كفاح الزهاوي
كاتب
سيتذكر عادل ذلك المساء العذب من شهر حزيران بعد سنوات طويلة وهو يتنقل من عالم إلى آخر، كالمتشرد الأعمى تحت الشمس المثقلة، يمضي أيامه دون ان يترك عنوانا على أرصفة الزمن. بينما كان يبحر في ضياء هذا العالم الجديد كسائح مجهول، تبدأ آثار الأقدام بالامحاء في الذاكرة. وفي زحمة الشوارع و السيارات المجنونة ينتابه الشعور بالضياع في متاهات الريح، مكسواً بغبار الكلل، مترقباً انقشاع الغمامة. كل ذلك يثير الكآبة، وكأنما يعيش في جوِ خانق من العزلة والنسيان. ورغم ارتفاع الموج، ولكن كان بإمكانه الشعور بأنه لا يزال يتنفس.
كان يقضي يومه متجولا في أرجاء المدينة كجندي مجهول على أرض لا ينتمي لها، غريب لا يحمل بطاقة تشير الى وطنه، الا ان جروح الوطن تطفح ندبات انينها على مرافئ الانتظار.
دُمَرْ گازية، المحطة الرابعة في حياته الصاخبة. منطقة صغيرة تقع على أطراف دمشق مؤلفة من بيوت ليست في تناسق هندسي. وعلى جانب الطريق وتصاعداً باتجاه المرجة، مركز المدينة، تزدحم بالمطاعم الفاخرة في الهواء الطلق تعج بالزبائن ليلا مع جلسات ممتعة، تقدم فيها مشروبات روحية وعشاء طازج، لذيذ. هذه الأماكن في الأغلب يختلف إليها رجال أغنياء وأصحاب أموال.
في احد الليالي والسماء يغطيها الصمت، يتوسطها القمر، تزينها النجوم المتناثرة، أنوارها تشق غمار الليل. ارتاد عادل مع صاحبه صلاح الذي يعيش معه في نفس المنزل احد المطاعم الراقية الواقعة على مسافة ليست بعيدة عن الدار، رغبة منهم ان يعيشوا بعض اللحظات الباهرة، الممتعة في جوِ مختلف، على الرغم من أنهم كانوا يعانون وضعًآ اقتصاديًا مُتَرَدِّيًا. شعر في غمرة هذه اللحظات وكأنه تحرر من أعباء الحياة اليومية المعقدة. احس بنوع من الحماس يغزو قلبه ويسري في عروقه، ويرسل الطمأنينة إلى روحه.
بعد ان تم الترحيب بهم، طلبوا لكل منهما زجاجة بيرة. وظلوا لساعتين يتبادلون أطراف الحديث عن الأمور السياسية والأدبية وصوت ام كلثوم مع اغنية لسه فاكر يصدح في أرجاء المطعم، يحتسون على مهل، وزجاجة البيرة لازالت مملوءة إلى أقل من نصفها. كان النُدُل يراقبون المشهد عن بعد وكأن لا أحد في المطعم غيرهم. كانت علامات عدم الرضا واضحة على وجوههم من خلال الابتسامات المصطنعة. كانوا يحملقون فيهم عن بعد والزجاجة بالكاد تتناقص. وبين حين وآخر، يتم إحراجهم بالاستفسار فيما لو كانوا بحاجة الى المزيد. وكانت الإجابة : لا .. شكرا.
عادل شاب يبلغ من العمر ثلاثين سنة، متوسط القامة، شعره الاسود الكثيف مفروق في منتصفه بشكل مستقيم، نحيل الجسم، رشيق، طبعه عنيد، اجتماعي، بشوش، ابيض البشرة، وتحت أنفه البارز شارب رفيع. وعلاوة على ذلك كان بالغ الأناقة والثقة بالنفس، يتصرف بجلالة جديرة، ملامح وجهه توحي للآخرين أصغر من عمره بكثير.. كان يتميز بصفة عدم الانجرار والاندفاع بسرعة نحو النساء، ويتعامل معهن باحترام وحذر.
كالعادة استيقظ عادل صباحا على صخب الساكنين معه في نفس الدار، راح يتقلب ويتلوى في فراشه، ويدس رأسه تحت البطانية العتيقة، ربما تصد عنه الضوضاء والجلجلة في المطبخ، وصوت عدنان الجهوري، وكأنه يخطب إلى جمهرة من الناس. كان يحلم ولكنه لا يتذكر منه شيئا. حاول ان يواصل التفكير في الحلم ولكن خانته الذاكرة، حتى الأحلام أصبحت ماركة غالية، تتلاشى مع اليقظة، سراب في صمت القبور، كما لو أحاطوا طوق من الجدار الثخين بأحداثها، ومن خارج الدار يخترق الجدران صدّاح المارة في الدربونة الضيقة، حيث يقع محل ابراهيم في نهاية الزقاق، وهو فلسطيني سوري. ابنته كانت مراهقة جميلة بعينيها العسليتين الواسعتين، وبنيتها الفارعة، ناصعة البياض، رشيقة. يراها أحيانا عندما تخرج إلى المدرسة او عندما تعود منها. والدكان يقع بجوار البيت.
الحياة دبت في أحشاءه نوعا ما. في البداية كان يشعر بصعوبة ان ينام برخاء ويحاول استدراج النوم ليأتي إليه، لأنه لم يعتد على هذه الحياة العصرية لفترة طويلة ولم يلمس امرأة بعد ان أمضى عمره بين الوديان والجبال الشامخة والمنعزلة عن أي تماس مع التحضر.
ما ان غطى الليل حتى يشعر المرء بحيوية الحركة في الشوارع والساحات العامة. ذابت ثلوج الحزن والقلق واستوطن الحلم والامل. زال الدم من الطريق ، ولكن بقع حمراء ، آثارها مازالت طافية على سطح الذاكرة.
