندما كبرت كنت أشاركهما البيع، كنت مثلهما أحسن البيع وأتفهم حاجات الزبائن. تذكرتني زوجتي فاستدركَتْ: وأنت أيضا، أليس كذلك؟ أجبت: بلى، ثم أضفت منظّرا: ما الذكريات إلا روائح وأصوات ومشاهد. قالت ابنتي: كنت سأسألكما ما إذا كان الدكان باق على حاله، هل حالته الآن هي حالته نفسها عندما عمل فيه جدّاي؟ قلت نعم. وقالت زوجتي نعم، لم يتغير فيه شيء.
قال ابني الأوحد: هل سنغادر هذه المدينة ثم لا نعود إليها؟ قلت وأنا أحدق في الغد: قد نعود وقد لا نعود، التفتُّ نحوه وقلت: هذا يتوقف على حالتنا هناك. لم يفهموا شيئا مما عنيت، زوجتي وأبنائي، جميعهم ما فهموا شيئا مما قلت، كانت أعينهم تتنقل بين بعضهم البعض من جهة وبيني وبينهم من جهة، كأنما كانت عيونهم تستحلب جوابا من الفضاء الذي يحتوينا في تلك اللحظة. قلت لهم لعلي أجلو الحيرة عنهم: بيتنا هناك مهجور منذ عقود، منذ نفى المستعمر أبي وعمي، والبيت المهجور يحتاج إلى صيانة، ونحن رهن تلك الصيانة، إن طلبت مالا كثيرا بعنا هذا البيت، وإن لم تطلب فقد سلم هذا وسلم ذاك.
قالت ابنتي الصغرى: سنتحرّق شوقا في كل حال، لكن أن بقي هذا البيت لنا فسوف يكون ملاذا آمنا لأشواقنا نعود إليه كلما استبدت بنا، ابتسمت زوجتي وهي تقول: وما يدريكم؟ لعل الحياة هناك تأخذنا بالكامل، تملأ فراغات الذاكرة فلا تترك متسعا لذكرياتنا في هذه المدينة ولا تترك حتى خلية واحدة من خلايا الذاكرة يستقر فيها هذا البيت. أضافت وهي تضحك: خاصة لو فتحنا غرفة الجبصين هناك وكشفنا أسرارها. ضَحِكْتُ أنا وانتبهَتْ في داخلي غرفة الجبصين بعد أن نامت فيه عقودا كاملة، ضحكت وقلت: من يسمع الحديث عن غرفة الجبصين تلك يعتقد أنها غرفة اسرار الفرعون توت عنخ آمون. قلت ذلك وضحكنا جميعنا.
بزغ فضول ابني من تحت ركام ضحكتنا المجلجلة تلك، قال: غرفة الجبصين تلك غرفة حقيقية، موجودة في بيتنا هناك، سمعت جدتي تحدث أمي عنها ذات يوم، كانت آخر كلماتها لأمي: "المرحوم عمّك كان يخبئ فيها شيئا، كان يخبئ فيها سرّا لا يسمح لأحد بأن يراه، المرحومان أبوك وعمك يعرفان السر وما عداهما لا". أتم ابني عبارته ثم توجه بكامله نحوي: الغرفة مؤكدة يا أبي والسر مؤكد، لكني لا أدري إن كنت تعرفه أم لا؟ قلت له ولهم: أتذكر غرفة داخل معمل الجبس الذي يعمل فيه أبي وعمي، كان دخول هذه الغرفة محرما إلا عليهما، كنت أنا في بداية المرحلة الابتدائية لم أبلغ التاسعة بعد.
قالت ابنتي الكبرى: صبي التاسعة يدرك ما يرى يا أبي، ليتك سألتهما أو ليتك اقتحمت أسوارها، قلت لها ولهم: رأيتها، رأيتها مليئة بالخشب والمسامير، أتذكر أن شرطة المحتل قد جاءت وسألت عنها، شاع ذكرها بين الناس والمحتل عنده حساسية من كل شيء، حساسية السارق المغتصب، لذلك جاءوا، طلبوا فتحها، فتحها لهم فلم يجدوا سوى الخشب، قال لهم هذه الأخشاب نصنع منها قوالب لصب الجبس، أخشاب مليئة بالمسامير الجارحة، لذلك منعت الدخول إليها، لا يدخلها غيري وغير أخي، طاف العسكر داخلها، قلبوا الخشب، نقلوه من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين فلما لم يجدوا شيئا تركونا وانصرفوا، هذا المشهد لا أنساه أبدا.
قالت زوجتي: المرحومتان أمي وأمك أكدتا لي أن سبب نفي زوجيهما إلى هذه المدينة كان بسبب تلك الغرفة، قلت لها كلا، قرار النفي كان بشبهة التعاون مع المقاومة، إيواء المخربين كما يسمون المقاومة آنذاك، قرار النفي قرأته شخصيا، بقي مع أبي وعمي إلى عهد قريب. قلت لهم وقد مضى الليل: حادثة النفي مضى عليها حتى الان خمسين عاما وتزيد، وأنا قد تجاوزت الستين بسنوات، أمامنا غدا سفر طويل، دعونا نفكر بالسفر وننسى أحداثا وقعت منذ عقود، وبالنسبة لغرفة الجبصين كما تقولون فإنها باقية هناك، يفصل بيننا وبينها أربعة أيام فقط، أربعة أيام نقطع فيها القفار والفيافي فإذا استقرت أقدامنا هناك فتحت لكم غرفة توت عنخ آمون التي شغلت أفكاركم.
دخلت لأنام، ارتميت على فرشة على الأرض فأنا مرهق تماما، أمضيت أكثر من عشرة أيام أرتب للسفر، أتممت اليوم كل شيء وشحنت أثاث البيت لذلك جاءت ليلتنا هذه غير عادية، ليلة بلا مراتب ولا أغطية ولا وسائد. انقلبت على شقي الأيمن، تذكرت غرفة الجبصين، قلت لنفسي: عائلتي محقة في الاهتمام بها لكني أحاول صرفهم عن التفكير فيها. حاولت الاستسلام للنوم دون جدوى، عادت هواجس غرفة الجبصين تحلق في سمائي ثانية، قلت في داخلي: لو لم يكن في غرفة الجبصين تلك شيء ما لما جاء العسكر أربع مرات، قلت لهم منذ قليل جاءوا مرة فقط وهي أربع، أربع مداهمات قام بها عسكر المحتل، عسكر متمرّس في البحث والتدقيق والتحرّي، لم يدفعهم لذلك إلا أمر مهم، لكن أبي وعمي كانا أذكى من عسكر العدو.
ملت على ظهري قليلا وقلت في داخلي: لم تكن الأخشاب والمسامير موجودة عندما دخلتها أول مرّة، دخلتها ذات يوم وأبي وعمي في شغل شاغل مع الجبس، دخلتها بلا هدف وأنا في الخامسة أو السادسة من عمري، كانت خالية تماما عندما دخلت ومع ذلك فقد أسرع أبي وعمي نحوي، صاحا بصوت واحد أخرج، لا تدخل. خرجت بعد ان قرصني أبي قرصة كأنها جمرة غضى كاوية، لم يكن في الغرفة أخشاب ولا مسامير، ولم يكن فيها شيئا يخافان عليه، غرفة لا شيء فيها فلماذا خوف أبي وعمي منها ولماذا خوفهما عليها؟ على كل حال تلك أمة قد خلت لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، أمامي سفر طويل وقيادة قارية بعيدة المدى.
أصبح الصباح، كنت أحمل همّ إيقاظهم لكني فوجئت بهم على مطلع النور شهود، تناولت معهم طعاما على عجل، قالت زوجتي بأنّ الطريق عامر بالمطاعم والبقالات والمحطات لذلك أكلنا أكل شبعان، سبقتهم إلى السيارة، أدرت محركها وبقيت في انتظارهم، تأخروا كثيرا، نظرت باتجاه البيت فإذا بهم جميعا واقفون ببابه، متشبثون بحائطه تشبث الحجّاج بجدار الكعبة، نزلت من السيارة وأخذت طريقي نحوهم، صرخت: يا إلهي، فيم التصاقكم بجدار البيت؟ لم يتحرك منهم أحد وكأنما قد شدهم على الحائط ملاط بيد معماري حاذق. تقدمت نحوهم، شرعت في إزاحتهم واحدا بعد الآخر، أزحت ولدي فابنتي الصغرى فالكبرى فزوجتي، رأيت دموعهم تبلل وجوههم والحائط وملابسهم أيضا، تكسّر البكاء في صدري، أشحت بوجهي عنهم مخافة أن يروا أدمعي.
مشينا في طريقنا بأعين دامعة، كنا مثل أم أخذوا منها طفلها عنوة، ذكرتهم بالمرحومين أبي وعمي، قلت لهم: خرجا من مدينتهما عنوة، خرجا دون معرفة إلى أين وماذا ينتظرهم ومع ذلك وجدوا حضن مدينة رؤوم. قلت لهم مهدئا: سنعود مرارا وتكرارا فلم البكاء، أبي وعمي كانوا كمن يخرج من داره معصوب العينين ومع ذلك واجهوا أقدارهم بقلوب مؤمنه، واجهوها بعقول مفتوحة فالإنسان هو الانسان، كائن لا يضيع أبدا إلا إذا رغب هو أن يضيع، الأماكن لا تصنع البشر بل هم من يصنع الأماكن، تقوم بيننا وبين الأماكن علاقات حميمة ثم نتركها لتصبح ذكرى جميلة، علاقة تقوم على أنقاض علاقة ودفتر الذكريات الجميلة تتزايد صفحاته. توقفت عن الكلام إذ بدا لي أن كلامي قد وصل إليهم كاملا وعادت الحياة إلى داخل السيارة.
سألتْ ابنتي الصغرى عن أمتعة البيت، هل ستسبقنا أم سنسبقها؟ قال أخوها: سيارة النقل انطلقت منذ الأمس، سيارات نقل الأثاث لا تتوقف عادة، لذلك أتوقع وصولهم قبل أن نصل. سمعتْ زوجتي ذلك الحديث، خشيتْ أن تسبقنا سيارة العفش فلا تجدنا وعندها تكون ربكة كبيرة. قلت لها: ليست هناك ربكة أبدا، هاتفهم الجوال معي وهاتفي معهم وما دامت الهواتف النقالة بين أيدينا فلا خوف. تجاذبنا أطراف الحديث حول الهاتف الجوال، حمدنا له ما يقدم من خدمة للناس، وما يحققه لهم من اطمئنان على أبنائهم وعلى محبيهم في الإقامة والسفر. كلنا كنا نشيد بالهاتف الجوال إلا زوجتي، قالت بأنّه قد أصابنا بالتوتر والقلق، رأت أيضا أنّه قد فصم عرى العلاقة بين الناس وشغل البنين عن أهلهم وعن مصالحهم. قلت لها: وأزيدك من الشعر بيتا، كثير من الحوادث المهلكة كانت بأسبابه.
وقف أبنائي موقفا محايدا ملأني بهم فخرا، قالت ابنتي الكبرى: هو سلاح ذو حدين، وقال: ابني: كل آلة فيها النفع وفيها الضرر حتى سكين المطبخ فيها ضرر وفيها نفع، وقالت ابنتي الصغرى دعما لأخيها: والماء أيضا، الماء الذي فيه حياة الكائنات له أضرار لا تخفى على الناس. قلت لهم خارج إطار حديثنا: بنزين السيارة على وشك النفاذ فإذا رأيتم محطة وقود فذّكروني بها. عدنا للحديث عن الهاتف الجوال فقالت زوجتي: المسألة ليست مسألة ضرر ونفع، كل آلة فيها ضرر وفيها نفع، لكن المسألة كيف نأخذ المنافع وكيف نتجنب المضار؟ قلت: نحتكم في ذلك إلى العقل، لا يمكن للعقل أن يقود صاحبه إلى الهاوية، وقد سمّوه عقلا لأنه يعقل جماح النفس فلا تتهور ولا تلقي بصاحبها إلى التهلكة.
هذه الفكرة قد استخرجت درّة ثمينة من عمق خزائن ولدي حين قال: سبحان الله العظيم الذي وصف النفس بأنّها أمارة بالسوء، قلت له أرأيت؟ قرار الانسان تتنازعه نفسه وعقله، نفس الانسان تستلذ بأكل السكريات مثلا لكن عقله يقول له توقف، لو تمكن منك السكري لأعطب فيك كل شيء، كل جهاز فيك تتدنّى كفاءته مع مرض السكر، قالت ابنتي الصغرى حماكم الله جميعا من السكر. في هذه الأثناء لمحت زوجتي لوحة كأنها ترشد إلى محطة وقود، سألتها: كم يفصل بيننا وبينها من الطريق؟ قالت: لم أنتبه. قلت: لا بأس، المسافات عادة بالأمتار ولدينا ما يكفي لمسافات أبعد. قطعنا مسافة طويلة قبل أن نجد المحطة وقبل أن نتضجر ظهرت لوحة تقول: محطة بنزين بعد ألف متر.
قلت: يبدو أن اللوحة السابقة كانت ثلاثة آلاف متر، قالت زوجتي: يبدو ذلك. وصلنا المحطة أخيرا، توقفت فيها وطلبت وقودا، خرج كل رفاقي وانتشروا خارج السيارة، كان على هامش المحطة متجرا لبيع المواد الغذائية فتوافدوا إليه، شربت السيارة ماء الحياة حتى ارتوت فأدرتها وتقدمت نحو المتجر، لحقت بهم هناك، كان المتجر متوسط الحجم لكنه حوى كل فن، تجولنا في أطرافه، رأيت فيه سلعا كنت أبحث عنها في المدينة فلا أجدها، اشترينا ما نحتاج وخاصة قِنان الماء المبرد، وبعض المعلبات التي تقيم الأود، عدنا جميعنا للسيارة، ركبنا فأدرت محركها وانطلقت تتهادى بنا على اسم الله، تولانا صمت لا يقطعه إلا صوت أكل أو شرب، كنا جوعى وعطشى ولا ملامة علينا في ذلك.
سرنا المسافات الطويلة نتجاذب أطراف الحديث كما يفعل سائر المسافرين، وصلنا إلى ضاحية صغيرة فيها استراحة نظيفة وليست كل استراحات الطريق نظيفة، هذه قد أوصانا بها جارنا الذي يعرف الطريق واستراحاته. بحثنا عنها باسمها حتى وجدناها، وجدناها نظيفة بالفعل على وصف جارنا الطيب. طلبنا شقة مناسبة آوينا إليها، كان الوقت على آخر النهار فأقمنا حتى صباح اليوم التالي. نمت نوما كافيا وافيا لكني استيقظت مكسور الخاطر، كان الهمّ باديا على وجهي فأدركت زوجتي ذلك. اقتربت مني في خفة ولطف ونحن نغادر الاستراحة، قالت أراك مكسور الخاطر ما بك؟ قلت وأنا أخبئ عنها الواقع: حالة حزن عابرة ستنجلي في الطريق، تذكرت أبي وعمي وأمي وخالتي.
قبلت مني زوجتي ما قلت، لكني في واقع الأمر رأيت رؤيا قلقت لها كثيرا، رأيت كأن زوجتي وأبنائي نائمون على حمادة صخرية في قلب الصحراء، ورأيت أني أدور عليهم أنضحهم بالماء المثلّج ليستيقظوا، وقد فسرته بان السيارة ستنقلب بهم وسوف يموتون وأنجو أنا وحدي. وجدت أنّه ليس من الحكمة في شيء أن أخبرهم، لذلك كذبت على زوجتي. قلت في نفسي لا بد أن أعقل وأتوكل، سأقود السيارة بهدوء وحذر ولن نغير من أمر الله شيئا إذا أمر. عقدت العزم على مقاومة الانكسار، وعلى دفن الهم في صدري حتى لا يراه أحد على وجهي، ثم ركبنا سيارتنا على اسم الله وانطلقنا في آخر مراحل الطريق الذي قسمناه على مرحلتين.
اقترحت عليهم أن نصدح بالغناء، فقد أدركت في قرارة نفسي أنّه الحل الأمثل لانقشاع الغيم من على وجهي، وفيه أيضا تطمين لزوجتي فلربما أنّها لم تقتنع في قرارة نفسها بما قلت. اقترحت ذلك لكني أعطيتهم مطلق الحرية في المشاركة، من كان مزاجه عاليا فليشارك، ومن كان تحت تأثير النوم فلينم. قلت ذلك ثم أضفت موضحا خطة الغناء: سأغني منفردا وعند الإعادة نغني سويا، وهكذا قلت: طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع، وجب الشكر علينا ما دعا لله داع. أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع، جئت شرّفت المدينة مرحبا يا خير داعي. وما أن أتممت دوري حتى رددوا ورددت معهم هذه الأغنية الأثيرة عندنا جميعا.
وصلنا أطراف مدينتنا الأم، مدينتنا التي تحررت من ربقة المحتل، خيّل إليّ أن تلك العمائر والمآذن قد رأيتها من قبل وعندما أخبرتهم عن إحساسي هذا قالت زوجتي: لعلها روحك كانت تغادر جسدك أثناء النوم فتأتي لتطوف على هذه المدينة التي فيها نيطت عليك تمائمك. كان كلامها مقبولا عندي فأنا لست ماديا، أدرك أن في الحياة ما هو أبعد من أن يقاس بمساطر مادية. لم نشأ أن ننشغل عن تملّي مدينتنا الأم، كنا نتمهل إذا راق لنا التمهل لكن اقتراب الليل لم يسمح لأنفسنا بما تشتهي. اتفقنا على النزول في أول فندق نقابله في طريقنا، ونحن محقّون في ذلك. بيتنا مهجور منذ نصف قرن إلا قليلا، ثم أنّه لا أحد منا يعرف مكانه.
طابت لنا الإقامة في الفندق الذي يتوسط المدينة كما علمنا، ومنه بدأت التواصل مع ابن خالي. ابن الخال هذا قريب من سنّي وهو همزة الوصل الوحيدة بيننا وبين مدينتنا الأم، كان مفتاح بيتنا أمانة عند أبيه فلما مات انتقلت الأمانة عند الابن. فرح كثيرا بوصولنا وضربنا بيننا موعدا في غداة الغد، نلتقي ثم نعاين بيتنا سويا. بتنا ليلتنا تلك في الفندق، قضينا شطرا منها في شبابيكه المطلة على مدينتنا الأم من علٍ، كنت أنا الوحيد الذي أشعر ببعض الحنين إلى هذه المدينة أما البقية فلا، لا أحد منهم يحنّ إليها فليس لهم فيها من حياة أبدا، كانوا مثل موظفين جدد جرى تعيينهم في مدينة أخرى، أقبلوا عليها وقبلوا بها نزولا عند لقمة العيش التي لا تجامل.
خرجت مع ابن خالي في ضحى اليوم التالي، أخذني بسيارته حتى وقف ووقفت معه أمام باب البيت، سألني إن كان الباب باق في ذاكرتي قلت له نعم، الباب باق والبيت باق وحتى الشارع المؤدي إليه لم يتغير كثيرا. دخلنا البيت فتفتحت أكمام ذاكرتي كما تتفتح أكمام زهرة، ما شعرت أن غيابي عن جنباته قد بلغت نصف القرن، كل شيء كان في مكانه كما وسمته عيني قبل النفي. كان البيت نظيفا وإن بدت حجراته أصغر مما كان، لكنه قابل للسكنى ولو شئنا لنزلنا فيه الآن، رأيت أن أجدد دهاناته وأرمم بعض عيوبه، غير أني قررت أن أفتح غرفة الجبصين أمام زوجتي وأولادي ليعرفوا أنها غرفة خاوية ليس فيها الا الغبار.
أرسلت موقع البيت لولدي، قلت له أن يأخذ سيارتي وبقية أهلي ويأتي. هؤلاء الشباب أقدر وأسرع في فهم تقنيات العصر. ماهي إلا دقائق حتى وصلوا ودخلوا معي إلى قلب البيت، نشبت عبرة في حلق زوجتي، بررت ضعفها الإنساني ذلك بأنّها تجد رائحة أبيها وأبي وأمها وأمي. قلت لهم البيت نظيف لكننا سنجدد دهاناته ونرمم ما هرم منه ثم نسكن، أضفت: والان سنذهب سويا إلى غرفة الجبصين، إلى غرفة الأسرار والكنوز، كنوز الفرعون توت عنخ آمون. ذهبنا للغرفة، وقفنا أمام بابها، تحسسنا قفلها الكبير الذي لا مفتاح له، هويت عليه بمطرقة ثقيلة فانكسر ودخلنا. دخلنا فوجدنا فيها بضعة ألواح من الخشب ولا شيء غير ذلك سوى الغبار، تركناها للغبار وخرجنا.
لاحظت ابنتي الكبرى ملاحظة غيّرت قناعاتي كلها بعد ذلك، ملاحظات غابت حتى عن عسكر الاحتلال في مداهماتهم لغرفة الجبصين هذه. قالت بعد أن رأت جدار الغرفة المطل على الفناء: طول هذا الحائط لا يناسب عمق الغرفة يا أبي، قلت لها: كيف؟ لم أفهم. فتحنا باب الغرفة ثانية، وقفت عند صدر الغرفة وشرعت تشرح لي الفكرة. تحققت من الأمر، دخلت الغرفة ثم خرجت وعاينت الجدار، تأكد لي صواب ما قالت بل ذكاء ما وصلت إليه، غرفة الأخشاب تشغل ثلثي الغرفة بينما الثلث الباقي محجوب عنّا، الجدار الذي في صدر الغرفة يحجب عنا ذلك الثلث الباقي، لو أزلنا ذلك الجدار لظهرت لنا بقية الغرفة.
قررنا كسبا للوقت وتوفيرا للجهد أن نفتح ثقبا واسعا في الحائط بدلا من هدمه، شرعنا في تنفيذ الفكرة وفتحنا الثقب، أخذ الحائط يتهاوى شيئا فشيئا ثم سقطت كتلة كبيرة منه دفعة واحدة. تراجعنا للخلف حفاظا على سلامتنا، حاولنا رؤية شي لكن كثافة الغبار والظُلمة ما سمحا بذلك، انتظرنا أن ينقشع الغبار. بدأ الغبار ينجلي ليشفّ عن منظر هالنا تماما، عشرات الوجوه التي صُنعتْ من الجبس، وجوه لرجال ونساء تمتلئ بها الغرفة. سكن الغبار فدخلنا، فتحنا مصابيح هواتفنا، سرت فينا رعدة لمنظر الوجوه، وجوه مشرقة تنبض بالحياة رغم أنها من الجبس، ثلاثون رجلا وتسع نساء وطفل واحد كلهم من أبناء المدينة، تحت كل وجه اسم صاحبه وتاريخ استشهاده.