هذا المقال جزء من المقدمة التي أنجزها لملخص نقد طرابيشي للجابري. وهو ملخص مطول في حوالي 50 صفحة لكل كتاب من الكتب الخمسة. وهذه الملخصات أطول من الملخصات القصيرة التي سبق لي نشرها في مطر (النسخة القديمة). فبما أن الكتب التي لم يشملها نقد طرابيشي تطرح على القارئ كثيرا من الاشكالات المنهجية والمعرفية، قررت إنجاز نقد لهذه الكتب.
نقد "العقل السياسي العربي" للجابري
ألف طرابيشي أربعة كتب للرد المباشر على الجابري، كلها تحمل عنوانا مشتركا هو "نقد نقد العقل العربي"، وتحته عناوين فرعية وهي: "نظرية العقل" في 375 صفحة؛ "إشكاليات العقل العربي" في 319 صفحة؛ "وحدة العقل العربي الإسلامي" في 408 صفحة؛ "العقل المستقيل في الإسلام؟" في 424 صفحة. يضاف إلى هذه المجموعة "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة" في 636 صفحة؛ والذي وإن كان لا يحمل العنوان المشترك لأنه لا يرد مباشرة على الجابري، إلا أنه يمثل استمرارية للكتب السابقة. ويختتم هذا الكتاب بهامش كتب فيه طرابيشي: "فيما كانت مسودات هذا الكتاب قيد التصحيح في المطبعة جاءت الأخبار بنعي الجابري يوم 3/5/2010. وبذلك يكون هذا النبأ المحزن قد وضع نهاية إضافية لما أسميته في الكلمة التي كتبتها في رثائه: "ربع قرن من حوار بلا حوار".
كما نجد تعقيبات متناثرة على مواقف الجابري في عدة كتب أخرى لطرابيشي. منها "مذبحة التراث" و "هرطقات" 1 و 2.
وما يفسر ضخامة هذا الرد هو كون طرابيشي لم يكتف بنقد الجابري بالإشارة إلى مكامن الخلل في قراءاته ليصححها ويفكك إشكالياتها، وهو ما يمثل إلا جزئا ضئيلا من محتوى الكتب الأربعة، بل يقدم قراءة واسعة للتراث العربي الإسلامي وللثقافتين اليونانية والأوروبية؛ حتى أن القارئ قد ينسى أن الشرارة التي اشعلت المشروع هي كتب الجابري. وهكذا أنجز طرابيشي "مشروعه الشخصي" وسجل اسمه ضمن المفكرين العرب الكبار.
وفي هذا الصدد يقول طرابيشي: ""لامني أكثر من صديق وقارئ على كوني وضعت نفسي في مازق عندما كرست كل هذا الوقت (نحوا من خمسة عشر عاما) وكل هذا المجهود (أربعة مجلدات حتى الآن) لأرد على مشروع الجابري في "نقد العقل العربي" بدلا من أن أنصرف إلى إنجاز مشروع شخصي في قراءة التراث العربي الإسلامي. هذا المأخذ صحيح وغير صحيح في آن. فهو صحيح ما دام كل "مشروعي" – لا أحب كثيرا هذه الكلمة المتنرجسة – قد انحصر بنقد للنقد. ولكن هل فعلا ما فعلت شيئا سوى أن "رددت" على الجابري؟ لا اعتقد. فالواقع أن الجابري قدم لي المناسبة، التكئة، نقطة الانطلاق، ولكن ليس محطة الوصول. فقد كف مشروعي عن أن يكون مشروعا لنقد النقد ليتحول أيضا إلى إعادة قراءة وإعادة حفر وإعادة تأسيس. أو هذا ما أرجوه على الأقل." (العقل المستقيل في الإسلام؟ (تقديم، ص 9)
يقول طرابيشي أنه كان من المعجبين بمشروع الجابري الذي يعرفه شخصيا لأنه كان زميلا له في الدراسة في جامعة دمشق. لكن سرعان ما بدأ الشك يداخله عندما شرع في الرجوع إلى المصادر الأصلية التي ادعى الجابري أنه اعتمدها. والبداية كان محورها إخوان الصفاء الذين صنفهم الجابري ضمن التيارات المعادية للمنطق؛ وقد استغرب طرابيشي هذا التصنيف، خاصة وأن كل قراءاته السابقة حولهم كانت تصنفهم ضمن العقلانيين وأنصار المنطق. وعندما بدأ في تدقيق استشهادات الجابري بالرجوع إلى مؤلفاتهم، اكتشف أنه تجنى عليهم. وأن شواهده على لا عقلانيتهم المزعومة عبارة عن مقتطفات مفصولة عن سياقها العام، حتى يتسنى له تقويلها عكس الاشكالية العامة التي وردت فيها.[1]
ولهذا جاءت مقدمة "نظرية العقل" قاسية في حق الجابري، إذ يقول:" ومن ثم اندفعت أتحرى عن شواهد الجابري وأتحقق منها واحدا واحدا، سواء أكانت عربية أو أجنبية، فانفتح عندئذ أمامي باب أكبر للذهول: فليس بين مئات شواهد الجابري في "تكوين العقل العربي" سوى قلة قليلة ما أصابها تحريف أو تزييف أو توظيف بعكس منطوقها. ومن ثم ارتددت نحو "تكوين العقل العربي" أقرأه بعين جديدة وبمحاسبة نقدية صارمة. وعندئذ اكتشفت أن الزيف – ولا أتردد في استعمال هذه الكلمة - يكمن في الإشكاليات نفسها، وليس فقط في تعزيزاتها وحيثياتها من الشواهد" (ص 9). "والحال أن كل نقد يكتفي بمناقشة الإشكالات يبقى أسيرا لها. فالمطلوب، قبل دحض النتائج، تفكيك الإشكالات نفسها. فأسئلة الجابري، لا أجوبته، هي الملغومة" (ص 7). والأخطر في نظر طرابيشي هو "أن الجابري، بالقوة التي يتبدى عليها خطابه وبالشهرة التي نالها وبإحكام الاشكاليات التي اعتقل فيها العقل والتراث العربيين، قد بات يشكل ما أسماه غاستون باشلار عقبة ابستمولوجية. فالجابري قد نجح – لنعترف له بذلك – في إغلاق العديد من أبواب التأويل والاجتهاد. وما لم يُعد فتح ما أغلقه، فإن الدراسات التراثية لن تحرز بعد الآن تقدما، ولا كذلك عملية تفكير العقل العربي بنفسه انطلاقا من تراثه ومن توسطه التاريخي ما بين العقلين اليوناني القديم والأوروبي الحديث". (ص 8)
وأود في هذا الكتاب أن أقدم للقارئ خلاصة لكتب طرابيشي الخمسة. وأنبه القارئ أن نقد طرابيشي تناول أساسا ثلاثة مؤلفات للجابري. وهي "نحن والتراث" الذي يمكن اعتباره مدخلا لمشروع "نقد العقل العربي" الذي يشتمل على أربعة كتب؛ يقتصر نقد طرابيشي على اثنين منها، وهما: "تكوين العقل العربي" و "بنية العقل العربي". فهو بذلك لا يشمل كتب الجابري الأخيرة: "العقل السياسي العربي" و "العقل الأخلاقي العربي" (من مشروع "نقد العقل العربي")، زيادة على "مدخل إلى القرآن الكريم" و "فهم القرآن الحكيم" (في ثلاث أقسام).
وقد أوردت في الجدول التالي بعض مؤلفات المفكرَين، منها التي كانت موضوع "الحوار بلا حوار" (وهي المُسَودة في الجدول)؛ ثم المؤلفات التالية لها لكونها تشكل جزئا مهما في كلا المشروعين الفكريين. وتشاء المصادفة أن كلاهما ختم مساره بالقرآن.
والملاحظ من هذا الجدول هو وجود كتب مهمة للجابري بقيت خارج "الحوار". ف "العقل السياسي العربي" صدر سنة 1990، ورغم ذلك لم يرد ذكره في "نقد نقد العقل العربي". والأمر سواء مع "العقل الأخلاقي العربي"، الصادر سنة 2001. أما فيما يتعلق بالكتب الأخيرة الصادرة بين 2006 و 2010، فيمكن القول بشأنها أنه نظرا لتزامن فترات إنجازها، ولوفاة الجابري، لم يكن من الممكن أن تكون موضوعا لحوار حتى ولو توفرت الرغبة في ذلك.
غياب أية إشارة ل"العقل السياسي العربي" من قبل طرابيشي في "نقد نقد الفكر العربي" قد يكون مرده إلى كون هذا الكتاب، ورغم كونه الحلقة الثالثة في "نقد الفكر العربي"، خارج عن الإشكالية الجابرية - بأقطابها السالبة والموجبة - التي كانت موضوع نقد طرابيشي. فهو بحث تدور أحداثه داخل الإسلام، في الجزيرة العربية وجوارها المباشر، ولمدة لا تتجاوز المئتين وثلاثين سنة. ورغم أنه ليس من أغراض هذه المقدمة نقد كتب الجابري التي لم يشملها "نقد النقد"، إلا أن لدي بعض الملاحظات على هذا الكتاب:
المحلاظة الأولى تتعلق بمفهوم "العقل السياسي" أي بموضوع عنوان الكتاب، والذي يحدده –حسب الجابري - ثالوث "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة". إذ أن على القارئ أن ينتظر الصفحة 365 ليقرأ التنبيه التالي: "وغني عن البيان القول إننا نتحدث هنا عن المسار العام الذي بقي سائدا، والذي طبع التاريخ العربي بطابعه. أما المحاولات المعارضة والمضادة، سواء منها العملية كثورة الزنج وحركة القرامطة أو بعض الحركات التي كانت من وراء "ثورات العامة"، سواء في المشرق او في المغرب والأندلس، أو النظرية الفلسفية والفقهية، التي أعلنت بصورة أو بأخرى عن رأي سياسي مضاد للأمر الواقع الذي يجسمه المسار العام ذاك – أما مثل هذه المحاولات العملية منها والنظرية فقد سكتنا عنها لأنها بقيت مقموعة معزولة أو هامشية وبالتالي لم يكن لها أي حضور حقيقي في عملية تكوين العقل السياسي العربي، العقل الذي ساد الممارسة السياسية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية. ولو كان موضوعنا هو التأريخ للأفكار السياسية والحركات الاجتماعية لكان علينا أن نخصص لها مكانا يتناسب مع حجمها وأهميتها، أما وأن موضوعنا يختلف، إذ العقل السياسي شيء وتاريخ الأفكار والحركات السياسية شيء آخر، فإن السكوت عنها مبرر بقدر ما هو مبرر السكوت عن الزهرات اليتيمة في حدائق الشوك أو عن الشوكات القليلة النابتة في حدائق الورد. وإذن فلا معنى لأن يعترض علينا بكون الفيلسوف الفلاني قد قال كذا أو بكون الفقيه الفلاني قد افتى بكذا أو بكون المصلح أو الثائر العلاني قد ارتاى كذا وكذا ما دامت آراء هؤلاء قد مرت دون أن يكون لها صدى في الواقع ولا تأثير في مجرى المسار العام، وأيضا ما دام الارتباط بها اليوم لا يقدم البديل المستقبلي المطلوب. إن المسالة بالنسبة إلينا تتلخص في القضية التالية: كل كتابة في السياسة هي كتابة سياسية متحيزة، ونحن متحيزون للديموقراطية. والتحيز للديموقراطية في الدراسات التراثية يمكن أن يتخذ إحدى سبيلين: إما إبراز "الوجوه المشرقة" والتنويه بها والعمل على تلميعها بمختلف الوسائل... وإما تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته الأيديولوجية (الاجتماعية واللاهوتية والفلسفية). وقد اخترنا هذه السبيل الأخيرة لأنها أكثر جدوى." (ص 365)
الجابري، إذن، يميز بين العقل السياسي وما أنتجه - أو المفروض أنه أنتجه - هذا العقل من أفكار وحركات سياسية ومؤسسات. ولهذا كان علينا العودة إلى تعاريف مفهوم العقل المختلفة لتبيان العلاقة الممكنة بين طبيعة العقل وما يعقله. وبما اننا بصدد عقل سياسي عملي، وجدنا أن مفهوم العقل الذي وظفه الجابري هو المسمى ب "العقل بالفعل" (intelligence en acte) ، "وهو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد، لكنها لا تشاهدها بالفعل (تعريفات الجرجاني)"[2]. ولنا عودة لهذا التعريف عند الحديث عن "المحددات" في الملاحظة الرابعة.
وعندما اضطر الجابري إلى ذكر الحركات الفكرية - والتي خصها بالفصل التاسع تحت عنوان "حركة تنويرية" – ولم يكن له بد من ذلك نظرا لحضورها الفاعل في خضم الصراع السياسي والاجتماعي القائم؛ فإنه عوضا عن التعامل معها كنظريات فكرية قائمة بذاتها - لها مسلماتها وإشكالياتها ومنطقها- بغض النظر عن بعدها السياسي الصريح أو الضمني؛ فإنه يردها إلى مجرد ايديولوجيات ظرفية، وينتقد "مؤلفي الفرق" لأنهم أهملوا المضامين السياسية التي تحملها آراء أصحاب الفرق. إذ يقول: "فمن جهة يجب التحرر من السلطة التي يفرضها المؤلف في الفرق على قارئه، بواسطة تصنيفاته وتأويلاته، ومن جهة أخرى يجب قراءة آراء كل فرقة وكل "صاحب مقالة" على ضوء آراء الخصم الذي يتجه إليه بالخطاب. وعندما يتعلق الأمر بالعصر الأموي الذي كانت فيه الفرق أحزابا سياسية حقيقية فإن القراءة السياسية الصريحة تفرض نفسها فرضا. ولما كان خصم الفرق في هذا العصر هو أساسا الدولة الأموية نفسها، فإن استحضار الأيديولوجيا التي تبنتها هذه الدولة وعملت على ترويجها وتكريسها أمر ضروري لفهم أيديولوجيا خصومها: أصحاب الفرق. وإذا كانت مسألة "القدر" – أو الجبر والاختيار- هي المسألة "الكلامية" الأولى في العصر الأموي، فإن ذلك لم يكن صدفة بل لأن الأمويين اتخذوا الجبر أيديولوجيا لهم، كما بينا ذلك في فصل سابق (الفصل السابع، الفقرة 7). وإذن فعرض أيديولوجيا الدولة الأموية شرط ضروري للوقوف على المضمون السياسي لمقالات أصحاب الفرق في هذا العصر، خصوصا منها مقالات أولئك الذين قادوا حركة تنويرية حقيقية في هذا العصر، حركة كان لها أكبر الأثر في تهيؤ المناخ الفكري الأيديولوجي الضروري لنجاح الثورة... العباسية، كما سنرى." (ص 300-301)
هذا الرد لكل مذهب فكري لوظيفته الأيديولوجية، الفعلية أو المفترضة، يتجاهل أن الإشكاليات التي طرحتها هذه المذاهب هي إشكاليات فلسفية/دينية/سياسية متجددة عبر تاريخ الفكر. فالجبر والاختيار معضلة منطقية قبل كل شيء، واجهها الدين والفلسفة وعلوم الإنسان عموما. والتكفير بالكبائر هو موقف ذي طبيعة دينية في جوهره، بغض النظر عن التوظيف السياسي له. وكذلك أمر الأفكار السياسية التي تحيل إلى السياسة قبل ان تكون شعارا لهذا الحزب او ذاك. فشروط الإمامة، تطرح عندما نخلصها من التسمية الظرفية (إمامة) مسالة سياسية محورية عابرة للزمان والمكان، ألا وهي الشروط التي يجب ان تتوفر في الحاكم. وكما اختصم المسلمون بين مشترط للنسب القريشي ورافض له، اختصم آخرون حول وراثية الحكم بين ملكي وجمهوري...
والجملة الأخيرة في النص المذكور أعلاه، والتي تتحدث عن "حركة تنويرية" وعن "الثورة العباسية"، تفترض حدوث قطيعة في العقل السياسي العربي بين العصر الأموي والعصر العباسي؛ وهو ما يناقض الإشكالية العامة للكتاب التي تفترض وجود محددات للعقل السياسي العربي عابرة لكل التاريخ العربي. فهل توقف ثالوث "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة" عن تحديد العقل السياسي في العصر العباسي بفضل "الحركة التنويرية" المعارضة لايديولوجيا الجبر؟ والحاصل هو ان الجابري اضطر إلى إضافة "محددات" أخرى ليفسر ما حدث مع "الثورة العباسية"، وهي موضوع الفصل العاشر (الأيديولوجيات السلطانية وفقه السياسة)، منها مفهوم "الكتلة التاريخية" (ص 330)؛ "دولة المركز ودولة الأطراف" (ص 331)؛ "البنية السطحية والبنية العميقة" (الأولى تحيل إلى "المحددات" السالفة الذكر، والثانية إلى مفهومي "الخاصة" و"العامة") (ص 331)؛ دور "الأيديولوجية السلطانية في الثقافة العربية [ال] منقولة، في معظمها، عن الأدبيات السلطانية الفارسية." (ص 339).
وإذا انتقلنا من الفكر إلى الممارسة السياسة الفعلية، وبدل "إذابة" معاوية في إشكالية العقيدة والقبيلة والغنيمة، كان من الممكن التعريف ب "المعاوية" (كما نقول "المكيافيلية") كفلسفة لممارسة الحكم. فقد نظَّر معاوية لفيزياء سياسية "تقتصد الطاقة" في سياسة الرعية (والطاقة في السياسة هي العنف). وهو كما قال الجابري: "العقد السياسي" الذي اقترحه معاوية وطبقه بصورة واسعة، على الأقل في مجال "المواكلة" والاشراك في "الغنيمة" (=العطاء السياسي) والتعامل مع الخصوم السالكين مسلك المعارضة السلمية بهذا النوع من "الليبرالية" قد فتح الباب أمام قيام "مجال سياسي" تمارس فيه الحرب ضد الأمير بواسطة "الكلام"، أي السجال الأيديولوجي، فإنه لا معاوية ولا خلفاؤه من بعده استغنوا عن "القبيلة". نعم لقد مارسوا فيها "السياسة" كما سنرى ولكنهم لم يعملوا على تجاوزها. والمجال السياسي لا يستحق هذا الاسم إلا إذا كان هناك اختراق ل "القبيلة". وقد حصل ذلك فعلا، ومنذ عهد معاوية، ولكن ليس من طرفه هو بل من طرف خصومه. ومن هنا العامل الثاني في انبثاق المجال السياسي في الدولة الأموية." ويوضح الجابري هوية هؤلاء الخصوم قائلا: "بالرغم من أن الذين ثاروا على عثمان قد فعلوا ذلك في إطار "القبيلة" (عرب الجنوب ضد عرب الشمال، ربيعة ضد مضر.[...] فإن كونهم من قبائل وبطون مختلفة ومتنافسة اضطرهم إلى البحث عن رابطة أعلى من "القبيلة". وبما أن المعارضة للأمويينن وبالتالي ل "قريش" كان رمزها هو علي بن ابي طالب، وبما ان هذا الأخير قد نشأ منذ صباه في بيت النبي (ص) وكان من أوائل المسلمين ثم صار زوجا لابنته فضلا عن كونه ابن عمه، فقد جعلوا من هذه العلاقة قرابة "روحية" تتجاوز النسب وتسمو عليه. ومن هنا شكل الارتباط بعلي، أي التشيع له، أول مظهر من مظاهر اختراق "القبيلة". وإذا أضفنا إلى هذا ذلك الدور الذي قام به أصحاب علي من "السابقين الأولين"، خاصة المستضعفين منهم كعمار وأبي ذر والمقداد... الخ في خلق تيار من المعارضة يتحرك باسم "العقيدة" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) – وجل العاملين فيه من القراء" [كذا ؟] الذين كان معظمهم من "اللامنتمين" (=خارج القبيلة: موالي، حلفاء...) (ص 238).
إلا أن الجابري لا يقول لنا لماذا يكون "اختراق القبيلة" شرطا لقيام "مجال سياسي"، ولا يشترط لذلك اختراق العقيدة. خاصة وأن الجماعة التي تربطها العقيدة قد تتصرف كقبيلة. وأن "الليبرالية" التي تميز بها معاوية لا نجدها عند اللذين بنوا دولتهم على العقيدة، ولنا في دولة الموحدين خير دليل على ذلك. مع العلم أن "مجال السياسة" لا يمكنه أن ينتعش بدون هامش من الليبرالية والتعددية. وهو ما يؤكده الجابري ضمنيا في معرض تحليله لموقف علي: إذ يقول: "كان علي معارضا لعثمان باسم "العقيدة". وعندما بويع بالخلافة، في الظروف الحرجة التي شرحناها، أراد أن يبطل مفعول "القبيلة" و"الغنيمة" مرة واحدة ويجعل الأمر كله ل "العقيدة". وكان في ذلك نوع من الممارسة اللاسياسية في السياسة."[...] لقد "كان علي بن أبي طالب في أول الأمر رمزا لمن كانوا يطلبون "العدل" ولكن الناس لا يفهمون دائما من "العدل" نفس الشيء. لقد كان معظم اتباعه يفهمون العدل على أنه "الزيادة في العطاء"، فأراد هو ان يبقى مخلصا ل "العدل" الحقيقي الذي ينتفي معه كل اعتبار آخر. فشل علي وكان لا بد أن يفشل لأن "التوافق الضروري" الذي كان مطلوبا يومذاك ك "عامل محدد وحاسم" هو التوافق بين "الغنيمة" و"القبيلة" و"العقيدة". وقد نجح معاوية في هذا الأمر[...]" (ص 195)
وكيف يمكن لعلي اختراق القبيلة في حين أن الشرعية التي كان يدعيها ليست إلا شرعية أسرية؟ والأسرة هي "قبيلة القبيلة". ألم يقبل خلافة من سبقه إلا على مضض، رغم أن خلافتهم كانت شرعية بمقاييس ذلك العصر، ولم تخضع لمجرد الغلبة القبلية؟
إن علي ومعاوية نموذجان شبه متلازمان عبر التاريخ. معاوية نموذج لرجل الدولة[3] الذي يسوس الأمور بواقعية، أما علي فنموذج للدوغمائي الذي تكون نهايته إما الشهادة (وهذا ما يجعل من هؤلاء شخصيات محبوبة كما هو شان علي في المخيال الإسلامي) وإما ممارسة حكم شمولي غالبا ما يصطدم بالواقع، وآنذاك إما يتحول أو ينهار.
اما الحركة التي كانت مبادئها مؤهلة لاختراق القبيلة فهي حركة الخوارج، لكونها فتحت إمكانية الإمامة أمام كل المسلمين. لكنها، كما هو شأن كثير من الفرق التي نزعت إلى "الثورة الدائمة" - حسب تعبير الجابري - سقطت في مأزق الغلو بتكفيرها بالكبائر، وبذلك أغلقت بدورها مجال السياسة.
كما ان الجابري، وكما سنرى ذلك في الملاحظة الرابعة - يسجن العقل السياسي العربي في تمظهرات "محدداته" خلال القرنين الأولين للحضارة العربية الإسلامية، وكأن تاريخ هذا الفكر – على خلاف تاريخ العقول السياسية لباقي الحضارت – هو الوحيد الذي لم يؤثر عليه التاريخ العام للحضارة الإنسانية. مع العلم ان العقول السياسية للحضارات المزامنة للحضارة العربية الإسلامية في القرنين الأول والثاني الهجري، لم تكن تختلف جوهريا عنه. فما هو السبب الذي جعلها تتطور دونه؟
وهذا يحيلنا إلى نقص منهجي في هذا الكتاب، ألا وهو غياب المقارنة. فليس كالمقارنة منهجا لإعطاء الظواهر وزنها النوعي وخصوصيتها.
الملاحظة الثانية تتعلق بالمدخل العام، وهو عبارة عن مقدمة منهجية في 46 صفحة (ص 7- 53). وحول وظيفة هذا المدخل يقول الجابري في "البيان الرابع: تجديد الفهم للإسلام بوسائله الخاصة..." الذي تتضمنه مقدمة الطبعة السابعة: "أما المدخل فهو يشرح الأدوات النظرية، أي المفاهيم، التي قرأت الموضوع بواسطتها. وبما أنها ليست هي تلك الرائجة في الساحة الفكرية العربية المعاصرة، بل لقد جعلتها كبديل عنها، فقد جاء هذا المدخل بمثابة نقد للعقل السياسي العربي المعاصر، العقل الذي يقرأ به العرب تاريخهم ويفهمون حاضرهم. فالمدخل منهجي أساسا"[4]. إلا أن القارئ يجد نفسه أمام خلاصات جاهزة ومفاهيم لا تساعد على فهم خصوصيات موضوع البحث، بقدر ما تسجنه في قوالب تعرضه للتشويه. وهذا التشويه يطال المقدمات والنتائج؛ فهو يطال المقدمات لأنه لا ينتقي منها إلا ما يدخل في القوالب، وهو يطال النتائج لأنها متضمنة في القوالب. وإذا انطلقنا من مسلمة أن انتقاء منهج ما يعني التنزيل الإجرائي له، فإننا لا نجد أي تنزيل إجرائي – ولا حتى عرض - لمناهج النظريات التي ادعى أنه قرأ الموضوع بواسطتها. وزيادة على كل هذا يفاجئ الجابري قارئه عندما يقول في "البيان الثالث: مسالة المنهج": "بخصوص المنهج أعتقد أن الكتاب مكتوب بطريقة تبرئ الكاتب وتحمل القارئ مسؤوليته في فهم ما يريده، حاولت أن أقتصر على عرض مادة ونصوص، وان يكون دوري دور مهندس. كنت أبني، ولكن دون أن اتدخل لا كصاحب نظرية ولا كصاحب تأويل مسبق. ومن هنا أعتقد أن هذا الكتاب هو حمال أقوال، ولكل أن يفسره كما يشاء. واعتقد أن كل طرف سيجد فيه ما يريده..." (ص 4)[5]. أن يفسر القارئ مواد الكتاب أو يجد فيه ما يريده، فهذا تحصيل حاصل يحدث مع كل كتاب؛ والكتاب غني بالشواهد التي تغني الثقافة العامة للقارئ؛ لكن ادعاء الجابري أنه لم "يتدخل لا كصاحب نظرية ولا كصاحب تأويل مسبق"، فهذا أمر صعب التصديق.
إلا أن مشكلة المنهج لا تقتصر على ما سبق ذكره، لكون الجابري ينبه في الفقرة الأخيرة من المقدمة إلى ان "الكتاب يقف، من الناحية التاريخية في العصر العباسي الأول. ذلك لأن ما حدث بعد ذلك هو استعادة، بصورة أو باخرى، لما سبق أن تقرر قبل هذا العصر وخلاله، فهو تكرار للمحددات والتجليات نفسها. ولا تزال هذه وتلك حاضرة معنا وفينا إلى اليوم." (ص 6). فالجابري يقترح – أولا- مدخلا ليشرح الأدوات النظرية، ثم "يغسل يديه منه" ويترك القارئ "يتحمل مسؤوليته"! ثم يدعي – ثانيا - أنه يمكن أن نفهم ما يحدث اليوم في العالم العربي بالرجوع لما حدث من البعثة إلى نهاية العصر العباسي الأول[6]؛ أي ما حدث في المئتين واثنين وثلاثين سنة الأولى من عمر الحضارة العربية الإسلامية !
الملاحظة الثالثة تتعلق بمفهوم "اللاشعور السياسي" الذي يستمده الجابري من كتاب ريجيس دوبري "نقد العقل السياسي" ، والذي يلخصه قائلا: "فكما أن الشعور لا يشكل جوهر الحياة النفسية للفرد فإن المؤسسات والتصورات السياسية لا تؤسس جوهر الحياة السياسية للمجموعات البشرية. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم السياسي، بل إن وجودهم الاجتماعي، الذي يحدد وعيهم ذاك، خاضع هو نفسه لمنظومة منطقية من العلاقات المادية القاهرة. وهذه المنظومة تبقى حاضرة ثابتة عبر مختلف اشكال المؤسسات القانونية أو الفلسفية التي يناظر كل نوع منها بنية اقتصادية معينة، وذلك لأنها، أي تلك المنظومة المنطقية، ليست من نفس طبيعة تلك المؤسسات. والناس لا ينتجون هذه العلاقات من خلال الروابط التي يقيمونها بينهم، بعضهم مع بعض، ب "حرية"، بل إنهم هم أنفسهم نتاج هذه العلاقات التي تتولد فيها ترابطاتهم تلك. وكما هو الحال تماما بالنسبة للأفراد، ولكن بصورة أخرى، فإن الجماعات البشرية المنظمة لها لاشعور نوعي خاص بها، تشكل الديانات وما يقوم مقامها من الأيديولوجيات أكثر أعراضه وضوحا، لا شعور نطلق عليه ها هنا اسم "اللاشعور السياسي". إن هذا اللاشعور ليس من طبيعة سيكولوجية إذ لا تتكون قاعدته من التصورات النموذجية [=خلافا لمثل أفلاطون]، وليس هو بالأحرى من طبيعة روحية ولا مما ينتمي إلى عالم الغيبيات [على الرغم من شؤم التشابه اللفظي مع اللاشعور الجمعي عند يونغ] إنه لا يتحدد بأشكال رمزية طافية على السطح بل يتحدد بأشكال ثابتة من التنظيم المادي ليست الأشكال الرمزية تلك إلا رسوما لها وبصمات"[7] (ص 12-13). ويوضح الجابري توظيفه لهذا المفهوم في مجال بحثه قائلا: "وهكذا فإذا كانت وظيفة مفهوم "اللاشعور السياسي" عند دوبري هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة فإن وظيفته بالنسبة إلينا ستكون بالعكس من ذلك إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري داخل المجتمع العربي القديم منه والمعاصر. وهذا من الأهمية بمكان، ذلك لأن السياسة عندنا بدأت تمارس باسم الدين والقبيلة وما زالت كذلك إلى اليوم. وإذن فاللاشعور السياسي المؤسس للعقل السياسي العربي يجب أن لا ينظر إليه فقط على أنه "الديني" و "العشائري" اللذان يوجهان من خلف الفعل السياسي بل لا بد من النظر إليه أيضا على أنه السياسي الذي يوجه من خلف التمذهب الديني والتعصب القبلي.[...] "وإذن فما هو السطح هنا هو التمذهب الديني، وليس "الاختيار السياسي" وبالتالي فاللاشعور السياسي عندنا لا يتأسس دائما على الدين، كما في أوروبا الحاضرة على الأقل، حسب دوبري، بل التمذهب الديني عندنا هو الذي يطفو على اللاشعور السياسي ويغطيه، وهذا ما سيظهر جليا من خلال فصول هذا الكتاب." (ص 13-14)
وعلى القارئ أيضا أن ينتظر الصفحة 356 ليصادف محتوى "اللاشعور السياسي" للعقل السياسي العربي. إذ يقول الجابري: "ان هدفنا هنا ينحصر في تقديم نماذج دالة وكافية لإثبات الأطروحة التي نريد بلورتها وهي أن العقل السياسي العربي مسكون ببنية المماثلة بين الإله و"الأمير" (سواء كان الأمير فرعون أو بختنصر أو خليفة أو ملكا أو سلطانا أو رئيسا أو زعيما)، البنية التي تؤسس على مستوى اللاشعور السياسي ذلك النموذج الأمثل للحكم الذي يجذب العقل السياسي العربي، منذ القديم إلى اليوم، نموذج "المستبد العادل"، لا فرق بين شيعي وسني، بين حنبلي وأشعري ومعتزلي، بين متكلم وفيلسوف (ويمكن أن نضيف الاتجاهات الفكرية المعاصرة بمختلف أسمائها)." (ص 356)
إلا أن ما "سيظهر جليا من خلال هذا الكتاب" هو أنه لا وجود لأي لاشعور مهما كانت نوعيته. فالأدوار التي لعبتها "المحددات" الثلاثة – العقيدة، القبيلة، الغنيمة – في السياسة خلال المرحلة التي درسها الجابري كانت من الشفافية بحيث أن القارئ لا يرى أي أثر إجرائي لنظرية دوبري، حتى وهي مقلوبة. والأمر سواء بالنسبة للمذاهب الفكرية والأفكار السياسية التي رأت النور في تلك المرحلة من التاريخ العربي الإسلامي. وعلى أية حال لا نجد في الكتاب ما يحيل إلى "بنية المماثلة بين الإله و"الأمير" التي يدعي الجابري أنها تسكن العقل العربي. بل ما نجده فعلا هو الثورة على كل أمير والطعن في شرعيته[8]. كما لا يمكن اختزال الصراعات التي شهدتها تلك المرحلة في مطلب واحد، ألا وهو فرض نظام "المستبد العادل". مع العلم أن فكرة "المستبد العادل" – حتى ولو كانت موجودة - ليست مقصورة على العقل السياسي العربي لتتخذ معيارا لتمييزه عن العقول السياسية الأخرى، إذ أننا نجدها عند مفكري عصر الأنوار، كفولتير مثلا.[9]
لكن الجابري يفاجئنا في آخر صفحات الكتاب بنموذج آخر لا يدري القارئ كيف يوفق بينه وبين النزعة إلى المماثلة بين الإله و"الأمير" ومعها نموذج "المستبد العادل ". إذ يقول: "ومن هنا يتجلى واضحا أن إعادة بناء الفكر السياسي في الإسلام يجب أن ينطلق من إعادة تأصيل الأصول التي تؤسس النموذج الذي يمكن استخلاصه من مرحلة الدعوة المحمدية ("وأمرهم شورى فيما بينهم"، و"وشاورهم في الأمر"، و"أنتم أدرى بشؤون دنياكم"، "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته")، وإعادة تأصيل هذه الأصول يتطلب كخطوة أولى إقرار المبادئ الدستورية التي تجعل حدا لمثل ذلك الفراغ الدستوري الذي برز واضحا في أواخر عهد عثمان والذي جسمته الثغرات الثلاث التي تحدثنا عنها (= عدم تحديد طريقة مضبوطة لاختيار الخليفة، عدم تحديد مدة ولايته، عدم تحديد اختصاصاته)." (ص 372)
وللتذكير فالجابري سبق له الاعتراض على القارئ الذي قد يواجهه ب "الزهرات اليتيمة" في التاريخ السياسي الإسلامي، لكنه ينسى اعتراضه عندما يدعو إلى "إعادة تأصيل الأصول التي تؤسس النموذج الذي يمكن استخلاصه من مرحلة الدعوة المحمدية" ! أي أنه يدعو إلى إعادة استنبات إحدى الزهرات العابرة في هذا التاريخ ![10]
وهنا يجد القارئ نفسه أمام سؤالين: السؤال الأول يتعلق بقابلية التوفيق بين نموذجين يفصل بينهما فارق نوعي؛ فالمستبد هو بالتعريف مستبد، على عكس النموذج النبوي الذي – وكما لخصه الجابري نفسه - ينبذ الاستبداد ! والسؤال الثاني هو هل النموذج النبوي يدخل في اللاشعور أم لا؟ مع العلم أن هذا النموذج، لا شعوريا كان أو شعوريا، هو في الواقع ما يمثل المثل الأعلى للحكم في الإسلام، وهو وحده العابر للتاريخ الإسلامي. وهو بذلك يمكن أن يعتبر المحدد للعقل السياسي العربي، أو على الأقل أحد محدداته.
وعندما يقول الجابري: " وبالتالي فاللاشعور السياسي عندنا لا يتأسس دائما على الدين، كما في أوروبا الحاضرة على الأقل، حسب دوبري، بل التمذهب الديني عندنا هو الذي يطفو على اللاشعور السياسي ويغطيه، وهذا ما سيظهر جليا من خلال فصول هذا الكتاب." (ص 13-14). فإننا نستغرب هذا القول، خاصة وأن الأخذ والرد بين الديني والسياسي كانا حاضرين في وعي جل الأطراف. مع العلم أن السياسي يخترق الأبعاد الاجتماعية الأخرى عموديا وأفقيا، بحيث أنه ليس هناك بعد أو مؤسسة اجتماعية إلا ولها تفاعلها الخاص مع السياسي، أتعلق الأمر بالاقتصاد، أو الانقسامات والتراتبات الاجتماعية، أو الدين ومؤسساته، أو المنتوجات الثقافية...
بل يمكن القول أنه لا داعي ل"استيراد" نظرية "اللاشعور السياسي" لدوبري لفهم عالم عربي ما زال الدين يلعب فيه دورا محوريا ظاهريا. فنظرية دوبري تنطلق من استغرابه لدوام الظاهرة الدينية ولو تعددت أقنعتها.
مجمل أطروحة دوبري أن الإنسان لم يتطور قط، فكل المعتقدات التي ظن البعض أن الحضارة الصناعية قبرتها نهائيا، تعود اليوم إلى السطح، وكلما ازداد تقدم البلد من الناحية الصناعية والتقنية، ظهر هذا العود بشكل أقوى، لكن تارة يكون ذلك بشكل مباشر وتارة بشكل خفي. فالدوافع التي كانت وراء بناء الأهرامات في الماضي، هي نفسها التي تدفع اليوم لبناء أضرحة الزعماء الكبار وتحنيط جثثهم[11]. و "تحديث البنى الاقتصادية زاد من عتاقة الذهنيات بدل التخفيف منها. والأرض الأمريكية هي الأرض الموعودة للبدائية في شتى أشكالها. والكل يعرف، أنه في قمة الرقي، وفي البلد الأكثر تقنينا stantardisation، والذي تجاوز المرحلة الصناعية، توجد أكثر الطوائف الدينية استعدادا للموت (جيم جونس)، والصراعات العرقية الأكثر ضراوة، والتنافس السياسي الأكثر وحشية. وفي المقابل توجد أيضا أكثر الأقليات الثقافية حيوية، وأكبر عدد من الإذاعات المحلية"[12]. ف"العقيدة" في منظور دوبريه معطى متجذر في النفس الإنسانية لا يمكن تجاوزه.
إن دوبري لا يدين الظاهرة التي لاحظها، بل أنه يرى أن كل مجتمع في حاجة إلى متعالي يكون سندا للهُوية الجماعية. فهو لا يريد التخلص من "العقيدة" بل يريد "عقيدة" وحدودا تميز الداخل عن الخارج. والعقيدة التي يريدها هي قبل كل شيء رمز للهُوية الجماعية، بغض النظر عن محتواها العقدي، وهو شخصيا يفضل عقيدة عَلمانية ترد التراث الديني الفرنسي إلى تراث ثقافي[13]. في حين أن الجابري يريد "تحويل "العقيدة" إلى مجرد رأي" كشرط لتجديد العقل السياسي العربي (ص 374).
الملاحظة الرابعة تتعلق ب"المحددات" الثلاثة: "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة". فالجابري يرى في هذه "المحددات" ثوابت بنيوية في العقل العربي إلى يومنا هذا ! حتى أن "التجديد" في العقل السياسي العربي الحديث يجب أن يكون ثورة على "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة" (ص 374).
ويوضح الجابري هذه "المحددات" في الصفحات الأخيرة من مدخله المنهجي، معتبرا أن "القبيلة" تحيل إلى "الدور الذي يجب أن يعزى لما يعبر عنه الآنثروبولوجيون الغربيون ب "القرابة" (la parenté) عند دراستهم للمجتمعات "البدائية" والمجتمعات السابقة للرأسمالية، وهي بكيفية إجمالية ما سبق أن عبر عنه ابن خلدون ب "العصبية" [...](ص 48-49). أما "الغنيمة" فيقصد بها "الدور الذي يقوم به العامل الاقتصادي في المجتمعات التي يكون فيها الاقتصاد قائما أساسا – وليس بصورة مطلقة – على "الخراج" و "الريع" [...]. وب"الخراج" نقصد ليس فقط ما تعنيه هذه الكلمة في استعمال الفقهاء المسلمين بل نقصد به جميع ما كانت تأخذه الدولة في الإسلام من المسلمين وغيرهم كجباية. [...] وبعبارة أعم نقصد ب"الخراج" هنا le tribut ما يفرضه الغالب على المغلوب من ذعائر واتاوات وضرائب [...] (ص 49-50). وبخصوص المحدد الثالث يقول: وب "العقيدة" فلا نقصد مضمونا معينا، سواء على شكل دين موحى به أو على صورة ايديولوجيا يشيد العقل صرحها، وإنما نقصد، أولا وأخيرا مفعولهما على صعيد الاعتقاد والتمذهب. إن موضوعنا هنا هو العقل السياسي، والعقل السياسي يقوم، كما هو معروف منذ أرسطو، على الاعتقاد وليس البرهان، وهو ليس عقل فرد بل "عقل جماعة"، إنه المنطق الذي يحركها كجماعة.[...] (ص 50-52)
كل هذه "المحددات"، وخاصة مع "توضيحات" الجابري، إما أنها تتسم ببداهة خادعة، وإما انها تحصيل حاصل لكونها توجد في كل مكان وزمان؛ وهي في كل الحالات تعرضت إلى رد سلبي réduction négative إلى درجة الكاريكاتور. فالقبيلة، حتى ولو أطرت بمزدوجين، من المفاهيم المتداولة دون مساءلة في كثير من الأحيان لمضمونها. وما يميزها، عند الجابري وغيره، هو "القرابة" و"العصبية"؛ وكأن هذين المفهومين ملازمين حصريا لها، وكافيين لتعريفها وتمييزها عن الأنساق الاجتماعية الأخرى[14]. كما لا يمكن رد الحياة الاقتصادية في الدول العربية طوال تاريخها إلى "الغنيمة" والريع. ولا رد كل "عقيدة" إلى أيديولوجيا دون محتوى معين.
وبما أن المحدد هو ما يميز ظاهرة ما عن غيرها، فإن السؤال المطروح هو هل هذه "المحددات" – رغم الاعتراضات السابقة الذكر - قابلة لتمييز العقل السياسي العربي عن غيره؟ فبدون مقارنة لا تقول هذه "المحددات" شيئا.
وقد يتسنى لها أن تقول شيئا لو انها قورنت مثلا ب"محددات" العقل السياسي الغربي القروسطي، والتي ينقسم المجتمع بمقتضاها إلى عابدين (الكنيسة) ومحاربين (النبلاء) وفلاحين (oratores، bellatores، laboratores )[15]. ويتضح من هذه "المحددات" الغربية أنه يمكن إجراء مقابلة – عضوا عضوا - بينها وبين "المحددات" العربية. فالعابدون ينتمون إلى مجال العقيدة[16]؛ والمحاربون مثلهم مثل أعضاء القبيلة الذين يشكلون العمود الفقري للجيش، وكلاهما يمثل الأرستقراطية؛ والفلاحون هم الفلاحون (أحرارا كانوا أو ارقاء أو عبيد)، أي الطبقة المنتجة المستغلة التي تضمن للآخرين "ريعهم". أو المقارنة مع الإمبراطورية البيزنطية التي كان يتقاسم فيها السلطة القيصر (والمؤسسة الملكية عموما) والكنيسة (وعلى رأسها البطريرك)؛ وكانت الدولة تصرف للوجهاء أجرا roga ، أي أنهم كانوا يتمتعون بريع بصفتهم وجهاء. وكان هذا الريع عبء ثقيلا على ميزانية الدولة. من هذه المقارنة المقتضبة يتبين لنا أن "الغنيمة" والريع ظاهرتان لا يخلو منها أي مجتمع، ولهذا لا يصلحان لتحديد العقل العربي، لا في العصر القديم ولا في الحديث[17].
وعلى المستوى المنهجي تثير هذه "المحددات" العديد من الاشكالات. فهي- أولا- من الاتساع الأفقي بحيث يمكنها ان تشمل العديد من الأنظمة في المجتمعات الإنسانية، وإن كان ذلك تحت مسميات مختلفة. وبما أنها موجودة في كثير من المجتمعات فهي- ثانيا- ليست محددات بل هي التعبير المحلي للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية التي لا يخلو منها أي مجتمع. وهي- ثالثا- من الامتداد العمودي بحيث أنها تغطي كل التاريخ العربي الإسلامي، وكأن هذا التاريخ لم يتعرض لقطيعات كان لها الأثر العميق في كل الأبعاد؛ آخرها صدمة الاستعمار الذي يكفي أن نقول بصدده أنه مؤسس الدول العربية الحديثة بحدودها ومؤسساتها. وهي- رابعا- تقوم على مسلمة أن الدول العربية متجانسة من حيث تركيباتها الاجتماعية وتاريخها.[18]
من المقارنة السابقة لا يجب ان نستنتج أن لا فرق بين النظام السياسي الأوروبي والعربي، لكن الفرق تتحكم فيه "محددات" أخرى؛ منها طبيعة الدولة ومؤسساتها أو العلاقة بين الحواضر والبوادي أو طبيعة المؤسسة الدينية أو دور الحواضر-الدولة ( cités-États)...
ولهذا عندما يختم الجابري بحثه قائلا: : "وإذن فالمطلوب، وهذه هي مهام الفكر العربي اليوم، مهام تجديد العقل السياسي العربي، المطلوب هو:
تحويل "القبيلة" في مجتمعنا إلى لا قبيلة: إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي: أحزاب، نقابات، جمعيات حرة، مؤسسات دستورية...[...]
تحويل "الغنيمة" إلى اقتصاد "ضريبة"، وبعبارة أخرى تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد انتاجي. [...]
تحويل "العقيدة" إلى مجرد رأي: فبدلا من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة يجب فسح المجال لحرية التفكير، لحرية المغايرة والاختلاف، وبالتالي التحرر من سلطة الجماعة المغلقة، دينية كانت أو حزبية أو إثنية [...]" (ص 374)
فإننا لا نملك إلا أن نتساءل هل حقا أن الدولة العربية الحديثة ليست في "محدداتها" إلا نسخة للدولة في القرون الأولى للإسلام، حتى تنحصر مهام الفكر العربي اليوم في التحويلات الثلاث؟ وحتى لا نذهب بعيدا، ونبقى في منتصف الطريق أي عصر ابن خلدون (1332- 1406)، فهل الدولة الحديثة في المغرب العربي ليست إلا نسخة للدولة الحفصية والمرينية والزيانية كما عرفها مؤلف "المقدمة"؟
والحاصل هو أن "محددات" الجابري هي نفسها تحتاج إلى محدد، أي لعامل يفسر الكيفية التي وظفت بها. وهذا العامل هو عامل تاريخي (أي محدود في الزمان) يتمثل في الصراع من أجل تأسيس الدولة الإسلامية الأولى والسيطرة عليها. خاصة وأن الانتقال من القبيلة إلى الدولة كان يعني الانتقال سياسيا من اللامركزية إلى المركزية، ومن عدم توارث السلطة إلى توارثها؛ ودينيا من التعدد الديني إلى وحدانية الديانة؛ واقتصاديا من اقتصاد معيشي إلى اقتصاد ريعي، بينهما فارق كمي ونوعي هائل جدا. إنه انقلاب أنتروبولوجي فريد من نوعه في التاريخ[19]. وهذا الصراع هو الخط الرابط بين كل الأحداث التي شهدتها تلك المرحلة، إذ كان على الفاعلين التاريخيين الارتجال لإيجاد حلول لكل العقبات التي كانت تعترضهم[20]. وإن انتهوا في الأخير بتقليد جيرانهم، خاصة وأنه كان على الدولة الإسلامية إدماج كل مكوناتها البشرية التي أتت، كل واحدة منها، بتراثها الخاص.
والدليل على ذلك هو أن تاريخ "المحددات" السابقة الذكر هو، وكما يعرضه الجابري نفسه، هو تاريخ التحولات التي طالتها بفعل ذلك الصراع على السلطة واحتكاكها بالشعوب الأخرى.
فعندما نتتبع مفهوم القبيلة في الشواهد التي يزفها الجابري، نلاحظ أنها أحيانا تضيق حتى أنها تقتصر على أسرة أو عشيرة (بنو هاشم، قريش)، وأحيانا تتسع لتشمل بلدانا بكاملها (اليمن) أو تحالفا قبليا. والصراع قد يكون داخل الأسرة الواحدة؛ كصراع علي وعائشة، وكلاهما من أسرة الرسول؛ أو صراع علي ومعاوية، وكلاهما من قريش. بل لقد شاهدنا في التاريخ الإسلامي شخصيات منعزلة تؤسس دولا، بعيدا عن عشائرها وقبائلها الأصلية (ادريس الأول، ابن رستم، عبد الرحمان الداخل، أبو عبد الله الشيعي...). ف "القبيلة" قد تكون آداة لمشروع، لكنها ليست المشروع. ومنبع المشروع هو الدين الجديد وما تفرع عنه من فرق، تحولت إلى أحزاب سياسية تروم الوصول للسلطة، وكلها تتجاوز الأفق القبلي.[21]
و"الغنيمة" أيضا ليست بالمفهوم البسيط، خاصة وان الجابري يخلط بين غنائم الحرب، وهي مداخل خارجية؛ وبين الضرائب المحلية (الخراج والمكوس والجزية وغيرها)، التي يتحملها رعايا الدولة. خاصة وأن الغنيمة الخارجية سرعان ما نضب معينها، إما بسبب استقلال الأطراف عن المركز (وكان ما يأخذه المركز سببا في هذا الاستقلال)، وإما لأن ميزان القوى انقلب حتى صارت الدولة الإسلامية هي مصدر الغنيمة لغيرها. والدليل على ذلك أن العديد من الدول العربية سقطت في يد الإستعمار لأنها كانت عاجزة عن أداء الديون المتراكمة عليها.[22]
أما الريع، وحتى وإن كان له ارتباط بالنظام الجبائي، إلا أنه يحيل إلى العلاقات السياسية والزبونية أولا، أي إلى طريقة توزيع الثورة وليس إلى طريقة الحصول عليها (غنيمة أو ضريبة). ومهما كان سوء ظننا في الأنظمة السياسية العربية، فإنه من الاجحاف أن نجعل من الريع والزبونية خصوصية لها نابعة من العقل السياسي العربي.
وفيما يتعلق ب"العقيدة"، ولأن منبع المشروع هو الدين الجديد، وبما أن الهدف هو تأسيس الدولة والسيطرة عليها ثم تسييرها - وبما أننا بصدد البحث في العقل السياسي العربي - كان لزاما أن تطرح مسألة الشرعية ومسألة مطابقة السياسة لقيم الدين الجديد؛ وعند استحالة هذه المطابقة (وهي دائما مستحيلة)، طرحت مسألة التوفيق بين القيم والواقع لتجنب الاقتتال الداخلي (الفتنة). وهي أسئلة طرحت فعلا، ومنذ البداية. وما قد يميز العقل السياسي العربي هو خصوصية وأصالة الأجوبة التي قدمها، والتي يمكن مقارنتها بأجوبة العقول الأخرى.
ولهذا فإن محددات العقل السياسي العربي - وهو هنا عقل سياسي إسلامي – تحيل لا إلى "العقيدة" كأيديولوجية سياسية، بل إلى العقيدة بصفتها مبادئ دينية يتوق المسلم لأن يكون لها تأثير في الطريقة التي يسير بها المسلمون شؤون دنياهم.
والملاحظة الأخيرة في هذا الباب تعود بنا إلى تعريف العقل الذي ذكرناه في الملاحظة الأولى، لنطرح سؤالا ألا وهو: كيف يمكن لعقل (وهو عبارة عن منطق ومبادئ ورؤيا للكون حتى ولو كانت مستقراة من الواقع) أن يعيد خلق ظواهر – سبق لها أن "حددته" - تحددها أساسا معطيات موضوعية (جغرافية، اقتصادية، اجتماعية، تقنية، تاريخية...) تزول بزوالها؟
وبما أن الموضوع يتعلق بالعقل السياسي، أليس من خصائص العقل أن يخلق معقولاته، أي أن العقل يسقط منطقه على الواقع؛ كأن يخلق العقل الديموقراطي مؤسسات ديموقراطية، والعقل الشمولي مؤسسات شمولية... وانطلاقا من هذا المبدأ، هل يمكننا القول أن العقل السياسي العربي هو الذي يعيد خلق "محدداته" من "قبيلة" و "غنيمة" و"عقيدة"؟
إن الجابري يلقي في ذهن قارئه أن الدولة العربية الحديثة ليست إلا إعادة إنتاج للدولة القديمة. وهذا الخطأ المعرفي يمنع التشخيص السليم لأزمة الدولة المعاصرة. وإذا اتخذنا مثالا من واقع دول المغرب العربي في فترة الثمانينات من القرن الماضي، وهي المرحلة التي ألف فيها الجابري كتابه، فهل يمكن فهم الأنظمة الثلاثة على أساس القبيلة، القائمة عنده على أساس"القرابة البدائية"[23] ؟ وآنذاك نسأل أي قبيلة كان يمثلها حكام الدول الثلاثة؟ وأية قبائل كانت تمثلها الأحزاب السياسية؟ وهل يمكن رد أنظتمها الاقتصادية إلى مسألة الريع، مع العلم أن جل ميزانية الدول الثلاث كانت تصرف على الموظفين والخدمات العامة؟[24] وفي أي أيديولوجيا يمكن اختزال "عقيدتها"، مع العلم أن هذه الأنظمة – والتي رغم كل ما يمكن ان يكال لها من عيوب لم تكن شمولية - لم تكن لديها السلطة المطلقة على الحقل الثقافي.[25]
لا يجب أن يفهم من هذا المثال أنه لم يعد للقبيلة وللعشيرة أو للطائفة أي دور في الدول العربية، في حين أن الأحداث التي نعايشها تشهد بعكس ذلك. إلا أن مفعولها الحاضر ليس من خلق "العقل السياسي العربي"، بل يعود إلى استمراريتها كظواهر مُؤطِّرة للمجتمع لأن الدولة عجزت عن تجاوزها[26]. ومما يزيد في مفعولها أزمة الدولة في كثير من الدول العربية التي أدت إلى نكوص ذهني ونفسي. بحيث يمكن أن نقول أن أزمة الدولة هي التي أدت إلى "قبلنة" و "عشرنة" و "طأفنة" الحياة السياسية.[27]
الملاحظة الخامسة تتعلق بما استخلصه الجابري من نظرية جورج لوكاتش، إذ يقول: "إذا كان الانقسام الفعلي والواضح في المجتمع الرأسمالي بأوروبا خلال القرن التاسع عشر هو الانقسام إلى طبقات، وإذا كان الوعي السياسي في هذه المجتمعات يرتبط فعلا بالانتماء الطبقي، فإن الواضح والسائد في المجتمعات السابقة على الرأسمالية هو الانقسام إلى "جماعات"، تتمايز عن بعضها بالحسب والشرف أو النسب والجاه أو المال أو بالحرفة أو المذهب الديني (=عصابات، طوائف...)، جماعات تحركها من وراء وفي الخفاء المصالح الاقتصادية. نعم، ولكن بما أن الاقتصاد لم يكن قد تطور إلى درجة تجعل منه المحدد للعلاقات فإن الوعي الذي يحرك الصراع بين هذه الفئات والجماعات لم يكن الوعي الطبقي، بل "الوعي الفئوي"[...] ومن هنا فالناس داخل الجماعات التي من هذا النوع يكونون مشدودين لا إلى مصالحهم الاقتصادية المباشرة بل إلى مرحلة سابقة من "تاريخ" الجماعة، المرحلة التي ترتبط بها الامتيازات أو الأمجاد أو التضحيات التي تشغل مخيال هذه الجماعة والتي بها تتحدد هويتها.[...] إن الاديولوجيا في مثل هذه الحال لا تعكس دائما الواقع الراهن بل هي في الغالب منقولة إلى الحاضر من الماضي. وكثيرا ما يكون أساسها الاجتماعي الذي انبثقت منه يقع في الماضي وليس في الحاضر. ولذلك فهي بوصفها محرضة ومحركة ليست جزءا من بنية فوقية، ليست شكلا من اشكال الوعي، بل هي عنصر في بنية كلية. وهكذا فالايديولوجيا أو "العقيدة" مثلها مثل "القبيلة" أو "الطائفة"، مثل "المصلحة الاقتصادية" معطيات متداخلة يصعب التمييز فيها بين ما هو قاعدة وما هو انعكاس لها. وبعبارة أخرى إن الصراع الاجتماعي في المجتمعات السابقة على الرأسمالية لا يأخذ شكل انعكاس للواقع الاقتصادي الذي تعيشه الجماعات المتصارعة، بل يكتسي شكل استمرار لصراعات تجد أساسها الاقتصادي في الماضي وليس في الحاضر (قارن الصراع بين الشيعة والسنة الذي يرجع أساسه الاقتصادي الاجتماعي إلى زمن الصراع بين علي ومعاوية)." (ص 29-30)
إن المفروض في الاستشهادات المنهجية أن تتكامل لتدفع في اتجاه واحد، لكن ما نلاحظه في هذا الاستشهاد هو أن أطروحة لوكاتش تناقض أطروحة دوبري. فما اعتبره لوكاتش عَرَضا من اعراض التخلف، شاهده دوبري في أكثر المجتمعات تقدما تقنيا. والمثال الذي قدمه الجابري عن الصراع بين السنة والشيعة، والذي يستدل به على صواب أطروحة لوكاتش يرتد عليه. والتاريخ الحديث والمعاصر لأوروبا وأمريكا يعطينا ما لا يحصى من الأمثلة على استمرار صراعات دينية وعرقية قديمة. والمثال على ذلك حروب البلقان الدينية (بين مسلمين وارثودوكس وكاثوليك)؛ أو الحرب الكاثوليكية الأنجليكانية في إرلندا؛ أو الصراع القديم/الجديد بين الارثوذوكسية والكاثوليكية الذي يمثل أحد الحواجز النفسية التي تفصل بين روسيا وبلدان أرثوذوكسية أخرى وبين باقي البلدان الأوروبية؛ و الخلاف بين المذهبين خلاف ديني محض حول طبيعة المسيح، لم يكن له في حينه أي سبب اقتصادي... أو الدور السياسي للتيار الانجيلي في الولايات المتحدة، والذي يشارك الصهيونية عقيدتها؛ أو العداء الديني لليهود – بصفتهم "قتلة المسيح" – الذي بقي مترسخا حتى في أكثر بلدان أوروبا تقدما، و انتهى بإبادتهم... وفي المقابل يمكن النظر إلى الصراع السني الشيعي الحالي بانه بعث لخلاف قديم خدمة لصراعات حديثة لا علاقة لها بالدين.[28]
الملاحظة السادسة تتعلق بأطروحة موريس غودلييه وبعض الاتنروبولوجيين حول مفهوم القرابة. إذ يرى غودلييه – حسب الجابري - أن مفهوم "الأسلوب الأسيوي للإنتاج" يحتاج إلى مراجعة ل "تخليصه وتنقيته مما فيه من عناصر ميتة ومواجهته بالتالي بجميع المعارف الجديدة المتوافرة وإغناؤه بها بهدف القيام بتحليل جديد لبنيات القرابة والبنيات الاقتصادية والبنيات الدينية في المجتمعات غير الطبقية أو التي تعرف انقساما طبقيا غير متطور. ومن "العناصر الميتة" التي يرى غودلييه أنه من الضروري التخلص منها مفهوم "الاستبداد الشرقي".[...] "ذلك أن الدراسات الأنثروبولجية الحديثة أثبتت أن مفهوم "القرابة" في المجتمعات البدائية لا يشمل علاقات الزواج وحدها بل يشمل أيضا تلك العلاقات التي تقوم بين الناس بسبب الجوار في المكان والاشتراك في الأعمال (= قارن مع ابن خلدون). وهكذا يؤكد غودلييه أنه من الضروري النظر إلى علاقات القرابة في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، لا بوصفها علاقات نسب فحسب، بل بوصفها كذلك "علاقات انتاج وعلاقات سلطة وتصورات أيديولوجية تنظم جزئيا تصور الإنسان للعلاقة بين الطبيعة والمجتمع. وإذن فهي [يقول غودلييه] بنية تحتية وفوقية في آن واحد. وإن كونها تجمع وتوحد بين وظائف متعددة هو ما يجعلها تقوم بدور البنية المهيمنة في الحياة الاجتماعية". وهذا يطرح على الفكر الماركسي – كما يقول غودلييه – مشكلة مضاعفة: كيف ينبغي أن نفهم الدور المحدد الذي يقوم به الاقتصاد في الحياة الاجتماعية والدور المهيمن الذي تمارسه علاقات القرابة في المجتمعات البدائية؟ وفي أية شروط تكف علاقات القرابة عن القيام، في هذه، في هذه المجتمعات بدور المهيمن لتنزوي جانبا إلى موقع ثانوي، وتاركة المجال لبنيات اجتماعية جديدة، بنيات الدولة، كي تنمو وتتطور وتحتل الموقع المركزي الذي يكون حينئذ قد اصبح شاغرا."[29] (ص 31- 32)
"ومعلوم أن الأبحاث الأنثروبولوجية المعاصرة تؤكد بشكل خاص على الفكرتين اللتين نوه بهما صاحبنا، فكرة أهمية الدور الذي تقوم به "القرابة" في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، المجتمعات البدائية القبلية خاصة، من جهة، وفكرة وحدة البنيتين التحتية والفوقية في تلك المجتمعات نفسها من جهة ثانية."[...] "بخصوص "القرابة" يؤكد كثير من الباحثين الأنثروبولوجيين أنها، في المجتمعات البدائية القبلية، لا تنحصر في العلاقات العائلية كما هو الشأن في المجتمعات الحديثة، بل انها تشمل أيضا ما يقوم في تلك المجتمعات من علاقات سياسية. إن للأشخاص الذين تقوم بينهم علاقات سياسية خاصة هم أولئك الذين تربطهم أيضا، بعضهم ببعض علاقات أخرى، أخلاقية أو دينية أو تعليمية... وهكذا فالروابط التي تشد الناس بعضهم إلى بعض، في هذه المجتمعات، ليست وحيدة بل هي عبارة عن شبكة من العلاقات تندرج كلها تحت مفهوم "القرابة". فالعلاقات السياسية بين الجماعات تدخل في معنى "القرابة"[30] على الرغم من ان محتوى هذه العلاقات هو من طبيعة تختلف عن طبيعة العلاقة التي تقوم بين الأقارب الحقيقيين. وهكذا فالقرابة هي اللحام الذي يشد النظام الاجتماعي كله. إن العلاقات العديدة التي تربط الناس بعضهم إلى بعض تتطابق هنا مع القرابة المباشرة لتشكل معها بنية المجتمع برمته"[31] (ص 32-33)
وبعد هذا التمهيد النظري يستخلص الجابري: "وبعد، فهل نحتاج هنا للقول إن ما يذكره الأنثروبولوجيون هنا بصدد بنية المجتمع في القبائل البدائية يجد أشباها له ونظائر فيما نعرفه من حياة القبائل العربية، في الجزيرة وخارجها، قبل ظهور الإسلام وبعده إلى اليوم؟" (ص 33). ونحن لا نحتاج بدورنا إلى القول أن المجتمع العربي الراهن ليس عشائر بدائية حتى ويحلل من خلال مفهوم القرابة البدائية.
الملاحظة السابعة وتتعلق بالملاحظات المنهجية لايون بانو Ion Banu، التي يريد الجابري بواسطتها تجاوز المادية التاريخية المبتذلة التي تنظر إلى كل صراع طبقي من خلال الصراع الأيديولوجي بين المادية والمثالية. إذ يبين بانو اختلاف طرق التعبير عن الصراع الطبقي في المجتمعات العبودية والمجتمعات الخراجية[32]. ف "الصراع الأيديولوجي في المجتمع العبودي (أثينا، روما) لا يعكس الصراع الطبقي بين المواطنين والعبيد بل إنما يعكس الخصومات واختلاف المصالح داخل طبقة المواطنين انفسهم. وإذن فهناك عدم توافق بين العلاقتين التناقضيتين: علاقة الصراع الاجتماعي بين العبيد والمواطنين من جهة وعلاقة الصراع الفكري داخل طبقة المواطنين أنفسهم من جهة أخرى. وهذا ما يفسر – حسب بانو – كون الخصومات والخلافات الفلسفية لم تصل، لا في أثينا ولا في روما، إلى عمق التناقض الاجتماعي ونواته الحقيقية، إذ لا نصادف أي طرح حقيقي لقضية استبعاد الإنسان لأخيه الإنسان. هذا فضلا عن غياب صوت ضحايا الاستغلال الاجتماعي غيابا تاما على صعيد الفلسفة: لقد بقيت الكلمة من اختصاص أولئك الذين لم يكونوا موضوع الاستغلال، لقد بقيت من اختصاصهم وحدهم. ذلك هو الوضع في مجتمع النظام العبودي. أما في المجتمعات الخراجية فالأمر يختلف: إن الكثرة الكاثرة من الشعب المسخر تتالف من الفلاحين وقد يشكلون بالفعل الوسط المُلهم لبعض الاتجاهات الفلسفية. وهكذا فأولئك الذين كان يصدر عنهم في المجتمعات الخراجية ما ينم عن المعارضة الأيديولوجية لهيمنة الاستقراطية واستبدادها لم يكونوا يحتلون مواقع في صفوف هذه الارستقراطية نفسها، كما كان الشأن في اليونان، بل كانت مواقعهم في الجهة الأخرى من الحاجز الذي يفصل بين الطبقات الاجتماعية، أي الجهة التي توجد فيها الكثرة الكاثرة من الشعب، الشيء الذي كان يسمح للتناقض الرئيسي الطبقي بين الأرسقراطية الاستبدادية وبين الفلاحين بأن تتردد له أصداء في عالم الفكر. هنا نجد التوافق قائما بين التناقض الاجتماعي والشكل الأكثر حدة من الصراع الأيديولوجي: فالطبقة التي تقوم بتحريك الفكر الاجتماعي المعارض هي نفسها الطبقة المستغَلَّة وهي تتمتع بحرية نسبية على عكس العبيد." (ص 37)
"هناك جانب آخر يبرزه بانو ويتعلق هذه المرة بالموقف الاجتماعي من الالهة في كل من المجتمع العبودي والمجتمع الخراجي. ففي هذا الأخير يرتبط الإحتجاج على الدولة بالإحتجاج على الآلهة وتوجيه النقد لها كما يلاحظ في النصوص البابلية، وذلك بسبب العلاقة المباشرة التي يقيمها الرجل الشرقي القديم بين الحاكم الطاغية وبين الآلهة: فالحاكم الطاغية هو المالك الوحيد، واعتباره كائنا يجمع بين السلطة والمِلكية يجر إلى إعطائه ابعاد كونية واعتباره يمتلك أسرارا إلهية. هذا من جهة ومن جهة أخرى فالخصب في نظر الفلاح الخراجي مرهون، كما رأينا قبل، بإرادة الطاغية. ومن هنا ينظر إليه كشريك للسماء في موضوع هو أصلا من اختصاص الآلهة، أعني الماء والخصب. وهكذا فهذا النوع من الجمع والتوحيد بين الآلهة والطاغية يقود ضرورة على النفي الديني للآلهة. إن تسييس المتعالي أدى إلى التعالي بالاحتجاج السياسي، إلى الارتفاع به إلى المستوى الإلهي. ومن هنا ذلك الفرق بين الإلحاد عند اليونان قبل المرحلة الكلاسيكية (أي من طاليس إلى أمبادوقليس) والإلحاد عند شعوب الشرق القديم: فبينما نجد الإلحاد عند اليونان يكتسي صورة تجريد الآلهة من صفاتها الذاتية، مثل السمع والبصر والعقل... إلخ، الشيء الذي لم تكن تكن له نتائج مباشرة على صعيد الحياة الاجتماعية، نجد النصوص الشرقية تتهم الالهة بالعجز والعداوة للشعب، وقد يؤدي هذا في نهاية المطاف على حدس العلاقة الصميمة القائمة بين الطاغية والآلهة إزاء قضية "العدل". (ص 38)
ويختم الجابري عرضه لأطروحة إيون بانو قائلا: "لاشك اننا هنا إزاء ملاحظات جد هامة، ملاحظات استخلصت من دراسة النصوص الشرقية القديمة، البابلية والمصرية الفرعونية، وهي تدفع الفكر والنظر إلى التحرر من دوغماتية المادية التاريخية "الرسمية" التي تجعل الأيديولوجيا، هكذا جملة وتفصيلا، مجرد انعكاس أو تعبير عن الوضع الطبقي. إن العلاقة بين الفكر والواقع تختلف، كما راينا، من نمط من المجتمعات إلى نمط آخر. ولا شك أن القارئ الذي له إلمام بالأدبيات السياسية السلطانية في التراث العربي(= أنظر لاحقا: الفصل العاشر) يجد هذا النوع من التفسير اكثر مصداقية من ذلك الذي يلجأ إليه بعض "الماركسيين" العرب الذين يفسرون جميع أنماط العلاقة بين الفكر والواقع بواسطة مقولات المادية التاريخية "الرسمية" فيتخذون من الزوج مادية/مثالية مفتاحا لمشكل العلاقة بين الفكر والواقع في جميع العصور، ويجعلون من كل ما هو "مادي" على صعيد الأيديولوجيا تعبيرا عن الطبقات المضطهدة، ومن كل ما هو "مثالي" فيها تعبيرا عن سلطة الطبقات التي تمارس الاضطهاد. إنه مفتاح مزيف ذلك الذي يفتح جميع الأبواب، فكيف به إذا كان يفتحها في جميع العصور؟" (ص 39)
إن الجابري يلوم بعض "الماركسيين" العرب على دوغماتيتهم، ولهذا يستشهد ببانو الذي يؤكد على وحدة البنية التحتية والبنية الفوقية في المجتمعات الخراجية (ص 35). لكنه ينسى أنه كان ممثلا لهذه الدوغماتية. ويكفي مثالا على ذلك نقده ل "الأديولوجية العربية المعاصرة" لعبد الله العروي. ومن نماذج هذا النقد قوله: "الواقع ان الأخ العروي لا يطرح المسالة طرحا قاعديا، أي على مستوى قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بل يطرحها فوقيا فقط، أي على مستوى الفكر وحده، مستوى "المكتسبات" الفكرية الليبرالية"[33]. لكنه لا يلام على تطوره المنهجي، لولا أن هذا التطور ما زالت تشوبه بقايا من دوغمائية مادية تاريخية. يتمثل ذلك في نزعته لرد ما هو فوق إلى ما هو تحت، إذ يختم الفصل الثاني (من الدعوة إلى الدولة: القبيلة) بالقول: "ومع ذلك ف "القبيلة"، ليست في نهاية التحليل إلا الإطار الاجتماعي الذي بواسطته يتم كسب "الغنيمة" والدفاع عنها، وبالتالي ف "الغنيمة" هي التي تحكم، في نهاية التحليل، "مفعول القبيلة". إن "القبيلة" معزولة عن "الغنيمة" مقولة مجردة وقالب فارغ. وسنرى في الفصل القادم كيف أن قراءة الأحداث التي عرفتها الدعوة المحمدية، سواء في المرحلة المكية أم في المرحلة المدنية، قراءة تَلبَس نظارات "الغنيمة" هي وحدها التي تعطي ل"القبيلة" مضمونا، وتجعل التاريخ معقولا، ذا معنى." (ص 98).
الملاحظة الثامنة تتعلق بالمرجعين المنهجيين الأخيرين.
أولهما ملخص لمقال ميشيل فوكو: "[...] نحو نقد للعقل السياسي"[34]. وقد ختم الجابري هذا الملخص قائلا: "الهجوم على المعقولية السياسية" معناه نقد الأسس التي تقوم عليها الممارسة السياسية من طرف الدولة والتي يبحث لها العقل السياسي في كل عصر وفي كل حضارة عما يبررها، عما يضفي الشرعية والمعقولية عليها. وإذا كان فوكو قد انتهى من هذا "الحفر" في مفهوم الراعي والرعية إلى القول: إن الديموقراطيات الغربية المعاصرة تخفي من وراء مظاهرها البراقة "تقنية غريبة" في ممارسة السلطة، قوامها حفنة من الرعاة تقود الأغلبية الساحقة من السكان وتعاملهم كقطيع، فإننا نحن هنا في الوطن العربي وفي المجتمعات الشرقية عموما في غير ما حاجة على مثل هذا "الحفر" لنتبين كيف أن واقع السلطة عندنا، مظهرا وجوهرا، يقوم على تقنية مألوفة لدينا، تقنية قوامها راع واحد يقود الرعية برمتها." (ص 42).
والمشكلة مع هذا الملخص تكمن في كونه لا يعكس الإشكالية الفوكووية حول السلطة. إذ أن ما كان يشغل فوكو ليس هو كون أقلية تستبد بالسلطة، بل هو الكشف عن كل أشكال المراقبة التي ظهرت مع الدولة الحديثة، التي انتقلت من مراقبة الإقليم إلى مراقبة السكان. وهو ما سماه فوكو بسياسة الأحياء biopolitique والسلطة على الأحياء biopouvoir.
وثانيهما ابن خلدون، الذي يقول بشأنه الجابري: "والعودة إلى ابن خلدون، اليوم وبالذات، لا يبررها التوافق الذي يمكن أن نلاحظه بسهولة بين نظرته الشمولية إلى الظاهرة الاجتماعية ودراسته لهذه الظاهرة في إطارها الأوسع، إطار "العمران البشري جملة"، وتأكيده على دور العصبية، أو القرابة، ودور الدعوة الدينية في تأسيس الدول والمماليك من جهة، وبين ما تمدنا به اليوم الاجتهادات الغربية المعاصرة وما تعطيه من أهمية لهذه الأمور، من جهة أخرى، بل إن العودة إلى ابن خلدون لبررها، أولا وقبل كل شيء، الواقع الاجتماعي السياسي الراهن، القائم في الوطن العربي وفي بلدان أخرى، والذي يجعل من الحديث اليوم عن العشائرية والطائفية والأصولية الدينية المتشددة حديثا مباحا مطلوبا، حديثا غير "رجعي" ولا مستنكر، كما كان الشأن قبل عقدين من السنين فقط."
"وإذا كان صحيحا أن "تحليل الحاضر يقدم لنا مفاتيح الماضي"، كما يقول ماركس، فإن حاضرنا العربي، الذي يعرف "عودة المكبوت" من عشائرية وطائفية و"خارجية" دينية، يضع أمامنا اليوم مفاتيح الماضي إن لم يكن مفاتيحه الرئيسية، مفاتيح تحيلنا مباشرة إلى ابن خلدون لأنها هي نفسها التي سبق أن استخلصها من حاضره، من تجربته السياسية الغنية التي اكتشف فيها، هو الآخر، "مفاتيح الماضي" ماضي حاضره هو، مرددا: "الماضي أشبه بالآتي، من الماء بالماء".[35]
"ليست العصبية القبلية والدعوة الدينية هما كل ما تقدمه لنا مقدمة ابن خلدون من "مفاتيح"، تخص التاريخ الإسلامي، بل هناك "مفتاح" ثالث كان حاضرا باستمرار في تفكير صاحب المقدمة وإن لم يعطه إسما خاصا: إنه العامل الاقتصادي الذي لم يكن يقدم نفسه زمن ابن خلدون، زمن ما قبل الرأسمالية، ك "كائن من اجل ذاته" بتعبير لوكاتش، كما كانت تفعل العصبية مثلا، والذي كان، مع ذلك، يقوم بدور، "حاسم" أحيانا، ومن وراء ستار. لقد أبرزنا هذا العامل وحددنا طبيعته في كتابنا عن ابن خلدون[36]، واطلقنا عليه هناك اسم "أسلوب الإنتاج الخاص بالاقتصاد القائم على الغزو" أي على انتزاع الفائض من الإنتاج بالقوة، قوة الأمير وقوة القبيلة وقوة الدولة، وقد وصفه ابن خلدون ابن خلدون لهذا السبب بانه "مذهب في المعاش غير طبيعي" لأنه لا يقوم على العمل والإنتاج بل يعتمد إما الغزو وما في معناه وإما العطاء الذي يمنحه الأمير مما جمعه بنفس الطريقة، طريقة الغزو داخليا وخارجيا [...]"
"الاقتصاد الريعي، السلوك العصبي العشائري، التطرف الديني، ثلاثة "مفاتيح" أو محددات لا يمكن حل ألغاز الحاضر العربي الراهن بدونها، وهي نفسها "المفاتيح" التي وظفها ابن خلدون في قراءته للتجربة الحضارية العربية الإسلامية إلى عهده، فلنعمل بدورنا على توظيفها توظيفا جديدا يستجيب لمشاغلنا الفكرية المعاصرة ويستفيد من جميع الدراسات والأبحاث "الغربية" التي عرضناها في الفقرات السالفة." (ص 46-47)
هذا الاقتباس الطويل يعطي للقارئ نقطة الارتكاز الجاهزة التي انطلق منها الجابري والتي قدمت له "محدداته". وقد بينا طوال هذه المقدمة الإشكالات التي تطرحها هذه "المحددات"، والسؤال الذي نود طرحه يتعلق بمدى مطابقة المفاهيم التي وظفها الجابري بأصلها الخلدوني.
وأول ما نلاحظه أن المفاهيم عند ابن خلدون ليست مغلقة، فلكونها نتيجة للاستقراء فقد عرَّفها بحيث تبقى مفتوحة على كل احتمالات الواقع وتدرجه. نلاحظ ذلك في موضوع النسب (القرابة)، إذ يقول في الفصل الثامن: "وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر [...] فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جدا بحيث حصل به الاتحاد والالتحام، كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها، وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها، ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارا من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظِلم من هو منسوب إليه بوجه. ومن هذا الباب الولاء والحلف. إذ نعرة كل أحد على اهل ولائه وحلفه، للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريبا منها. ومن هنا نفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم". بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام، حتى تقع المناصرة والنعرة، وما فوق ذلك مستغنى عنه. إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له، ونفعه إنما هو في الوصلة والالتحام.[...]"[37]
ويورد ابن خلدون في الفصل الثاني عشر أمثلة لقبائل بربرية تدعي أنها عربية أو شريفة: " فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب [...]. و من ذلك ادعاء بنى عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب، رغبة في هذا النسب الشريف و غلطا باسم العباس بن عطية أبى عبد القوي، و لم يعلم دخول أحد من العباسين إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة و العبيديين، فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين ! من و كذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس، ذهاباً إلى ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم، فيقولون بلسانهم الزناتي: أنت القاسم، أي بنو القاسم. ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس و لو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم، فكيف تتم له الرئاسة عليهم في باديتهم، و إنما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنه كثير الوجود في الأدارسة. فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب، و هم غير محتاجين لذلك، فإن منالهم للملك و العزة إنما كان بعصبيتهم و لم يكن بادعاء علوية و لا عباسية و لا شيء من الأنساب، و إنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم و مذاهبهم. و يشتهر حتى يبعد عن الرد، وقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤثل سلطانهم، أنه لما قيل له ذلك أنكره، وقال بلغته الزيانية ما معناه: أما الدنيا والملك فنلناهم بسيوفنا، لا بهذا النسب، وأما نفعهما في الآخرة فمردود إلى الله.وأعرض عن التقرب إليه بذلك."[38]
والنسب تتدرج نقاوته، عند ابن خلدون، من "المتوحشين في القفر من العرب" إلى "الانتماء إلى المواطن" الذي تختلط فيه كل الأنساب، مرورا بكل الحالات الوسطى. ويختم ابن خلدون الفصل الذي أفرده إلى هذا الموضوع قائلا: "وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن، فيقال: جند قِسرين، وجند دمشق، وجند العواصم، وانتقل ذلك إلى الأندلس [ظ 54/1]، ولم يكن ذلك لاطراح العرب أمر النسب، وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عُرفوا بها، وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم، ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم، وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية، فاطرحت، ثم تلاشت القبائل ودثرت، فدثرت العصبية بدثورها، وبقي ذلك في البدو كما كان، والله وارث الأرض ومن عليها"[39].
وقد لاحظ ابن خلدون أن استتباب الدولة ينتج عنه اضمحلال القبيلة والقرابة والعصبية. وكما يقول الجابري نفسه، "أن تفكك عصبية الأسرة الحاكمة لا يستلزم حتما انهيار الدولة. ذلك لأنه قد يحدث أن يكون صاحب الدولة في وضع يستغني فيه عن العصبية جملة "بما يحصل لها (للدولة) من الصبغة في نفوس إيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الجيال مبداها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب، ويكفي صاحبها، بما حصل لها في تمهيد أمرها، الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق، ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم، فلا يكاد أحد أن يتصور عصيانا أو خروجا إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له، فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده".[40]
وكأن هناك تنافرا بين طبيعة الدولة – المعبرة عن الحضارة - وهذه الظواهر المعبرة عن البداوة[41]. لكن ابن خلدون لم يُنظِّر هذا الانفصال بين العصبية والقبيلة، من جهة، والدولة، من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى كونه لم يفصل بين الدولة بصفتها إطارا سياسيا دائما، والمُلك الذي يتداول على السلطة[42]. وبما أن منهجيته تصدر عن مماثلة بين قوانين حياة المجتمعات وقوانين حياة الكائنات الحية، أسقط أطوار الحياة على أطوار الدولة (نشأة، ازدهار، وفاة).
