المصطفى سالمي
كاتب
تتحرك (دبدوبة) متثاقلة نحو قسمها، تستلقي ككيس ضخم على كرسي وراء مكتبها الخشبي، وما يكاد التلاميذ في قسم الأولى1 يجلسون على الألواح الخشبية حتى تكلف واحدا منهم بأن يقوم ليدون خلف السبورة اسم من يصدر عنه ضجيج أو أية حركة مما يمكن عدها ضوضاء ولو كانت مجرد التفاتة للخلف أو التماس قلم أو مسطرة من زميل.. وما هي إلا لحظات حتى تلحق بها (سندس) التي ربما مارست نفس الطقوس أو قريبا منها في فصلها، ودون شك سيكون الاستلقاء على الكرسي والتعرق استثناء، فقد كانت (سندس) أقل وزنا وثقلا من (دبدوبة) المكتنزة شحما وترهلات، وكان قبحها وذمامتها مدعاة لرعب الصغار الذين كانوا يمقتونها، بل إنهم يتحاكون عن كره ورعب زوجها منها، حيث كانت متعودة على إمطاره بسيل من الشتائم كل مساء، بل في كل وقت وغالبا دون مبرر أو داع، لكن المسكين المغلوب على أمره كان يحتمي بالصمت المبين يجد فيه طوق نجاة، وعلى العكس من ذلك كانت (سندس) ضحية تعنيف زوجي متكرر من زوج سكير لا يعيرها اهتماما، أغلب أوقاته في الحانات ودور القمار، ويعود في كل مساء ثملا يكيل الشتائم أو يكسر الصحون أو يوجه الضربات الطائشة، وما إن يلتقي رأس (سندس) بهامة (دبدوبة) التي تشبه الصخرة المكتنزة حتى يبدأ سيل النميمة والاغتياب الذي لا يسلم منه مدرس أو إداري في المؤسسة، ويذهب الأمر مداه في سرد تفاصيل حياة الجيران ومأكلهم وملبسهم، والتعريج على العيوب الخِلقية والخُلقية لكل زميل وزميلة، كانت (سندس) هي بدورها تقتصر على الصفين الأول والثاني للتحكم في تلاميذ صغار السن يسهل معهم ترك الفصل باستمرار، وكان أولاد الأخيرة يدرسون في المدارس الخاصة بدل العمومية التي تهدر وقت التلاميذ هباء ـ في عرف سندس ـ وكانت المدرسات في مؤسسة (السنابل) حيث تعمل الاثنتان أغلبهن حديثات عهد بالتدريس ينلن القسط الأكبر من كراهية وحقد (سندس) ذات البشرة الصفراء الفاقع لونها، وما أن تقترب عقارب الساعة من الرقم الحادي عشر حتى تنتهي جولة في انتظار جولات أخرى من الرنين، فجرس المؤسسة سيعلو صداه مدويا في أرجاء المؤسسة، وفصل آخر ينبغي أن يحل مكان آخر، وهنا تقوم المُدرسة صفراء اللون باتجاه فصلها لتنظيم الدخول والخروج، بينما تبقى (دبدوبة) ـ قاتمة الملامح ـ مكانها، والحقيقة أن الأخيرة كانت بين اللونين البني والرمادي، مع بقع سوداء هنا وهناك، مع تجاعيد وخطوط ملتوية وأسنان أكبر من القواطع وأفتك من الأضراس، كانت (دبدوبة) تلوح أحيانا بيديها أثناء الحديث، فتثير انتباه التلاميذ لمواضيع الحوارات اللئيمة مع (سندس) الصفراء، وكثيرا ما سربت بعض النابهات من التلميذات كلاما خطيرا وسريا مما دار بين اللئيمتين، وهي الحوارات التي كانت تمتد لأربع ساعات، وقد كانت الأستاذة (سوسن) حديثة عهد بالتدريس تستغرق معظم حوارات ما كان يسمى عند التلاميذ الأفعى والفيل، وهي آخر تقليعة أسماء روجها الصغار عن كبار مؤسستهم يرمزون بها لهم لتفادي التصريح إلى التلميح، كانت (سوسن) من النوع الصامت الجاد الذي لا يعير الآخرين اهتماما، ومن الصنف الذي لا يتطفل على شؤون الناس، شعارها الدائم: "دع الخلق للخالق"، وهذا آلم اللئيمتين لأنهما لم تجدا من يشاركهما لؤمهما، وفي المرتبة الثانية بعد (سوسن) كان المدرس (الراضي) يحظى بنصيب كبير من كراهية (سندس) على الخصوص، فهو مجد في عمله مواظب عليه، مداوم على الأنشطة التربوية والترفيهية كالمسرح المدرسي والرحلات الترفيهية لفائدة التلاميذ، وهذا مما كان يفضح تكاسل المتكاسلين من زملاء المهنة، وخاصة (سندس) و(دبدوبة). كانت الأخيرتان إلى جانب خصال الحقد والنميمة وسواد القلب تتصفان كذلك بخاصية النفاق البغيض، وخاصة الصفراء اللون، إذ كانت توزع الابتسامات يمينا وشمالا تخفي وتداري بها سيول الكراهية التي تشبعت بها النفس الأمارة بالسوء، وأما السيد (عزيزي) مدير المؤسسة فقد كان يعد الأيام في انتظار تقاعد مريح بعيدا عن مشاكل المدرسين والتلاميذ وأوليائهم والمسؤولين الإداريين، مشاكل لا أول لها من آخر، وتعفنات ضربت أطنابها وأرخت بظلالها القميئة التي يكفي معها مجرد رجة بسيطة حتى تنتشر الروائح النتنة لقطاع سكنته الآفة اللعينة، ولسان حال السيد (عزيزي) يقول: متى ترسو سفينة العمر على شاطئ التقاعد، فالثقوب كثيرة والركاب يقفزون في كل مرفأ حامدين الله أن في العمر بقية بعد أن بلغ بهم التعب ودوار الرحلة مداهما.
(يتبع)
(يتبع)