المصطفى سالمي
كاتب
في زمن أسطوري قديم هيمنت فيه الكائنات "الحمورية" تقع أحداث هذه الأحداث الغريبة التي تداولها الناس حينما كانوا يروون حكايات الغيلان وحديث الجن والحيوان.
وقف السيد (حمور) زعيم قبيلة (الحموريين) خطيبا في أتباعه ومريديه، وتعهد في أول قرار سيتخذه في هذه الولاية الجديدة أن يترك لحيته البيضاء تكبر وتكبر، حتى يصل طولها إلى قدميه، وأن يجعل منها مكنسة يكنس بها "الفساد اللعين" الذي ملأ البلاد وأضر بالعباد. تعجب الناس في دلالات هذا الفساد الذي يتحدث عنه سيدهم، وهل هو شيء مادي مما يكنس بالمكنسة، أم هو شيء معنوي غير مرئي، وهل زعيم القبيلة جاد في كلامه أم يمزح معهم، لكن الموقف ونبرات الصوت لم تكن تدل على الهزل في موقف كهذا، ثم إن الزعيم بإمكانه أن يأمر أتباعه بإشارة واحدة منه لتنفيذ أي إصلاح يراه ضروريا. لكن الناس صفقوا وهللوا وإن لم يفهموا.
اجتمع الزعيم بأتباعه المخلصين من الدائرة الضيقة، ونبهه بعضهم على استحياء إلى أن مزاحه في قضية اللحية قد يتخذها بعض الخصوم عنصرا للطعن فيهم، لكن السيد الكبير قال لهم إنه جاد في كلامه، وردوا عليه وقد ازدادوا عجبا: إن مثل هذا الطول يحتاج وقتا طويلا لتحققه، وهم في قبيلتهم يجددون الزعامة كل أربعة أعوام، وإن خالف الزعيم تعهداته يختار الناس زعيما من طائفة أخرى. وقد تنتهي فترة الزعامة ولا تصل اللحية للأرض، وعندها سيفقد الناس الثقة في الجماعة (الحمورية)، تمنى الخاصة أن لا يصل مضمون الخطاب لباقي القبائل والطوائف في البلاد وخاصة (الباليون) و (الجعران) الأعداء المتربصون بالزعامة، على الأقل ريثما يتدبرون دلالات القسم الذي أقسمه سيدهم وزعيمهم، ذلك أن اللحية إن طالت كثيرا، فستجلب مصيبة هم في غنى عنها، فزعيمهم كثير الخطب في الحشو د الغفيرة، ولو عششت في لحيته القمل اللعينة وتراءت أثناء خطبه تصول وتجول على لحيته ووجهه لكان ذلك ضربة قاضية لهم، حيث يصبحون مسخرة تلوكها الأفواه. لقد حمدوا الله أخيرا أن أصبح وجه ورأس السيد (حمور) حليقا أملس براقا خاليا من خليط الشعر الأبيض والأسود، فلماذا تعود اللحية بعد أن اشتعل رأسه شيبا. ثم إن البياض يظهر عليه الاتساخ بسرعة، ألم يقل الشاعر:
احفظ مشيبك من عيب يدنسه # إن البياض سريع الحمل للدنس
وربما يستحيل أن تصل اللحية إلى مستوى القدمين، فحتى شعور النسوة يصعب أن تصل في طولها للأرض. لكن سيدهم فاجأهم بأنه يمتلك مسحوقا عجيبا سيجعل لحيته تظهر مهيبة طويلة جدا خلال أسابيع فقط. وأما عن "الفساد اللعين" الذي سيكنسه السيد (حمور) فلم يتحدث عنه الزعيم المبجل، ولم يفصح كذلك عن أبعاد ودلالات كنسه باللحية بدل المكنسة.
كان (الحموريون) يعرفون أن سيدهم وزعيمهم رجل عنيد لا يتراجع عن قرار يتخذه أبدا، حتى لو كان فيه سقوط زعامة القبيلة برمتها. وكم مرة أقسم بطلاق زوجته من أجل تمرير رأيه على الناس، وتحدث قادة الجند على أن ضرر اللحية الطويلة كبير في المعارك والمواجهات، فسيجد الخصوم نقطة ضعف يمسكون منها عدوهم ويجذبونه جذبا قويا يوقعه من أعلى فرسه، ومن يدري.. لكن السيد (حمور) ردّ بتهكم قائلا: (ربما اللحية الطويلة تعيق حتى الراجل، وليس فقط الفارس.. فقد ينزلق صاحبها حين يظنها رجلا ثالثة ويقع له ما وقع لأم أربع وأربعين التي كانت تعيش سعيدة مطمئنة، إلى أن جاءتها الخنفساء السوداء اللعينة، وسألتها عن سر احتفاظها بتوازنها رغم امتلاكها عديد الأرجل التي تحركها بتناسق وانتظام دون أن تتعثر، وحين انصرفت السائلة بدأت أم أربع وأربعين تمشي وتنظر لقدميها مستحضرة كلام الخنفساء، وكلما أرادت التقدم قليلا تتشابك أرجلها مع بعضها وتقع..)، انفجر الأتباع ضاحكين من هذه الحكاية التي قصها زعيمهم المرح، كانوا جميعا كجوقة من المهرجين حين ينفردون بعيدا عن العوام، ولكنهم يرتدون ثياب الوقار والجد وهم تحت سهام أعين الناس. تساءل أحدهم سؤالا بدا مشروعا للآخرين:
ـ كيف يمكن يا زعيمنا المبجل أن تتصرف بلحية طويلة جدا إذا جلست على طاولة الاجتماعات أو مائدة الطعام مع الخصوم؟ إن الالتفات يمينا وشمالا سيغمس اللحية في كوب ماء أو صحن أكل.
تنحنح السيد الزعيم واعتدل في جلسته، لقد كان السيد (حمور) يمتلك الجواب لكل سؤال، والحل سهل للغاية، فاللحية إن طالت كثيرا سيطويها طيا ويلفها بقطعة مطاطية في الاجتماعات والولائم، سيفعل بها ما تفعله النسوة بشعورهن المدلاة إلى الخلف، ومثلما يفعل بعض الفرسان الذين لهم ضفيرة إلى الخلف مثل ذيل الحصان. المهم أن السيد (حمور) لا يخلف وعدا قطعه على نفسه. عندها صفق (الحموريون) في الاجتماع الضيق المقتصر على الخاصة وعلية القبيلة، فسيدهم المطاع كلامه لا يسقط إلى الأرض وإن وصلت لحيته المهيبة إلى الحضيض.
حان وقت الوفاء بالعهد، وفي حشد كبير تجمع فيه الناس من سائر القبائل والطوائف، وتقدمه (الحموريون) وقد تهللت وجوههم. ألقى السيد (حمور) خطابا صاعقا عن ضرورة محاربة المفسدين الملاعين، اشرأبت الأعناق لمعرفة حقيقة هؤلاء المجرمين الموسومين باللعنة، أضاف الرجل الوقور بأنهم ليسوا سوى الأشباح والأرواح الشريرة التي تسبب نقص الثمرات وتضاؤل الغلات، وأن السلاح للقضاء عليها هو امتلاك بركة لحية طويلة تصل لسطح الأرض دون أن ينحني صاحبها، ينبغي تمريرها على الأرض هكذا.. ثم كشف عن لحية بيضاء طويلة مرعبة كان يخفيها خلف طرف برنوسه، وتحدى خصومه أن يمتلكوا مثل هذه اللحية المباركة. انبهر الحاضرون وأخرست المفاجأة ألسنتهم.
التفت الأتباع إلى بعضهم البعض في نظرات تفاهم معبرة، لقد تأكدوا من عبقرية سيدهم، لقد تمكن زعيمهم فعلا من كنس (الفساد اللعين)، وهذا الأخير هم المناوئون والخصوم، لقد كنس السيد الكبير ما تبقى من تفكير الرعاع والدهماء، لقد مسح مقدرتهم على التأمل والنقد حين بهرتهم المكنسة العجيبة، وغاب عنهم الأدوار التي فصلت لأجلها. لقد نجح السيد (حمور) في الاختبار حين وجد ما يشيطنه، وحين رسخ لديهم مفهوم الصلاح لكل فعل مشين يقوم به، والأهم أن يرعبهم بأعداء وهميين مفسدين يمتلك وحده سلاح الردع الفتاك لصدهم.
وقف السيد (حمور) زعيم قبيلة (الحموريين) خطيبا في أتباعه ومريديه، وتعهد في أول قرار سيتخذه في هذه الولاية الجديدة أن يترك لحيته البيضاء تكبر وتكبر، حتى يصل طولها إلى قدميه، وأن يجعل منها مكنسة يكنس بها "الفساد اللعين" الذي ملأ البلاد وأضر بالعباد. تعجب الناس في دلالات هذا الفساد الذي يتحدث عنه سيدهم، وهل هو شيء مادي مما يكنس بالمكنسة، أم هو شيء معنوي غير مرئي، وهل زعيم القبيلة جاد في كلامه أم يمزح معهم، لكن الموقف ونبرات الصوت لم تكن تدل على الهزل في موقف كهذا، ثم إن الزعيم بإمكانه أن يأمر أتباعه بإشارة واحدة منه لتنفيذ أي إصلاح يراه ضروريا. لكن الناس صفقوا وهللوا وإن لم يفهموا.
اجتمع الزعيم بأتباعه المخلصين من الدائرة الضيقة، ونبهه بعضهم على استحياء إلى أن مزاحه في قضية اللحية قد يتخذها بعض الخصوم عنصرا للطعن فيهم، لكن السيد الكبير قال لهم إنه جاد في كلامه، وردوا عليه وقد ازدادوا عجبا: إن مثل هذا الطول يحتاج وقتا طويلا لتحققه، وهم في قبيلتهم يجددون الزعامة كل أربعة أعوام، وإن خالف الزعيم تعهداته يختار الناس زعيما من طائفة أخرى. وقد تنتهي فترة الزعامة ولا تصل اللحية للأرض، وعندها سيفقد الناس الثقة في الجماعة (الحمورية)، تمنى الخاصة أن لا يصل مضمون الخطاب لباقي القبائل والطوائف في البلاد وخاصة (الباليون) و (الجعران) الأعداء المتربصون بالزعامة، على الأقل ريثما يتدبرون دلالات القسم الذي أقسمه سيدهم وزعيمهم، ذلك أن اللحية إن طالت كثيرا، فستجلب مصيبة هم في غنى عنها، فزعيمهم كثير الخطب في الحشو د الغفيرة، ولو عششت في لحيته القمل اللعينة وتراءت أثناء خطبه تصول وتجول على لحيته ووجهه لكان ذلك ضربة قاضية لهم، حيث يصبحون مسخرة تلوكها الأفواه. لقد حمدوا الله أخيرا أن أصبح وجه ورأس السيد (حمور) حليقا أملس براقا خاليا من خليط الشعر الأبيض والأسود، فلماذا تعود اللحية بعد أن اشتعل رأسه شيبا. ثم إن البياض يظهر عليه الاتساخ بسرعة، ألم يقل الشاعر:
احفظ مشيبك من عيب يدنسه # إن البياض سريع الحمل للدنس
وربما يستحيل أن تصل اللحية إلى مستوى القدمين، فحتى شعور النسوة يصعب أن تصل في طولها للأرض. لكن سيدهم فاجأهم بأنه يمتلك مسحوقا عجيبا سيجعل لحيته تظهر مهيبة طويلة جدا خلال أسابيع فقط. وأما عن "الفساد اللعين" الذي سيكنسه السيد (حمور) فلم يتحدث عنه الزعيم المبجل، ولم يفصح كذلك عن أبعاد ودلالات كنسه باللحية بدل المكنسة.
كان (الحموريون) يعرفون أن سيدهم وزعيمهم رجل عنيد لا يتراجع عن قرار يتخذه أبدا، حتى لو كان فيه سقوط زعامة القبيلة برمتها. وكم مرة أقسم بطلاق زوجته من أجل تمرير رأيه على الناس، وتحدث قادة الجند على أن ضرر اللحية الطويلة كبير في المعارك والمواجهات، فسيجد الخصوم نقطة ضعف يمسكون منها عدوهم ويجذبونه جذبا قويا يوقعه من أعلى فرسه، ومن يدري.. لكن السيد (حمور) ردّ بتهكم قائلا: (ربما اللحية الطويلة تعيق حتى الراجل، وليس فقط الفارس.. فقد ينزلق صاحبها حين يظنها رجلا ثالثة ويقع له ما وقع لأم أربع وأربعين التي كانت تعيش سعيدة مطمئنة، إلى أن جاءتها الخنفساء السوداء اللعينة، وسألتها عن سر احتفاظها بتوازنها رغم امتلاكها عديد الأرجل التي تحركها بتناسق وانتظام دون أن تتعثر، وحين انصرفت السائلة بدأت أم أربع وأربعين تمشي وتنظر لقدميها مستحضرة كلام الخنفساء، وكلما أرادت التقدم قليلا تتشابك أرجلها مع بعضها وتقع..)، انفجر الأتباع ضاحكين من هذه الحكاية التي قصها زعيمهم المرح، كانوا جميعا كجوقة من المهرجين حين ينفردون بعيدا عن العوام، ولكنهم يرتدون ثياب الوقار والجد وهم تحت سهام أعين الناس. تساءل أحدهم سؤالا بدا مشروعا للآخرين:
ـ كيف يمكن يا زعيمنا المبجل أن تتصرف بلحية طويلة جدا إذا جلست على طاولة الاجتماعات أو مائدة الطعام مع الخصوم؟ إن الالتفات يمينا وشمالا سيغمس اللحية في كوب ماء أو صحن أكل.
تنحنح السيد الزعيم واعتدل في جلسته، لقد كان السيد (حمور) يمتلك الجواب لكل سؤال، والحل سهل للغاية، فاللحية إن طالت كثيرا سيطويها طيا ويلفها بقطعة مطاطية في الاجتماعات والولائم، سيفعل بها ما تفعله النسوة بشعورهن المدلاة إلى الخلف، ومثلما يفعل بعض الفرسان الذين لهم ضفيرة إلى الخلف مثل ذيل الحصان. المهم أن السيد (حمور) لا يخلف وعدا قطعه على نفسه. عندها صفق (الحموريون) في الاجتماع الضيق المقتصر على الخاصة وعلية القبيلة، فسيدهم المطاع كلامه لا يسقط إلى الأرض وإن وصلت لحيته المهيبة إلى الحضيض.
حان وقت الوفاء بالعهد، وفي حشد كبير تجمع فيه الناس من سائر القبائل والطوائف، وتقدمه (الحموريون) وقد تهللت وجوههم. ألقى السيد (حمور) خطابا صاعقا عن ضرورة محاربة المفسدين الملاعين، اشرأبت الأعناق لمعرفة حقيقة هؤلاء المجرمين الموسومين باللعنة، أضاف الرجل الوقور بأنهم ليسوا سوى الأشباح والأرواح الشريرة التي تسبب نقص الثمرات وتضاؤل الغلات، وأن السلاح للقضاء عليها هو امتلاك بركة لحية طويلة تصل لسطح الأرض دون أن ينحني صاحبها، ينبغي تمريرها على الأرض هكذا.. ثم كشف عن لحية بيضاء طويلة مرعبة كان يخفيها خلف طرف برنوسه، وتحدى خصومه أن يمتلكوا مثل هذه اللحية المباركة. انبهر الحاضرون وأخرست المفاجأة ألسنتهم.
التفت الأتباع إلى بعضهم البعض في نظرات تفاهم معبرة، لقد تأكدوا من عبقرية سيدهم، لقد تمكن زعيمهم فعلا من كنس (الفساد اللعين)، وهذا الأخير هم المناوئون والخصوم، لقد كنس السيد الكبير ما تبقى من تفكير الرعاع والدهماء، لقد مسح مقدرتهم على التأمل والنقد حين بهرتهم المكنسة العجيبة، وغاب عنهم الأدوار التي فصلت لأجلها. لقد نجح السيد (حمور) في الاختبار حين وجد ما يشيطنه، وحين رسخ لديهم مفهوم الصلاح لكل فعل مشين يقوم به، والأهم أن يرعبهم بأعداء وهميين مفسدين يمتلك وحده سلاح الردع الفتاك لصدهم.