نستنتج من قراءة ابن خلدون ان القبيلة والعصبية ظواهر ليست معطاة بشكل مطلق، فهي موجودة بالقوة . والمشروع السياسي هو الذي يحدد امتداد القبيلة وهو الذي ينفخ الروح في العصبية. أي أنه يجب قلب المعادلة الخلدونية، فخط السير ليس من القبيلة والعصبية إلى المشروع السياسي، بل من المشروع السياسي إلى القبيلة والعصبية. نعم، إن ابن خلدون يقول ان المعارضة بدون قبيلة وعصبية تحملها مجرد انتحار. لكن بالمقابل، فإن كثيرا من المشاريع غالبا ما تجد القبيلة والعصبية التي تحملها. فهناك جدلية بين كل هذه العوامل.
إن ابن خلدون مفكر عظيم - وهذا أمر لا نزاع فيه - لكن البعض حوله إلى كاهن [43]oracle. وهذا شأن كثير من المفكرين الذين تختزل نظرياتهم وفلسفاتهم في بعض المفاهيم العامة، وبذلك يتحولون إلى عائق ابستيمولوجي يحول دون التحليل السليم للظواهر. ولهذا فإن الانطلاق من ابن خلدون يستلزم مراجعة مفاهيمه لتبين الحدود التي يمكن أن تستعمل ضمنها. أما إذا استعملت بشكل مطلق وخارج حدودها، فإنها ستؤدي لا محالة إلى تشخيص خاطئ . ولو اكتفى الجابري بقراءة ما كتب عن المغرب – بلده – من قبل الباحثين المغاربة والأجانب في مجالات التاريخ والانتروبولوجيا والسياسة، لكان تجاوز الإشكالية الخلدونية، بقبائلها وعصبياتها وعقيدتها، التي تكاد لا تشرح شيئا في تاريخ مغرب ما بعد ابن خلدون[44]. هذا على مستوى المعرفة الميدانية.[45]
أما على مستوى المنهج، فإن الجابري يمزج بين المادية التاريخية والثقفانية culturalisme التي تزاوج الأنتروبولوجيا والتحليل النفسي، وهما منهجان متنافران. فهو من ناحية يعطي الأولوية للعوامل الاقتصادية (الغنيمة و الريع)، ومن ناحية أخرى يركز على دور "العقل" كمعبر عن ثابت انتروبولجي ولا شعوري. فلا ندري كيف يمكن التوفيق بين معطى اقتصادي تتحكم فيه عوامل تاريخية متعددة ومتطورة وثابت لا يؤثر فيه الزمان.
وبما أن الجابري- الذي ابتدأ مشواره الفكري ماركسيا- يقيم تراتبية بين العوامل التفسيرية، مقدما الغنيمة على القبيلة، وهذه على العقيدة. فلنتفحص نظريته الاقتصادية الضمنية التي بنى عليها كل أطروحته حول الغنيمة والريع.
فالجابري يعطي لقارئه الانطباع بأن العالم العربي كائن طفيلي يعيش عالة على باقي الإنسانية. يهاجمها ليأخذ ما أنتجته، في الماضي؛ أو يكتفي بتصدير ما أعطته الطبيعة ليستورد ما انتجه الآخرون، في الحاضر. ولو كلف نفسه عناء تفحص هذه المسلمة لأدرك أن المرحلة "الريعية" في تاريخ البلدان العربية قصير جدا، لم يتجاوز القرنين في البداية؛ كما أنها لا تتجاوز بضع عشرات من السنين في العصر الحديث، بفضل البترول[46]. مع العلم أنه لا المرحلة الأولى ولا الثانية تغطي كل العالم العربي. فلا كل البلدان العربية كانت في مركز الدولة الإسلامية لتتمتع ب"الريع" القديم، ولا كلها منتجة للبترول لتتمتع ب"الريع" الحاضر.[47]
فليس من ثروة في البلدان العربية طوال تاريخها إلا ما انتجته. ولو اكتفى الجابري بتفحص اقتصاد بلده – المغرب - لأدرك أنه لم يستمتع لا ب"الريع" القديم ولا بالجديد (باستثناء فترة قصيرة أثناء حكم الدولة السعدية عندما غزا دولة سونغاي)[48] ، وجل ميزانيته مما ينتجه داخليا.
وإذا كان الجابري يعتبر ما قاله عن "الغنيمة" و"الريع" تحليلا اقتصاديا، ففهمه للاقتصاد محدود. ولو أنه حلل الواقع الاقتصادي للدول العربية من زاوية التبعية والامبريالية، كما كان يدعو لذلك في مرحلته الماركسية، لكان أقرب إلى الصواب.
ولهذا النكوص علاقة بالضغوط الخارجية وهو ما يحيل إلى مفاهيم الأمبريالية والتبعية التي كان الجابري يوظفها في فترته الماركسية
لا شك ان القارئ لاحظ أننا ركزنا نقدنا على المقدمة أساسا. والحاصل هو أن هذه المقدمة التي أرادها الجابري إنارة منهجية للكتاب أساءت إليه أكثر مما خدمته. لقد وضع الجابري قاعدة منهجية لقراءة التراث في كتابه "نحن والتراث" مفادها أنه يجب "جعل المقروء معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي، ومن هنا معناه بالنسبة لوسطه الخاص. ومن جهة أخرى تحاول هذه القراءة أن تجعل المقروء معاصرا لنا، ولكن على صعيد الفهم والمعقولية، ومن هنا معناه بالنسبة لنا نحن. إن إضفاء المعقولية على المقروء من طرف القارئ معناه نقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ، الشيء الذي يسمح له بتوظيفه من طرف هذا الأخير في إغناء ذاته أو حتى إعادة بنائها"[49].
لقد أراد الجابري تجاوز القراءات الأيديولوجية للتراث بفضل الابستيمولوجيا، هادفا إلى جعل التراث معاصرا لنفسه ومعاصر لنا. إلا أن جعل المقروء معاصرا لنا لا يعني إسقاطه على واقعنا، وهذا ما يفعله الجابري، الأمر الذي يسقطه في أكثر القراءات الأيديولوجية سطحية.
أما الكتاب نفسه فهو عبارة عن بحث غني وقيم، بشرط أن نغير عنوانه حتى يوافق محتواه. فيمكن أن يسمى "نشأة الدولة الإسلامية" مثلا. ومن هذا المنظور يصير تحليل دور المحددات الثلاثة (القبيلة، الغنيمة، العقيدة، وبدون مزدوجين) في محله.
[1] [زيادة على مسالة عقلانية أو لا عقلانية إخوان الصفاء، هناك أيضا مسالة انتمائهم أو لا للحركة الإسماعيلية، وهو الموضوع الذي سيتناوله طرابيشي بتفصيل في "العقل المستقيل في الإسلام؟"]
[2] المعجم الفلسفي... تاليف الدكتور جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، ج 2، بيروت 1979، ص 85
[3] وقد عبر على كونه رجل دولة في خطبته الشهيرة عندما قدم المدينة: "أما بعد، فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة. ولقد رضيت لكم نفسي على عمل ابن قحافة [=أبي بكر] واردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفرا شديدان وأردتها مثل ثنيات عثمان[وفي رواية أخرى سنيات] فابت علي، فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة: مواكلة حسنة ومشاربة جميلة. فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية. والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وان لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي. وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه، فإن اتاكم مني خير فاقبلوه فإن السيل إذا زاد عني، وإذا قل أغنى، وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة". ثم نزل... ( ص 236) (أحمد بن محمد بن عبد ربه، العقد الفريد، تحقيق محمد سعيد العريان، 8 ج في 3، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1953، ج 4، ص 147)
كما قال: "لا اضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها وإذا خلوها مددتها". ( ص 237) (أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري بن قتيبة، عيون الخبار، ج في 2، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للكتاب، 1963، ج 1، ص 9)
وهذه الحنكة السياسية هي التي مكنته من التوفيق بين "القبيلة" و"العقيدة" و"الغنيمة" كما رأى ذلك الجابري نفسه (ص 195)
ولو أن بعض السياسيين العرب المعاصرين عملوا بهذه المبادئ لكانوا جنبوا العالم العربي الويلات التي اصابته. ولكنهم فضلوا وضع السيف حيث الكلام يكفي، بله الغمز.
[4] الدكتور محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، الطبعة الثامنة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2011، ص 5
[5] من اجل إبهار القارئ، أو لعرض عضلاتهم الفكرية، يلجا كثير من الباحثين إلى الاطناب في المقدمات المنهجية. لكن التنزيل الفعلي لهذه الاعتبارات المنهجية، إما أنه غير موجود، أو أنه يثقل البحث أو يشوهه اكثر مما يوجهه، أو أنه ليس في الواقع إلا تسمية فضفاضة ومتعالمة لمنهج أوضح و"أبسط". وكثير من المناهج تحيل إلى إشكاليات فلسفية لا يمكن فصلها عنها، مثل البنيوية والمادية التاريخية والتحليل النفسي... وفي كثير من الأحيان كان من الممكن "الاقتصار" على قراءة النصوص ونقدها داخليا وخارجيا، عملا بمبدأ أوكام (أو نصل أوكام rasoir d’Occam)، إذ يقول أوكام أنه "ينبغي لنا أن لا نكثر الموجودات بلا مسوغ"، "وهذا نتيجة من نتائج قانون الاقتصاد (loi d’économie ou loi de parcimonie)، وهو القول "أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها، وترتكب الأعوص والأبعد" (ابن خلدون، المقدمة، ص 1018 من طبعة دار الكتاب اللبناني). مذكور في المعجم الفلسفي لجميل صليبا، ص 469
[6] يمتد العصر العباسى الأول قرنًا من الزمان، من سنة (132هـ= 749 إلى سنة (232هـ= 847م)
[7] Régis Debray, Critique de la raison politique, Gallimard, Paris 1981, p. 51
[8] المماثلة بين الإله والأمير – ودون العودة إلى فرعون وبختنصر – نجده في الأنظمة الملكية ذات الشرعية الإلهية، كما هو الحال في الإمبراطورية البيزنطية وفي أوروبا. هذه الشرعية تمنحها الكنيسة وهي من طبيعة مخالفة لبيعة العلماء، لكون البيعة تجعل الحكم قانونيا légal فحسب وليس شرعيا légitime.
[9] "المستبد العادل" ترجمة ل le despote éclairé، وهو حرفيا المستبد المتنور، فهي ترجمة غير موفقة لأنها تشتمل على طباق غير موجود في الأصل. فالمستبد قد يكون متنورا لكنه لا يمكن أن يكون عادلا.
[10] لكن الأمر ليس بالسهولة التي قد يكون تصورها الجابري، فالذي يؤمثل دولة الرسول غالبا ما يكون معاديا لكل أركان الديموقراطية الحديثة، من تعدد في الراي، وحرية معتقد، وعَلمانية الدولة... أما الذي يكون مشبعا بالروح الديموقرطية فليس في حاجة لإيجاد مبرر لها في دولة الرسول، إلا من قبيل الانتهازية السياسية.
[11] Régis Debray, Critique de la raison politique, Gallimard, Paris 1981, p. 17
[12] Ibid, p. 456
[13] يخصص دوبري كتابه "زمن الأخوة" Le moment fraternité لهذا الموضوع. ويقول في مقدمة الكتاب (الفصل) الأول:" إن الأمر ليس فرضية [أطروحة] بل ملاحظة [إقرار]: كل نحن يلتئم بعملية تقديس، مقصودة أو لا. فالمقدس ليس ترفا شخصيا، ولا بذخا، ولا إضافة روحية، بل من ضرورات الحياة: إنها الوسيلة الموثوقة التي تتوفر عليها جماعة غير محددة المعالم لخلق ما هو مشترك ولتجعل من نفسها جسما واحدا يمكنها من الاستمرار."
« C’est moins une thèse qu’un constat : un nous se noue par un acte, délibéré ou non, de sacralisation. Le sacré ne représente donc pas un luxe personnel, dépense somptuaire ou supplément d’âme, mais un bien de première nécessité : c’est le plus sûr moyen de mise en commun dont dispose un ensemble flou pour faire corps et se perpétuer. »
Régis Debray, Le moment fraternité, Gallimard 2009, p 19
[14] يمكن للقارئ أن يجد ملخصا حول موضوع تعريف القبيلة (منشور على الشبكة) في المقال التالي:
Yazid Ben Hounet, « Le concept de tribu en anthropologie »
[15] نظرية الوظائف الثلاث من وضع جورج دوميزيل Georges Dumézil وهي في رأيه تميز كل المجتمعات الآرية.
[16] "العقيدة" التي تحدث عنها الجابري هي أساسا الأيديولوجية الدينية/السياسية، إلا أن هذه الأيديولوجيا صارت مع الزمن مؤسسات اجتماعية (علماء، فقهاء، مفتون، أئمة، مدرسو القرآن، قضاة، عدول...) شكلت ضربا من "الكنيسة" لها مصالحها الفئوية.
[17] في المدة الأخيرة وزعت شركة Apple مئة مليار دولار على المساهمين فيها، وهذا الريع كان بفضل السياسة الجبائية لدولاند ترامب التي خفضت ضرائب الشركات والأغنياء بشكل كبير. وفي المقابل حرم ترامب ملايين الأمريكيين الفقراء من الحماية الصحية (أو على الأقل حاول ذلك). هذه السياسة الجبائية نموذج للريع، لأنها تمنح الامتيازات للزبائن السياسيين ولو أن تلك السياسة ستنعكس سلبا على غالبية المواطنين، لأن تقليص المداخيل الجبائية يعني تقليص الخدمات العامة.
[18] مصر وعدة بلدان عرفت نظام المماليك؛ وفي المغرب العربي لعبت الزوايا دورا سياسيا كبيرا.
[19] يمكن تمثيل ما حدث على المستوى التاريخي بانفجار ذري. أي أن الضغط الممارس على الذرات (القبيلة) وصل إلى درجة تفكيك جاذبيتها الداخلية (رفضها للدين وللدولة الجديدين)، ما أدى إلى استخراج كل الطاقة الكامنة فيها.
[20] من الممكن مقارنة ما حدث بعد البعثة المحمدية مع ما حدث بعد الثورة الفرنسية. ففي كلا الحالتين انتهى الأمر إلى صراع واقتتال بين شخصيات وفئات لها رؤى مختلفة حول طبيعة الحكم وطريقة ممارسته. فكان الاتجاه نحو الخارج (الحروب النابليونية) وسيلة لاعلاء كل هذه الخلافات. ومن الممكن أن نوازي بين "المحددات": مركز الثورة كان باريس ومنطقتها (مكة والمدينة)، فرنسا (الجزيرة العربية، أي مجموع القبائل)، الأفكار الثورية (العقيدة)، الحروب النابليونية (الغزوات والغنيمة)... لكن لا تلك "المحددات" ولا هاته يمكن أن نفهمها بدون الشرارة التي أطلقتها.
[21] يذهب بعض الباحثين إلى القول أن الحضارة الإسلامية هي أول حضارة عرفت الأحزاب السياسية، بصفتها تنظيمات ذات عقيدة وتطمح للوصول إلى الحكم.
[22] والجابري يعرف هذا بالتأكيد لأن من الأسباب التي أدت إلى استعمار المغرب الديون التي تراكمت عليه. ومنها الديون التي تحملها لدفع ثمن جلاء اسبانيا عن مدينة تطوان التي احتلتها إثر حرب 1859-1860.
[23] انظر الملاحظة السادسة، حيث يستخلص الجابري: "وبعد، فهل نحتاج هنا للقول إن ما يذكره الأنثروبولوجيون هنا بصدد بنية المجتمع في القبائل البدائية يجد أشباها له ونظائر فيما نعرفه من حياة القبائل العربية، في الجزيرة وخارجها، قبل ظهور الإسلام وبعده إلى اليوم؟" (ص 33)
[24] لا ننكر وجود ريع وزبونية، إلا أن هذه ظاهرة شبه كونية وإن بدرجات متفاوتة، والدول "الفاضلة" ليست إلا الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
[25] والجابري كمثقف يساري خير مثال على ذلك، إذ أن اليسار الأيديولوجي والسياسي هو الذي كان مهيمنا في الحقل الثقافي. حتى أن الحسن الثاني صرح بأنه إذا كان هناك فشل في السياسات المتبعة في المغرب، فالمسؤولية مشتركة بينه وبين المعارضة لأن جل إطارات الدولة يساريون.
[26] عندما تعجز الدولة على إعلاء تناقضاتها الداخلية فهي غالبا ما تتعرض للانقسام. وهذا ما يمثل كثرة الدول في أوروبا، فجراء الحروب الدينية التي أعقبت "حركة الإصلاح" انقسمت بعض الدول على أساس ديني (كاثوليكية أو بروتستانتية)، وفرض على السكان اتباع دين أمرائهم. وفي العصر الحديث، وزيادة على الانفصال على أساس ديني كما حدث في يوغوسلافيا، حدثت انفصالات على أساس لغوي. ومثال بلجيكا نموذجي مثال للانفصالين، فهي انفصلت عن هولاندا على أساس ديني (كاثوليك/بروتستانت)، وهي على وشك الانقسام اليوم على أساس لغوي (فراكفون/فلامان= وهي لغة هولاندا). ومن المفارقات أن الديموقراطية تلعب لصالح الانفصال.
[27] ويمكن أن نسوق كدليل على ذلك ظاهرة العبودية. فهذه الظاهرة كانت من "محددات" العقل الفقهي الذي أفرد ما لا يحصى من المقالات لهذا الموضوع، إلا أن كل هذا الفقه فقد مفعوله لأنه افتقد موضوعه بسبب زوال الاقتصاد العبودي وتجريم العبودية. واستمرار الذهنية العبودية لدى البعض لا يكفي لخلق نظام عبودي.
[28] يكفي للتأكد من ذلك تتبع السياسة البينية لبلدان الشرق الأوسط ابتداء من حلف بغداد (الذي كان يضم باكستان وتركيا، ذوي الأغلبية السنية؛ و إيران و العراق، ذوي الأغلبية الشيعية؛ مع بلدان "كافرة": المملكة المتحدة والولايات المتحدة)، مرورا بحرب اليمن الأولى (بين الجمهوريين المدعومين من قبل مصر والإمام الزيدي المدعوم من قبل السعودية) وبالمواقف من سياسة الشاه التي كان يحكمها الموقف من الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، والحرب العراقية الإيرانية التي سوقت على أنها حرب بين العرب والفرس (بل بين المسلمين والمجوس !). وخلال كل هذه الفترة لم يوظف الخلاف المذهبي السني/الشيعي الذي احتل الواجهة اليوم... وهذا يقتضي النظر إلى هذا الصراع في مضمونه الراهن وليس القديم.
[29] Maurice Godelier, “La notion de mode de production asiatique » et les schémas marxistes. » dans : Sur le mode de production asiatique (Paris : Editions sociales, 1969). Pp. 50-54
[30] في الواقع لم تكن القرابة رابطة فاعلة في متانة السلطة السياسية، بل العكس، فالصراعات داخل الأسرة الحاكمة كانت السبب الرئيس في الفتن المزمنة التي كانت تشهدها بيعة الملك الجديد؛ هذا إن لم يقتل من قبل أقربائه. ولهذا كان الاعتماد على المرتزقة – وغالبيتهم مسيحيين – أو العبيد خير وسيلة لإبعاد كل الأقارب ( عائلة، عشيرة أو قبيلة ) من السلطة.
[31] Peter Worsley, « The Kinship System of the Tellensi,” cite par: Marshall Sahlin, Au Coeur des sociétés (Paris: gallimard, 1980), pp. 17-18
[32] يشير الجابري في الهامش إلى أن بانو يفضل استعمال لفظ "الخراجي" (tributaire) بدل [الأسلوب] الأسيوي [للانتاج] (هامش ص 35)
[33] محمد عابد الجابري: "مساهمة في النقد الأيديولوجي" في محاورة فكر عبد الله العروي، مجموعة مقالات جمعها ورتبها: بسام الكردي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2000، ص 94 (نشر المقال أول مرة في المحرر الثقافي (الدار البيضاء) 4 أعداد من 15 ديسمبر 1974 إلى 5 يناير 1975)
ومما يقوله الجابري في هذا المقال: "ذلك لأن المثقف العربي لا يرفض الليبرالية، فقط بدافع العداء للاستعمار، بل لأنها مرتبطة حاليا بالاستعمار والامبريالية ارتباطا عضويا. الفكر الليبرالي الغربي حاليا، لا ينفصل عن الامبريالية تلك.. هذه حقيقة يعرفها الإستاذ العروي." (ص 98)
"النخبة" مقولة غير ماركسية تماما. إنها مفهوم يستعمله أصحاب علم الاجتماع البورجوازي (باريتو، موسكا، ماينهايم، فيبر...) في تحليلاتهم للمجتمعات المعاصرة، المتقدمة والمتخلفة على السواء، ضدا على الماركسية والتحليل الماركسي.. هؤلاء ينكرون "الطبقة" و "الصراع الطبقي"، ويضعون محلها "النخبة" و "دورات النخبة"." (ص 132)
"هذا هو "البرنامج الشامل" الذي يقترحه العروي على "المثقفين الثوريين" العرب. "برنامج شامل" يتخذ مواقف قارة من كيت وكيت. ولكن لا من الاستغلال الطبقي والنفوذ الامبريالي والأيديولوجيا البورجوازية.. فقط من الفكر السلفي، من الديموقراطية في إطار مشكل الأقليات (وكأن الأغلبية تتمتع بالديموقراطية. ومن السياسة الاقتصادية والتعليمية "للدولة القومية" (لا من هذه الدولة نفسها، من دوالبها، وأسسها، وارتباطاتها، والبنيات التي تقوم عليها..) (ص 122)
"أما القول بان تونس الحالية اكثر تقدما في الميدان الفكري من الجزائر "الاشتراكية" [وضع الجابري هذه الكلمة بين مزدوجين لأن اشتراكية بومدين لم تكن ماركسية لينينية خالصة] بدعوى أن الفكر السائد في تونس هو الفكر الليبرالي المنفتح فيطرح – مع الأسف – مسألة جديدة أخرى، وهي مقياس التقدم في الميدان الفكري؟ هل هذا المقياس هو الفكر الليبرالي؟ هل هو "سياسة" مهادنة الأمبريالية وعدم التردد في السير في ركابها "إن اقتضى الأمر."؟ إننا نرفض هذا المقياس لأن المشكل ليس هو مشكل إباحة الإفطار في رمضان أو تحريم بيع الخمر في الحوانيت والدكاكين.. بل المشكل هو مشكل من يقف موضوعيا وذاتيا في صف الأمبريالية، ومن يقف موضوعيا وذاتيا في الصف المعادي للأمبريالية... هذا هو المقياس الصحيح في عصرنا، المقياس التقدمي حقا." (ص 132)
[34] Michel Foucault, « Omnes et singulatum : Vers une critique de la raison politique », Le Débat (Paris), n° 44 (novembre 1986) [لم اترجم بداية العنوان لأني لا اعرف اللاتينية]
وبالرجوع للمقال نفسه نكتشف ان ملخص الجابري لم يتناول الإشكالية الأساسية للنص والتي تتعلق بطبيعة السلطة والدولة، إذ اكتفى بعرض إشكالية هامشية فيه.
[35] أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، 4 ج (القاهرة: لجنة البيان العربي، 1985، ج 1، ص 364
[36] الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي.
[37] ابن خلدون، المقدمة، الفصل الثامن "في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو فيما معناه"، النسخة المنشورة في موقع المكتبة الوقفية، ص 256
[38] المقدمة، الفصل الثاني عشر : "في ان الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم"، ص 261-262
[39] المقدمة، الفصل التاسع "في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم"، ص 258
[40] محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، دار الثقافة، الدار البيضاءن الطبعة الأولى 1971، ص 348
[41] موقف ابن خلدون من البداوة والحضارة يشوبه بعض الغموض، فهو يقسو على "العرب" أي البدو ويجعل منهم أعداء للحضارة؛ لكنه يعبر في مواضع مختلفة من المقدمة عن احتقاره لطباع التمدن والمواطنة: دفع الضرائب (التي يعتبره ضربا من الذل)، طاعة السلطة بكل اشكالها... وإدانته الأخلاقوية ل"البذخ"، مع العلم أنه من صميم الحضارة لأنه يشجع مختلف أنواع الصناعة. وفي المقابل يكيل المدح لبعض طباع البداوة التي تقوض كل سلطة.
[42] وهو الفرق الموجود بين État المشتق من status بمعنى القيام، أو ما هو قائم، و "دولة" التي تحيل إلى التداول.
[43] البعض لا يعرف عنه إلا "إذا عربت خربت".
[44] لفهم تاريخ مغرب ما بعد ابن خلدون يجب اعتبار دور الصوفية والزوايا والشرفاء والعلماء والمدن والقبائل والأندلسيين... زيادة على دور الدولة (لا بمعنى التداول بل بصفتها معطى "قائم"). وزيادة على هذا يجب اعتبار العوامل الاقتصادية والجيوسياسية. وحول الدور المهم الذي لعبه العلماء يمكن الرجوع لكتابين هامين: Berque (Jacques) Ulémas, fondateurs, insurgés du Maghreb، وكتاب "العالم والسلطان" للطفي بوشنتوف.
[45] إذا أخذنا تاريخ المغرب الأقصى كمثال، فإننا سنلاحظ أن القبيلة لم تكن العامل الوحيد، ولا حتى الحاسم، في تأسيس الدول التي تداولت عليه. فقبل الإسلام كانت القبيلة تلعب دورا تتحكم فيه موازين القوى الخارجية (قرطاجنية ورومانية)، و مع اللإسلام ظهرت عوامل اخرى:
- الشرف (الأدارسة، السعديون والعلويون)؛
- العقيدة (المرابطون والموحدون)، بل يمكن اعتبارهما دولة فقيه (عبد الله بن ياسين وابن تومرت)، خاصة الدولة الموحدية التي انتقل فيها الحكم من قبيلة المؤسس، ابن تومرت، إلى قبيلة تلميذه، عبد المؤمن؛
- تبقى الدولة المرينية وقريبتها الدولة الوطاسية التي يمكن أن نقول بشأنهما أنهما دول قبلية.
[46] هذا إذا سلمنا بأن مداخيل البترول ريع، وهي ليست بريع لأنها ثروة يوجد مثيلها في كثير من البلدان. إذ أن الريع يحيل إلى كيفية توزيع الثروة – محليا أو عالميا - لا إلى مصدرها. ولهذا يمكن القول أن الدولة الوحيدة التي تتمتع بريع خارجي (مدخول بدون مقابل) في الوقت الراهن هي الولايات المتحدة بفضل الدولار. فهي تستدين مجانا من باقي دول العالم.
[47] من الأمثلة التاريخية للريع ما كانت تحصل عليه اسبانيا من ثروات أمريكا بعد اكتشاف هذه القارة، أو ما كانت تحصل عليه الدول الاستعمارية مجانا من مستعمراتها.
[48] مع العلم ان بعض العلماء كانوا ضد هذا الغزو لأنه اعتداء على دولة مسلمة.
[49] محمد عابد الجابري: نحن والتراث (قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)، الطبعة السادسة 1993، المركز الثقافي العربي، ص 11-12
نقد "العقل السياسي العربي" للجابري
ألف طرابيشي أربعة كتب للرد المباشر على الجابري، كلها تحمل عنوانا مشتركا هو "نقد نقد العقل العربي"، وتحته عناوين فرعية وهي: "نظرية العقل" في 375 صفحة؛ "إشكاليات العقل العربي" في 319 صفحة؛ "وحدة العقل العربي الإسلامي" في 408 صفحة؛ "العقل المستقيل في الإسلام؟" في 424 صفحة. يضاف إلى هذه المجموعة "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة" في 636 صفحة؛ والذي وإن كان لا يحمل العنوان المشترك لأنه لا يرد مباشرة على الجابري، إلا أنه يمثل استمرارية للكتب السابقة. ويختتم هذا الكتاب بهامش كتب فيه طرابيشي: "فيما كانت مسودات هذا الكتاب قيد التصحيح في المطبعة جاءت الأخبار بنعي الجابري يوم 3/5/2010. وبذلك يكون هذا النبأ المحزن قد وضع نهاية إضافية لما أسميته في الكلمة التي كتبتها في رثائه: "ربع قرن من حوار بلا حوار".
كما نجد تعقيبات متناثرة على مواقف الجابري في عدة كتب أخرى لطرابيشي. منها "مذبحة التراث" و "هرطقات" 1 و 2.
وما يفسر ضخامة هذا الرد هو كون طرابيشي لم يكتف بنقد الجابري بالإشارة إلى مكامن الخلل في قراءاته ليصححها ويفكك إشكالياتها، وهو ما يمثل إلا جزئا ضئيلا من محتوى الكتب الأربعة، بل يقدم قراءة واسعة للتراث العربي الإسلامي وللثقافتين اليونانية والأوروبية؛ حتى أن القارئ قد ينسى أن الشرارة التي اشعلت المشروع هي كتب الجابري. وهكذا أنجز طرابيشي "مشروعه الشخصي" وسجل اسمه ضمن المفكرين العرب الكبار.
وفي هذا الصدد يقول طرابيشي: ""لامني أكثر من صديق وقارئ على كوني وضعت نفسي في مازق عندما كرست كل هذا الوقت (نحوا من خمسة عشر عاما) وكل هذا المجهود (أربعة مجلدات حتى الآن) لأرد على مشروع الجابري في "نقد العقل العربي" بدلا من أن أنصرف إلى إنجاز مشروع شخصي في قراءة التراث العربي الإسلامي. هذا المأخذ صحيح وغير صحيح في آن. فهو صحيح ما دام كل "مشروعي" – لا أحب كثيرا هذه الكلمة المتنرجسة – قد انحصر بنقد للنقد. ولكن هل فعلا ما فعلت شيئا سوى أن "رددت" على الجابري؟ لا اعتقد. فالواقع أن الجابري قدم لي المناسبة، التكئة، نقطة الانطلاق، ولكن ليس محطة الوصول. فقد كف مشروعي عن أن يكون مشروعا لنقد النقد ليتحول أيضا إلى إعادة قراءة وإعادة حفر وإعادة تأسيس. أو هذا ما أرجوه على الأقل." (العقل المستقيل في الإسلام؟ (تقديم، ص 9)
يقول طرابيشي أنه كان من المعجبين بمشروع الجابري الذي يعرفه شخصيا لأنه كان زميلا له في الدراسة في جامعة دمشق. لكن سرعان ما بدأ الشك يداخله عندما شرع في الرجوع إلى المصادر الأصلية التي ادعى الجابري أنه اعتمدها. والبداية كان محورها إخوان الصفاء الذين صنفهم الجابري ضمن التيارات المعادية للمنطق؛ وقد استغرب طرابيشي هذا التصنيف، خاصة وأن كل قراءاته السابقة حولهم كانت تصنفهم ضمن العقلانيين وأنصار المنطق. وعندما بدأ في تدقيق استشهادات الجابري بالرجوع إلى مؤلفاتهم، اكتشف أنه تجنى عليهم. وأن شواهده على لا عقلانيتهم المزعومة عبارة عن مقتطفات مفصولة عن سياقها العام، حتى يتسنى له تقويلها عكس الاشكالية العامة التي وردت فيها.[1]
ولهذا جاءت مقدمة "نظرية العقل" قاسية في حق الجابري، إذ يقول:" ومن ثم اندفعت أتحرى عن شواهد الجابري وأتحقق منها واحدا واحدا، سواء أكانت عربية أو أجنبية، فانفتح عندئذ أمامي باب أكبر للذهول: فليس بين مئات شواهد الجابري في "تكوين العقل العربي" سوى قلة قليلة ما أصابها تحريف أو تزييف أو توظيف بعكس منطوقها. ومن ثم ارتددت نحو "تكوين العقل العربي" أقرأه بعين جديدة وبمحاسبة نقدية صارمة. وعندئذ اكتشفت أن الزيف – ولا أتردد في استعمال هذه الكلمة - يكمن في الإشكاليات نفسها، وليس فقط في تعزيزاتها وحيثياتها من الشواهد" (ص 9). "والحال أن كل نقد يكتفي بمناقشة الإشكالات يبقى أسيرا لها. فالمطلوب، قبل دحض النتائج، تفكيك الإشكالات نفسها. فأسئلة الجابري، لا أجوبته، هي الملغومة" (ص 7). والأخطر في نظر طرابيشي هو "أن الجابري، بالقوة التي يتبدى عليها خطابه وبالشهرة التي نالها وبإحكام الاشكاليات التي اعتقل فيها العقل والتراث العربيين، قد بات يشكل ما أسماه غاستون باشلار عقبة ابستمولوجية. فالجابري قد نجح – لنعترف له بذلك – في إغلاق العديد من أبواب التأويل والاجتهاد. وما لم يُعد فتح ما أغلقه، فإن الدراسات التراثية لن تحرز بعد الآن تقدما، ولا كذلك عملية تفكير العقل العربي بنفسه انطلاقا من تراثه ومن توسطه التاريخي ما بين العقلين اليوناني القديم والأوروبي الحديث". (ص 8)
وأود في هذا الكتاب أن أقدم للقارئ خلاصة لكتب طرابيشي الخمسة. وأنبه القارئ أن نقد طرابيشي تناول أساسا ثلاثة مؤلفات للجابري. وهي "نحن والتراث" الذي يمكن اعتباره مدخلا لمشروع "نقد العقل العربي" الذي يشتمل على أربعة كتب؛ يقتصر نقد طرابيشي على اثنين منها، وهما: "تكوين العقل العربي" و "بنية العقل العربي". فهو بذلك لا يشمل كتب الجابري الأخيرة: "العقل السياسي العربي" و "العقل الأخلاقي العربي" (من مشروع "نقد العقل العربي")، زيادة على "مدخل إلى القرآن الكريم" و "فهم القرآن الحكيم" (في ثلاث أقسام).
وقد أوردت في الجدول التالي بعض مؤلفات المفكرَين، منها التي كانت موضوع "الحوار بلا حوار" (وهي المُسَودة في الجدول)؛ ثم المؤلفات التالية لها لكونها تشكل جزئا مهما في كلا المشروعين الفكريين. وتشاء المصادفة أن كلاهما ختم مساره بالقرآن.
السنة | مؤلفات الجابري (1936-2010) | مؤلفات طرابيشي (1939-2016) |
---|---|---|
1980 | نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي | |
1982 | تكوين العقل العربي (نقد العقل العربي 1) | |
1986 | بنية العقل العربي (نقد العقل العربي 2) | |
1990 | العقل السياسي العربي (نقد العقل العربي 3) | |
1998 | نظرية العقل (نقد نقد العقل العربي) | |
2001 | العقل الأخلاقي العربي (نقد العقل العربي 4 ) | |
2002 | إشكاليات العقل العربي (نقد نقد العقل العربي) | |
2002 | وحدة العقل العربي (نقد نقد العقل العربي) | |
2004 | العقل المستقيل في الإسلام؟ (نقد نقد العقل العربي) | |
2006 | مدخل إلى القرآن الكريم | |
2008 | فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول( في ثلاثة أقسام) | |
2010 | من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة |
والملاحظ من هذا الجدول هو وجود كتب مهمة للجابري بقيت خارج "الحوار". ف "العقل السياسي العربي" صدر سنة 1990، ورغم ذلك لم يرد ذكره في "نقد نقد العقل العربي". والأمر سواء مع "العقل الأخلاقي العربي"، الصادر سنة 2001. أما فيما يتعلق بالكتب الأخيرة الصادرة بين 2006 و 2010، فيمكن القول بشأنها أنه نظرا لتزامن فترات إنجازها، ولوفاة الجابري، لم يكن من الممكن أن تكون موضوعا لحوار حتى ولو توفرت الرغبة في ذلك.
غياب أية إشارة ل"العقل السياسي العربي" من قبل طرابيشي في "نقد نقد الفكر العربي" قد يكون مرده إلى كون هذا الكتاب، ورغم كونه الحلقة الثالثة في "نقد الفكر العربي"، خارج عن الإشكالية الجابرية - بأقطابها السالبة والموجبة - التي كانت موضوع نقد طرابيشي. فهو بحث تدور أحداثه داخل الإسلام، في الجزيرة العربية وجوارها المباشر، ولمدة لا تتجاوز المئتين وثلاثين سنة. ورغم أنه ليس من أغراض هذه المقدمة نقد كتب الجابري التي لم يشملها "نقد النقد"، إلا أن لدي بعض الملاحظات على هذا الكتاب:
المحلاظة الأولى تتعلق بمفهوم "العقل السياسي" أي بموضوع عنوان الكتاب، والذي يحدده –حسب الجابري - ثالوث "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة". إذ أن على القارئ أن ينتظر الصفحة 365 ليقرأ التنبيه التالي: "وغني عن البيان القول إننا نتحدث هنا عن المسار العام الذي بقي سائدا، والذي طبع التاريخ العربي بطابعه. أما المحاولات المعارضة والمضادة، سواء منها العملية كثورة الزنج وحركة القرامطة أو بعض الحركات التي كانت من وراء "ثورات العامة"، سواء في المشرق او في المغرب والأندلس، أو النظرية الفلسفية والفقهية، التي أعلنت بصورة أو بأخرى عن رأي سياسي مضاد للأمر الواقع الذي يجسمه المسار العام ذاك – أما مثل هذه المحاولات العملية منها والنظرية فقد سكتنا عنها لأنها بقيت مقموعة معزولة أو هامشية وبالتالي لم يكن لها أي حضور حقيقي في عملية تكوين العقل السياسي العربي، العقل الذي ساد الممارسة السياسية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية. ولو كان موضوعنا هو التأريخ للأفكار السياسية والحركات الاجتماعية لكان علينا أن نخصص لها مكانا يتناسب مع حجمها وأهميتها، أما وأن موضوعنا يختلف، إذ العقل السياسي شيء وتاريخ الأفكار والحركات السياسية شيء آخر، فإن السكوت عنها مبرر بقدر ما هو مبرر السكوت عن الزهرات اليتيمة في حدائق الشوك أو عن الشوكات القليلة النابتة في حدائق الورد. وإذن فلا معنى لأن يعترض علينا بكون الفيلسوف الفلاني قد قال كذا أو بكون الفقيه الفلاني قد افتى بكذا أو بكون المصلح أو الثائر العلاني قد ارتاى كذا وكذا ما دامت آراء هؤلاء قد مرت دون أن يكون لها صدى في الواقع ولا تأثير في مجرى المسار العام، وأيضا ما دام الارتباط بها اليوم لا يقدم البديل المستقبلي المطلوب. إن المسالة بالنسبة إلينا تتلخص في القضية التالية: كل كتابة في السياسة هي كتابة سياسية متحيزة، ونحن متحيزون للديموقراطية. والتحيز للديموقراطية في الدراسات التراثية يمكن أن يتخذ إحدى سبيلين: إما إبراز "الوجوه المشرقة" والتنويه بها والعمل على تلميعها بمختلف الوسائل... وإما تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته الأيديولوجية (الاجتماعية واللاهوتية والفلسفية). وقد اخترنا هذه السبيل الأخيرة لأنها أكثر جدوى." (ص 365)
الجابري، إذن، يميز بين العقل السياسي وما أنتجه - أو المفروض أنه أنتجه - هذا العقل من أفكار وحركات سياسية ومؤسسات. ولهذا كان علينا العودة إلى تعاريف مفهوم العقل المختلفة لتبيان العلاقة الممكنة بين طبيعة العقل وما يعقله. وبما اننا بصدد عقل سياسي عملي، وجدنا أن مفهوم العقل الذي وظفه الجابري هو المسمى ب "العقل بالفعل" (intelligence en acte) ، "وهو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد، لكنها لا تشاهدها بالفعل (تعريفات الجرجاني)"[2]. ولنا عودة لهذا التعريف عند الحديث عن "المحددات" في الملاحظة الرابعة.
وعندما اضطر الجابري إلى ذكر الحركات الفكرية - والتي خصها بالفصل التاسع تحت عنوان "حركة تنويرية" – ولم يكن له بد من ذلك نظرا لحضورها الفاعل في خضم الصراع السياسي والاجتماعي القائم؛ فإنه عوضا عن التعامل معها كنظريات فكرية قائمة بذاتها - لها مسلماتها وإشكالياتها ومنطقها- بغض النظر عن بعدها السياسي الصريح أو الضمني؛ فإنه يردها إلى مجرد ايديولوجيات ظرفية، وينتقد "مؤلفي الفرق" لأنهم أهملوا المضامين السياسية التي تحملها آراء أصحاب الفرق. إذ يقول: "فمن جهة يجب التحرر من السلطة التي يفرضها المؤلف في الفرق على قارئه، بواسطة تصنيفاته وتأويلاته، ومن جهة أخرى يجب قراءة آراء كل فرقة وكل "صاحب مقالة" على ضوء آراء الخصم الذي يتجه إليه بالخطاب. وعندما يتعلق الأمر بالعصر الأموي الذي كانت فيه الفرق أحزابا سياسية حقيقية فإن القراءة السياسية الصريحة تفرض نفسها فرضا. ولما كان خصم الفرق في هذا العصر هو أساسا الدولة الأموية نفسها، فإن استحضار الأيديولوجيا التي تبنتها هذه الدولة وعملت على ترويجها وتكريسها أمر ضروري لفهم أيديولوجيا خصومها: أصحاب الفرق. وإذا كانت مسألة "القدر" – أو الجبر والاختيار- هي المسألة "الكلامية" الأولى في العصر الأموي، فإن ذلك لم يكن صدفة بل لأن الأمويين اتخذوا الجبر أيديولوجيا لهم، كما بينا ذلك في فصل سابق (الفصل السابع، الفقرة 7). وإذن فعرض أيديولوجيا الدولة الأموية شرط ضروري للوقوف على المضمون السياسي لمقالات أصحاب الفرق في هذا العصر، خصوصا منها مقالات أولئك الذين قادوا حركة تنويرية حقيقية في هذا العصر، حركة كان لها أكبر الأثر في تهيؤ المناخ الفكري الأيديولوجي الضروري لنجاح الثورة... العباسية، كما سنرى." (ص 300-301)
هذا الرد لكل مذهب فكري لوظيفته الأيديولوجية، الفعلية أو المفترضة، يتجاهل أن الإشكاليات التي طرحتها هذه المذاهب هي إشكاليات فلسفية/دينية/سياسية متجددة عبر تاريخ الفكر. فالجبر والاختيار معضلة منطقية قبل كل شيء، واجهها الدين والفلسفة وعلوم الإنسان عموما. والتكفير بالكبائر هو موقف ذي طبيعة دينية في جوهره، بغض النظر عن التوظيف السياسي له. وكذلك أمر الأفكار السياسية التي تحيل إلى السياسة قبل ان تكون شعارا لهذا الحزب او ذاك. فشروط الإمامة، تطرح عندما نخلصها من التسمية الظرفية (إمامة) مسالة سياسية محورية عابرة للزمان والمكان، ألا وهي الشروط التي يجب ان تتوفر في الحاكم. وكما اختصم المسلمون بين مشترط للنسب القريشي ورافض له، اختصم آخرون حول وراثية الحكم بين ملكي وجمهوري...
والجملة الأخيرة في النص المذكور أعلاه، والتي تتحدث عن "حركة تنويرية" وعن "الثورة العباسية"، تفترض حدوث قطيعة في العقل السياسي العربي بين العصر الأموي والعصر العباسي؛ وهو ما يناقض الإشكالية العامة للكتاب التي تفترض وجود محددات للعقل السياسي العربي عابرة لكل التاريخ العربي. فهل توقف ثالوث "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة" عن تحديد العقل السياسي في العصر العباسي بفضل "الحركة التنويرية" المعارضة لايديولوجيا الجبر؟ والحاصل هو ان الجابري اضطر إلى إضافة "محددات" أخرى ليفسر ما حدث مع "الثورة العباسية"، وهي موضوع الفصل العاشر (الأيديولوجيات السلطانية وفقه السياسة)، منها مفهوم "الكتلة التاريخية" (ص 330)؛ "دولة المركز ودولة الأطراف" (ص 331)؛ "البنية السطحية والبنية العميقة" (الأولى تحيل إلى "المحددات" السالفة الذكر، والثانية إلى مفهومي "الخاصة" و"العامة") (ص 331)؛ دور "الأيديولوجية السلطانية في الثقافة العربية [ال] منقولة، في معظمها، عن الأدبيات السلطانية الفارسية." (ص 339).
وإذا انتقلنا من الفكر إلى الممارسة السياسة الفعلية، وبدل "إذابة" معاوية في إشكالية العقيدة والقبيلة والغنيمة، كان من الممكن التعريف ب "المعاوية" (كما نقول "المكيافيلية") كفلسفة لممارسة الحكم. فقد نظَّر معاوية لفيزياء سياسية "تقتصد الطاقة" في سياسة الرعية (والطاقة في السياسة هي العنف). وهو كما قال الجابري: "العقد السياسي" الذي اقترحه معاوية وطبقه بصورة واسعة، على الأقل في مجال "المواكلة" والاشراك في "الغنيمة" (=العطاء السياسي) والتعامل مع الخصوم السالكين مسلك المعارضة السلمية بهذا النوع من "الليبرالية" قد فتح الباب أمام قيام "مجال سياسي" تمارس فيه الحرب ضد الأمير بواسطة "الكلام"، أي السجال الأيديولوجي، فإنه لا معاوية ولا خلفاؤه من بعده استغنوا عن "القبيلة". نعم لقد مارسوا فيها "السياسة" كما سنرى ولكنهم لم يعملوا على تجاوزها. والمجال السياسي لا يستحق هذا الاسم إلا إذا كان هناك اختراق ل "القبيلة". وقد حصل ذلك فعلا، ومنذ عهد معاوية، ولكن ليس من طرفه هو بل من طرف خصومه. ومن هنا العامل الثاني في انبثاق المجال السياسي في الدولة الأموية." ويوضح الجابري هوية هؤلاء الخصوم قائلا: "بالرغم من أن الذين ثاروا على عثمان قد فعلوا ذلك في إطار "القبيلة" (عرب الجنوب ضد عرب الشمال، ربيعة ضد مضر.[...] فإن كونهم من قبائل وبطون مختلفة ومتنافسة اضطرهم إلى البحث عن رابطة أعلى من "القبيلة". وبما أن المعارضة للأمويينن وبالتالي ل "قريش" كان رمزها هو علي بن ابي طالب، وبما ان هذا الأخير قد نشأ منذ صباه في بيت النبي (ص) وكان من أوائل المسلمين ثم صار زوجا لابنته فضلا عن كونه ابن عمه، فقد جعلوا من هذه العلاقة قرابة "روحية" تتجاوز النسب وتسمو عليه. ومن هنا شكل الارتباط بعلي، أي التشيع له، أول مظهر من مظاهر اختراق "القبيلة". وإذا أضفنا إلى هذا ذلك الدور الذي قام به أصحاب علي من "السابقين الأولين"، خاصة المستضعفين منهم كعمار وأبي ذر والمقداد... الخ في خلق تيار من المعارضة يتحرك باسم "العقيدة" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) – وجل العاملين فيه من القراء" [كذا ؟] الذين كان معظمهم من "اللامنتمين" (=خارج القبيلة: موالي، حلفاء...) (ص 238).
إلا أن الجابري لا يقول لنا لماذا يكون "اختراق القبيلة" شرطا لقيام "مجال سياسي"، ولا يشترط لذلك اختراق العقيدة. خاصة وأن الجماعة التي تربطها العقيدة قد تتصرف كقبيلة. وأن "الليبرالية" التي تميز بها معاوية لا نجدها عند اللذين بنوا دولتهم على العقيدة، ولنا في دولة الموحدين خير دليل على ذلك. مع العلم أن "مجال السياسة" لا يمكنه أن ينتعش بدون هامش من الليبرالية والتعددية. وهو ما يؤكده الجابري ضمنيا في معرض تحليله لموقف علي: إذ يقول: "كان علي معارضا لعثمان باسم "العقيدة". وعندما بويع بالخلافة، في الظروف الحرجة التي شرحناها، أراد أن يبطل مفعول "القبيلة" و"الغنيمة" مرة واحدة ويجعل الأمر كله ل "العقيدة". وكان في ذلك نوع من الممارسة اللاسياسية في السياسة."[...] لقد "كان علي بن أبي طالب في أول الأمر رمزا لمن كانوا يطلبون "العدل" ولكن الناس لا يفهمون دائما من "العدل" نفس الشيء. لقد كان معظم اتباعه يفهمون العدل على أنه "الزيادة في العطاء"، فأراد هو ان يبقى مخلصا ل "العدل" الحقيقي الذي ينتفي معه كل اعتبار آخر. فشل علي وكان لا بد أن يفشل لأن "التوافق الضروري" الذي كان مطلوبا يومذاك ك "عامل محدد وحاسم" هو التوافق بين "الغنيمة" و"القبيلة" و"العقيدة". وقد نجح معاوية في هذا الأمر[...]" (ص 195)
وكيف يمكن لعلي اختراق القبيلة في حين أن الشرعية التي كان يدعيها ليست إلا شرعية أسرية؟ والأسرة هي "قبيلة القبيلة". ألم يقبل خلافة من سبقه إلا على مضض، رغم أن خلافتهم كانت شرعية بمقاييس ذلك العصر، ولم تخضع لمجرد الغلبة القبلية؟
إن علي ومعاوية نموذجان شبه متلازمان عبر التاريخ. معاوية نموذج لرجل الدولة[3] الذي يسوس الأمور بواقعية، أما علي فنموذج للدوغمائي الذي تكون نهايته إما الشهادة (وهذا ما يجعل من هؤلاء شخصيات محبوبة كما هو شان علي في المخيال الإسلامي) وإما ممارسة حكم شمولي غالبا ما يصطدم بالواقع، وآنذاك إما يتحول أو ينهار.
اما الحركة التي كانت مبادئها مؤهلة لاختراق القبيلة فهي حركة الخوارج، لكونها فتحت إمكانية الإمامة أمام كل المسلمين. لكنها، كما هو شأن كثير من الفرق التي نزعت إلى "الثورة الدائمة" - حسب تعبير الجابري - سقطت في مأزق الغلو بتكفيرها بالكبائر، وبذلك أغلقت بدورها مجال السياسة.
كما ان الجابري، وكما سنرى ذلك في الملاحظة الرابعة - يسجن العقل السياسي العربي في تمظهرات "محدداته" خلال القرنين الأولين للحضارة العربية الإسلامية، وكأن تاريخ هذا الفكر – على خلاف تاريخ العقول السياسية لباقي الحضارت – هو الوحيد الذي لم يؤثر عليه التاريخ العام للحضارة الإنسانية. مع العلم ان العقول السياسية للحضارات المزامنة للحضارة العربية الإسلامية في القرنين الأول والثاني الهجري، لم تكن تختلف جوهريا عنه. فما هو السبب الذي جعلها تتطور دونه؟
وهذا يحيلنا إلى نقص منهجي في هذا الكتاب، ألا وهو غياب المقارنة. فليس كالمقارنة منهجا لإعطاء الظواهر وزنها النوعي وخصوصيتها.
الملاحظة الثانية تتعلق بالمدخل العام، وهو عبارة عن مقدمة منهجية في 46 صفحة (ص 7- 53). وحول وظيفة هذا المدخل يقول الجابري في "البيان الرابع: تجديد الفهم للإسلام بوسائله الخاصة..." الذي تتضمنه مقدمة الطبعة السابعة: "أما المدخل فهو يشرح الأدوات النظرية، أي المفاهيم، التي قرأت الموضوع بواسطتها. وبما أنها ليست هي تلك الرائجة في الساحة الفكرية العربية المعاصرة، بل لقد جعلتها كبديل عنها، فقد جاء هذا المدخل بمثابة نقد للعقل السياسي العربي المعاصر، العقل الذي يقرأ به العرب تاريخهم ويفهمون حاضرهم. فالمدخل منهجي أساسا"[4]. إلا أن القارئ يجد نفسه أمام خلاصات جاهزة ومفاهيم لا تساعد على فهم خصوصيات موضوع البحث، بقدر ما تسجنه في قوالب تعرضه للتشويه. وهذا التشويه يطال المقدمات والنتائج؛ فهو يطال المقدمات لأنه لا ينتقي منها إلا ما يدخل في القوالب، وهو يطال النتائج لأنها متضمنة في القوالب. وإذا انطلقنا من مسلمة أن انتقاء منهج ما يعني التنزيل الإجرائي له، فإننا لا نجد أي تنزيل إجرائي – ولا حتى عرض - لمناهج النظريات التي ادعى أنه قرأ الموضوع بواسطتها. وزيادة على كل هذا يفاجئ الجابري قارئه عندما يقول في "البيان الثالث: مسالة المنهج": "بخصوص المنهج أعتقد أن الكتاب مكتوب بطريقة تبرئ الكاتب وتحمل القارئ مسؤوليته في فهم ما يريده، حاولت أن أقتصر على عرض مادة ونصوص، وان يكون دوري دور مهندس. كنت أبني، ولكن دون أن اتدخل لا كصاحب نظرية ولا كصاحب تأويل مسبق. ومن هنا أعتقد أن هذا الكتاب هو حمال أقوال، ولكل أن يفسره كما يشاء. واعتقد أن كل طرف سيجد فيه ما يريده..." (ص 4)[5]. أن يفسر القارئ مواد الكتاب أو يجد فيه ما يريده، فهذا تحصيل حاصل يحدث مع كل كتاب؛ والكتاب غني بالشواهد التي تغني الثقافة العامة للقارئ؛ لكن ادعاء الجابري أنه لم "يتدخل لا كصاحب نظرية ولا كصاحب تأويل مسبق"، فهذا أمر صعب التصديق.
إلا أن مشكلة المنهج لا تقتصر على ما سبق ذكره، لكون الجابري ينبه في الفقرة الأخيرة من المقدمة إلى ان "الكتاب يقف، من الناحية التاريخية في العصر العباسي الأول. ذلك لأن ما حدث بعد ذلك هو استعادة، بصورة أو باخرى، لما سبق أن تقرر قبل هذا العصر وخلاله، فهو تكرار للمحددات والتجليات نفسها. ولا تزال هذه وتلك حاضرة معنا وفينا إلى اليوم." (ص 6). فالجابري يقترح – أولا- مدخلا ليشرح الأدوات النظرية، ثم "يغسل يديه منه" ويترك القارئ "يتحمل مسؤوليته"! ثم يدعي – ثانيا - أنه يمكن أن نفهم ما يحدث اليوم في العالم العربي بالرجوع لما حدث من البعثة إلى نهاية العصر العباسي الأول[6]؛ أي ما حدث في المئتين واثنين وثلاثين سنة الأولى من عمر الحضارة العربية الإسلامية !
الملاحظة الثالثة تتعلق بمفهوم "اللاشعور السياسي" الذي يستمده الجابري من كتاب ريجيس دوبري "نقد العقل السياسي" ، والذي يلخصه قائلا: "فكما أن الشعور لا يشكل جوهر الحياة النفسية للفرد فإن المؤسسات والتصورات السياسية لا تؤسس جوهر الحياة السياسية للمجموعات البشرية. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم السياسي، بل إن وجودهم الاجتماعي، الذي يحدد وعيهم ذاك، خاضع هو نفسه لمنظومة منطقية من العلاقات المادية القاهرة. وهذه المنظومة تبقى حاضرة ثابتة عبر مختلف اشكال المؤسسات القانونية أو الفلسفية التي يناظر كل نوع منها بنية اقتصادية معينة، وذلك لأنها، أي تلك المنظومة المنطقية، ليست من نفس طبيعة تلك المؤسسات. والناس لا ينتجون هذه العلاقات من خلال الروابط التي يقيمونها بينهم، بعضهم مع بعض، ب "حرية"، بل إنهم هم أنفسهم نتاج هذه العلاقات التي تتولد فيها ترابطاتهم تلك. وكما هو الحال تماما بالنسبة للأفراد، ولكن بصورة أخرى، فإن الجماعات البشرية المنظمة لها لاشعور نوعي خاص بها، تشكل الديانات وما يقوم مقامها من الأيديولوجيات أكثر أعراضه وضوحا، لا شعور نطلق عليه ها هنا اسم "اللاشعور السياسي". إن هذا اللاشعور ليس من طبيعة سيكولوجية إذ لا تتكون قاعدته من التصورات النموذجية [=خلافا لمثل أفلاطون]، وليس هو بالأحرى من طبيعة روحية ولا مما ينتمي إلى عالم الغيبيات [على الرغم من شؤم التشابه اللفظي مع اللاشعور الجمعي عند يونغ] إنه لا يتحدد بأشكال رمزية طافية على السطح بل يتحدد بأشكال ثابتة من التنظيم المادي ليست الأشكال الرمزية تلك إلا رسوما لها وبصمات"[7] (ص 12-13). ويوضح الجابري توظيفه لهذا المفهوم في مجال بحثه قائلا: "وهكذا فإذا كانت وظيفة مفهوم "اللاشعور السياسي" عند دوبري هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة فإن وظيفته بالنسبة إلينا ستكون بالعكس من ذلك إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري داخل المجتمع العربي القديم منه والمعاصر. وهذا من الأهمية بمكان، ذلك لأن السياسة عندنا بدأت تمارس باسم الدين والقبيلة وما زالت كذلك إلى اليوم. وإذن فاللاشعور السياسي المؤسس للعقل السياسي العربي يجب أن لا ينظر إليه فقط على أنه "الديني" و "العشائري" اللذان يوجهان من خلف الفعل السياسي بل لا بد من النظر إليه أيضا على أنه السياسي الذي يوجه من خلف التمذهب الديني والتعصب القبلي.[...] "وإذن فما هو السطح هنا هو التمذهب الديني، وليس "الاختيار السياسي" وبالتالي فاللاشعور السياسي عندنا لا يتأسس دائما على الدين، كما في أوروبا الحاضرة على الأقل، حسب دوبري، بل التمذهب الديني عندنا هو الذي يطفو على اللاشعور السياسي ويغطيه، وهذا ما سيظهر جليا من خلال فصول هذا الكتاب." (ص 13-14)
وعلى القارئ أيضا أن ينتظر الصفحة 356 ليصادف محتوى "اللاشعور السياسي" للعقل السياسي العربي. إذ يقول الجابري: "ان هدفنا هنا ينحصر في تقديم نماذج دالة وكافية لإثبات الأطروحة التي نريد بلورتها وهي أن العقل السياسي العربي مسكون ببنية المماثلة بين الإله و"الأمير" (سواء كان الأمير فرعون أو بختنصر أو خليفة أو ملكا أو سلطانا أو رئيسا أو زعيما)، البنية التي تؤسس على مستوى اللاشعور السياسي ذلك النموذج الأمثل للحكم الذي يجذب العقل السياسي العربي، منذ القديم إلى اليوم، نموذج "المستبد العادل"، لا فرق بين شيعي وسني، بين حنبلي وأشعري ومعتزلي، بين متكلم وفيلسوف (ويمكن أن نضيف الاتجاهات الفكرية المعاصرة بمختلف أسمائها)." (ص 356)
إلا أن ما "سيظهر جليا من خلال هذا الكتاب" هو أنه لا وجود لأي لاشعور مهما كانت نوعيته. فالأدوار التي لعبتها "المحددات" الثلاثة – العقيدة، القبيلة، الغنيمة – في السياسة خلال المرحلة التي درسها الجابري كانت من الشفافية بحيث أن القارئ لا يرى أي أثر إجرائي لنظرية دوبري، حتى وهي مقلوبة. والأمر سواء بالنسبة للمذاهب الفكرية والأفكار السياسية التي رأت النور في تلك المرحلة من التاريخ العربي الإسلامي. وعلى أية حال لا نجد في الكتاب ما يحيل إلى "بنية المماثلة بين الإله و"الأمير" التي يدعي الجابري أنها تسكن العقل العربي. بل ما نجده فعلا هو الثورة على كل أمير والطعن في شرعيته[8]. كما لا يمكن اختزال الصراعات التي شهدتها تلك المرحلة في مطلب واحد، ألا وهو فرض نظام "المستبد العادل". مع العلم أن فكرة "المستبد العادل" – حتى ولو كانت موجودة - ليست مقصورة على العقل السياسي العربي لتتخذ معيارا لتمييزه عن العقول السياسية الأخرى، إذ أننا نجدها عند مفكري عصر الأنوار، كفولتير مثلا.[9]
لكن الجابري يفاجئنا في آخر صفحات الكتاب بنموذج آخر لا يدري القارئ كيف يوفق بينه وبين النزعة إلى المماثلة بين الإله و"الأمير" ومعها نموذج "المستبد العادل ". إذ يقول: "ومن هنا يتجلى واضحا أن إعادة بناء الفكر السياسي في الإسلام يجب أن ينطلق من إعادة تأصيل الأصول التي تؤسس النموذج الذي يمكن استخلاصه من مرحلة الدعوة المحمدية ("وأمرهم شورى فيما بينهم"، و"وشاورهم في الأمر"، و"أنتم أدرى بشؤون دنياكم"، "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته")، وإعادة تأصيل هذه الأصول يتطلب كخطوة أولى إقرار المبادئ الدستورية التي تجعل حدا لمثل ذلك الفراغ الدستوري الذي برز واضحا في أواخر عهد عثمان والذي جسمته الثغرات الثلاث التي تحدثنا عنها (= عدم تحديد طريقة مضبوطة لاختيار الخليفة، عدم تحديد مدة ولايته، عدم تحديد اختصاصاته)." (ص 372)
وللتذكير فالجابري سبق له الاعتراض على القارئ الذي قد يواجهه ب "الزهرات اليتيمة" في التاريخ السياسي الإسلامي، لكنه ينسى اعتراضه عندما يدعو إلى "إعادة تأصيل الأصول التي تؤسس النموذج الذي يمكن استخلاصه من مرحلة الدعوة المحمدية" ! أي أنه يدعو إلى إعادة استنبات إحدى الزهرات العابرة في هذا التاريخ ![10]
وهنا يجد القارئ نفسه أمام سؤالين: السؤال الأول يتعلق بقابلية التوفيق بين نموذجين يفصل بينهما فارق نوعي؛ فالمستبد هو بالتعريف مستبد، على عكس النموذج النبوي الذي – وكما لخصه الجابري نفسه - ينبذ الاستبداد ! والسؤال الثاني هو هل النموذج النبوي يدخل في اللاشعور أم لا؟ مع العلم أن هذا النموذج، لا شعوريا كان أو شعوريا، هو في الواقع ما يمثل المثل الأعلى للحكم في الإسلام، وهو وحده العابر للتاريخ الإسلامي. وهو بذلك يمكن أن يعتبر المحدد للعقل السياسي العربي، أو على الأقل أحد محدداته.
وعندما يقول الجابري: " وبالتالي فاللاشعور السياسي عندنا لا يتأسس دائما على الدين، كما في أوروبا الحاضرة على الأقل، حسب دوبري، بل التمذهب الديني عندنا هو الذي يطفو على اللاشعور السياسي ويغطيه، وهذا ما سيظهر جليا من خلال فصول هذا الكتاب." (ص 13-14). فإننا نستغرب هذا القول، خاصة وأن الأخذ والرد بين الديني والسياسي كانا حاضرين في وعي جل الأطراف. مع العلم أن السياسي يخترق الأبعاد الاجتماعية الأخرى عموديا وأفقيا، بحيث أنه ليس هناك بعد أو مؤسسة اجتماعية إلا ولها تفاعلها الخاص مع السياسي، أتعلق الأمر بالاقتصاد، أو الانقسامات والتراتبات الاجتماعية، أو الدين ومؤسساته، أو المنتوجات الثقافية...
بل يمكن القول أنه لا داعي ل"استيراد" نظرية "اللاشعور السياسي" لدوبري لفهم عالم عربي ما زال الدين يلعب فيه دورا محوريا ظاهريا. فنظرية دوبري تنطلق من استغرابه لدوام الظاهرة الدينية ولو تعددت أقنعتها.
مجمل أطروحة دوبري أن الإنسان لم يتطور قط، فكل المعتقدات التي ظن البعض أن الحضارة الصناعية قبرتها نهائيا، تعود اليوم إلى السطح، وكلما ازداد تقدم البلد من الناحية الصناعية والتقنية، ظهر هذا العود بشكل أقوى، لكن تارة يكون ذلك بشكل مباشر وتارة بشكل خفي. فالدوافع التي كانت وراء بناء الأهرامات في الماضي، هي نفسها التي تدفع اليوم لبناء أضرحة الزعماء الكبار وتحنيط جثثهم[11]. و "تحديث البنى الاقتصادية زاد من عتاقة الذهنيات بدل التخفيف منها. والأرض الأمريكية هي الأرض الموعودة للبدائية في شتى أشكالها. والكل يعرف، أنه في قمة الرقي، وفي البلد الأكثر تقنينا stantardisation، والذي تجاوز المرحلة الصناعية، توجد أكثر الطوائف الدينية استعدادا للموت (جيم جونس)، والصراعات العرقية الأكثر ضراوة، والتنافس السياسي الأكثر وحشية. وفي المقابل توجد أيضا أكثر الأقليات الثقافية حيوية، وأكبر عدد من الإذاعات المحلية"[12]. ف"العقيدة" في منظور دوبريه معطى متجذر في النفس الإنسانية لا يمكن تجاوزه.
إن دوبري لا يدين الظاهرة التي لاحظها، بل أنه يرى أن كل مجتمع في حاجة إلى متعالي يكون سندا للهُوية الجماعية. فهو لا يريد التخلص من "العقيدة" بل يريد "عقيدة" وحدودا تميز الداخل عن الخارج. والعقيدة التي يريدها هي قبل كل شيء رمز للهُوية الجماعية، بغض النظر عن محتواها العقدي، وهو شخصيا يفضل عقيدة عَلمانية ترد التراث الديني الفرنسي إلى تراث ثقافي[13]. في حين أن الجابري يريد "تحويل "العقيدة" إلى مجرد رأي" كشرط لتجديد العقل السياسي العربي (ص 374).
الملاحظة الرابعة تتعلق ب"المحددات" الثلاثة: "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة". فالجابري يرى في هذه "المحددات" ثوابت بنيوية في العقل العربي إلى يومنا هذا ! حتى أن "التجديد" في العقل السياسي العربي الحديث يجب أن يكون ثورة على "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة" (ص 374).
ويوضح الجابري هذه "المحددات" في الصفحات الأخيرة من مدخله المنهجي، معتبرا أن "القبيلة" تحيل إلى "الدور الذي يجب أن يعزى لما يعبر عنه الآنثروبولوجيون الغربيون ب "القرابة" (la parenté) عند دراستهم للمجتمعات "البدائية" والمجتمعات السابقة للرأسمالية، وهي بكيفية إجمالية ما سبق أن عبر عنه ابن خلدون ب "العصبية" [...](ص 48-49). أما "الغنيمة" فيقصد بها "الدور الذي يقوم به العامل الاقتصادي في المجتمعات التي يكون فيها الاقتصاد قائما أساسا – وليس بصورة مطلقة – على "الخراج" و "الريع" [...]. وب"الخراج" نقصد ليس فقط ما تعنيه هذه الكلمة في استعمال الفقهاء المسلمين بل نقصد به جميع ما كانت تأخذه الدولة في الإسلام من المسلمين وغيرهم كجباية. [...] وبعبارة أعم نقصد ب"الخراج" هنا le tribut ما يفرضه الغالب على المغلوب من ذعائر واتاوات وضرائب [...] (ص 49-50). وبخصوص المحدد الثالث يقول: وب "العقيدة" فلا نقصد مضمونا معينا، سواء على شكل دين موحى به أو على صورة ايديولوجيا يشيد العقل صرحها، وإنما نقصد، أولا وأخيرا مفعولهما على صعيد الاعتقاد والتمذهب. إن موضوعنا هنا هو العقل السياسي، والعقل السياسي يقوم، كما هو معروف منذ أرسطو، على الاعتقاد وليس البرهان، وهو ليس عقل فرد بل "عقل جماعة"، إنه المنطق الذي يحركها كجماعة.[...] (ص 50-52)
كل هذه "المحددات"، وخاصة مع "توضيحات" الجابري، إما أنها تتسم ببداهة خادعة، وإما انها تحصيل حاصل لكونها توجد في كل مكان وزمان؛ وهي في كل الحالات تعرضت إلى رد سلبي réduction négative إلى درجة الكاريكاتور. فالقبيلة، حتى ولو أطرت بمزدوجين، من المفاهيم المتداولة دون مساءلة في كثير من الأحيان لمضمونها. وما يميزها، عند الجابري وغيره، هو "القرابة" و"العصبية"؛ وكأن هذين المفهومين ملازمين حصريا لها، وكافيين لتعريفها وتمييزها عن الأنساق الاجتماعية الأخرى[14]. كما لا يمكن رد الحياة الاقتصادية في الدول العربية طوال تاريخها إلى "الغنيمة" والريع. ولا رد كل "عقيدة" إلى أيديولوجيا دون محتوى معين.
وبما أن المحدد هو ما يميز ظاهرة ما عن غيرها، فإن السؤال المطروح هو هل هذه "المحددات" – رغم الاعتراضات السابقة الذكر - قابلة لتمييز العقل السياسي العربي عن غيره؟ فبدون مقارنة لا تقول هذه "المحددات" شيئا.
وقد يتسنى لها أن تقول شيئا لو انها قورنت مثلا ب"محددات" العقل السياسي الغربي القروسطي، والتي ينقسم المجتمع بمقتضاها إلى عابدين (الكنيسة) ومحاربين (النبلاء) وفلاحين (oratores، bellatores، laboratores )[15]. ويتضح من هذه "المحددات" الغربية أنه يمكن إجراء مقابلة – عضوا عضوا - بينها وبين "المحددات" العربية. فالعابدون ينتمون إلى مجال العقيدة[16]؛ والمحاربون مثلهم مثل أعضاء القبيلة الذين يشكلون العمود الفقري للجيش، وكلاهما يمثل الأرستقراطية؛ والفلاحون هم الفلاحون (أحرارا كانوا أو ارقاء أو عبيد)، أي الطبقة المنتجة المستغلة التي تضمن للآخرين "ريعهم". أو المقارنة مع الإمبراطورية البيزنطية التي كان يتقاسم فيها السلطة القيصر (والمؤسسة الملكية عموما) والكنيسة (وعلى رأسها البطريرك)؛ وكانت الدولة تصرف للوجهاء أجرا roga ، أي أنهم كانوا يتمتعون بريع بصفتهم وجهاء. وكان هذا الريع عبء ثقيلا على ميزانية الدولة. من هذه المقارنة المقتضبة يتبين لنا أن "الغنيمة" والريع ظاهرتان لا يخلو منها أي مجتمع، ولهذا لا يصلحان لتحديد العقل العربي، لا في العصر القديم ولا في الحديث[17].
وعلى المستوى المنهجي تثير هذه "المحددات" العديد من الاشكالات. فهي- أولا- من الاتساع الأفقي بحيث يمكنها ان تشمل العديد من الأنظمة في المجتمعات الإنسانية، وإن كان ذلك تحت مسميات مختلفة. وبما أنها موجودة في كثير من المجتمعات فهي- ثانيا- ليست محددات بل هي التعبير المحلي للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية التي لا يخلو منها أي مجتمع. وهي- ثالثا- من الامتداد العمودي بحيث أنها تغطي كل التاريخ العربي الإسلامي، وكأن هذا التاريخ لم يتعرض لقطيعات كان لها الأثر العميق في كل الأبعاد؛ آخرها صدمة الاستعمار الذي يكفي أن نقول بصدده أنه مؤسس الدول العربية الحديثة بحدودها ومؤسساتها. وهي- رابعا- تقوم على مسلمة أن الدول العربية متجانسة من حيث تركيباتها الاجتماعية وتاريخها.[18]
من المقارنة السابقة لا يجب ان نستنتج أن لا فرق بين النظام السياسي الأوروبي والعربي، لكن الفرق تتحكم فيه "محددات" أخرى؛ منها طبيعة الدولة ومؤسساتها أو العلاقة بين الحواضر والبوادي أو طبيعة المؤسسة الدينية أو دور الحواضر-الدولة ( cités-États)...
ولهذا عندما يختم الجابري بحثه قائلا: : "وإذن فالمطلوب، وهذه هي مهام الفكر العربي اليوم، مهام تجديد العقل السياسي العربي، المطلوب هو:
تحويل "القبيلة" في مجتمعنا إلى لا قبيلة: إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي: أحزاب، نقابات، جمعيات حرة، مؤسسات دستورية...[...]
تحويل "الغنيمة" إلى اقتصاد "ضريبة"، وبعبارة أخرى تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد انتاجي. [...]
تحويل "العقيدة" إلى مجرد رأي: فبدلا من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة يجب فسح المجال لحرية التفكير، لحرية المغايرة والاختلاف، وبالتالي التحرر من سلطة الجماعة المغلقة، دينية كانت أو حزبية أو إثنية [...]" (ص 374)
فإننا لا نملك إلا أن نتساءل هل حقا أن الدولة العربية الحديثة ليست في "محدداتها" إلا نسخة للدولة في القرون الأولى للإسلام، حتى تنحصر مهام الفكر العربي اليوم في التحويلات الثلاث؟ وحتى لا نذهب بعيدا، ونبقى في منتصف الطريق أي عصر ابن خلدون (1332- 1406)، فهل الدولة الحديثة في المغرب العربي ليست إلا نسخة للدولة الحفصية والمرينية والزيانية كما عرفها مؤلف "المقدمة"؟
والحاصل هو أن "محددات" الجابري هي نفسها تحتاج إلى محدد، أي لعامل يفسر الكيفية التي وظفت بها. وهذا العامل هو عامل تاريخي (أي محدود في الزمان) يتمثل في الصراع من أجل تأسيس الدولة الإسلامية الأولى والسيطرة عليها. خاصة وأن الانتقال من القبيلة إلى الدولة كان يعني الانتقال سياسيا من اللامركزية إلى المركزية، ومن عدم توارث السلطة إلى توارثها؛ ودينيا من التعدد الديني إلى وحدانية الديانة؛ واقتصاديا من اقتصاد معيشي إلى اقتصاد ريعي، بينهما فارق كمي ونوعي هائل جدا. إنه انقلاب أنتروبولوجي فريد من نوعه في التاريخ[19]. وهذا الصراع هو الخط الرابط بين كل الأحداث التي شهدتها تلك المرحلة، إذ كان على الفاعلين التاريخيين الارتجال لإيجاد حلول لكل العقبات التي كانت تعترضهم[20]. وإن انتهوا في الأخير بتقليد جيرانهم، خاصة وأنه كان على الدولة الإسلامية إدماج كل مكوناتها البشرية التي أتت، كل واحدة منها، بتراثها الخاص.
والدليل على ذلك هو أن تاريخ "المحددات" السابقة الذكر هو، وكما يعرضه الجابري نفسه، هو تاريخ التحولات التي طالتها بفعل ذلك الصراع على السلطة واحتكاكها بالشعوب الأخرى.
فعندما نتتبع مفهوم القبيلة في الشواهد التي يزفها الجابري، نلاحظ أنها أحيانا تضيق حتى أنها تقتصر على أسرة أو عشيرة (بنو هاشم، قريش)، وأحيانا تتسع لتشمل بلدانا بكاملها (اليمن) أو تحالفا قبليا. والصراع قد يكون داخل الأسرة الواحدة؛ كصراع علي وعائشة، وكلاهما من أسرة الرسول؛ أو صراع علي ومعاوية، وكلاهما من قريش. بل لقد شاهدنا في التاريخ الإسلامي شخصيات منعزلة تؤسس دولا، بعيدا عن عشائرها وقبائلها الأصلية (ادريس الأول، ابن رستم، عبد الرحمان الداخل، أبو عبد الله الشيعي...). ف "القبيلة" قد تكون آداة لمشروع، لكنها ليست المشروع. ومنبع المشروع هو الدين الجديد وما تفرع عنه من فرق، تحولت إلى أحزاب سياسية تروم الوصول للسلطة، وكلها تتجاوز الأفق القبلي.[21]
و"الغنيمة" أيضا ليست بالمفهوم البسيط، خاصة وان الجابري يخلط بين غنائم الحرب، وهي مداخل خارجية؛ وبين الضرائب المحلية (الخراج والمكوس والجزية وغيرها)، التي يتحملها رعايا الدولة. خاصة وأن الغنيمة الخارجية سرعان ما نضب معينها، إما بسبب استقلال الأطراف عن المركز (وكان ما يأخذه المركز سببا في هذا الاستقلال)، وإما لأن ميزان القوى انقلب حتى صارت الدولة الإسلامية هي مصدر الغنيمة لغيرها. والدليل على ذلك أن العديد من الدول العربية سقطت في يد الإستعمار لأنها كانت عاجزة عن أداء الديون المتراكمة عليها.[22]
أما الريع، وحتى وإن كان له ارتباط بالنظام الجبائي، إلا أنه يحيل إلى العلاقات السياسية والزبونية أولا، أي إلى طريقة توزيع الثورة وليس إلى طريقة الحصول عليها (غنيمة أو ضريبة). ومهما كان سوء ظننا في الأنظمة السياسية العربية، فإنه من الاجحاف أن نجعل من الريع والزبونية خصوصية لها نابعة من العقل السياسي العربي.
وفيما يتعلق ب"العقيدة"، ولأن منبع المشروع هو الدين الجديد، وبما أن الهدف هو تأسيس الدولة والسيطرة عليها ثم تسييرها - وبما أننا بصدد البحث في العقل السياسي العربي - كان لزاما أن تطرح مسألة الشرعية ومسألة مطابقة السياسة لقيم الدين الجديد؛ وعند استحالة هذه المطابقة (وهي دائما مستحيلة)، طرحت مسألة التوفيق بين القيم والواقع لتجنب الاقتتال الداخلي (الفتنة). وهي أسئلة طرحت فعلا، ومنذ البداية. وما قد يميز العقل السياسي العربي هو خصوصية وأصالة الأجوبة التي قدمها، والتي يمكن مقارنتها بأجوبة العقول الأخرى.
ولهذا فإن محددات العقل السياسي العربي - وهو هنا عقل سياسي إسلامي – تحيل لا إلى "العقيدة" كأيديولوجية سياسية، بل إلى العقيدة بصفتها مبادئ دينية يتوق المسلم لأن يكون لها تأثير في الطريقة التي يسير بها المسلمون شؤون دنياهم.
والملاحظة الأخيرة في هذا الباب تعود بنا إلى تعريف العقل الذي ذكرناه في الملاحظة الأولى، لنطرح سؤالا ألا وهو: كيف يمكن لعقل (وهو عبارة عن منطق ومبادئ ورؤيا للكون حتى ولو كانت مستقراة من الواقع) أن يعيد خلق ظواهر – سبق لها أن "حددته" - تحددها أساسا معطيات موضوعية (جغرافية، اقتصادية، اجتماعية، تقنية، تاريخية...) تزول بزوالها؟
وبما أن الموضوع يتعلق بالعقل السياسي، أليس من خصائص العقل أن يخلق معقولاته، أي أن العقل يسقط منطقه على الواقع؛ كأن يخلق العقل الديموقراطي مؤسسات ديموقراطية، والعقل الشمولي مؤسسات شمولية... وانطلاقا من هذا المبدأ، هل يمكننا القول أن العقل السياسي العربي هو الذي يعيد خلق "محدداته" من "قبيلة" و "غنيمة" و"عقيدة"؟
إن الجابري يلقي في ذهن قارئه أن الدولة العربية الحديثة ليست إلا إعادة إنتاج للدولة القديمة. وهذا الخطأ المعرفي يمنع التشخيص السليم لأزمة الدولة المعاصرة. وإذا اتخذنا مثالا من واقع دول المغرب العربي في فترة الثمانينات من القرن الماضي، وهي المرحلة التي ألف فيها الجابري كتابه، فهل يمكن فهم الأنظمة الثلاثة على أساس القبيلة، القائمة عنده على أساس"القرابة البدائية"[23] ؟ وآنذاك نسأل أي قبيلة كان يمثلها حكام الدول الثلاثة؟ وأية قبائل كانت تمثلها الأحزاب السياسية؟ وهل يمكن رد أنظتمها الاقتصادية إلى مسألة الريع، مع العلم أن جل ميزانية الدول الثلاث كانت تصرف على الموظفين والخدمات العامة؟[24] وفي أي أيديولوجيا يمكن اختزال "عقيدتها"، مع العلم أن هذه الأنظمة – والتي رغم كل ما يمكن ان يكال لها من عيوب لم تكن شمولية - لم تكن لديها السلطة المطلقة على الحقل الثقافي.[25]
لا يجب أن يفهم من هذا المثال أنه لم يعد للقبيلة وللعشيرة أو للطائفة أي دور في الدول العربية، في حين أن الأحداث التي نعايشها تشهد بعكس ذلك. إلا أن مفعولها الحاضر ليس من خلق "العقل السياسي العربي"، بل يعود إلى استمراريتها كظواهر مُؤطِّرة للمجتمع لأن الدولة عجزت عن تجاوزها[26]. ومما يزيد في مفعولها أزمة الدولة في كثير من الدول العربية التي أدت إلى نكوص ذهني ونفسي. بحيث يمكن أن نقول أن أزمة الدولة هي التي أدت إلى "قبلنة" و "عشرنة" و "طأفنة" الحياة السياسية.[27]
الملاحظة الخامسة تتعلق بما استخلصه الجابري من نظرية جورج لوكاتش، إذ يقول: "إذا كان الانقسام الفعلي والواضح في المجتمع الرأسمالي بأوروبا خلال القرن التاسع عشر هو الانقسام إلى طبقات، وإذا كان الوعي السياسي في هذه المجتمعات يرتبط فعلا بالانتماء الطبقي، فإن الواضح والسائد في المجتمعات السابقة على الرأسمالية هو الانقسام إلى "جماعات"، تتمايز عن بعضها بالحسب والشرف أو النسب والجاه أو المال أو بالحرفة أو المذهب الديني (=عصابات، طوائف...)، جماعات تحركها من وراء وفي الخفاء المصالح الاقتصادية. نعم، ولكن بما أن الاقتصاد لم يكن قد تطور إلى درجة تجعل منه المحدد للعلاقات فإن الوعي الذي يحرك الصراع بين هذه الفئات والجماعات لم يكن الوعي الطبقي، بل "الوعي الفئوي"[...] ومن هنا فالناس داخل الجماعات التي من هذا النوع يكونون مشدودين لا إلى مصالحهم الاقتصادية المباشرة بل إلى مرحلة سابقة من "تاريخ" الجماعة، المرحلة التي ترتبط بها الامتيازات أو الأمجاد أو التضحيات التي تشغل مخيال هذه الجماعة والتي بها تتحدد هويتها.[...] إن الاديولوجيا في مثل هذه الحال لا تعكس دائما الواقع الراهن بل هي في الغالب منقولة إلى الحاضر من الماضي. وكثيرا ما يكون أساسها الاجتماعي الذي انبثقت منه يقع في الماضي وليس في الحاضر. ولذلك فهي بوصفها محرضة ومحركة ليست جزءا من بنية فوقية، ليست شكلا من اشكال الوعي، بل هي عنصر في بنية كلية. وهكذا فالايديولوجيا أو "العقيدة" مثلها مثل "القبيلة" أو "الطائفة"، مثل "المصلحة الاقتصادية" معطيات متداخلة يصعب التمييز فيها بين ما هو قاعدة وما هو انعكاس لها. وبعبارة أخرى إن الصراع الاجتماعي في المجتمعات السابقة على الرأسمالية لا يأخذ شكل انعكاس للواقع الاقتصادي الذي تعيشه الجماعات المتصارعة، بل يكتسي شكل استمرار لصراعات تجد أساسها الاقتصادي في الماضي وليس في الحاضر (قارن الصراع بين الشيعة والسنة الذي يرجع أساسه الاقتصادي الاجتماعي إلى زمن الصراع بين علي ومعاوية)." (ص 29-30)
إن المفروض في الاستشهادات المنهجية أن تتكامل لتدفع في اتجاه واحد، لكن ما نلاحظه في هذا الاستشهاد هو أن أطروحة لوكاتش تناقض أطروحة دوبري. فما اعتبره لوكاتش عَرَضا من اعراض التخلف، شاهده دوبري في أكثر المجتمعات تقدما تقنيا. والمثال الذي قدمه الجابري عن الصراع بين السنة والشيعة، والذي يستدل به على صواب أطروحة لوكاتش يرتد عليه. والتاريخ الحديث والمعاصر لأوروبا وأمريكا يعطينا ما لا يحصى من الأمثلة على استمرار صراعات دينية وعرقية قديمة. والمثال على ذلك حروب البلقان الدينية (بين مسلمين وارثودوكس وكاثوليك)؛ أو الحرب الكاثوليكية الأنجليكانية في إرلندا؛ أو الصراع القديم/الجديد بين الارثوذوكسية والكاثوليكية الذي يمثل أحد الحواجز النفسية التي تفصل بين روسيا وبلدان أرثوذوكسية أخرى وبين باقي البلدان الأوروبية؛ و الخلاف بين المذهبين خلاف ديني محض حول طبيعة المسيح، لم يكن له في حينه أي سبب اقتصادي... أو الدور السياسي للتيار الانجيلي في الولايات المتحدة، والذي يشارك الصهيونية عقيدتها؛ أو العداء الديني لليهود – بصفتهم "قتلة المسيح" – الذي بقي مترسخا حتى في أكثر بلدان أوروبا تقدما، و انتهى بإبادتهم... وفي المقابل يمكن النظر إلى الصراع السني الشيعي الحالي بانه بعث لخلاف قديم خدمة لصراعات حديثة لا علاقة لها بالدين.[28]
الملاحظة السادسة تتعلق بأطروحة موريس غودلييه وبعض الاتنروبولوجيين حول مفهوم القرابة. إذ يرى غودلييه – حسب الجابري - أن مفهوم "الأسلوب الأسيوي للإنتاج" يحتاج إلى مراجعة ل "تخليصه وتنقيته مما فيه من عناصر ميتة ومواجهته بالتالي بجميع المعارف الجديدة المتوافرة وإغناؤه بها بهدف القيام بتحليل جديد لبنيات القرابة والبنيات الاقتصادية والبنيات الدينية في المجتمعات غير الطبقية أو التي تعرف انقساما طبقيا غير متطور. ومن "العناصر الميتة" التي يرى غودلييه أنه من الضروري التخلص منها مفهوم "الاستبداد الشرقي".[...] "ذلك أن الدراسات الأنثروبولجية الحديثة أثبتت أن مفهوم "القرابة" في المجتمعات البدائية لا يشمل علاقات الزواج وحدها بل يشمل أيضا تلك العلاقات التي تقوم بين الناس بسبب الجوار في المكان والاشتراك في الأعمال (= قارن مع ابن خلدون). وهكذا يؤكد غودلييه أنه من الضروري النظر إلى علاقات القرابة في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، لا بوصفها علاقات نسب فحسب، بل بوصفها كذلك "علاقات انتاج وعلاقات سلطة وتصورات أيديولوجية تنظم جزئيا تصور الإنسان للعلاقة بين الطبيعة والمجتمع. وإذن فهي [يقول غودلييه] بنية تحتية وفوقية في آن واحد. وإن كونها تجمع وتوحد بين وظائف متعددة هو ما يجعلها تقوم بدور البنية المهيمنة في الحياة الاجتماعية". وهذا يطرح على الفكر الماركسي – كما يقول غودلييه – مشكلة مضاعفة: كيف ينبغي أن نفهم الدور المحدد الذي يقوم به الاقتصاد في الحياة الاجتماعية والدور المهيمن الذي تمارسه علاقات القرابة في المجتمعات البدائية؟ وفي أية شروط تكف علاقات القرابة عن القيام، في هذه، في هذه المجتمعات بدور المهيمن لتنزوي جانبا إلى موقع ثانوي، وتاركة المجال لبنيات اجتماعية جديدة، بنيات الدولة، كي تنمو وتتطور وتحتل الموقع المركزي الذي يكون حينئذ قد اصبح شاغرا."[29] (ص 31- 32)
"ومعلوم أن الأبحاث الأنثروبولوجية المعاصرة تؤكد بشكل خاص على الفكرتين اللتين نوه بهما صاحبنا، فكرة أهمية الدور الذي تقوم به "القرابة" في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، المجتمعات البدائية القبلية خاصة، من جهة، وفكرة وحدة البنيتين التحتية والفوقية في تلك المجتمعات نفسها من جهة ثانية."[...] "بخصوص "القرابة" يؤكد كثير من الباحثين الأنثروبولوجيين أنها، في المجتمعات البدائية القبلية، لا تنحصر في العلاقات العائلية كما هو الشأن في المجتمعات الحديثة، بل انها تشمل أيضا ما يقوم في تلك المجتمعات من علاقات سياسية. إن للأشخاص الذين تقوم بينهم علاقات سياسية خاصة هم أولئك الذين تربطهم أيضا، بعضهم ببعض علاقات أخرى، أخلاقية أو دينية أو تعليمية... وهكذا فالروابط التي تشد الناس بعضهم إلى بعض، في هذه المجتمعات، ليست وحيدة بل هي عبارة عن شبكة من العلاقات تندرج كلها تحت مفهوم "القرابة". فالعلاقات السياسية بين الجماعات تدخل في معنى "القرابة"[30] على الرغم من ان محتوى هذه العلاقات هو من طبيعة تختلف عن طبيعة العلاقة التي تقوم بين الأقارب الحقيقيين. وهكذا فالقرابة هي اللحام الذي يشد النظام الاجتماعي كله. إن العلاقات العديدة التي تربط الناس بعضهم إلى بعض تتطابق هنا مع القرابة المباشرة لتشكل معها بنية المجتمع برمته"[31] (ص 32-33)
وبعد هذا التمهيد النظري يستخلص الجابري: "وبعد، فهل نحتاج هنا للقول إن ما يذكره الأنثروبولوجيون هنا بصدد بنية المجتمع في القبائل البدائية يجد أشباها له ونظائر فيما نعرفه من حياة القبائل العربية، في الجزيرة وخارجها، قبل ظهور الإسلام وبعده إلى اليوم؟" (ص 33). ونحن لا نحتاج بدورنا إلى القول أن المجتمع العربي الراهن ليس عشائر بدائية حتى ويحلل من خلال مفهوم القرابة البدائية.
الملاحظة السابعة وتتعلق بالملاحظات المنهجية لايون بانو Ion Banu، التي يريد الجابري بواسطتها تجاوز المادية التاريخية المبتذلة التي تنظر إلى كل صراع طبقي من خلال الصراع الأيديولوجي بين المادية والمثالية. إذ يبين بانو اختلاف طرق التعبير عن الصراع الطبقي في المجتمعات العبودية والمجتمعات الخراجية[32]. ف "الصراع الأيديولوجي في المجتمع العبودي (أثينا، روما) لا يعكس الصراع الطبقي بين المواطنين والعبيد بل إنما يعكس الخصومات واختلاف المصالح داخل طبقة المواطنين انفسهم. وإذن فهناك عدم توافق بين العلاقتين التناقضيتين: علاقة الصراع الاجتماعي بين العبيد والمواطنين من جهة وعلاقة الصراع الفكري داخل طبقة المواطنين أنفسهم من جهة أخرى. وهذا ما يفسر – حسب بانو – كون الخصومات والخلافات الفلسفية لم تصل، لا في أثينا ولا في روما، إلى عمق التناقض الاجتماعي ونواته الحقيقية، إذ لا نصادف أي طرح حقيقي لقضية استبعاد الإنسان لأخيه الإنسان. هذا فضلا عن غياب صوت ضحايا الاستغلال الاجتماعي غيابا تاما على صعيد الفلسفة: لقد بقيت الكلمة من اختصاص أولئك الذين لم يكونوا موضوع الاستغلال، لقد بقيت من اختصاصهم وحدهم. ذلك هو الوضع في مجتمع النظام العبودي. أما في المجتمعات الخراجية فالأمر يختلف: إن الكثرة الكاثرة من الشعب المسخر تتالف من الفلاحين وقد يشكلون بالفعل الوسط المُلهم لبعض الاتجاهات الفلسفية. وهكذا فأولئك الذين كان يصدر عنهم في المجتمعات الخراجية ما ينم عن المعارضة الأيديولوجية لهيمنة الاستقراطية واستبدادها لم يكونوا يحتلون مواقع في صفوف هذه الارستقراطية نفسها، كما كان الشأن في اليونان، بل كانت مواقعهم في الجهة الأخرى من الحاجز الذي يفصل بين الطبقات الاجتماعية، أي الجهة التي توجد فيها الكثرة الكاثرة من الشعب، الشيء الذي كان يسمح للتناقض الرئيسي الطبقي بين الأرسقراطية الاستبدادية وبين الفلاحين بأن تتردد له أصداء في عالم الفكر. هنا نجد التوافق قائما بين التناقض الاجتماعي والشكل الأكثر حدة من الصراع الأيديولوجي: فالطبقة التي تقوم بتحريك الفكر الاجتماعي المعارض هي نفسها الطبقة المستغَلَّة وهي تتمتع بحرية نسبية على عكس العبيد." (ص 37)
"هناك جانب آخر يبرزه بانو ويتعلق هذه المرة بالموقف الاجتماعي من الالهة في كل من المجتمع العبودي والمجتمع الخراجي. ففي هذا الأخير يرتبط الإحتجاج على الدولة بالإحتجاج على الآلهة وتوجيه النقد لها كما يلاحظ في النصوص البابلية، وذلك بسبب العلاقة المباشرة التي يقيمها الرجل الشرقي القديم بين الحاكم الطاغية وبين الآلهة: فالحاكم الطاغية هو المالك الوحيد، واعتباره كائنا يجمع بين السلطة والمِلكية يجر إلى إعطائه ابعاد كونية واعتباره يمتلك أسرارا إلهية. هذا من جهة ومن جهة أخرى فالخصب في نظر الفلاح الخراجي مرهون، كما رأينا قبل، بإرادة الطاغية. ومن هنا ينظر إليه كشريك للسماء في موضوع هو أصلا من اختصاص الآلهة، أعني الماء والخصب. وهكذا فهذا النوع من الجمع والتوحيد بين الآلهة والطاغية يقود ضرورة على النفي الديني للآلهة. إن تسييس المتعالي أدى إلى التعالي بالاحتجاج السياسي، إلى الارتفاع به إلى المستوى الإلهي. ومن هنا ذلك الفرق بين الإلحاد عند اليونان قبل المرحلة الكلاسيكية (أي من طاليس إلى أمبادوقليس) والإلحاد عند شعوب الشرق القديم: فبينما نجد الإلحاد عند اليونان يكتسي صورة تجريد الآلهة من صفاتها الذاتية، مثل السمع والبصر والعقل... إلخ، الشيء الذي لم تكن تكن له نتائج مباشرة على صعيد الحياة الاجتماعية، نجد النصوص الشرقية تتهم الالهة بالعجز والعداوة للشعب، وقد يؤدي هذا في نهاية المطاف على حدس العلاقة الصميمة القائمة بين الطاغية والآلهة إزاء قضية "العدل". (ص 38)
ويختم الجابري عرضه لأطروحة إيون بانو قائلا: "لاشك اننا هنا إزاء ملاحظات جد هامة، ملاحظات استخلصت من دراسة النصوص الشرقية القديمة، البابلية والمصرية الفرعونية، وهي تدفع الفكر والنظر إلى التحرر من دوغماتية المادية التاريخية "الرسمية" التي تجعل الأيديولوجيا، هكذا جملة وتفصيلا، مجرد انعكاس أو تعبير عن الوضع الطبقي. إن العلاقة بين الفكر والواقع تختلف، كما راينا، من نمط من المجتمعات إلى نمط آخر. ولا شك أن القارئ الذي له إلمام بالأدبيات السياسية السلطانية في التراث العربي(= أنظر لاحقا: الفصل العاشر) يجد هذا النوع من التفسير اكثر مصداقية من ذلك الذي يلجأ إليه بعض "الماركسيين" العرب الذين يفسرون جميع أنماط العلاقة بين الفكر والواقع بواسطة مقولات المادية التاريخية "الرسمية" فيتخذون من الزوج مادية/مثالية مفتاحا لمشكل العلاقة بين الفكر والواقع في جميع العصور، ويجعلون من كل ما هو "مادي" على صعيد الأيديولوجيا تعبيرا عن الطبقات المضطهدة، ومن كل ما هو "مثالي" فيها تعبيرا عن سلطة الطبقات التي تمارس الاضطهاد. إنه مفتاح مزيف ذلك الذي يفتح جميع الأبواب، فكيف به إذا كان يفتحها في جميع العصور؟" (ص 39)
إن الجابري يلوم بعض "الماركسيين" العرب على دوغماتيتهم، ولهذا يستشهد ببانو الذي يؤكد على وحدة البنية التحتية والبنية الفوقية في المجتمعات الخراجية (ص 35). لكنه ينسى أنه كان ممثلا لهذه الدوغماتية. ويكفي مثالا على ذلك نقده ل "الأديولوجية العربية المعاصرة" لعبد الله العروي. ومن نماذج هذا النقد قوله: "الواقع ان الأخ العروي لا يطرح المسالة طرحا قاعديا، أي على مستوى قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بل يطرحها فوقيا فقط، أي على مستوى الفكر وحده، مستوى "المكتسبات" الفكرية الليبرالية"[33]. لكنه لا يلام على تطوره المنهجي، لولا أن هذا التطور ما زالت تشوبه بقايا من دوغمائية مادية تاريخية. يتمثل ذلك في نزعته لرد ما هو فوق إلى ما هو تحت، إذ يختم الفصل الثاني (من الدعوة إلى الدولة: القبيلة) بالقول: "ومع ذلك ف "القبيلة"، ليست في نهاية التحليل إلا الإطار الاجتماعي الذي بواسطته يتم كسب "الغنيمة" والدفاع عنها، وبالتالي ف "الغنيمة" هي التي تحكم، في نهاية التحليل، "مفعول القبيلة". إن "القبيلة" معزولة عن "الغنيمة" مقولة مجردة وقالب فارغ. وسنرى في الفصل القادم كيف أن قراءة الأحداث التي عرفتها الدعوة المحمدية، سواء في المرحلة المكية أم في المرحلة المدنية، قراءة تَلبَس نظارات "الغنيمة" هي وحدها التي تعطي ل"القبيلة" مضمونا، وتجعل التاريخ معقولا، ذا معنى." (ص 98).
الملاحظة الثامنة تتعلق بالمرجعين المنهجيين الأخيرين.
أولهما ملخص لمقال ميشيل فوكو: "[...] نحو نقد للعقل السياسي"[34]. وقد ختم الجابري هذا الملخص قائلا: "الهجوم على المعقولية السياسية" معناه نقد الأسس التي تقوم عليها الممارسة السياسية من طرف الدولة والتي يبحث لها العقل السياسي في كل عصر وفي كل حضارة عما يبررها، عما يضفي الشرعية والمعقولية عليها. وإذا كان فوكو قد انتهى من هذا "الحفر" في مفهوم الراعي والرعية إلى القول: إن الديموقراطيات الغربية المعاصرة تخفي من وراء مظاهرها البراقة "تقنية غريبة" في ممارسة السلطة، قوامها حفنة من الرعاة تقود الأغلبية الساحقة من السكان وتعاملهم كقطيع، فإننا نحن هنا في الوطن العربي وفي المجتمعات الشرقية عموما في غير ما حاجة على مثل هذا "الحفر" لنتبين كيف أن واقع السلطة عندنا، مظهرا وجوهرا، يقوم على تقنية مألوفة لدينا، تقنية قوامها راع واحد يقود الرعية برمتها." (ص 42).
والمشكلة مع هذا الملخص تكمن في كونه لا يعكس الإشكالية الفوكووية حول السلطة. إذ أن ما كان يشغل فوكو ليس هو كون أقلية تستبد بالسلطة، بل هو الكشف عن كل أشكال المراقبة التي ظهرت مع الدولة الحديثة، التي انتقلت من مراقبة الإقليم إلى مراقبة السكان. وهو ما سماه فوكو بسياسة الأحياء biopolitique والسلطة على الأحياء biopouvoir.
وثانيهما ابن خلدون، الذي يقول بشأنه الجابري: "والعودة إلى ابن خلدون، اليوم وبالذات، لا يبررها التوافق الذي يمكن أن نلاحظه بسهولة بين نظرته الشمولية إلى الظاهرة الاجتماعية ودراسته لهذه الظاهرة في إطارها الأوسع، إطار "العمران البشري جملة"، وتأكيده على دور العصبية، أو القرابة، ودور الدعوة الدينية في تأسيس الدول والمماليك من جهة، وبين ما تمدنا به اليوم الاجتهادات الغربية المعاصرة وما تعطيه من أهمية لهذه الأمور، من جهة أخرى، بل إن العودة إلى ابن خلدون لبررها، أولا وقبل كل شيء، الواقع الاجتماعي السياسي الراهن، القائم في الوطن العربي وفي بلدان أخرى، والذي يجعل من الحديث اليوم عن العشائرية والطائفية والأصولية الدينية المتشددة حديثا مباحا مطلوبا، حديثا غير "رجعي" ولا مستنكر، كما كان الشأن قبل عقدين من السنين فقط."
"وإذا كان صحيحا أن "تحليل الحاضر يقدم لنا مفاتيح الماضي"، كما يقول ماركس، فإن حاضرنا العربي، الذي يعرف "عودة المكبوت" من عشائرية وطائفية و"خارجية" دينية، يضع أمامنا اليوم مفاتيح الماضي إن لم يكن مفاتيحه الرئيسية، مفاتيح تحيلنا مباشرة إلى ابن خلدون لأنها هي نفسها التي سبق أن استخلصها من حاضره، من تجربته السياسية الغنية التي اكتشف فيها، هو الآخر، "مفاتيح الماضي" ماضي حاضره هو، مرددا: "الماضي أشبه بالآتي، من الماء بالماء".[35]
"ليست العصبية القبلية والدعوة الدينية هما كل ما تقدمه لنا مقدمة ابن خلدون من "مفاتيح"، تخص التاريخ الإسلامي، بل هناك "مفتاح" ثالث كان حاضرا باستمرار في تفكير صاحب المقدمة وإن لم يعطه إسما خاصا: إنه العامل الاقتصادي الذي لم يكن يقدم نفسه زمن ابن خلدون، زمن ما قبل الرأسمالية، ك "كائن من اجل ذاته" بتعبير لوكاتش، كما كانت تفعل العصبية مثلا، والذي كان، مع ذلك، يقوم بدور، "حاسم" أحيانا، ومن وراء ستار. لقد أبرزنا هذا العامل وحددنا طبيعته في كتابنا عن ابن خلدون[36]، واطلقنا عليه هناك اسم "أسلوب الإنتاج الخاص بالاقتصاد القائم على الغزو" أي على انتزاع الفائض من الإنتاج بالقوة، قوة الأمير وقوة القبيلة وقوة الدولة، وقد وصفه ابن خلدون ابن خلدون لهذا السبب بانه "مذهب في المعاش غير طبيعي" لأنه لا يقوم على العمل والإنتاج بل يعتمد إما الغزو وما في معناه وإما العطاء الذي يمنحه الأمير مما جمعه بنفس الطريقة، طريقة الغزو داخليا وخارجيا [...]"
"الاقتصاد الريعي، السلوك العصبي العشائري، التطرف الديني، ثلاثة "مفاتيح" أو محددات لا يمكن حل ألغاز الحاضر العربي الراهن بدونها، وهي نفسها "المفاتيح" التي وظفها ابن خلدون في قراءته للتجربة الحضارية العربية الإسلامية إلى عهده، فلنعمل بدورنا على توظيفها توظيفا جديدا يستجيب لمشاغلنا الفكرية المعاصرة ويستفيد من جميع الدراسات والأبحاث "الغربية" التي عرضناها في الفقرات السالفة." (ص 46-47)
هذا الاقتباس الطويل يعطي للقارئ نقطة الارتكاز الجاهزة التي انطلق منها الجابري والتي قدمت له "محدداته". وقد بينا طوال هذه المقدمة الإشكالات التي تطرحها هذه "المحددات"، والسؤال الذي نود طرحه يتعلق بمدى مطابقة المفاهيم التي وظفها الجابري بأصلها الخلدوني.
وأول ما نلاحظه أن المفاهيم عند ابن خلدون ليست مغلقة، فلكونها نتيجة للاستقراء فقد عرَّفها بحيث تبقى مفتوحة على كل احتمالات الواقع وتدرجه. نلاحظ ذلك في موضوع النسب (القرابة)، إذ يقول في الفصل الثامن: "وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر [...] فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جدا بحيث حصل به الاتحاد والالتحام، كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها، وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها، ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارا من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظِلم من هو منسوب إليه بوجه. ومن هذا الباب الولاء والحلف. إذ نعرة كل أحد على اهل ولائه وحلفه، للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريبا منها. ومن هنا نفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم". بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام، حتى تقع المناصرة والنعرة، وما فوق ذلك مستغنى عنه. إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له، ونفعه إنما هو في الوصلة والالتحام.[...]"[37]
ويورد ابن خلدون في الفصل الثاني عشر أمثلة لقبائل بربرية تدعي أنها عربية أو شريفة: " فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب [...]. و من ذلك ادعاء بنى عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب، رغبة في هذا النسب الشريف و غلطا باسم العباس بن عطية أبى عبد القوي، و لم يعلم دخول أحد من العباسين إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة و العبيديين، فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين ! من و كذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس، ذهاباً إلى ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم، فيقولون بلسانهم الزناتي: أنت القاسم، أي بنو القاسم. ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس و لو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم، فكيف تتم له الرئاسة عليهم في باديتهم، و إنما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنه كثير الوجود في الأدارسة. فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب، و هم غير محتاجين لذلك، فإن منالهم للملك و العزة إنما كان بعصبيتهم و لم يكن بادعاء علوية و لا عباسية و لا شيء من الأنساب، و إنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم و مذاهبهم. و يشتهر حتى يبعد عن الرد، وقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤثل سلطانهم، أنه لما قيل له ذلك أنكره، وقال بلغته الزيانية ما معناه: أما الدنيا والملك فنلناهم بسيوفنا، لا بهذا النسب، وأما نفعهما في الآخرة فمردود إلى الله.وأعرض عن التقرب إليه بذلك."[38]
والنسب تتدرج نقاوته، عند ابن خلدون، من "المتوحشين في القفر من العرب" إلى "الانتماء إلى المواطن" الذي تختلط فيه كل الأنساب، مرورا بكل الحالات الوسطى. ويختم ابن خلدون الفصل الذي أفرده إلى هذا الموضوع قائلا: "وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن، فيقال: جند قِسرين، وجند دمشق، وجند العواصم، وانتقل ذلك إلى الأندلس [ظ 54/1]، ولم يكن ذلك لاطراح العرب أمر النسب، وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عُرفوا بها، وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم، ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم، وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية، فاطرحت، ثم تلاشت القبائل ودثرت، فدثرت العصبية بدثورها، وبقي ذلك في البدو كما كان، والله وارث الأرض ومن عليها"[39].
وقد لاحظ ابن خلدون أن استتباب الدولة ينتج عنه اضمحلال القبيلة والقرابة والعصبية. وكما يقول الجابري نفسه، "أن تفكك عصبية الأسرة الحاكمة لا يستلزم حتما انهيار الدولة. ذلك لأنه قد يحدث أن يكون صاحب الدولة في وضع يستغني فيه عن العصبية جملة "بما يحصل لها (للدولة) من الصبغة في نفوس إيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الجيال مبداها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب، ويكفي صاحبها، بما حصل لها في تمهيد أمرها، الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق، ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم، فلا يكاد أحد أن يتصور عصيانا أو خروجا إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له، فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده".[40]
وكأن هناك تنافرا بين طبيعة الدولة – المعبرة عن الحضارة - وهذه الظواهر المعبرة عن البداوة[41]. لكن ابن خلدون لم يُنظِّر هذا الانفصال بين العصبية والقبيلة، من جهة، والدولة، من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى كونه لم يفصل بين الدولة بصفتها إطارا سياسيا دائما، والمُلك الذي يتداول على السلطة[42]. وبما أن منهجيته تصدر عن مماثلة بين قوانين حياة المجتمعات وقوانين حياة الكائنات الحية، أسقط أطوار الحياة على أطوار الدولة (نشأة، ازدهار، وفاة).
نستنتج من قراءة ابن خلدون ان القبيلة والعصبية ظواهر ليست معطاة بشكل مطلق، فهي موجودة بالقوة . والمشروع السياسي هو الذي يحدد امتداد القبيلة وهو الذي ينفخ الروح في العصبية. أي أنه يجب قلب المعادلة الخلدونية، فخط السير ليس من القبيلة والعصبية إلى المشروع السياسي، بل من المشروع السياسي إلى القبيلة والعصبية. نعم، إن ابن خلدون يقول ان المعارضة بدون قبيلة وعصبية تحملها مجرد انتحار. لكن بالمقابل، فإن كثيرا من المشاريع غالبا ما تجد القبيلة والعصبية التي تحملها. فهناك جدلية بين كل هذه العوامل.
إن ابن خلدون مفكر عظيم - وهذا أمر لا نزاع فيه - لكن البعض حوله إلى كاهن [43]oracle. وهذا شأن كثير من المفكرين الذين تختزل نظرياتهم وفلسفاتهم في بعض المفاهيم العامة، وبذلك يتحولون إلى عائق ابستيمولوجي يحول دون التحليل السليم للظواهر. ولهذا فإن الانطلاق من ابن خلدون يستلزم مراجعة مفاهيمه لتبين الحدود التي يمكن أن تستعمل ضمنها. أما إذا استعملت بشكل مطلق وخارج حدودها، فإنها ستؤدي لا محالة إلى تشخيص خاطئ . ولو اكتفى الجابري بقراءة ما كتب عن المغرب – بلده – من قبل الباحثين المغاربة والأجانب في مجالات التاريخ والانتروبولوجيا والسياسة، لكان تجاوز الإشكالية الخلدونية، بقبائلها وعصبياتها وعقيدتها، التي تكاد لا تشرح شيئا في تاريخ مغرب ما بعد ابن خلدون[44]. هذا على مستوى المعرفة الميدانية.[45]
أما على مستوى المنهج، فإن الجابري يمزج بين المادية التاريخية والثقفانية culturalisme التي تزاوج الأنتروبولوجيا والتحليل النفسي، وهما منهجان متنافران. فهو من ناحية يعطي الأولوية للعوامل الاقتصادية (الغنيمة و الريع)، ومن ناحية أخرى يركز على دور "العقل" كمعبر عن ثابت انتروبولجي ولا شعوري. فلا ندري كيف يمكن التوفيق بين معطى اقتصادي تتحكم فيه عوامل تاريخية متعددة ومتطورة وثابت لا يؤثر فيه الزمان.
وبما أن الجابري- الذي ابتدأ مشواره الفكري ماركسيا- يقيم تراتبية بين العوامل التفسيرية، مقدما الغنيمة على القبيلة، وهذه على العقيدة. فلنتفحص نظريته الاقتصادية الضمنية التي بنى عليها كل أطروحته حول الغنيمة والريع.
فالجابري يعطي لقارئه الانطباع بأن العالم العربي كائن طفيلي يعيش عالة على باقي الإنسانية. يهاجمها ليأخذ ما أنتجته، في الماضي؛ أو يكتفي بتصدير ما أعطته الطبيعة ليستورد ما انتجه الآخرون، في الحاضر. ولو كلف نفسه عناء تفحص هذه المسلمة لأدرك أن المرحلة "الريعية" في تاريخ البلدان العربية قصير جدا، لم يتجاوز القرنين في البداية؛ كما أنها لا تتجاوز بضع عشرات من السنين في العصر الحديث، بفضل البترول[46]. مع العلم أنه لا المرحلة الأولى ولا الثانية تغطي كل العالم العربي. فلا كل البلدان العربية كانت في مركز الدولة الإسلامية لتتمتع ب"الريع" القديم، ولا كلها منتجة للبترول لتتمتع ب"الريع" الحاضر.[47]
فليس من ثروة في البلدان العربية طوال تاريخها إلا ما انتجته. ولو اكتفى الجابري بتفحص اقتصاد بلده – المغرب - لأدرك أنه لم يستمتع لا ب"الريع" القديم ولا بالجديد (باستثناء فترة قصيرة أثناء حكم الدولة السعدية عندما غزا دولة سونغاي)[48] ، وجل ميزانيته مما ينتجه داخليا.
وإذا كان الجابري يعتبر ما قاله عن "الغنيمة" و"الريع" تحليلا اقتصاديا، ففهمه للاقتصاد محدود. ولو أنه حلل الواقع الاقتصادي للدول العربية من زاوية التبعية والامبريالية، كما كان يدعو لذلك في مرحلته الماركسية، لكان أقرب إلى الصواب.
ولهذا النكوص علاقة بالضغوط الخارجية وهو ما يحيل إلى مفاهيم الأمبريالية والتبعية التي كان الجابري يوظفها في فترته الماركسية
لا شك ان القارئ لاحظ أننا ركزنا نقدنا على المقدمة أساسا. والحاصل هو أن هذه المقدمة التي أرادها الجابري إنارة منهجية للكتاب أساءت إليه أكثر مما خدمته. لقد وضع الجابري قاعدة منهجية لقراءة التراث في كتابه "نحن والتراث" مفادها أنه يجب "جعل المقروء معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي، ومن هنا معناه بالنسبة لوسطه الخاص. ومن جهة أخرى تحاول هذه القراءة أن تجعل المقروء معاصرا لنا، ولكن على صعيد الفهم والمعقولية، ومن هنا معناه بالنسبة لنا نحن. إن إضفاء المعقولية على المقروء من طرف القارئ معناه نقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ، الشيء الذي يسمح له بتوظيفه من طرف هذا الأخير في إغناء ذاته أو حتى إعادة بنائها"[49].
لقد أراد الجابري تجاوز القراءات الأيديولوجية للتراث بفضل الابستيمولوجيا، هادفا إلى جعل التراث معاصرا لنفسه ومعاصر لنا. إلا أن جعل المقروء معاصرا لنا لا يعني إسقاطه على واقعنا، وهذا ما يفعله الجابري، الأمر الذي يسقطه في أكثر القراءات الأيديولوجية سطحية.
أما الكتاب نفسه فهو عبارة عن بحث غني وقيم، بشرط أن نغير عنوانه حتى يوافق محتواه. فيمكن أن يسمى "نشأة الدولة الإسلامية" مثلا. ومن هذا المنظور يصير تحليل دور المحددات الثلاثة (القبيلة، الغنيمة، العقيدة، وبدون مزدوجين) في محله.
[1] [زيادة على مسالة عقلانية أو لا عقلانية إخوان الصفاء، هناك أيضا مسالة انتمائهم أو لا للحركة الإسماعيلية، وهو الموضوع الذي سيتناوله طرابيشي بتفصيل في "العقل المستقيل في الإسلام؟"]
[2] المعجم الفلسفي... تاليف الدكتور جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، ج 2، بيروت 1979، ص 85
[3] وقد عبر على كونه رجل دولة في خطبته الشهيرة عندما قدم المدينة: "أما بعد، فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة. ولقد رضيت لكم نفسي على عمل ابن قحافة [=أبي بكر] واردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفرا شديدان وأردتها مثل ثنيات عثمان[وفي رواية أخرى سنيات] فابت علي، فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة: مواكلة حسنة ومشاربة جميلة. فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية. والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وان لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي. وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه، فإن اتاكم مني خير فاقبلوه فإن السيل إذا زاد عني، وإذا قل أغنى، وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة". ثم نزل... ( ص 236) (أحمد بن محمد بن عبد ربه، العقد الفريد، تحقيق محمد سعيد العريان، 8 ج في 3، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1953، ج 4، ص 147)
كما قال: "لا اضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها وإذا خلوها مددتها". ( ص 237) (أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري بن قتيبة، عيون الخبار، ج في 2، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للكتاب، 1963، ج 1، ص 9)
وهذه الحنكة السياسية هي التي مكنته من التوفيق بين "القبيلة" و"العقيدة" و"الغنيمة" كما رأى ذلك الجابري نفسه (ص 195)
ولو أن بعض السياسيين العرب المعاصرين عملوا بهذه المبادئ لكانوا جنبوا العالم العربي الويلات التي اصابته. ولكنهم فضلوا وضع السيف حيث الكلام يكفي، بله الغمز.
[4] الدكتور محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، الطبعة الثامنة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2011، ص 5
[5] من اجل إبهار القارئ، أو لعرض عضلاتهم الفكرية، يلجا كثير من الباحثين إلى الاطناب في المقدمات المنهجية. لكن التنزيل الفعلي لهذه الاعتبارات المنهجية، إما أنه غير موجود، أو أنه يثقل البحث أو يشوهه اكثر مما يوجهه، أو أنه ليس في الواقع إلا تسمية فضفاضة ومتعالمة لمنهج أوضح و"أبسط". وكثير من المناهج تحيل إلى إشكاليات فلسفية لا يمكن فصلها عنها، مثل البنيوية والمادية التاريخية والتحليل النفسي... وفي كثير من الأحيان كان من الممكن "الاقتصار" على قراءة النصوص ونقدها داخليا وخارجيا، عملا بمبدأ أوكام (أو نصل أوكام rasoir d’Occam)، إذ يقول أوكام أنه "ينبغي لنا أن لا نكثر الموجودات بلا مسوغ"، "وهذا نتيجة من نتائج قانون الاقتصاد (loi d’économie ou loi de parcimonie)، وهو القول "أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها، وترتكب الأعوص والأبعد" (ابن خلدون، المقدمة، ص 1018 من طبعة دار الكتاب اللبناني). مذكور في المعجم الفلسفي لجميل صليبا، ص 469
[6] يمتد العصر العباسى الأول قرنًا من الزمان، من سنة (132هـ= 749 إلى سنة (232هـ= 847م)
[7] Régis Debray, Critique de la raison politique, Gallimard, Paris 1981, p. 51
[8] المماثلة بين الإله والأمير – ودون العودة إلى فرعون وبختنصر – نجده في الأنظمة الملكية ذات الشرعية الإلهية، كما هو الحال في الإمبراطورية البيزنطية وفي أوروبا. هذه الشرعية تمنحها الكنيسة وهي من طبيعة مخالفة لبيعة العلماء، لكون البيعة تجعل الحكم قانونيا légal فحسب وليس شرعيا légitime.
[9] "المستبد العادل" ترجمة ل le despote éclairé، وهو حرفيا المستبد المتنور، فهي ترجمة غير موفقة لأنها تشتمل على طباق غير موجود في الأصل. فالمستبد قد يكون متنورا لكنه لا يمكن أن يكون عادلا.
[10] لكن الأمر ليس بالسهولة التي قد يكون تصورها الجابري، فالذي يؤمثل دولة الرسول غالبا ما يكون معاديا لكل أركان الديموقراطية الحديثة، من تعدد في الراي، وحرية معتقد، وعَلمانية الدولة... أما الذي يكون مشبعا بالروح الديموقرطية فليس في حاجة لإيجاد مبرر لها في دولة الرسول، إلا من قبيل الانتهازية السياسية.
[11] Régis Debray, Critique de la raison politique, Gallimard, Paris 1981, p. 17
[12] Ibid, p. 456
[13] يخصص دوبري كتابه "زمن الأخوة" Le moment fraternité لهذا الموضوع. ويقول في مقدمة الكتاب (الفصل) الأول:" إن الأمر ليس فرضية [أطروحة] بل ملاحظة [إقرار]: كل نحن يلتئم بعملية تقديس، مقصودة أو لا. فالمقدس ليس ترفا شخصيا، ولا بذخا، ولا إضافة روحية، بل من ضرورات الحياة: إنها الوسيلة الموثوقة التي تتوفر عليها جماعة غير محددة المعالم لخلق ما هو مشترك ولتجعل من نفسها جسما واحدا يمكنها من الاستمرار."
« C’est moins une thèse qu’un constat : un nous se noue par un acte, délibéré ou non, de sacralisation. Le sacré ne représente donc pas un luxe personnel, dépense somptuaire ou supplément d’âme, mais un bien de première nécessité : c’est le plus sûr moyen de mise en commun dont dispose un ensemble flou pour faire corps et se perpétuer. »
Régis Debray, Le moment fraternité, Gallimard 2009, p 19
[14] يمكن للقارئ أن يجد ملخصا حول موضوع تعريف القبيلة (منشور على الشبكة) في المقال التالي:
Yazid Ben Hounet, « Le concept de tribu en anthropologie »
[15] نظرية الوظائف الثلاث من وضع جورج دوميزيل Georges Dumézil وهي في رأيه تميز كل المجتمعات الآرية.
[16] "العقيدة" التي تحدث عنها الجابري هي أساسا الأيديولوجية الدينية/السياسية، إلا أن هذه الأيديولوجيا صارت مع الزمن مؤسسات اجتماعية (علماء، فقهاء، مفتون، أئمة، مدرسو القرآن، قضاة، عدول...) شكلت ضربا من "الكنيسة" لها مصالحها الفئوية.
[17] في المدة الأخيرة وزعت شركة Apple مئة مليار دولار على المساهمين فيها، وهذا الريع كان بفضل السياسة الجبائية لدولاند ترامب التي خفضت ضرائب الشركات والأغنياء بشكل كبير. وفي المقابل حرم ترامب ملايين الأمريكيين الفقراء من الحماية الصحية (أو على الأقل حاول ذلك). هذه السياسة الجبائية نموذج للريع، لأنها تمنح الامتيازات للزبائن السياسيين ولو أن تلك السياسة ستنعكس سلبا على غالبية المواطنين، لأن تقليص المداخيل الجبائية يعني تقليص الخدمات العامة.
[18] مصر وعدة بلدان عرفت نظام المماليك؛ وفي المغرب العربي لعبت الزوايا دورا سياسيا كبيرا.
[19] يمكن تمثيل ما حدث على المستوى التاريخي بانفجار ذري. أي أن الضغط الممارس على الذرات (القبيلة) وصل إلى درجة تفكيك جاذبيتها الداخلية (رفضها للدين وللدولة الجديدين)، ما أدى إلى استخراج كل الطاقة الكامنة فيها.
[20] من الممكن مقارنة ما حدث بعد البعثة المحمدية مع ما حدث بعد الثورة الفرنسية. ففي كلا الحالتين انتهى الأمر إلى صراع واقتتال بين شخصيات وفئات لها رؤى مختلفة حول طبيعة الحكم وطريقة ممارسته. فكان الاتجاه نحو الخارج (الحروب النابليونية) وسيلة لاعلاء كل هذه الخلافات. ومن الممكن أن نوازي بين "المحددات": مركز الثورة كان باريس ومنطقتها (مكة والمدينة)، فرنسا (الجزيرة العربية، أي مجموع القبائل)، الأفكار الثورية (العقيدة)، الحروب النابليونية (الغزوات والغنيمة)... لكن لا تلك "المحددات" ولا هاته يمكن أن نفهمها بدون الشرارة التي أطلقتها.
[21] يذهب بعض الباحثين إلى القول أن الحضارة الإسلامية هي أول حضارة عرفت الأحزاب السياسية، بصفتها تنظيمات ذات عقيدة وتطمح للوصول إلى الحكم.
[22] والجابري يعرف هذا بالتأكيد لأن من الأسباب التي أدت إلى استعمار المغرب الديون التي تراكمت عليه. ومنها الديون التي تحملها لدفع ثمن جلاء اسبانيا عن مدينة تطوان التي احتلتها إثر حرب 1859-1860.
[23] انظر الملاحظة السادسة، حيث يستخلص الجابري: "وبعد، فهل نحتاج هنا للقول إن ما يذكره الأنثروبولوجيون هنا بصدد بنية المجتمع في القبائل البدائية يجد أشباها له ونظائر فيما نعرفه من حياة القبائل العربية، في الجزيرة وخارجها، قبل ظهور الإسلام وبعده إلى اليوم؟" (ص 33)
[24] لا ننكر وجود ريع وزبونية، إلا أن هذه ظاهرة شبه كونية وإن بدرجات متفاوتة، والدول "الفاضلة" ليست إلا الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
[25] والجابري كمثقف يساري خير مثال على ذلك، إذ أن اليسار الأيديولوجي والسياسي هو الذي كان مهيمنا في الحقل الثقافي. حتى أن الحسن الثاني صرح بأنه إذا كان هناك فشل في السياسات المتبعة في المغرب، فالمسؤولية مشتركة بينه وبين المعارضة لأن جل إطارات الدولة يساريون.
[26] عندما تعجز الدولة على إعلاء تناقضاتها الداخلية فهي غالبا ما تتعرض للانقسام. وهذا ما يمثل كثرة الدول في أوروبا، فجراء الحروب الدينية التي أعقبت "حركة الإصلاح" انقسمت بعض الدول على أساس ديني (كاثوليكية أو بروتستانتية)، وفرض على السكان اتباع دين أمرائهم. وفي العصر الحديث، وزيادة على الانفصال على أساس ديني كما حدث في يوغوسلافيا، حدثت انفصالات على أساس لغوي. ومثال بلجيكا نموذجي مثال للانفصالين، فهي انفصلت عن هولاندا على أساس ديني (كاثوليك/بروتستانت)، وهي على وشك الانقسام اليوم على أساس لغوي (فراكفون/فلامان= وهي لغة هولاندا). ومن المفارقات أن الديموقراطية تلعب لصالح الانفصال.
[27] ويمكن أن نسوق كدليل على ذلك ظاهرة العبودية. فهذه الظاهرة كانت من "محددات" العقل الفقهي الذي أفرد ما لا يحصى من المقالات لهذا الموضوع، إلا أن كل هذا الفقه فقد مفعوله لأنه افتقد موضوعه بسبب زوال الاقتصاد العبودي وتجريم العبودية. واستمرار الذهنية العبودية لدى البعض لا يكفي لخلق نظام عبودي.
[28] يكفي للتأكد من ذلك تتبع السياسة البينية لبلدان الشرق الأوسط ابتداء من حلف بغداد (الذي كان يضم باكستان وتركيا، ذوي الأغلبية السنية؛ و إيران و العراق، ذوي الأغلبية الشيعية؛ مع بلدان "كافرة": المملكة المتحدة والولايات المتحدة)، مرورا بحرب اليمن الأولى (بين الجمهوريين المدعومين من قبل مصر والإمام الزيدي المدعوم من قبل السعودية) وبالمواقف من سياسة الشاه التي كان يحكمها الموقف من الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، والحرب العراقية الإيرانية التي سوقت على أنها حرب بين العرب والفرس (بل بين المسلمين والمجوس !). وخلال كل هذه الفترة لم يوظف الخلاف المذهبي السني/الشيعي الذي احتل الواجهة اليوم... وهذا يقتضي النظر إلى هذا الصراع في مضمونه الراهن وليس القديم.
[29] Maurice Godelier, “La notion de mode de production asiatique » et les schémas marxistes. » dans : Sur le mode de production asiatique (Paris : Editions sociales, 1969). Pp. 50-54
[30] في الواقع لم تكن القرابة رابطة فاعلة في متانة السلطة السياسية، بل العكس، فالصراعات داخل الأسرة الحاكمة كانت السبب الرئيس في الفتن المزمنة التي كانت تشهدها بيعة الملك الجديد؛ هذا إن لم يقتل من قبل أقربائه. ولهذا كان الاعتماد على المرتزقة – وغالبيتهم مسيحيين – أو العبيد خير وسيلة لإبعاد كل الأقارب ( عائلة، عشيرة أو قبيلة ) من السلطة.
[31] Peter Worsley, « The Kinship System of the Tellensi,” cite par: Marshall Sahlin, Au Coeur des sociétés (Paris: gallimard, 1980), pp. 17-18
[32] يشير الجابري في الهامش إلى أن بانو يفضل استعمال لفظ "الخراجي" (tributaire) بدل [الأسلوب] الأسيوي [للانتاج] (هامش ص 35)
[33] محمد عابد الجابري: "مساهمة في النقد الأيديولوجي" في محاورة فكر عبد الله العروي، مجموعة مقالات جمعها ورتبها: بسام الكردي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2000، ص 94 (نشر المقال أول مرة في المحرر الثقافي (الدار البيضاء) 4 أعداد من 15 ديسمبر 1974 إلى 5 يناير 1975)
ومما يقوله الجابري في هذا المقال: "ذلك لأن المثقف العربي لا يرفض الليبرالية، فقط بدافع العداء للاستعمار، بل لأنها مرتبطة حاليا بالاستعمار والامبريالية ارتباطا عضويا. الفكر الليبرالي الغربي حاليا، لا ينفصل عن الامبريالية تلك.. هذه حقيقة يعرفها الإستاذ العروي." (ص 98)
"النخبة" مقولة غير ماركسية تماما. إنها مفهوم يستعمله أصحاب علم الاجتماع البورجوازي (باريتو، موسكا، ماينهايم، فيبر...) في تحليلاتهم للمجتمعات المعاصرة، المتقدمة والمتخلفة على السواء، ضدا على الماركسية والتحليل الماركسي.. هؤلاء ينكرون "الطبقة" و "الصراع الطبقي"، ويضعون محلها "النخبة" و "دورات النخبة"." (ص 132)
"هذا هو "البرنامج الشامل" الذي يقترحه العروي على "المثقفين الثوريين" العرب. "برنامج شامل" يتخذ مواقف قارة من كيت وكيت. ولكن لا من الاستغلال الطبقي والنفوذ الامبريالي والأيديولوجيا البورجوازية.. فقط من الفكر السلفي، من الديموقراطية في إطار مشكل الأقليات (وكأن الأغلبية تتمتع بالديموقراطية. ومن السياسة الاقتصادية والتعليمية "للدولة القومية" (لا من هذه الدولة نفسها، من دوالبها، وأسسها، وارتباطاتها، والبنيات التي تقوم عليها..) (ص 122)
"أما القول بان تونس الحالية اكثر تقدما في الميدان الفكري من الجزائر "الاشتراكية" [وضع الجابري هذه الكلمة بين مزدوجين لأن اشتراكية بومدين لم تكن ماركسية لينينية خالصة] بدعوى أن الفكر السائد في تونس هو الفكر الليبرالي المنفتح فيطرح – مع الأسف – مسألة جديدة أخرى، وهي مقياس التقدم في الميدان الفكري؟ هل هذا المقياس هو الفكر الليبرالي؟ هل هو "سياسة" مهادنة الأمبريالية وعدم التردد في السير في ركابها "إن اقتضى الأمر."؟ إننا نرفض هذا المقياس لأن المشكل ليس هو مشكل إباحة الإفطار في رمضان أو تحريم بيع الخمر في الحوانيت والدكاكين.. بل المشكل هو مشكل من يقف موضوعيا وذاتيا في صف الأمبريالية، ومن يقف موضوعيا وذاتيا في الصف المعادي للأمبريالية... هذا هو المقياس الصحيح في عصرنا، المقياس التقدمي حقا." (ص 132)
[34] Michel Foucault, « Omnes et singulatum : Vers une critique de la raison politique », Le Débat (Paris), n° 44 (novembre 1986) [لم اترجم بداية العنوان لأني لا اعرف اللاتينية]
وبالرجوع للمقال نفسه نكتشف ان ملخص الجابري لم يتناول الإشكالية الأساسية للنص والتي تتعلق بطبيعة السلطة والدولة، إذ اكتفى بعرض إشكالية هامشية فيه.
[35] أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، 4 ج (القاهرة: لجنة البيان العربي، 1985، ج 1، ص 364
[36] الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي.
[37] ابن خلدون، المقدمة، الفصل الثامن "في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو فيما معناه"، النسخة المنشورة في موقع المكتبة الوقفية، ص 256
[38] المقدمة، الفصل الثاني عشر : "في ان الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم"، ص 261-262
[39] المقدمة، الفصل التاسع "في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم"، ص 258
[40] محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، دار الثقافة، الدار البيضاءن الطبعة الأولى 1971، ص 348
[41] موقف ابن خلدون من البداوة والحضارة يشوبه بعض الغموض، فهو يقسو على "العرب" أي البدو ويجعل منهم أعداء للحضارة؛ لكنه يعبر في مواضع مختلفة من المقدمة عن احتقاره لطباع التمدن والمواطنة: دفع الضرائب (التي يعتبره ضربا من الذل)، طاعة السلطة بكل اشكالها... وإدانته الأخلاقوية ل"البذخ"، مع العلم أنه من صميم الحضارة لأنه يشجع مختلف أنواع الصناعة. وفي المقابل يكيل المدح لبعض طباع البداوة التي تقوض كل سلطة.
[42] وهو الفرق الموجود بين État المشتق من status بمعنى القيام، أو ما هو قائم، و "دولة" التي تحيل إلى التداول.
[43] البعض لا يعرف عنه إلا "إذا عربت خربت".
[44] لفهم تاريخ مغرب ما بعد ابن خلدون يجب اعتبار دور الصوفية والزوايا والشرفاء والعلماء والمدن والقبائل والأندلسيين... زيادة على دور الدولة (لا بمعنى التداول بل بصفتها معطى "قائم"). وزيادة على هذا يجب اعتبار العوامل الاقتصادية والجيوسياسية. وحول الدور المهم الذي لعبه العلماء يمكن الرجوع لكتابين هامين: Berque (Jacques) Ulémas, fondateurs, insurgés du Maghreb، وكتاب "العالم والسلطان" للطفي بوشنتوف.
[45] إذا أخذنا تاريخ المغرب الأقصى كمثال، فإننا سنلاحظ أن القبيلة لم تكن العامل الوحيد، ولا حتى الحاسم، في تأسيس الدول التي تداولت عليه. فقبل الإسلام كانت القبيلة تلعب دورا تتحكم فيه موازين القوى الخارجية (قرطاجنية ورومانية)، و مع اللإسلام ظهرت عوامل اخرى:
- الشرف (الأدارسة، السعديون والعلويون)؛
- العقيدة (المرابطون والموحدون)، بل يمكن اعتبارهما دولة فقيه (عبد الله بن ياسين وابن تومرت)، خاصة الدولة الموحدية التي انتقل فيها الحكم من قبيلة المؤسس، ابن تومرت، إلى قبيلة تلميذه، عبد المؤمن؛
- تبقى الدولة المرينية وقريبتها الدولة الوطاسية التي يمكن أن نقول بشأنهما أنهما دول قبلية.
[46] هذا إذا سلمنا بأن مداخيل البترول ريع، وهي ليست بريع لأنها ثروة يوجد مثيلها في كثير من البلدان. إذ أن الريع يحيل إلى كيفية توزيع الثروة – محليا أو عالميا - لا إلى مصدرها. ولهذا يمكن القول أن الدولة الوحيدة التي تتمتع بريع خارجي (مدخول بدون مقابل) في الوقت الراهن هي الولايات المتحدة بفضل الدولار. فهي تستدين مجانا من باقي دول العالم.
[47] من الأمثلة التاريخية للريع ما كانت تحصل عليه اسبانيا من ثروات أمريكا بعد اكتشاف هذه القارة، أو ما كانت تحصل عليه الدول الاستعمارية مجانا من مستعمراتها.
[48] مع العلم ان بعض العلماء كانوا ضد هذا الغزو لأنه اعتداء على دولة مسلمة.
[49] محمد عابد الجابري: نحن والتراث (قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)، الطبعة السادسة 1993، المركز الثقافي العربي، ص 11-12
التعديل الأخير بواسطة المشرف: