حاميد اليوسفي
كاتب
سارقة البيض
حاميد اليوسفي
قصة قصيرة
تسكن فاطنة بنت عبد السلام بقرية مجاورة للمدينة . المدينة نفسها لازالت قرية ، لكن الأضواء والبنايات الفخمة والمقاهي والأبناك والعمارات والشوارع والأرصفة جعلتها أجمل من كل القرى المحيطة بها .
فاطنة أم لثلاثة أطفال ، وتصرف على زوج مرة يعمل ، ومرة يتعطل . لم يشمله دعم كورونا ، لأن المقدم أخبر الجهات المعنية بأنه يملك قطعة أرض فلاحية ، وهو شرط أسقط عنه الاستفادة من الدعم . لا يملك في الحقيقة سوى قطعة أرض صغيرة تقع في منطقة جافة ، يحرثها مرة ، ويكتريها مرات بمبلغ سنوي لا يتعدى ألف درهم .
تعمل فاطنة بشكل موسمي في وحدة لإنتاج البيض . مالك الوحدة من أثرياء المدينة ، يُشغل العديد من النساء القرويات بأجور هزيلة لا تصل الحد الأدنى ، ولا يُصرح بهن لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي .
مصروف البيت مثل حيوان مفترس وجائع ، يبتلع كل الأجر الذي تحصل عليه . بعض النسوة في القرية يشمُتن فيها من وراء ظهرها ، ويعبن عليها أنها تعمل ، ولا تعتني بمظهرها حتى أصبحت مثل آلة مهترئة سريعة العطب .
فكرت مع نفسها ، ماذا سيحصل لو سرقت بين الفينة والأخرى قليلا من البيض ؟ وخصصت جزءا من ثمنه كرصيد لإصلاح ولو قليلا من الأعطاب التي أصابتها . بررت ذلك بأن كل الناس تسرق ، والبعض يسرق الملايين ، ولا يحاسب على ذلك . هي تحتاج فقط لقليل من البيض حتى لا يُكتشف أمرها ، وتكون ذنوبها أخف وزنا ، وأسهل غفرانا . مدّت يدها بحذر ، وأخذت في البداية خمس بيضات ، وأخفتها جيدا بالقرب من مناطق حساسة في جسدها . ارتبكت قليلا أثناء الخروج ، ومرت من الباب بسلام . لم تهدأ نفسها حتى وصلت إلى البيت ، ورغم ذلك شعرت بالذنب ، وطلبت من الله أن يغفر لها ، وأخذت على نفسها عهدا بألا تعود إلى هذا الجرم مرة أخرى . بعد شهر أغواها شيطان الفقر ، فكررت نفس العملية ، وبدل سرقة خمس بيضات ، رفعت العدد إلى عشرة ، وأقنعت نفسها أن من يسرق بيضة مثل من يسرق ثورا . في المرة الثالثة دسّت في ثيابها عشر بيضات أخرى ، لكن هذه المرة شكت فيها العين التي لا تنام ، العين التي تحرس البيض والدجاج والبشر والأرض والسماء .
قالت العين التي لا تنام :
ـ لا بد من وضع خطة مُحكمة للإيقاع بفاطنة بنت عبد السلام . يجب مراقبتها ، وأخذها على حين غرة ، مُتلّبسة بفعلتها ، وفضحها أمام باقي العمال والعاملات ، حتى تكون عبرة لمن يمد يده على شيء ليس له .
مثل هذه الحيوانات عليها أن تفهم ، أن هناك قانونا يعاقب جشعها ، ويقطع أيديها عندما تمتد لبيض يخص الكبار .
مرت العاملات أثناء الخروج من ممر ضيق . ثلاث نساء بدينات يُشرفن على العاملات ، تغامزن على فاطنة ، وأوقفنها عند الباب . قبل أن تصل إليهن ، أحست بأن شيئا ما سيحدث ، لا تدري ما هو . عندما وضعت عليها إحداهن يدها ، وأخذتها بالقرب من مكتب مجاور ، أحست بجسدها يتبلل عرقا ، وتمن لو غارت الأرض وابتلعتها . كل العاملات في الصف توقفن عن الحركة ، والتفتن ناحيتها باستغراب ، ينتظرن ماذا سيحصل معها ؟
فحصت المشرفة ثياب فاطنة ، وتحسست جسدها من أسفل إلى أعلى ، والدموع تنهمر من عينيها . في كل مرة تلمس أصابعها بيضة ، تطلب من فاطنة إخراجها حتى جمعت عشر بيضات ، ووضعتها في آنية من بلاستيك ، ثم دفعتها إلى داخل المكتب وأغلقت عليها الباب بالمفتاح ، ونادت على الكابران ، وطلبت منه إبلاغ الشرطة . ورفعت صوتها حتى تسمعها باقي العاملات ، وأمالت الآنية حتى يتمكّن من مشاهدة ما بداخلها . كل شيء كان مُرتّبا بدقة ، وفاطنة في غفلة من أمرها حتى وقعت في الفخ المنصوب بإحكام . فتشت المشرفات باقي النسوة . واحتفظن بخمس عاملات كشاهدات على الواقعة ثم تركن الباقيات ينصرفن إلى حال سبيلهن ، حتى ابتعدن عن الباب ، ووقفن في جماعات من ثلاث أو أربع نساء يتحدثن حول ما سيحصل لفاطنة .
قالت عائشة :
ـ ناري قفرتها* المسخوطة مشات* فيها ! سيتهمونها بالسرقة ، وخيانة الأمانة كما حصل منذ خمس سنوات مع عاملة سابقة تم القبض عليها متلبسة بنفس التهمة .
ردّت عليها بنت خدوج :
ـ ماذا سيفعلون لها ؟ سيقطعون رأسها ؟ البلاد كلها لصوص !
تدخلت امرأة محجبة وقالت :
ـ لو طبق البلد الشريعة ، وعلم السارق بأن يده إذا امتدت لمال غيره ستُقطع ، لخافت فاطنة على يدها ، وما أقدمت على فعلتها .
ردت عليها محجوبة بنت عبد الله :
ـ نحمد الله ونشكره يا أختي على أن البلد لا يُطبق الشريعة ، حتى يقطع يد المسكينة التي امتدت لقليل من البيض . لماذا لا تطلبين من فقهاء الشريعة الأمر بقطع يد الباطرون الذي يُشغلنا أكثر من عشر ساعات ، ويسرق أكثر من نصف أجرتنا ؟
جرّت سعاد صديقتها محجوبة من كمّها خلسة ، تطلب منها أن تكف عن قول مثل هذا الكلام الخطير الذي قد يتسبب في طردها ، فالكابران له آذان وسط العاملات مثل الرادار تلتقط كل شيء .
توقفت سيارة الدرك الملكي ، ونزل منها ثلاثة أشخاص . دخلوا إلى الوحدة الإنتاجية ، ثم بعد فترة وجيزة خرجوا صحبة فاطنة ، وهي مُطأطئة الرأس ، ومُقيدة اليدين بالأصفاد .
وصل الخبر في المساء إلى القرية . لا حديث للناس إلا عن فاطنة سارقة البيض .
قال زوجها :
ـ حشمتنا* وفضحتنا ، الله يخليها* . السرقة وفهمناها ، وخيانة الأمانة ماذا يقصدون بها ؟
أجاب صالح ولد الفقيه :
ـ سمعت والدي يردد في صلاة الجمعة قوله تعالى : (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )*
الأمانة مسؤولية كبيرة حتى السموات والجبال والأرض عجزن عن حملها .
رد عليه ولد العربي :
ـ وأردت أن تحملها فاطنة بنت عبد السلام ! المسكينة اعتقلوها من أجل حفنة من البيض . والله بقات في* ، لو سرقت الألوف المؤلفة ، لما كلمها أحد . في هذه البلاد كبّرها (تصغار) .
ثم توجه إلى زوجها موبخا إياه :
ـ انهض أيها المسخوط ، وخذ لقمة لزوجتك ، واسأل عنها في قسم الدرك ، لعل ذلك يخفف عنها المصاب . وإذا خفت سنرافقك أنا وعبد القادر ولد يامنة .
وهم في طريقهم إلى قسم الدرك ، أقسم ولد العربي بأغلظ الأيمان على أن يحرض كل سكان القرية للتصويت ضد مالك المعمل في الانتخابات القادمة ، ويفسد عليه كل قصعات الكسكس التي يرسلها يوم الجمعة إلى المسجد متوددا إليهم ، إذا لم يتنازل عن الدعوى .
المعجم :
ـ قَفّرَتْها : ارتكبت جرما خطيرا
ـ مشات : مشت
ـ حشمتنا : من الحشمة إي جعلته يخجل أمام الناس .
ـ الله يخليها : دعا عليها
ـ بقات في : تألم لحالها .
ـ *الآية 72 من سورة الأحزاب .
مراكش 09 يناير 2020
التعديل الأخير: