المصطفى سالمي
كاتب
تلاحقت الأحداث ببلدة (المجاريب)، وكانت أحداثا غير مألوفة للناس وأشبه بالكوابيس حقا، إنها نذر الوباء الأسود الزاحف نحوهم من بلاد الأصفر الذي بدأ يبث الرعب في الكبار والصغار، كان التهويل من كبار البلدة مريعا مما فرض على الناس حالة أشبه بالحصار الذاتي تحولت معها (المجاريب) إلى ما يشبه السجن الكبير لمدة بدأت تطول وتتمدد، فكسدت التجارة والصناعات وتعطلت مصالح الناس والحرف وتوقفت الأعراس، بل وطُمست معالم الحياة في كثير من تفاصيلها، ولم تكن البلدات الأخرى خلف الوادي أو على امتداد الصحراء أحسن حالا، لكن القيود هنا كانت مجحفة إلى حد كبير، لقد أصبح العسس يجوبون الشوارع ويفرضون الإتاوات على كل من يكسر حالة الطوارئ أو الحجر الممارس على الأهالي، كل هذا في انتظار أن يتم إيجاد علاج لهذا الوباء الفتاك الذي ما لبث أن وصل رغم كل هذه الإجراءات والتحصينات، ولم تتم محاسبة أي من الذين حملوا معهم بذرة الداء وتسللوا بها قادمين من وراء البحار أو من الذين تستروا عليهم في جنح الظلام البهيم، لقد اكتشف البعض أن الخوف القابع في أعماقهم أكبر من الإصابة بالداء اللعين، وأن توقع البلاء أكبر من البلاء نفسه، وفعلا تعافى كثيرون من المرض الذي سموه لعنة ووباء وهو لا يعدو سوى حمى مشوبة بالصداع والإسهال، لكن التهويل لم يتوقف لحظة من كبار بلدة (المجاريب) وسادتها، إذ لم تمر سوى أسابيع أو أشهر معدودات حتى انطلق (البراح) ـ الذي هو منادي البلدة ـ يُعلن للناس ضرورة التوجه للمارستان الكبير حيث وصلت عبر القوافل كميات من الحنظل الرومي أوصى بها حكماء الطب من الفرنجة كعلاج وقائي من الآفة الفتاكة، تعجب الأهالي من الوصفة وردد بعضهم على استحياء أن الحنظل مادة سامة، فكيف تكون دواء؟! وردد أبو القاسم كبير الحكماء والوجهاء أن والي الولاة لا يمكن أن يكون سببا في هلاك الأهالي، واتضح فيما بعد أن بذور الحنظل الرومي هي الوصفة المنتظرة، وهكذا وقف الناس أمام الخيام التي نصبت داخل المارستان في طوابير طويلة لابتلاع حبات ثلاث لكل شخص يدون خلالها المسؤول اسم المعني ويزوده بصك عليه ختم خاص، أحس كثير من الناس بالرضا والراحة وهم يتلقون العلاج الوقائي وسرت فيهم رعشة من أصبح محصنا بصفائح الحديد والفولاذ، بينما همس آخرون بأن بذور الحنظل لا تقل عن الزرنيخ في سُمّيتها التي لا يظهر مفعولها إلا بعد تحللها في المعدة، بينما روج آخرون ممن تسموا لا حقا بالمُغرضين بأن الوصفة تسبب العقم وتخثر الدم والجلطات الدماغية، لكن الناس على العموم استكانوا ولسان حالهم يقول إنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
ولم تمر سوى أيام معدودات حتى نودي أن صغار القوم هم بدورهم مطلوب منهم الحضور لابتلاع بذور الحنظل الرومي للتحصن من الوباء، ومن يتأخر أو يتردد فستنزل به العقوبات الزجرية، وسيحرم من ولوج الأسواق وارتياد المتاجر ودخول الحمامات، وأن كل هذا يأتي من باب الحرص على الصحة العامة، وهنا انطلق سيل الدعايات والدعايات المضادة منفلتا من كل عقال، وازدادت الشكوك والهواجس كالنار في الهشيم، كان الناس يقتاتون على الجرابيع وحتى الهوام ونبات الأرض وبقلها في مجاعات طويلة ولم يأبه أحد لصحتهم أو مرضهم، لماذا الآن أصبحوا يلفتون اهتمام السادة الذين ادعوا أنهم يخافون عليهم، وقال أعوان السلطة إن الوباء ينتشر بالعدوى، ومن حق العارفين والحكماء أن يفرضوا ما يروه مناسبا حتى ولو كان غير منطقي بالنسبة للعوام والدهماء، وهكذا فرض (الدحمون) والي بلدة (المجاريب) ما أصبح يسمى بصك الحرية، ووضع عليه ختمه الشخصي ليُستعمل كبطاقة تُعرّف بكل من ابتلع الحبات الثلاث كبيرا كان أو صغيرا، إنها صك من الجلد السميك تتيح التنقل لصاحبها داخل البلدة، ومن حُرمها فقد حرم الحرية، بل تُفرض عليه الإتاوات والدعائر ويحرم من مخالطة الناس في الأسواق والمقاهي والحمامات وغيرها، لم يصدق الناس آذانهم وعيونهم وهم يتلقون الأخبار العجيبة وظنوا أنهم عاد بهم الزمن لعصور العبودية البائدة، إذ كيف تُسلب منهم حريتهم ويُطلب منهم لتلقفها أن يبتلعوا بذورا مُرة قادمة من بلاد الفرنجة لا أحد يعرف عواقب تحللها كيف تكون نتائجه، ثم أين رجال الدين من كل الذي يجري الآن، لكن لم يتأخر أصحاب الجلابيب الفضفاضة وأدلوا بدلوهم أخيرا، لقد كانت خطبتهم في آخر جمعة فصل الخريف حاسمة في أمر فتواهم، وقد نصحوا في شبه إجماع بضرورة تلقي وصفة حكماء البلدة كوقاية جماعية، وذلك من باب درء الأخطار وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة، لكن أبا القاسم تمرد على كبار علية البلد بعد أن بدأت أعراض وخيمة تظهر على كثير من الأهالي كالغثيان وارتفاع درجات الحرارة، بل وإن البعض شُلت أطرافهم أو توقف نبضهم تماما. هاج الناس وماجوا بعد أن كشف بعض العارفين أن الحنظل الرومي الذي حملته القوافل إليهم جاء من بلاد بينهم وبينها ثارات قديمة وعداوات مستحكمة، لكن تمرد الناس قوبل بعنف (الدحمون) وعسسه، بينما كانت البلاد الأخرى الممتدة خلف الصحراء تغلي بدورها، واعترى الناسَ حالة من السخط العارم وهم يرون سُعار الجند وتهافتهم على إجبار الناس على تلقي الوصفة العجيبة، ولم يكن أمام أبي القاسم إلا أن يحث على المقاومة والممانعة بعد أن تبين أن هناك نية خفية ما وراء هذا الأمر رغم الآثار التي لا تخفى على عاقل، وارتأى أن تعتيما مقصودا لطمس الأضرار وكف الناس عن تداول المخاطر والنتائج الوخيمة لسمية البذور المستوردة، وهب الناس وخصوصا النسوة التي تعالى صراخهن على فلذات أكبادهن ممن فقدوا البصر أو شلت أطرافهم أو تساقط شعرهم أو غزتهم الأورام الخبيثة فجأة وكانوا قبل الوصفة المشبوهة ينعمون بالصحة والعافية.
عم الغضب الناس تدريجيا واشتعلت الصدور باللهب، وفر كثير من الأهالي نحو الصحراء وانزوى البعض في الكهوف، وكسدت الحرف والصناعات أكثر وأكثر، وشحت السلع والمزروعات وضعفت موارد الخزينة بعد أن افتقد الناس الثقة في كبرائهم وخزّنوا الأموال والثروات أو هربوها نحو جهات خفية، ولم يمر وقت يذكر حتى توقفت رواتب الجند والموظفين في الدواوين، وآذنت السلطة بالانهيار، وكان من الصعب إقناع (الدحمون) بالعدول عن قراراته العجيبة، بينما ردد البعض أن بني الأصفر كانت أوامرهم واجبة النفاذ وغير قابلة للنقاش، وأصبح الكثيرون يتوقعون وصول حوافر جياد هؤلاء الغزاة الشقر ضيقي الأعين في أية لحظة، لقد عم الخراب كل مكان، وأصبح الفساد أسوأ من الوباء اللعين نفسه، لكن التدارك استحال، كما يستحيل صعود المياه الجارية نحو أعالي الجبال، ويلزمها لذلك تحولات وتبخر وتكاثف ورعد وبرق ... وهكذا بدأت (المجاريب) تغتسل من أدرانها بحثا عن ولادة جديدة.
ولم تمر سوى أيام معدودات حتى نودي أن صغار القوم هم بدورهم مطلوب منهم الحضور لابتلاع بذور الحنظل الرومي للتحصن من الوباء، ومن يتأخر أو يتردد فستنزل به العقوبات الزجرية، وسيحرم من ولوج الأسواق وارتياد المتاجر ودخول الحمامات، وأن كل هذا يأتي من باب الحرص على الصحة العامة، وهنا انطلق سيل الدعايات والدعايات المضادة منفلتا من كل عقال، وازدادت الشكوك والهواجس كالنار في الهشيم، كان الناس يقتاتون على الجرابيع وحتى الهوام ونبات الأرض وبقلها في مجاعات طويلة ولم يأبه أحد لصحتهم أو مرضهم، لماذا الآن أصبحوا يلفتون اهتمام السادة الذين ادعوا أنهم يخافون عليهم، وقال أعوان السلطة إن الوباء ينتشر بالعدوى، ومن حق العارفين والحكماء أن يفرضوا ما يروه مناسبا حتى ولو كان غير منطقي بالنسبة للعوام والدهماء، وهكذا فرض (الدحمون) والي بلدة (المجاريب) ما أصبح يسمى بصك الحرية، ووضع عليه ختمه الشخصي ليُستعمل كبطاقة تُعرّف بكل من ابتلع الحبات الثلاث كبيرا كان أو صغيرا، إنها صك من الجلد السميك تتيح التنقل لصاحبها داخل البلدة، ومن حُرمها فقد حرم الحرية، بل تُفرض عليه الإتاوات والدعائر ويحرم من مخالطة الناس في الأسواق والمقاهي والحمامات وغيرها، لم يصدق الناس آذانهم وعيونهم وهم يتلقون الأخبار العجيبة وظنوا أنهم عاد بهم الزمن لعصور العبودية البائدة، إذ كيف تُسلب منهم حريتهم ويُطلب منهم لتلقفها أن يبتلعوا بذورا مُرة قادمة من بلاد الفرنجة لا أحد يعرف عواقب تحللها كيف تكون نتائجه، ثم أين رجال الدين من كل الذي يجري الآن، لكن لم يتأخر أصحاب الجلابيب الفضفاضة وأدلوا بدلوهم أخيرا، لقد كانت خطبتهم في آخر جمعة فصل الخريف حاسمة في أمر فتواهم، وقد نصحوا في شبه إجماع بضرورة تلقي وصفة حكماء البلدة كوقاية جماعية، وذلك من باب درء الأخطار وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة، لكن أبا القاسم تمرد على كبار علية البلد بعد أن بدأت أعراض وخيمة تظهر على كثير من الأهالي كالغثيان وارتفاع درجات الحرارة، بل وإن البعض شُلت أطرافهم أو توقف نبضهم تماما. هاج الناس وماجوا بعد أن كشف بعض العارفين أن الحنظل الرومي الذي حملته القوافل إليهم جاء من بلاد بينهم وبينها ثارات قديمة وعداوات مستحكمة، لكن تمرد الناس قوبل بعنف (الدحمون) وعسسه، بينما كانت البلاد الأخرى الممتدة خلف الصحراء تغلي بدورها، واعترى الناسَ حالة من السخط العارم وهم يرون سُعار الجند وتهافتهم على إجبار الناس على تلقي الوصفة العجيبة، ولم يكن أمام أبي القاسم إلا أن يحث على المقاومة والممانعة بعد أن تبين أن هناك نية خفية ما وراء هذا الأمر رغم الآثار التي لا تخفى على عاقل، وارتأى أن تعتيما مقصودا لطمس الأضرار وكف الناس عن تداول المخاطر والنتائج الوخيمة لسمية البذور المستوردة، وهب الناس وخصوصا النسوة التي تعالى صراخهن على فلذات أكبادهن ممن فقدوا البصر أو شلت أطرافهم أو تساقط شعرهم أو غزتهم الأورام الخبيثة فجأة وكانوا قبل الوصفة المشبوهة ينعمون بالصحة والعافية.
عم الغضب الناس تدريجيا واشتعلت الصدور باللهب، وفر كثير من الأهالي نحو الصحراء وانزوى البعض في الكهوف، وكسدت الحرف والصناعات أكثر وأكثر، وشحت السلع والمزروعات وضعفت موارد الخزينة بعد أن افتقد الناس الثقة في كبرائهم وخزّنوا الأموال والثروات أو هربوها نحو جهات خفية، ولم يمر وقت يذكر حتى توقفت رواتب الجند والموظفين في الدواوين، وآذنت السلطة بالانهيار، وكان من الصعب إقناع (الدحمون) بالعدول عن قراراته العجيبة، بينما ردد البعض أن بني الأصفر كانت أوامرهم واجبة النفاذ وغير قابلة للنقاش، وأصبح الكثيرون يتوقعون وصول حوافر جياد هؤلاء الغزاة الشقر ضيقي الأعين في أية لحظة، لقد عم الخراب كل مكان، وأصبح الفساد أسوأ من الوباء اللعين نفسه، لكن التدارك استحال، كما يستحيل صعود المياه الجارية نحو أعالي الجبال، ويلزمها لذلك تحولات وتبخر وتكاثف ورعد وبرق ... وهكذا بدأت (المجاريب) تغتسل من أدرانها بحثا عن ولادة جديدة.