كان ينظر الى السماء فوجدها زرقاء صافية، و أسراب من الطيور تلقي باعلى صوتها اغنية تتناثر الحانها الفضية في الفضاء على هدير نهر بردى، وكأنهما يوحيان بخبر مفاجئ . وبينما عادل عائد عبر الشارع المقابل لنهر بردى الشهير في دمشق من المركز الثقافي السوفيتي الواقع في وسط المدينة، في طريقه إلى البيت والكائن في منطقة دُمَرْ گازية، مستغرقا تماما في تأملاته الخيالية والرياح راقدة في هدوء ساكن. وإذا بصوت نسائي ناعم يخترق الصمت. كانت هناك اشراقة عذبة تداعب وجهها وتضفي على نظرتها شيئا من الحزن ولكن ثغرها يضيء تفاؤلا :
- مرحبا
- مرحبا.
- ممكن ان تقول لي كيف لي بالذهاب إلى مساكن برزة
- عليك بالذهاب الى الجهة الثانية و تستقلي الحافلة… وهو يشير بيده باتجاه المحطة.
وبعد ان أوضح لها عن الطريق في بضع كلمات بلهجته.
وفجأة قالت مستفسرا :
- انت من دير الزور .
- لا، انا عراقي.
- أهلا وسهلا . لان دير الزور يتكلمون بنفس اللهجة .
- نعم.
- يبدو عليك لست قديما هنا.
- نعم وصلت إلى سوريا قبل ستة أشهر.
قالت بلهجة مرتابة وكأنما ارتسمت معالمها على قسمات وجهها:
- صعب وبدون عائلة.
- نعم.
- ان لم يضايقك الأمر، إلا ترشدني الى المكان . انا من مدينة درعة.
- أهلا وسهلا .. كلًا لا أمانع .
بعد صمت قصير وهم يمشون جنبا الى جنب. هتفت بصوت خافت ومدت يدها نحوه وقالت مع ابتسامة عريضة :
- انا اسمي رواء.
وفعل هو نفس الشيء وقال :
- عادل.
- تشرفنا.
- اهلا وسهلا.
رواء شابة في العشرينات من عمرها قصيرة القامة، ممتلئة، شعرها اسود كالفحم، لها بشرة صافية، سمراء كخبز التنور، عنقها بارز، جميل جدا، وتحت الحاجبين تبرز عينان سوداوان، واسعتان وهادئتان. ذقنها مستدير. اما شفتها العلوية منتفخة قليلا بسبب طقم اسنانها الامامية، لكن اسنانها كانت جديدة لامعة، انفها عريض ولكن ليس كبير، اشبه الى حد ما بالفتيات من جنوب شرق آسيا، أما جبهتها لا عريضة ولا ضيقة. جسمها رشيق يزينه الثديين البارزين.
قبل ان يبحر الغسق في عتمة الليل ويتأرجح في نسيم المساء، كان يشغله فكرة الرجوع إلى البيت. اخر حافلة الساعة الحادية عشر مساءً.. كان يخشى ان لا يغيب عن الحافلة الاخيرة إلى دُمَرْ گازية. وإلا سوف يتعين عليه العودة الى المنزل بسيارة أجرة. وهذا يعني انه بالنتيجة عليه دفع اموال اضافية لا يستطيع تحمل تكاليفها.
رواء كما لو كانت في مقابلة تلفزيونية وعليها أن تخبره بكل ما في جعبتها عن دقائق حياتها. راحت تتحدث عن نفسها بالتفصيل. انها حامل في الشهر الثالث، وزوجها كان طيار، وقد توفي بعد سقوط طائرته في دورة تدريبية، وأنها تبحث عن رجل كبير في المخابرات السورية وهو يعيش في مساكن برزة، وأنها عانت الكثير من المتاعب بعد الحادثة .
كانت تقوم بسرد حكايتها بشكل متسلسل ككاتب موهوب قادر على اختيار كلماته. وأمور أخرى كثيرة تتعلق بحياتها الخاصة دون انقطاع. وتموج فكره لايقاعات حنجرتها وهي تبث حكايتها اليومية بنهم. وفي نفس الوقت تابعوا طريقهم باتجاه موقع الحافلات. بينما عادل لم يكن في جعبته ما يثير رغبتها. ربما لم يتح له الفرصة ليقول شيئا عن نفسه وإن أراد قد يبدو سرده شيء سخيف. هل يقول لها عن سنوات التحدي في مواجهة الموت أم عن حياته الحالية وهو يدور في الشوارع دون هدف، ويعيش في منزل يتقاسمه مع اربعة اخرين. بل كان يفضل نسيان الماضي والخوض في الحاضر والمستقبل. تراجع قليلا وضحك في نفسه. لم يملك حاضره، فكيف له ان يبحر نحو المستقبل الذي لا يرى في الافق اي امتداد له. ومع ذلك كان يتمتع بصفة مؤثرة جدا، حيث مظهره الخارجي واسلوبه في الكلام يخلقان بخفة جوا من الثقة. يجعل النساء ان يشعروا معه بالامان.
وبينما يشق الاثنان الطريق كانت تتحدث معه وكأنما يعرفان بعضهما البعض منذ وقت طويل. وأثناء محاولة عبور الشارع توقفا لبرهة ومال عادل بجسده قليلا و اشرأب عنقه الى الامام، مدّ يده الى الخلف باتجاهها كما لو انه يطلب منها التريث وهو يلقي بنظره يمينا وشمالا ليتاكد من خلو الشارع من السيارات وفوجئ بتلامس راحة يدها بيده الممدودة الى الخلف حتى تشابكتا وكأنما طفلة تخشى ان تضيع في زحمة الطريق. شعر للحظة ان وهج جمرتها قادر على تحريك الخيوط الصدئة التي ظلت راكدة لسنوات من الإهمال. خيط من الدفء تسرب من كفها، أنساب منه ومض مفعم بولادة علاقة انسانية ورسائل محمومة. وظل شابكا يدها على مدى مسافة الشارع إلى الاتجاه الثاني. حرر عادل كفه بهدوء وتصرف بشكل طبيعي وكأن ماحدث لم يكن سوى لحظة عابرة. كان بعيدا عن أساليب الحيل، تصرفاته تنم عن البراءة المطلقة وحسن النية، ويؤثر على عقولهن بملاطفاته الهادئة.
