المصطفى سالمي
كاتب
أخيرا وصل (حميد) إلى مدينة "حسراتي"، نزل أدراج السلم، كان الجو مفعما برائحة الكبريت، إنها معامل الحي الصناعي تنفث سموما قاتلة تفتك بالبشر والشجر، الناس هنا يسيرون واجمين يطأطئون رؤوسهم، ملامحهم عابسة كأنما هم في اليوم العالمي للحزن، توجه (حميد) نحو موقف سيارات الأجرة الصغيرة في ساحة (مخازن البيض)، من هنا إلى حي (الكواكب) أو حي (السيد واسط) الثمن محدد للراكب الواحد في ستة دراهم، وحتى ولو كانت هناك رفقة من ثلاثة أشخاص فلا مناص لهم من دفع الثمن للواحد، لا عدّاد هنا ولا هم يحزنون. اكتمل العدد وانطلقت سيارة الأجرة، في منتصف الطريق نزل أحد الركاب، ثم بعد قليل انحرف السائق عن مساره استجابة لطلب الراكب إلى جواره الذي يبدو ـ من سؤاله عن بعض الأشخاص ـ أنه من معارفه، بقي (حميد) يتأمل المشهد، تراجع عن فكرة لوم السائق الذي لا ينبغي أن يغير مساره ولم يعتذر وهو يؤخره عن موعد الوصول، ولكن لا بأس فالصبر من شيم الرجال، عاد السائق إلى طريقه المعتاد بعد أن نزل ذلك الراكب الثاني، توقفت السيارة عند الوجهة المطلوبة، دسّ (حميد) يده في جيبه وأخرج الستة دراهم، لكن السائق تأفف وهو يعلن أن كل شيء قيمته في تزايد، ولكن الناس لا يقدرون. تعجب (حميد) من رد فعل السائق، وأعلن له أن الثمن معروف، أم أراده أن يدفع بدلا عن الزبون الذي من معارفه، وأنه كان الأجدى به أن يخجل من نفسه وهو يؤخره في تلك اللفة التي لا طائل منها، لكن السائق استمر في مهاتراته السفسطائية. نزل (حميد) من السيارة دون أن يستمر في حوار عقيم ولم يضف ولو درهما واحدا لواجب النقل.
توجه نحو باعة الفاكهة في ساحة (بوعياد)، أحدهم كان متجهما يحمل في يده قطعة حديدية من فئة كيلو غرامين يستعملها عادة في الميزان، لم يدر (حميد) إن كان فقط يهدد بها خصمه، أم يريد فعلا أن يهشم بها رأسه، ولكن ما هو متأكد منه أن الشتائم والتحديات المتبادلة بينهما تدل على أنهما في صراع حول الأثمنة ومحاولة أحدهما جذب الزبائن على حساب الآخر. حاول (حميد) تهدئة الوضع بأن الأرزاق بيد الله وحده، لكن يبدو أن الوجه الكالح المتجهم لم يتجاوب مع عبارات من هذا النوع، التفت (حميد) إلى الطرف الآخر الذي كان قريبا هو بدوره، فإذا به يكتشف أن وجهه هو أيضا متجهم لدرجة التشابه الكبير مع من يبادله الخصومة، بل إن وجوه الناس هنا كلها تتشابه، ربّاه! هل هذه هي المدينة الملعونة التي قرأ عنها في كتب الأساطير والحكايات القديمة، ما بال الناس هنا مكتئبون؟! هل هي صعوبة الحياة المادية، أم هو غضب إلهي مسخ ملامح الناس وعقّد أحاسيسهم، أم هو إهمال المسؤولين وقسوتهم على أبناء هذه المدينة الكئيبة؟! كانت الفاكهة عند هذا البائع متهالكة الجودة، غالية الثمن، لكن لا بأس، إن هو إلا واجب الزيارة. في الطريق لاحظ (حميد) أن الأبواب كما النوافذ كلها لها شبابيك حديدية، ربما يخافون من السطو على ممتلكاتهم، وربما الأمر أكبر من الانفلات الأمني الذي قد يتوهمه الغريب عن هذه المدينة، إن هذه البلدة متآكلة في ما يبدو، والناس مظاهرهم تعكس فقرا وبؤسا كبيرين، فماذا لديهم مما يخافون عليه حتى يحتاطوا كل هذا الاحتياط.
مرّ (حميد) أمام الجزار، تأمل قطع اللحم الذي يبدو في زرقة لون الموت، حمد الله أنه اشترى (لفافة) من اللحم الأحمر الطري من بلدة (العجيلات) التي تقع في قلب سهول (دكالة) أرض الخير والكرم، يظهر أن صاحبنا سيقوم بواجب الزيارة ويعود على عجل، فالناس هنا يحملون أشواكهم على ظهورهم كما العقارب، متأهبون للسع بعضهم البعض، إن صمتهم مريب مخيف، ماذا لو تفجر هذا الوجوم دفعة واحدة عوض حالات التنفيس التي يمارسونها في حالات شبيهة بما رآه وعاينه؟! قرع الباب أخيرا، أطل وجه من كوة صغيرة من أعلى، وعاد للاختفاء، قرأ (حميد) في أعماقه بعضا من عبارات تستدرج وتلتمس اللطف الإلهي، ثم سلّم أمره لله، كانت خطوات متثاقلة تنزل أدراج السلم بعد طول انتظار، فُتح الباب، أخيرا ظهر وجه مبتسم بعد أن كاد يتوهم أن الناس هنا لا يبتسمون!
توجه نحو باعة الفاكهة في ساحة (بوعياد)، أحدهم كان متجهما يحمل في يده قطعة حديدية من فئة كيلو غرامين يستعملها عادة في الميزان، لم يدر (حميد) إن كان فقط يهدد بها خصمه، أم يريد فعلا أن يهشم بها رأسه، ولكن ما هو متأكد منه أن الشتائم والتحديات المتبادلة بينهما تدل على أنهما في صراع حول الأثمنة ومحاولة أحدهما جذب الزبائن على حساب الآخر. حاول (حميد) تهدئة الوضع بأن الأرزاق بيد الله وحده، لكن يبدو أن الوجه الكالح المتجهم لم يتجاوب مع عبارات من هذا النوع، التفت (حميد) إلى الطرف الآخر الذي كان قريبا هو بدوره، فإذا به يكتشف أن وجهه هو أيضا متجهم لدرجة التشابه الكبير مع من يبادله الخصومة، بل إن وجوه الناس هنا كلها تتشابه، ربّاه! هل هذه هي المدينة الملعونة التي قرأ عنها في كتب الأساطير والحكايات القديمة، ما بال الناس هنا مكتئبون؟! هل هي صعوبة الحياة المادية، أم هو غضب إلهي مسخ ملامح الناس وعقّد أحاسيسهم، أم هو إهمال المسؤولين وقسوتهم على أبناء هذه المدينة الكئيبة؟! كانت الفاكهة عند هذا البائع متهالكة الجودة، غالية الثمن، لكن لا بأس، إن هو إلا واجب الزيارة. في الطريق لاحظ (حميد) أن الأبواب كما النوافذ كلها لها شبابيك حديدية، ربما يخافون من السطو على ممتلكاتهم، وربما الأمر أكبر من الانفلات الأمني الذي قد يتوهمه الغريب عن هذه المدينة، إن هذه البلدة متآكلة في ما يبدو، والناس مظاهرهم تعكس فقرا وبؤسا كبيرين، فماذا لديهم مما يخافون عليه حتى يحتاطوا كل هذا الاحتياط.
مرّ (حميد) أمام الجزار، تأمل قطع اللحم الذي يبدو في زرقة لون الموت، حمد الله أنه اشترى (لفافة) من اللحم الأحمر الطري من بلدة (العجيلات) التي تقع في قلب سهول (دكالة) أرض الخير والكرم، يظهر أن صاحبنا سيقوم بواجب الزيارة ويعود على عجل، فالناس هنا يحملون أشواكهم على ظهورهم كما العقارب، متأهبون للسع بعضهم البعض، إن صمتهم مريب مخيف، ماذا لو تفجر هذا الوجوم دفعة واحدة عوض حالات التنفيس التي يمارسونها في حالات شبيهة بما رآه وعاينه؟! قرع الباب أخيرا، أطل وجه من كوة صغيرة من أعلى، وعاد للاختفاء، قرأ (حميد) في أعماقه بعضا من عبارات تستدرج وتلتمس اللطف الإلهي، ثم سلّم أمره لله، كانت خطوات متثاقلة تنزل أدراج السلم بعد طول انتظار، فُتح الباب، أخيرا ظهر وجه مبتسم بعد أن كاد يتوهم أن الناس هنا لا يبتسمون!