كفاح الزهاوي
كاتب
أقبل الخريف فجأة، بعد ان تنحى الربيع والصيف عن دورتهما، وتركا بصماتهما على سطح الأرض، من السحر، والجمال، والماء العذب، وعبق رائحة الأرض، حيث زرعا البهجة، والحياة الخضراء، للإنسان، والزهور، والطيور، والعصافير المغردة، و تمتعت الحيوانات البرية، وهي تمرح، وتسرح، في المراعي، و الأدغال، والسهول، بأروع أجوائها. وعلى حين غرة، تجهم وجه الطبيعة، وانهمر المطر مدراراً، واصفرت أوراق الشجر، وافترشت الأرض، كدستها العواصف أكواماً، توحي للناظر وكأنما الطبيعة، تغطي ظاهرها الوان زاهية بينما تحمل بحرا من الآلام والشجون في باطنها.
كانت شجرة البلوط بعمق مئات السنين، تقف بقامتها السامقة، في فِرْدَوْسها البديع، صامتة ومتحدية كوارث الطبيعة الهوجاء بأغصانها العارية، إلا من بعض أوراقها الصفراء المائلة الى اللون البرتقالي والتي لم يزل مخزون الحياة فيها على شفا حفرة تهوي اسيرة لقدرها المحتوم.
كانت عيناه تراقبان ساعة سقوط الورقة من شجرة البلوط، وهي تحلق في فضائها المحسوس تودع عالمها الذي نشأت وترعرعت في أحضانه، وفي لحظة، تتبدد كرهام المطر. تركت خلفها الذكريات الجميلة، زرعت من خلالها البسمة على شفاه المحبين، وهم يتركون بصمات البهجة على جسد الأم. في نشوة التلاحم ودفء الابدان، تقيهم من لهيب الشمس الحارقة، وهم يقضون أوقاتهم تحت ظلها المجسد بأرواحهم.
يستمدون رائحة الربيع من عبق اريجها، يتساقط الرذاذ، فتترك قطرات ندية على اجسادها، فتعكس الضوء القادم من الشمس توا، بعد ان طاردت الغيوم التي اخفتها عن الأنظار.
وقال بتنهد :
- نحن نشكي دوما من كل شيء، الإنسان يمر بعدة مراحل، وفي كل مرحلة يعاني من مشاكل الحياة. الرغبات والطموحات تكبر، لا نكتفي بذلك، بل نريد المزيد والمزيد. هذه الوريقة الجميلة لا تطلب سوى عدم ايذائها. فهي تكبر ضمن مراحل حياتها، وتغمر الفرحة والبهجة للانسان والطيور. كم انت راقية ايتها النباتات.
لم يفك ناظريه عن تلك اللحظات المؤلمة، والورقة الذابلة، تترك مضجعها قسرا، وتنفصل عن الشجرة الأم، طالما رفدتهم بنهر الحياة، وحمتهم من وابلات المطر وهي تتساقط بغزارة، قصت عليهم حكايات الحب عن الطيور القادمة من أصقاع هذا العالم الغريب، يحتمون بهم كخيمة احاطتهم بهالة من السكينة ونشرت في أوصالهم دفء الأمان، يبنون أعشاشهم، يقومون بالاعتناء بصغارهم، غدت لهم سورا عاليا شامخا تحميهم من الحيوانات الضارية.
ومع لحظات هبوط الورقة الهزيلة رويدا رويدا نحو الأرض، كانت امواج الغضب تستشيط في عظامه وكأن زمن العزلة استعاد رائحة الألم بعد أن مكث طويلا في بقاع النسيان. وبدأت أسوار الحديقة تهتز وتتضرع معلنة عن حدادها. انتابه إحساس غريب ان شجرة البلوط تلفها غيمة سوداء. فقدت اشلاء من احشائها، الخريف خلع عنها جمال وجها وجسدها، وتركها عارية، تقارع برودة الشتاء القادم.
كان يشعر بالخجل، أمام ألَمْ الشجرة، بينما هو قابع في مكانه كمسمار، تشبع بالصدأ، ثابت لا يتحرك، وكأن الشجرة، تنظر اليه، وتصرخ، وتتضرع، طالبةً العون في محنتها.
قال بصوت راجف :
- لا أملك الشجاعة الكافية كما أنت يا ملكة الفردوس. لا املك سوى العزاء، وذرف الدموع، لا تنتظري مني العون. فأنا ضعيف أمام قدرات الطبيعة، انت الاقوى، بجذورك الراسخة في عمق الأرض، وقادرة على مواجهة الرياح والعواصف.
بدا منهكا، شاردا ، شاحبا منسجماً مع شحوب الطبيعة الحزينة. هبت ريح خريفية، تسلل الى أوصاله هواء بارد، مارا بشجرة البلوط، بعد ان اخترق معطفه الأسود، عابقا بكلمات الوداع، ووجه الأرض تتناوب بين الضياء والظلام، حيث الشمس والغيوم في تسابق بين الظهور والاحتجاب. وكأن الأرض تتنفس، فرحة تارة، و حزينة تارة اخرى.
قال لنفسه وعيناه جامدتان :
- سرعان ما يفقد البشر كل قدرة على مواصلة حياتهم في هذا العالم.
تتوالد الأفكار لذلك المنظر المؤلم الذي لم يحد ناظريه عنه طوال سقوط الورقة كطائر محبوس خرج طليقا إلى عالم الحرية، عالم تمتزج فيه نفحات الفرح، يشوبه نوع من القلق يصعب تفسيره، بل من الصعب تحَمٌل مشاقه، فهو أشبه برياح عاتية تغدو الى عاصفة هائلة، وحالة السقوط في منحدر، والبقاء معلقا دون القدرة على الخروج من المأزق.
ظل يحوم حول الاسئلة المعقدة التي تكبل دهاليز فكره المتعب بصدأ الزمن. وبين حين وآخر يتساقط الرذاذ، فيبلل الارض، وينعشها ببعض الرطوبة، سرعان ما تعود الشمس الى الظهور تطارد السحب، فتنشر اشعتها لبعض الوقت على شجرة البلوط، تشجع الطيور بالتناوب على فروع الأغصان.
لمح عصفورا، استقر على غصن الورقة الراحلة وما لبث الطائر الجميل ان اكتشف بسرعة البرق غيابها، فسارع بالطيران. ربما أصاب انياب الحزن فؤاده، فاطلق الألم عنانه فهرع نحو المجهول.
قال والحزن يساور خلجانه :
- كم هي مؤلمة ساعة الفراق البطيئة، بعد ان كانت فردا تنتمي إلى تلك الشجرة الباسقة.
استقرت نظراته أكثر عمقا باتجاه الشجرة .. قال وهو يطلق زفيرا عميقا.
- الحياة ليست سوى مطر صيفي يهطل بقوة، ولكن سريع الزوال. متاهة صعبة تفرض على الإنسان إجباريا.
ساد صمت مطبق، وفجاة تجمعت الطيور على شجرة البلوط، سمع غمغمة تنبعث من أصواتها، حَسِبَ انها تغني بصوت منخفض، لحنا مؤلما ورتيبا، وتناهى الى سمعه من بعيد، هدير البحر، وتلاطم الأمواج، يتجلى في ثناياها كآبة غريبة، السماء تتكدر، وتعلن عن نهاية مؤلمة، دق ناقوس الرحيل، وتوارت الورقة عن الأنظار، والتحقت بالاف الأوراق الهاوية على المساحة الخضراء، وصارت ذكرى في صندوق النسيان.
كانت شجرة البلوط بعمق مئات السنين، تقف بقامتها السامقة، في فِرْدَوْسها البديع، صامتة ومتحدية كوارث الطبيعة الهوجاء بأغصانها العارية، إلا من بعض أوراقها الصفراء المائلة الى اللون البرتقالي والتي لم يزل مخزون الحياة فيها على شفا حفرة تهوي اسيرة لقدرها المحتوم.
كانت عيناه تراقبان ساعة سقوط الورقة من شجرة البلوط، وهي تحلق في فضائها المحسوس تودع عالمها الذي نشأت وترعرعت في أحضانه، وفي لحظة، تتبدد كرهام المطر. تركت خلفها الذكريات الجميلة، زرعت من خلالها البسمة على شفاه المحبين، وهم يتركون بصمات البهجة على جسد الأم. في نشوة التلاحم ودفء الابدان، تقيهم من لهيب الشمس الحارقة، وهم يقضون أوقاتهم تحت ظلها المجسد بأرواحهم.
يستمدون رائحة الربيع من عبق اريجها، يتساقط الرذاذ، فتترك قطرات ندية على اجسادها، فتعكس الضوء القادم من الشمس توا، بعد ان طاردت الغيوم التي اخفتها عن الأنظار.
وقال بتنهد :
- نحن نشكي دوما من كل شيء، الإنسان يمر بعدة مراحل، وفي كل مرحلة يعاني من مشاكل الحياة. الرغبات والطموحات تكبر، لا نكتفي بذلك، بل نريد المزيد والمزيد. هذه الوريقة الجميلة لا تطلب سوى عدم ايذائها. فهي تكبر ضمن مراحل حياتها، وتغمر الفرحة والبهجة للانسان والطيور. كم انت راقية ايتها النباتات.
لم يفك ناظريه عن تلك اللحظات المؤلمة، والورقة الذابلة، تترك مضجعها قسرا، وتنفصل عن الشجرة الأم، طالما رفدتهم بنهر الحياة، وحمتهم من وابلات المطر وهي تتساقط بغزارة، قصت عليهم حكايات الحب عن الطيور القادمة من أصقاع هذا العالم الغريب، يحتمون بهم كخيمة احاطتهم بهالة من السكينة ونشرت في أوصالهم دفء الأمان، يبنون أعشاشهم، يقومون بالاعتناء بصغارهم، غدت لهم سورا عاليا شامخا تحميهم من الحيوانات الضارية.
ومع لحظات هبوط الورقة الهزيلة رويدا رويدا نحو الأرض، كانت امواج الغضب تستشيط في عظامه وكأن زمن العزلة استعاد رائحة الألم بعد أن مكث طويلا في بقاع النسيان. وبدأت أسوار الحديقة تهتز وتتضرع معلنة عن حدادها. انتابه إحساس غريب ان شجرة البلوط تلفها غيمة سوداء. فقدت اشلاء من احشائها، الخريف خلع عنها جمال وجها وجسدها، وتركها عارية، تقارع برودة الشتاء القادم.
كان يشعر بالخجل، أمام ألَمْ الشجرة، بينما هو قابع في مكانه كمسمار، تشبع بالصدأ، ثابت لا يتحرك، وكأن الشجرة، تنظر اليه، وتصرخ، وتتضرع، طالبةً العون في محنتها.
قال بصوت راجف :
- لا أملك الشجاعة الكافية كما أنت يا ملكة الفردوس. لا املك سوى العزاء، وذرف الدموع، لا تنتظري مني العون. فأنا ضعيف أمام قدرات الطبيعة، انت الاقوى، بجذورك الراسخة في عمق الأرض، وقادرة على مواجهة الرياح والعواصف.
بدا منهكا، شاردا ، شاحبا منسجماً مع شحوب الطبيعة الحزينة. هبت ريح خريفية، تسلل الى أوصاله هواء بارد، مارا بشجرة البلوط، بعد ان اخترق معطفه الأسود، عابقا بكلمات الوداع، ووجه الأرض تتناوب بين الضياء والظلام، حيث الشمس والغيوم في تسابق بين الظهور والاحتجاب. وكأن الأرض تتنفس، فرحة تارة، و حزينة تارة اخرى.
قال لنفسه وعيناه جامدتان :
- سرعان ما يفقد البشر كل قدرة على مواصلة حياتهم في هذا العالم.
تتوالد الأفكار لذلك المنظر المؤلم الذي لم يحد ناظريه عنه طوال سقوط الورقة كطائر محبوس خرج طليقا إلى عالم الحرية، عالم تمتزج فيه نفحات الفرح، يشوبه نوع من القلق يصعب تفسيره، بل من الصعب تحَمٌل مشاقه، فهو أشبه برياح عاتية تغدو الى عاصفة هائلة، وحالة السقوط في منحدر، والبقاء معلقا دون القدرة على الخروج من المأزق.
ظل يحوم حول الاسئلة المعقدة التي تكبل دهاليز فكره المتعب بصدأ الزمن. وبين حين وآخر يتساقط الرذاذ، فيبلل الارض، وينعشها ببعض الرطوبة، سرعان ما تعود الشمس الى الظهور تطارد السحب، فتنشر اشعتها لبعض الوقت على شجرة البلوط، تشجع الطيور بالتناوب على فروع الأغصان.
لمح عصفورا، استقر على غصن الورقة الراحلة وما لبث الطائر الجميل ان اكتشف بسرعة البرق غيابها، فسارع بالطيران. ربما أصاب انياب الحزن فؤاده، فاطلق الألم عنانه فهرع نحو المجهول.
قال والحزن يساور خلجانه :
- كم هي مؤلمة ساعة الفراق البطيئة، بعد ان كانت فردا تنتمي إلى تلك الشجرة الباسقة.
استقرت نظراته أكثر عمقا باتجاه الشجرة .. قال وهو يطلق زفيرا عميقا.
- الحياة ليست سوى مطر صيفي يهطل بقوة، ولكن سريع الزوال. متاهة صعبة تفرض على الإنسان إجباريا.
ساد صمت مطبق، وفجاة تجمعت الطيور على شجرة البلوط، سمع غمغمة تنبعث من أصواتها، حَسِبَ انها تغني بصوت منخفض، لحنا مؤلما ورتيبا، وتناهى الى سمعه من بعيد، هدير البحر، وتلاطم الأمواج، يتجلى في ثناياها كآبة غريبة، السماء تتكدر، وتعلن عن نهاية مؤلمة، دق ناقوس الرحيل، وتوارت الورقة عن الأنظار، والتحقت بالاف الأوراق الهاوية على المساحة الخضراء، وصارت ذكرى في صندوق النسيان.
التعديل الأخير: