عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
مسلك
**
خرجت من منزلي متعكر المزاج، بدت لي الشمس حزينة وهي ترسل أشعتها الحمراء لتخضب الأفق، فتصير كعروس ليلة الحناء تنتظر قدوم العريس بحرقة وارتجاف قلب يأتي، لا يأتي. ركبت سيارتي البيضاء الجديدة، اشتريتها بالتقسيط الممل، وانطلقت مسرعا أنهب الطريق نهبا، حتى إذا بلغت نصف المسافة وجدت شاحنة تسير على مهل، حاولت تجاوزها، فلم أستطع، فالطريق ضيقة، اضطررت إلى تخفيض السرعة والسير على إيقاعها مكرها ، نفسي منضغطة، تكاد تنفجر. وأنا على هذه الحال، شاهدت باب الشاحنة الخلفي ينفتح وتنقذف منه أطراف جسم علوية. جحظت عيناي من هول ما رأيت، دققت النظر. كان الباب مغلقا، فركت عيني لأتأكد، وأنا أقول في نفسي، قد أكون مخدوعا نظرا لتوتري النفسي..وما كاد يقيني يستعيد استواءه، مرفوقا بطمأنينة مرجوة حتى رأيت الباب يفتح من جديد وتقذف منه الأطراف السفلية...علمت، حينها، أن الأمر جد، وأني لست ضحية تخيلات أو توهمات، ولست فريسة خدعة بصرية محبوكة، لحظتها قررت التوقف فاسحا المجال للشاحنة بالابتعاد عني وإبعاد الدوار الذي شعرت به، ولحظتها قذف الرأس، ومن سوء حظي، وتعاسة يومي، أنه حط فوق زجاج سيارتي الأمامي. خيل لي أنه يبتسم شامتا، إذ أخرج لسانه في وجهي. فتحت عيني على أشدهما لأتأكد جيدا مما أراه، يا للهول! هذا الرأس أعرفه، أنا متأكد من ذلك، لست أهذي، رغم ما ينتابني من دوار وغثيان ورغبة في التقيؤ.. نعم، إنه رأس مديري.. مالت بي السيارة ذات اليمين وذا الشمال، حتى كادت تنقلب، حينها ضغطت على الفرامل فأحدثت صريرا مزعجا ومخيفا لتتوقف بقوة راجة وقد شعرت بشيء تجمع بفمي بعد ان اندفع من معدتي اندفاعا.. خرجت مسرعا لأفرغ ما بأحشائي، ثم جلست القرفصاء لأستعيد أنفاسي وبعضا من هدوء مرجو. ولما قفلت إلى سيارتي لأعود إلى منزلي بعد أن غادرت الشاحنة مجال بصري وجدت أمامي شابا يحمل حقيبتنين يمدني بهما ويخبرني أنهما انزلقتا من صندوق سيارتي حين كانت تتلاعب بي ثم سقطتا دون أن تنفتحا.. الحق أن حقيبة واحدة كانت لي، وأما الثانية التي تشبهها، فليست لي، حاولت إقناعه بأخذها، فأصر على أن آخذهما معا.. ولما وجدت منه عنادا، أذعنت، ووضعتهما بالصندوق، وانطلقت... وانطلقت خلفي، بعد لحظات، سيارة الشرطة بنفيرها المزعج، وحاصرتني، آمرة إياي بالتوقف، ففعلت. أمرني الشرطي الشاب بلباقة مضجرة بفتح صندوق سيارتي، ففتحته، وبفتح الحقيبتين ففتحتهما. ندت عني أثناءها صرخة مدوية بفعل المفاجأة الصادمة.. لقد كانت الثانية عامرة بتلك الأشلاء الحمراء...بقيت واجما، مصدوما إلى أن أيقظتني زوجتي.
كان مستعصيا على الفهم، بفعل الدوخة التي اعترتني مأتاها الحيرة بين كوني أحلم وبين كوني أعيش كابوسا، شيء ما جعل المسافة بينهما ضيقة حد شعروي باختناق أنفاسي . ما بال هذه الحيرة تستوطنني ولا أستطيع أن أقرر ما عشته أالحلم ذلك الفعل الجميل الذي يملأ النفس خبورا، وطاقة، ويعطيها توازنا ويمنعها من السقوط، آه من السقوط! أوالكابوس الذي ينبت في النفس افكارا سوداوية ورغبات ثاوية في الأغوارالمظلمة، تتسلل إلى السطح لتعكر الجو، فيسود البال، وتبتئس الروح. هو كابوس إذن، لا أستطيع أن أقرر، أن أحسم في الموضوع. فاستعذت بالله مما انتابني من شعور مزعج وثقيل.
نبهتني زوجتي إلى أن وقت الذهاب إلى العمل قد حان. تناولت فطوري على عجل، وذهبت إلى مقر عملي بسرعة حتى لا أتأخر، وحتى أتجنب سماع سمفونية النقد المزعج من فم المدير تخرج سما زعافا. فهذا المدير الكريه متسلط تدعمه جهات ذات نفوذ، فتزيده تسلطا..
وصلت في الوقت المناسب، أقصد، تقريبا، فقد وصلت الاجتماع كآخر الملتحقين. فتحت الباب فاشرأبت الأعناق باتجاهي فزادني الأمر اضطرابا؛ وجدت الجو مضغوطا، وحين أخذت مكاني، لم أستطع منع نفسي من ضحكة قوية خنقتني، ففجرتها في وجه الجميع، حين تذكرت وجه المدير على زجاج سيارتي الأمامي، وهو يخرج لسانه ساخرا؛ هو الذي ما ابتسم ولا غادر العبوس وجهه أبدا. يقال إن الجادين العابسين هم أسهل خلق الله استجابة للضحك، لكن هذا الرجل القصير والأبدن يخرق القاعدة؛ هو استثناء عجيب..
أيقظني زميلي بلكزة من كوعه، ففتحت عيني على عبوس وجه الجمع المقيت، وغضب يتراقص على محيا المدير الذي قذفني بكل كلمات الهوان القادمة من قاموسه المستمد من أصله الوضيع، متوعدا إياي بعقوبة شديدة، كنت أدرك أنه لن يفعل لاعتماده علي في العمل. خرجت على إثرها مدحورا.. ركبت سيارتي عائدا إلى منزلي لأضمد جراج نفسي المكلومة، وانطلقت في الطريق مسرعا أنهبها نهيا كفار من نار تكاد تشتعل في أطرافه.. ولما وصلت نصفها وجدت أمامي شاحنة تسير ببطء متعمد..حاولت تجاوزها، فلم أستطع...فالطريق ضيقة... اضطرتت إلى السير على إيقاعها مكرها..نفسي منضغطة. وأنا على هذه الحال، إذا بي أشاهد باب الشاحنة ينفتح...
**
خرجت من منزلي متعكر المزاج، بدت لي الشمس حزينة وهي ترسل أشعتها الحمراء لتخضب الأفق، فتصير كعروس ليلة الحناء تنتظر قدوم العريس بحرقة وارتجاف قلب يأتي، لا يأتي. ركبت سيارتي البيضاء الجديدة، اشتريتها بالتقسيط الممل، وانطلقت مسرعا أنهب الطريق نهبا، حتى إذا بلغت نصف المسافة وجدت شاحنة تسير على مهل، حاولت تجاوزها، فلم أستطع، فالطريق ضيقة، اضطررت إلى تخفيض السرعة والسير على إيقاعها مكرها ، نفسي منضغطة، تكاد تنفجر. وأنا على هذه الحال، شاهدت باب الشاحنة الخلفي ينفتح وتنقذف منه أطراف جسم علوية. جحظت عيناي من هول ما رأيت، دققت النظر. كان الباب مغلقا، فركت عيني لأتأكد، وأنا أقول في نفسي، قد أكون مخدوعا نظرا لتوتري النفسي..وما كاد يقيني يستعيد استواءه، مرفوقا بطمأنينة مرجوة حتى رأيت الباب يفتح من جديد وتقذف منه الأطراف السفلية...علمت، حينها، أن الأمر جد، وأني لست ضحية تخيلات أو توهمات، ولست فريسة خدعة بصرية محبوكة، لحظتها قررت التوقف فاسحا المجال للشاحنة بالابتعاد عني وإبعاد الدوار الذي شعرت به، ولحظتها قذف الرأس، ومن سوء حظي، وتعاسة يومي، أنه حط فوق زجاج سيارتي الأمامي. خيل لي أنه يبتسم شامتا، إذ أخرج لسانه في وجهي. فتحت عيني على أشدهما لأتأكد جيدا مما أراه، يا للهول! هذا الرأس أعرفه، أنا متأكد من ذلك، لست أهذي، رغم ما ينتابني من دوار وغثيان ورغبة في التقيؤ.. نعم، إنه رأس مديري.. مالت بي السيارة ذات اليمين وذا الشمال، حتى كادت تنقلب، حينها ضغطت على الفرامل فأحدثت صريرا مزعجا ومخيفا لتتوقف بقوة راجة وقد شعرت بشيء تجمع بفمي بعد ان اندفع من معدتي اندفاعا.. خرجت مسرعا لأفرغ ما بأحشائي، ثم جلست القرفصاء لأستعيد أنفاسي وبعضا من هدوء مرجو. ولما قفلت إلى سيارتي لأعود إلى منزلي بعد أن غادرت الشاحنة مجال بصري وجدت أمامي شابا يحمل حقيبتنين يمدني بهما ويخبرني أنهما انزلقتا من صندوق سيارتي حين كانت تتلاعب بي ثم سقطتا دون أن تنفتحا.. الحق أن حقيبة واحدة كانت لي، وأما الثانية التي تشبهها، فليست لي، حاولت إقناعه بأخذها، فأصر على أن آخذهما معا.. ولما وجدت منه عنادا، أذعنت، ووضعتهما بالصندوق، وانطلقت... وانطلقت خلفي، بعد لحظات، سيارة الشرطة بنفيرها المزعج، وحاصرتني، آمرة إياي بالتوقف، ففعلت. أمرني الشرطي الشاب بلباقة مضجرة بفتح صندوق سيارتي، ففتحته، وبفتح الحقيبتين ففتحتهما. ندت عني أثناءها صرخة مدوية بفعل المفاجأة الصادمة.. لقد كانت الثانية عامرة بتلك الأشلاء الحمراء...بقيت واجما، مصدوما إلى أن أيقظتني زوجتي.
كان مستعصيا على الفهم، بفعل الدوخة التي اعترتني مأتاها الحيرة بين كوني أحلم وبين كوني أعيش كابوسا، شيء ما جعل المسافة بينهما ضيقة حد شعروي باختناق أنفاسي . ما بال هذه الحيرة تستوطنني ولا أستطيع أن أقرر ما عشته أالحلم ذلك الفعل الجميل الذي يملأ النفس خبورا، وطاقة، ويعطيها توازنا ويمنعها من السقوط، آه من السقوط! أوالكابوس الذي ينبت في النفس افكارا سوداوية ورغبات ثاوية في الأغوارالمظلمة، تتسلل إلى السطح لتعكر الجو، فيسود البال، وتبتئس الروح. هو كابوس إذن، لا أستطيع أن أقرر، أن أحسم في الموضوع. فاستعذت بالله مما انتابني من شعور مزعج وثقيل.
نبهتني زوجتي إلى أن وقت الذهاب إلى العمل قد حان. تناولت فطوري على عجل، وذهبت إلى مقر عملي بسرعة حتى لا أتأخر، وحتى أتجنب سماع سمفونية النقد المزعج من فم المدير تخرج سما زعافا. فهذا المدير الكريه متسلط تدعمه جهات ذات نفوذ، فتزيده تسلطا..
وصلت في الوقت المناسب، أقصد، تقريبا، فقد وصلت الاجتماع كآخر الملتحقين. فتحت الباب فاشرأبت الأعناق باتجاهي فزادني الأمر اضطرابا؛ وجدت الجو مضغوطا، وحين أخذت مكاني، لم أستطع منع نفسي من ضحكة قوية خنقتني، ففجرتها في وجه الجميع، حين تذكرت وجه المدير على زجاج سيارتي الأمامي، وهو يخرج لسانه ساخرا؛ هو الذي ما ابتسم ولا غادر العبوس وجهه أبدا. يقال إن الجادين العابسين هم أسهل خلق الله استجابة للضحك، لكن هذا الرجل القصير والأبدن يخرق القاعدة؛ هو استثناء عجيب..
أيقظني زميلي بلكزة من كوعه، ففتحت عيني على عبوس وجه الجمع المقيت، وغضب يتراقص على محيا المدير الذي قذفني بكل كلمات الهوان القادمة من قاموسه المستمد من أصله الوضيع، متوعدا إياي بعقوبة شديدة، كنت أدرك أنه لن يفعل لاعتماده علي في العمل. خرجت على إثرها مدحورا.. ركبت سيارتي عائدا إلى منزلي لأضمد جراج نفسي المكلومة، وانطلقت في الطريق مسرعا أنهبها نهيا كفار من نار تكاد تشتعل في أطرافه.. ولما وصلت نصفها وجدت أمامي شاحنة تسير ببطء متعمد..حاولت تجاوزها، فلم أستطع...فالطريق ضيقة... اضطرتت إلى السير على إيقاعها مكرها..نفسي منضغطة. وأنا على هذه الحال، إذا بي أشاهد باب الشاحنة ينفتح...