وبعد ان وصلا إلى المحطة. كان هناك عدد قليل من الناس في انتظار وصول الحافلة. وظل واقفا معها وهما يتبادلان الاحاديث، وفي الاغلب كانت لرواء الصدارة. وعندما ظهر على مدى النظر وصول الحافلة، طلبت منه ان يكمل جميله وان يتابع الطريق معها من أجل البحث سوية عن الشخص المعني في المخابرات ان لم يزعجه الأمر .
والحقيقة أثار في نفسه بعض التحفظات وخاصة عندما أفصحت له عن غايتها من الزيارة. كانت ترعبه الأجهزة الأمنية وصيتها. ومع ذلك كان يثيره بعض الشيء ان يخوض غمار هذه المغامرة، علاوة على ذلك كان لديه فائض من الوقت، ولم يتجرأ على الممانعة. لم يعرف دوافعها، ربما بسبب ان الرقة الانثوية ، تُطلق رائحةً تطمئن القلب وتزداد عبقها كلما تسربت عبر مسامات الجسد وتخدر الذهن، أو ربما تخيلها لبوة صغيرة مثيرة للشفقة.
كانت في الساحة الصغيرة مجموعة قليلة من الناس، سرعان ما امتلأت بحشود كبيرة تقاطروا باتجاه موقف الحافلة من كل المنافذ المؤدية إليها مع صرخاتهم و قهقهاتهم تصدح في أرجاء المحطة. وصلت الحافلة وتزاحم الناس على الصعود، اصطفا في الطابور، و تحركا بخطوات وئيدة تتناغم مع حركة الآخرين. عادل وقف خلف رواء واضعا يده اليمنى على كتفها اليمنى، ويخطو مع خطواتها، كما لو انها دليل الطريق. أما رواء لم تبدِ اية ممانعة لتلك الحركة. صعدا إلى فناء الحافلة الذي كان مكتظا بالركاب من مختلف الاجناس والاعمار الى مساكن برزة. اتخذا مكانا بمحاذاة النافذة قريب من المقعد الأخير ووقفا هناك، عادل ظهره الى النافذة ويده اليسرى يمسك بالعمود الممتد في سقف الحافلة وبينما رواء تقف على مسافة شبر من عادل، بعد ان وقفت وجهًا لوجه أمامه، تحركت أوراق هواجسه، فسمع منها حفيفا. بينما رواء تدفقت انفاسها الهادئة بوتيرة تتناغم مع كل هزة تصنعها الحافلة.
كانت نظراتها قد أيقظت عواطفه وأشواقه التي ظلت راكدة في سنوات من النسيان. ومع كل خاطرة موسيقية تنسل ايقاعاتها عبر خطوط وجدانية فتملأ فضاء الحافلة بعبق وجودهما. رواء شعرت في لحظة انها في كنف أسره، وهذا الإحساس بات ينمو كلما طالت رفقتهما. عادل دفن مشاعره في اعماقه التي ظلت ساكنة دون ان تطفح على السطح. تجتاحه احيانا فكرة تحطيم هذا الجدار المصطنع لكبريائه المفرط الذي يعيقه من أجل الحصول على غمار النشوة.
راح يتأمل قسمات وجهها وحركة شفتيها تحوم في الهواء في هذه الرحلة القصيرة الطويلة، وكأنه يدون ملامحها في مخيلته، وبينما هي في حماس شديد للبحث عن اية حكاية لتبقي خيوط التواصل مشدودة. وفي هذا الوقت غاص عادل في العمق وذهنه شارد، بعيدا هناك تحت المياه، ودخان النشيج يتبدد في كثافة الضباب. كلما رفعت عينيها والتقت عينيه، اشاح عنها نظره وتظاهر بجدية الاستماع إليها. كان ما شد انتباهه تصاعد تنهداتها كالبخار الحار، وارتفاع صدرها أكثر مما هو اساسا مرتفع. وحيال مرأى هذا المشهد، احس بجلده يقشعر، وكأنه في العراء عاريا في جو جليدي. أسلم نفسه للصدفة مفعما بشعور ملهم، ولحظات سرمدية.
هذه اللحظات ربما بثت في نفس الفتاة نشوة السكر، على عكس عادل الذي لم يتكامل لديه هذا الإحساس المفاجئ، لأن رأسه لم يكن غارقا بأفكار خيالية لا تمت الى الواقع بصلة. تحصن بخبرته الطويلة بالحياة والبشر وما تمخض عنها من موقف ثابت في نظرته إلى العلاقات الغرامية، بالرغم من ان عادل كان بحاجة ماسة الى تلك العلاقة الانسانية، الا انه لم ير فيها المرأة المثالية أو فتاة أحلامه. انها مجرد نزوة عابرة ونسمات ناثرة تتبدد مع انتهاء دورتها. ربما كان يفكر أن يرتبط بها وخاصة هي كانت على أهبة الاستعداد لذلك، لولا انها كانت متزوجة طيار يرقد تحت التراب وتبحث عن رجل مخابرات، علاوة على ذلك حامل في الشهر الثالث. وأثناء سير الحافلة واهتزازها، كانت تمسك بذراع عادل بين فينة وأخرى كي لا تتأرجح مع تأرجح الحافلة. وفي احدى المنعطفات الحادة كادت رواء على وشك ان تقع، بادر عادل برغبة متحفزة وذلك بوضع يده على كتفها العاري البعيد ناصع كضوء القمر، وطوقها نحوه، بذريعة مسكها كي لا تقع. هذا الاحتكاك سرب صعقة حميمية في أوصالها وكأنما أزاح عنها الغطاء ليكشف جسدها العاري. لصقت رواء راسها بصدره حتى ترامت اليها دقات قلبه، لم يدم طويلا. حرر عادل قبضته، ارجعت رواء جسدها الى الخلف قليلا مع ثبات قدميها دون حراك. رفعت راسها والتقت عيناهما في نهر من التساؤلات، وقعت نظراته على شفتيها النديتين، وفي هذه اللحظة انزلقت كفها اليمنى في راحته، وفجأة شدّت على يديه ولثمتها دون ان تقول كلمة واحدة حتى شعر عادل بقبضتها. هذه الحركة أغرقته في بحر من الذهول، وكأنها أخرجته من الأزمنة الأخرى وجعلته متيقظا مصحوبا بحيوية المشهد. راح يؤنب نفسه على ممارسة الزهو بدلا من الاندماج في عالم الحب. ولكن ظل ذلك الزهو المزيف يعشعش في اعماقه.
توقفت الحافلة عند احدى المحطات في مساكن برزة، المنطقة التي كانت في يوم ما محطته الثالثة. عادل ورواء كانا قد وقفا قرب الباب استعدادا للنزول. سمح لها أولا بالترجل من الحافلة وذهب خلفها. جالا سوية في الأزقة بحثا عن منزل ضابط في المخابرات ورواء لا تعرف عنه شيئا، بل لم تلتق به سابقا، حتى لا تتخيل كيف يبدو مظهره. ولكن عادل كان له صورة اخرى عنه ، قصير الطول، بَدين ودميم، له شارب ثخين وعريض، وكرش كبير، ومتعجرف، صلف الكلام ويعشق النساء.
سألت رواء بعض المارة عن خليل عبد السلام، ينادونه : أبو راوية. كانت الإجابات واحدة : لا نعرف. ودام البحث أكثر من ساعة دون جدوى.
كانت المصابيح المضاءة من أعمدة المتراصة قد عكست ظلهما على أرض الشارع. وقد أقلقته الاحساسات الثقيلة، والمخاوف المجنونه، وفتاة يائسة كغريق يتعلق بقشة. وهو يحدق في ساعته القديمة. الوقت يمضي وهي لم تدنُ من غايتها حتى الآن.
نظر اليها وسيل من العرق المتصبب يتدفق من عنقه وينساب نحو عموده الفقري، وإذا بريح خفيفة تسربت عبر مسامات قميصه فأحدثت في جسده رجفة خفيفة.
نظر عادل الى ساعته التي اهداها له شقيقه نهران بعد فراق دام خمسة عشرة سنة عندما قام بزيارته لأول مرة الى دمشق. وهذه الساعة كان قد حصل عليها اثناء زيارته الى كوريا الشمالية في وفد طلابي - تشير الى الثامنة مساءً.
أحيانآ يشعر الانسان ان شيئا ما ينقصه ولكن يجهل اسبابه، نظراتها اليه وتقربها منه جسديا، ربما لم يكن لهما بُعد عاطفي، وإنما شكل من أشكال املاء الفراغ الكبير الذي تركه زوجها الراحل في حياتها، لاسيما لم يمض على وفاته سوى ثلاثة أشهر وفقا لبيانها. فهي بحاجة الى مَنْ يطرح عن كاهلها الأحزان المتراكمة. فهي اشارت ايضا من خلال قصتها عن التعامل السيئ معها من قبل عائلة زوجها. كان يعزي أسباب ملامستها له هو احساسها بالامان، احساسها بالحنان وكأنما تريد ان تعبر باللمس عن مشاعرها. كانت جملة من التكهنات قد توالت أفكاره.
وفجأة وكأن حلقها قد جف وصوتها رانت عليه بحة غريبة.وسمة الخجل ارتسمت على وجهها. تزاحمت الكلمات على لسانها في باديء الأمر. تنفست الصعداء، عادت الى نفسها بعض الثقة وتتابعت كلماتها بانتظام :
- الوقت متأخر وعليّ البحث يوم غد مجددا.
وسكتت للحظة وكأنها تريد ان تقول شيئا او تفصح عن امر، تشعر بثقله.
وفي غمرة سكوتها لبرهة، سألها عادل إذا هي كانت بحاجة الى مساعدة أخرى.
هبطت رأسها قليلا وعضت شفتها السفلى من الداخل و فوجئ بسؤال لم يتوقعه :
- انت كنت رائعا معي كل الوقت. وشعرت بإحساس جميل بانك انسان طيب وتحب الخير، وهذا الموقف خير مثال على ذلك. لدي سؤال قد يكون صعب علي كامرأة النطق به. هل بإمكاني ان أقضي الليلة معك في بيتك؟. وقالت العبارة الأخيرة بصوت خفيض.
ثم أردفت قائلة لتفادي سوء الفهم :
- عفوا، لحين يوم غد. لا اعرف احدا في دمشق سوى أبا راوية .
أجاب عادل بنبرة فيها شيء من الاسف:
- شكرا على اطرائك وانت ايضا كنتِ رائعة جدا. ولكن مع الأسف انا اعيش مع اربعة اخرين في الدار.
قالت وبحزن :
- لا. كنت اتصور تعيش لوحدك. شكرا… على كل حال… احاول ان اجد حلا.
وعانقها عادل بحرارة، وأحس براحتيها تطوق ظهره بقوة . وقال لها :
- اتمنى لك حظا سعيدا. الى اللقاء.
كانت عيونها تقول له اريد ان اراك مرة اخرى، لكن عادل كان في عالم آخر. وعاد ادراجه كالشبح يسلك نفس الطريق، كما فعل قبل عدة ساعات، وانما بعكس الاتجاه، ولكن هذه المرة وحيدا. انتهت رحلة الصداقة في منتصف الطريق وهكذا افترقوا.
كان يقضي يومه متجولا في أرجاء المدينة كجندي مجهول على أرض لا ينتمي لها، غريب لا يحمل بطاقة تشير الى وطنه، الا ان جروح الوطن تطفح ندبات انينها على مرافئ الانتظار.
دُمَرْ گازية، المحطة الرابعة في حياته الصاخبة. منطقة صغيرة تقع على أطراف دمشق مؤلفة من بيوت ليست في تناسق هندسي. وعلى جانب الطريق وتصاعداً باتجاه المرجة، مركز المدينة، تزدحم بالمطاعم الفاخرة في الهواء الطلق تعج بالزبائن ليلا مع جلسات ممتعة، تقدم فيها مشروبات روحية وعشاء طازج، لذيذ. هذه الأماكن في الأغلب يختلف إليها رجال أغنياء وأصحاب أموال.
في احد الليالي والسماء يغطيها الصمت، يتوسطها القمر، تزينها النجوم المتناثرة، أنوارها تشق غمار الليل. ارتاد عادل مع صاحبه صلاح الذي يعيش معه في نفس المنزل احد المطاعم الراقية الواقعة على مسافة ليست بعيدة عن الدار، رغبة منهم ان يعيشوا بعض اللحظات الباهرة، الممتعة في جوِ مختلف، على الرغم من أنهم كانوا يعانون وضعًآ اقتصاديًا مُتَرَدِّيًا. شعر في غمرة هذه اللحظات وكأنه تحرر من أعباء الحياة اليومية المعقدة. احس بنوع من الحماس يغزو قلبه ويسري في عروقه، ويرسل الطمأنينة إلى روحه.
بعد ان تم الترحيب بهم، طلبوا لكل منهما زجاجة بيرة. وظلوا لساعتين يتبادلون أطراف الحديث عن الأمور السياسية والأدبية وصوت ام كلثوم مع اغنية لسه فاكر يصدح في أرجاء المطعم، يحتسون على مهل، وزجاجة البيرة لازالت مملوءة إلى أقل من نصفها. كان النُدُل يراقبون المشهد عن بعد وكأن لا أحد في المطعم غيرهم. كانت علامات عدم الرضا واضحة على وجوههم من خلال الابتسامات المصطنعة. كانوا يحملقون فيهم عن بعد والزجاجة بالكاد تتناقص. وبين حين وآخر، يتم إحراجهم بالاستفسار فيما لو كانوا بحاجة الى المزيد. وكانت الإجابة : لا .. شكرا.
عادل شاب يبلغ من العمر ثلاثين سنة، متوسط القامة، شعره الاسود الكثيف مفروق في منتصفه بشكل مستقيم، نحيل الجسم، رشيق، طبعه عنيد، اجتماعي، بشوش، ابيض البشرة، وتحت أنفه البارز شارب رفيع. وعلاوة على ذلك كان بالغ الأناقة والثقة بالنفس، يتصرف بجلالة جديرة، ملامح وجهه توحي للآخرين أصغر من عمره بكثير.. كان يتميز بصفة عدم الانجرار والاندفاع بسرعة نحو النساء، ويتعامل معهن باحترام وحذر.
كالعادة استيقظ عادل صباحا على صخب الساكنين معه في نفس الدار، راح يتقلب ويتلوى في فراشه، ويدس رأسه تحت البطانية العتيقة، ربما تصد عنه الضوضاء والجلجلة في المطبخ، وصوت عدنان الجهوري، وكأنه يخطب إلى جمهرة من الناس. كان يحلم ولكنه لا يتذكر منه شيئا. حاول ان يواصل التفكير في الحلم ولكن خانته الذاكرة، حتى الأحلام أصبحت ماركة غالية، تتلاشى مع اليقظة، سراب في صمت القبور، كما لو أحاطوا طوق من الجدار الثخين بأحداثها، ومن خارج الدار يخترق الجدران صدّاح المارة في الدربونة الضيقة، حيث يقع محل ابراهيم في نهاية الزقاق، وهو فلسطيني سوري. ابنته كانت مراهقة جميلة بعينيها العسليتين الواسعتين، وبنيتها الفارعة، ناصعة البياض، رشيقة. يراها أحيانا عندما تخرج إلى المدرسة او عندما تعود منها. والدكان يقع بجوار البيت.
الحياة دبت في أحشاءه نوعا ما. في البداية كان يشعر بصعوبة ان ينام برخاء ويحاول استدراج النوم ليأتي إليه، لأنه لم يعتد على هذه الحياة العصرية لفترة طويلة ولم يلمس امرأة بعد ان أمضى عمره بين الوديان والجبال الشامخة والمنعزلة عن أي تماس مع التحضر.
ما ان غطى الليل حتى يشعر المرء بحيوية الحركة في الشوارع والساحات العامة. ذابت ثلوج الحزن والقلق واستوطن الحلم والامل. زال الدم من الطريق ، ولكن بقع حمراء ، آثارها مازالت طافية على سطح الذاكرة.
كان ينظر الى السماء فوجدها زرقاء صافية، و أسراب من الطيور تلقي باعلى صوتها اغنية تتناثر الحانها الفضية في الفضاء على هدير نهر بردى، وكأنهما يوحيان بخبر مفاجئ . وبينما عادل عائد عبر الشارع المقابل لنهر بردى الشهير في دمشق من المركز الثقافي السوفيتي الواقع في وسط المدينة، في طريقه إلى البيت والكائن في منطقة دُمَرْ گازية، مستغرقا تماما في تأملاته الخيالية والرياح راقدة في هدوء ساكن. وإذا بصوت نسائي ناعم يخترق الصمت. كانت هناك اشراقة عذبة تداعب وجهها وتضفي على نظرتها شيئا من الحزن ولكن ثغرها يضيء تفاؤلا :
- مرحبا
- مرحبا.
- ممكن ان تقول لي كيف لي بالذهاب إلى مساكن برزة
- عليك بالذهاب الى الجهة الثانية و تستقلي الحافلة… وهو يشير بيده باتجاه المحطة.
وبعد ان أوضح لها عن الطريق في بضع كلمات بلهجته.
وفجأة قالت مستفسرا :
- انت من دير الزور .
- لا، انا عراقي.
- أهلا وسهلا . لان دير الزور يتكلمون بنفس اللهجة .
- نعم.
- يبدو عليك لست قديما هنا.
- نعم وصلت إلى سوريا قبل ستة أشهر.
قالت بلهجة مرتابة وكأنما ارتسمت معالمها على قسمات وجهها:
- صعب وبدون عائلة.
- نعم.
- ان لم يضايقك الأمر، إلا ترشدني الى المكان . انا من مدينة درعة.
- أهلا وسهلا .. كلًا لا أمانع .
بعد صمت قصير وهم يمشون جنبا الى جنب. هتفت بصوت خافت ومدت يدها نحوه وقالت مع ابتسامة عريضة :
- انا اسمي رواء.
وفعل هو نفس الشيء وقال :
- عادل.
- تشرفنا.
- اهلا وسهلا.
رواء شابة في العشرينات من عمرها قصيرة القامة، ممتلئة، شعرها اسود كالفحم، لها بشرة صافية، سمراء كخبز التنور، عنقها بارز، جميل جدا، وتحت الحاجبين تبرز عينان سوداوان، واسعتان وهادئتان. ذقنها مستدير. اما شفتها العلوية منتفخة قليلا بسبب طقم اسنانها الامامية، لكن اسنانها كانت جديدة لامعة، انفها عريض ولكن ليس كبير، اشبه الى حد ما بالفتيات من جنوب شرق آسيا، أما جبهتها لا عريضة ولا ضيقة. جسمها رشيق يزينه الثديين البارزين.
قبل ان يبحر الغسق في عتمة الليل ويتأرجح في نسيم المساء، كان يشغله فكرة الرجوع إلى البيت. اخر حافلة الساعة الحادية عشر مساءً.. كان يخشى ان لا يغيب عن الحافلة الاخيرة إلى دُمَرْ گازية. وإلا سوف يتعين عليه العودة الى المنزل بسيارة أجرة. وهذا يعني انه بالنتيجة عليه دفع اموال اضافية لا يستطيع تحمل تكاليفها.
رواء كما لو كانت في مقابلة تلفزيونية وعليها أن تخبره بكل ما في جعبتها عن دقائق حياتها. راحت تتحدث عن نفسها بالتفصيل. انها حامل في الشهر الثالث، وزوجها كان طيار، وقد توفي بعد سقوط طائرته في دورة تدريبية، وأنها تبحث عن رجل كبير في المخابرات السورية وهو يعيش في مساكن برزة، وأنها عانت الكثير من المتاعب بعد الحادثة .
كانت تقوم بسرد حكايتها بشكل متسلسل ككاتب موهوب قادر على اختيار كلماته. وأمور أخرى كثيرة تتعلق بحياتها الخاصة دون انقطاع. وتموج فكره لايقاعات حنجرتها وهي تبث حكايتها اليومية بنهم. وفي نفس الوقت تابعوا طريقهم باتجاه موقع الحافلات. بينما عادل لم يكن في جعبته ما يثير رغبتها. ربما لم يتح له الفرصة ليقول شيئا عن نفسه وإن أراد قد يبدو سرده شيء سخيف. هل يقول لها عن سنوات التحدي في مواجهة الموت أم عن حياته الحالية وهو يدور في الشوارع دون هدف، ويعيش في منزل يتقاسمه مع اربعة اخرين. بل كان يفضل نسيان الماضي والخوض في الحاضر والمستقبل. تراجع قليلا وضحك في نفسه. لم يملك حاضره، فكيف له ان يبحر نحو المستقبل الذي لا يرى في الافق اي امتداد له. ومع ذلك كان يتمتع بصفة مؤثرة جدا، حيث مظهره الخارجي واسلوبه في الكلام يخلقان بخفة جوا من الثقة. يجعل النساء ان يشعروا معه بالامان.
وبينما يشق الاثنان الطريق كانت تتحدث معه وكأنما يعرفان بعضهما البعض منذ وقت طويل. وأثناء محاولة عبور الشارع توقفا لبرهة ومال عادل بجسده قليلا و اشرأب عنقه الى الامام، مدّ يده الى الخلف باتجاهها كما لو انه يطلب منها التريث وهو يلقي بنظره يمينا وشمالا ليتاكد من خلو الشارع من السيارات وفوجئ بتلامس راحة يدها بيده الممدودة الى الخلف حتى تشابكتا وكأنما طفلة تخشى ان تضيع في زحمة الطريق. شعر للحظة ان وهج جمرتها قادر على تحريك الخيوط الصدئة التي ظلت راكدة لسنوات من الإهمال. خيط من الدفء تسرب من كفها، أنساب منه ومض مفعم بولادة علاقة انسانية ورسائل محمومة. وظل شابكا يدها على مدى مسافة الشارع إلى الاتجاه الثاني. حرر عادل كفه بهدوء وتصرف بشكل طبيعي وكأن ماحدث لم يكن سوى لحظة عابرة. كان بعيدا عن أساليب الحيل، تصرفاته تنم عن البراءة المطلقة وحسن النية، ويؤثر على عقولهن بملاطفاته الهادئة.
وبعد ان وصلا إلى المحطة. كان هناك عدد قليل من الناس في انتظار وصول الحافلة. وظل واقفا معها وهما يتبادلان الاحاديث، وفي الاغلب كانت لرواء الصدارة. وعندما ظهر على مدى النظر وصول الحافلة، طلبت منه ان يكمل جميله وان يتابع الطريق معها من أجل البحث سوية عن الشخص المعني في المخابرات ان لم يزعجه الأمر .
والحقيقة أثار في نفسه بعض التحفظات وخاصة عندما أفصحت له عن غايتها من الزيارة. كانت ترعبه الأجهزة الأمنية وصيتها. ومع ذلك كان يثيره بعض الشيء ان يخوض غمار هذه المغامرة، علاوة على ذلك كان لديه فائض من الوقت، ولم يتجرأ على الممانعة. لم يعرف دوافعها، ربما بسبب ان الرقة الانثوية ، تُطلق رائحةً تطمئن القلب وتزداد عبقها كلما تسربت عبر مسامات الجسد وتخدر الذهن، أو ربما تخيلها لبوة صغيرة مثيرة للشفقة.
كانت في الساحة الصغيرة مجموعة قليلة من الناس، سرعان ما امتلأت بحشود كبيرة تقاطروا باتجاه موقف الحافلة من كل المنافذ المؤدية إليها مع صرخاتهم و قهقهاتهم تصدح في أرجاء المحطة. وصلت الحافلة وتزاحم الناس على الصعود، اصطفا في الطابور، و تحركا بخطوات وئيدة تتناغم مع حركة الآخرين. عادل وقف خلف رواء واضعا يده اليمنى على كتفها اليمنى، ويخطو مع خطواتها، كما لو انها دليل الطريق. أما رواء لم تبدِ اية ممانعة لتلك الحركة. صعدا إلى فناء الحافلة الذي كان مكتظا بالركاب من مختلف الاجناس والاعمار الى مساكن برزة. اتخذا مكانا بمحاذاة النافذة قريب من المقعد الأخير ووقفا هناك، عادل ظهره الى النافذة ويده اليسرى يمسك بالعمود الممتد في سقف الحافلة وبينما رواء تقف على مسافة شبر من عادل، بعد ان وقفت وجهًا لوجه أمامه، تحركت أوراق هواجسه، فسمع منها حفيفا. بينما رواء تدفقت انفاسها الهادئة بوتيرة تتناغم مع كل هزة تصنعها الحافلة.
كانت نظراتها قد أيقظت عواطفه وأشواقه التي ظلت راكدة في سنوات من النسيان. ومع كل خاطرة موسيقية تنسل ايقاعاتها عبر خطوط وجدانية فتملأ فضاء الحافلة بعبق وجودهما. رواء شعرت في لحظة انها في كنف أسره، وهذا الإحساس بات ينمو كلما طالت رفقتهما. عادل دفن مشاعره في اعماقه التي ظلت ساكنة دون ان تطفح على السطح. تجتاحه احيانا فكرة تحطيم هذا الجدار المصطنع لكبريائه المفرط الذي يعيقه من أجل الحصول على غمار النشوة.
راح يتأمل قسمات وجهها وحركة شفتيها تحوم في الهواء في هذه الرحلة القصيرة الطويلة، وكأنه يدون ملامحها في مخيلته، وبينما هي في حماس شديد للبحث عن اية حكاية لتبقي خيوط التواصل مشدودة. وفي هذا الوقت غاص عادل في العمق وذهنه شارد، بعيدا هناك تحت المياه، ودخان النشيج يتبدد في كثافة الضباب. كلما رفعت عينيها والتقت عينيه، اشاح عنها نظره وتظاهر بجدية الاستماع إليها. كان ما شد انتباهه تصاعد تنهداتها كالبخار الحار، وارتفاع صدرها أكثر مما هو اساسا مرتفع. وحيال مرأى هذا المشهد، احس بجلده يقشعر، وكأنه في العراء عاريا في جو جليدي. أسلم نفسه للصدفة مفعما بشعور ملهم، ولحظات سرمدية.
هذه اللحظات ربما بثت في نفس الفتاة نشوة السكر، على عكس عادل الذي لم يتكامل لديه هذا الإحساس المفاجئ، لأن رأسه لم يكن غارقا بأفكار خيالية لا تمت الى الواقع بصلة. تحصن بخبرته الطويلة بالحياة والبشر وما تمخض عنها من موقف ثابت في نظرته إلى العلاقات الغرامية، بالرغم من ان عادل كان بحاجة ماسة الى تلك العلاقة الانسانية، الا انه لم ير فيها المرأة المثالية أو فتاة أحلامه. انها مجرد نزوة عابرة ونسمات ناثرة تتبدد مع انتهاء دورتها. ربما كان يفكر أن يرتبط بها وخاصة هي كانت على أهبة الاستعداد لذلك، لولا انها كانت متزوجة طيار يرقد تحت التراب وتبحث عن رجل مخابرات، علاوة على ذلك حامل في الشهر الثالث. وأثناء سير الحافلة واهتزازها، كانت تمسك بذراع عادل بين فينة وأخرى كي لا تتأرجح مع تأرجح الحافلة. وفي احدى المنعطفات الحادة كادت رواء على وشك ان تقع، بادر عادل برغبة متحفزة وذلك بوضع يده على كتفها العاري البعيد ناصع كضوء القمر، وطوقها نحوه، بذريعة مسكها كي لا تقع. هذا الاحتكاك سرب صعقة حميمية في أوصالها وكأنما أزاح عنها الغطاء ليكشف جسدها العاري. لصقت رواء راسها بصدره حتى ترامت اليها دقات قلبه، لم يدم طويلا. حرر عادل قبضته، ارجعت رواء جسدها الى الخلف قليلا مع ثبات قدميها دون حراك. رفعت راسها والتقت عيناهما في نهر من التساؤلات، وقعت نظراته على شفتيها النديتين، وفي هذه اللحظة انزلقت كفها اليمنى في راحته، وفجأة شدّت على يديه ولثمتها دون ان تقول كلمة واحدة حتى شعر عادل بقبضتها. هذه الحركة أغرقته في بحر من الذهول، وكأنها أخرجته من الأزمنة الأخرى وجعلته متيقظا مصحوبا بحيوية المشهد. راح يؤنب نفسه على ممارسة الزهو بدلا من الاندماج في عالم الحب. ولكن ظل ذلك الزهو المزيف يعشعش في اعماقه.
توقفت الحافلة عند احدى المحطات في مساكن برزة، المنطقة التي كانت في يوم ما محطته الثالثة. عادل ورواء كانا قد وقفا قرب الباب استعدادا للنزول. سمح لها أولا بالترجل من الحافلة وذهب خلفها. جالا سوية في الأزقة بحثا عن منزل ضابط في المخابرات ورواء لا تعرف عنه شيئا، بل لم تلتق به سابقا، حتى لا تتخيل كيف يبدو مظهره. ولكن عادل كان له صورة اخرى عنه ، قصير الطول، بَدين ودميم، له شارب ثخين وعريض، وكرش كبير، ومتعجرف، صلف الكلام ويعشق النساء.
سألت رواء بعض المارة عن خليل عبد السلام، ينادونه : أبو راوية. كانت الإجابات واحدة : لا نعرف. ودام البحث أكثر من ساعة دون جدوى.
كانت المصابيح المضاءة من أعمدة المتراصة قد عكست ظلهما على أرض الشارع. وقد أقلقته الاحساسات الثقيلة، والمخاوف المجنونه، وفتاة يائسة كغريق يتعلق بقشة. وهو يحدق في ساعته القديمة. الوقت يمضي وهي لم تدنُ من غايتها حتى الآن.
نظر اليها وسيل من العرق المتصبب يتدفق من عنقه وينساب نحو عموده الفقري، وإذا بريح خفيفة تسربت عبر مسامات قميصه فأحدثت في جسده رجفة خفيفة.
نظر عادل الى ساعته التي اهداها له شقيقه نهران بعد فراق دام خمسة عشرة سنة عندما قام بزيارته لأول مرة الى دمشق. وهذه الساعة كان قد حصل عليها اثناء زيارته الى كوريا الشمالية في وفد طلابي - تشير الى الثامنة مساءً.
أحيانآ يشعر الانسان ان شيئا ما ينقصه ولكن يجهل اسبابه، نظراتها اليه وتقربها منه جسديا، ربما لم يكن لهما بُعد عاطفي، وإنما شكل من أشكال املاء الفراغ الكبير الذي تركه زوجها الراحل في حياتها، لاسيما لم يمض على وفاته سوى ثلاثة أشهر وفقا لبيانها. فهي بحاجة الى مَنْ يطرح عن كاهلها الأحزان المتراكمة. فهي اشارت ايضا من خلال قصتها عن التعامل السيئ معها من قبل عائلة زوجها. كان يعزي أسباب ملامستها له هو احساسها بالامان، احساسها بالحنان وكأنما تريد ان تعبر باللمس عن مشاعرها. كانت جملة من التكهنات قد توالت أفكاره.
وفجأة وكأن حلقها قد جف وصوتها رانت عليه بحة غريبة.وسمة الخجل ارتسمت على وجهها. تزاحمت الكلمات على لسانها في باديء الأمر. تنفست الصعداء، عادت الى نفسها بعض الثقة وتتابعت كلماتها بانتظام :
- الوقت متأخر وعليّ البحث يوم غد مجددا.
وسكتت للحظة وكأنها تريد ان تقول شيئا او تفصح عن امر، تشعر بثقله.
وفي غمرة سكوتها لبرهة، سألها عادل إذا هي كانت بحاجة الى مساعدة أخرى.
هبطت رأسها قليلا وعضت شفتها السفلى من الداخل و فوجئ بسؤال لم يتوقعه :
- انت كنت رائعا معي كل الوقت. وشعرت بإحساس جميل بانك انسان طيب وتحب الخير، وهذا الموقف خير مثال على ذلك. لدي سؤال قد يكون صعب علي كامرأة النطق به. هل بإمكاني ان أقضي الليلة معك في بيتك؟. وقالت العبارة الأخيرة بصوت خفيض.
ثم أردفت قائلة لتفادي سوء الفهم :
- عفوا، لحين يوم غد. لا اعرف احدا في دمشق سوى أبا راوية .
أجاب عادل بنبرة فيها شيء من الاسف:
- شكرا على اطرائك وانت ايضا كنتِ رائعة جدا. ولكن مع الأسف انا اعيش مع اربعة اخرين في الدار.
قالت وبحزن :
- لا. كنت اتصور تعيش لوحدك. شكرا… على كل حال… احاول ان اجد حلا.
وعانقها عادل بحرارة، وأحس براحتيها تطوق ظهره بقوة . وقال لها :
- اتمنى لك حظا سعيدا. الى اللقاء.
كانت عيونها تقول له اريد ان اراك مرة اخرى، لكن عادل كان في عالم آخر. وعاد ادراجه كالشبح يسلك نفس الطريق، كما فعل قبل عدة ساعات، وانما بعكس الاتجاه، ولكن هذه المرة وحيدا. انتهت رحلة الصداقة في منتصف الطريق وهكذا افترقوا.
التعديل الأخير: