كفاح الزهاوي
كاتب
كانت الحياة على هذه النقطة من الأرض باهتة كصرخة طفل أصم، تفوح منها رائحة الفناء. حياة ذابلة كأوراق الخريف على أرصفة الصبر، ولولا وقع خطانا وصرير أحذيتنا ولهاث أنفاسنا ودقات قلوبنا المتدفقة لأعلنت الحياة عن نهايتها. انها رحلة موت مؤجلة.
قبل ان تنشف الدماء التي سالت في حرب عبثية راح ضحيتها أكثر من مليون انسان، وقبل ان تتنفس الثكالى الصعداء، قام الطاغية بزج جيشه في حرب داخلية طاحنة ضد أبناء شعبه تحت اسم الأنفال، هذا الاسم الذي مصدره آية قرآنية مات بسببه الاف الابرياء واحرقت آلاف البيوت وتهدمت قرى بأكملها، واستخدمت بها أنواع الاسلحة الفتاكة بما فيها الكيماوية.
كنا نسير عبر السهول والأراضي الزراعية الشاسعة وعيوننا تلتقط صوراً مؤلمة عن النباتات التي لوثتها صولة الأنفال واخلتها من مزارعيها. كنّا نادرا ما نلتقي بكائنات حية على طول مسيرتنا، فلم نرَ إلا بعض الأبقار والدواجن الضالة. وحتى الصمت تَفَتَتَ من دوي العنف وقساوة الحرب وتمزيق الأسر وتشريدها في ذرى الجبال البعيدة طلبا للنجاة من الموت الذي اختلطت رائحته بالهواء بحيث غدا استنشاقه إيذانا بانتهاء دورة الحياة.
حال دخولنا إلى فناء احد الدور، وقعت عينايّ على الفوضى المنتشرة في الأرجاء، الأشياء مبعثرة على الأرض الطينية التي كانت تحمل آثار احذية ربما تعود الى رجال غرباء، قد يكونون من الجحوش(1) والجيش ساعين وراء الأبرياء من الفلاحين. وكانت هناك على السُفرة المفروشة على الأرض حيث تتناول العائلة طعامها، صحون معدنية فيها بقايا من طعام أفسده الذعر والرعب. في كل زاوية من زوايا الغرفة الطينية الفاقدة للضوء، تجد آثار خوف وصراخ نجاة. انتعش العنكبوت في غياب أهل المنزل ونسج لنفسه كمائن عديدة حتى شعر انه المالك لهذا الدهليز المتروك، معلنا بناء مستعمرة له فهيمن على صمت الغرفة.
تابعنا مسيرتنا الشاقة ومعدنا خاوية والجوع يصرخ في أحشائنا صراخا جنونيا كالهواء. كنا نقطع مسافات طويلة عبر الطرق الجبلية الوعرة والوديان العميقة والسهول الواسعة. لم تصادفنا اية قرية حتى وصلنا الى هضبة تطل على احدى القرى المهجورة من سكانها، الذين هربوا خوفاً من البطش والاعتقالات العشوائية الشبيهة بالممارسات النازية.
كانت القرية تقع على منحدر تلة، وتضم ثلاثة بيوت غير مهدمة و مخفية عن الأنظار نوعا ما، ولكن ليس عن الجحوش الذين كانوا على علم بكل تضاريس المنطقة. كان الفضاء المرتعد في حالة انذار كما لو انه يوحي لنا عجزه التام عن حمايتنا. كان الجميع في حالة تأهب قصوى لمواجهة حدث مفاجىء أو سقوط غادر، وحتى الأشجار والحيطان نمت لها فجأة آذان وحدس.
نزلنا إليها بحذر وحيطة. الهدوء كان حضوره كئيب. والبيوت خالية من البشر. فمسألة سد الرمق من المهمات الأساسية في ديمومة البقاء وكذلك القدرة على التركيز والسير طويلا. فنحن نحتاج الى طاقة مخزونة. أصبحنا نفكر كما الجمل وهو يقطع المسافات في صحراء قاحلة و تحت شمس لاهبة. أغلب الأنصار خرجوا مبكرا من القرية وانتشروا على القمم في انتظارنا، بينما بقينا نحن الخمسة في القرية.
قمت بتحضير بعض الطعام من المواد المتروكة هناك. وجدت كيس حليب نيدو و لحم معلب عليه صورة بقرة، وضعته في الحال في حقيبتي الظهرية. عثرت على كيس طحين كان على رف خشبي وملطخا بالدهن الذي تطاير من القدور والطاوة أثناء الطبخ، إضافة إلى الأتربة والغبار.
المطبخ الصغير لم يكن في أحسن حال، ولكن أدوات الطبخ كانت كافية لطبخ الرز، اخذت قدر عميق ووضعت الطحين فيه واضفت الماء والملح وشرعت بتحضير العجين. وبعد نصف ساعة قمت بصنع قطع عجين متساوية الوزن على شكل كرة. انتظرت عشرة دقائق وبعدها قمت بوضع العجينة على الصاج الحار بعد ان وضعت الحطب تحته واشعلت النار الى ان اصبح الصاج حاميا جدا. وبعد ان انتهيت من عملي في صناعة الخبز، قال النصير نامق: هيا بنا هناك من ينادي ويطلب إلتحاقنا بالمفرزة.
جمعنا الخبز و أسرعنا الخطى. وبينما كنا ندنو نحو التلة هتف بنا من بعيد احد الانصار:
ركضنا بكل ما اوتينا من قوة الى ذلك المرتفع، وما ان صعدنا السفح حتى طفقت الرصاصات تمطر علينا و أزيزها يخترق مسامعنا. شعرت بثقل الأرض تحت أقدامي وكأن مغناطيسية الأرض تحولت الى مكنسة كهربائية عملاقة تسحبنا الى عالمها المظلم. كانت تلك الثواني المعدودة خط فاصل بين الحياة والموت. التل لم يكن مرتفعا، لم يتطلب سوى سرعة الجري وتوسيع الخطوات.
الشمس تبعث بحرارتها القاسية كالجحيم فتجعل من بنادقنا الحديدية أدوات تعذيب إضافية. في تلك اللحظة ونحن أمام فوهات و بنادق العدو المصوبة إلى أجسادنا. ومن جهتنا الخلفية فتح الأنصار النار على الجحوش لفتح الطريق لنا وتسهيل عملية العبور. بعد ان تحصنّا خلف ذلك المرتفع شرعنا بإطلاق النار عليهم. ثم قامت المفرزة بالتراجع بينما كان هناك نصير لديه قناصا. كان يطلق على أي شي يتحرك من بعيد بحيث أصبحنا في أمان حتى وصلنا الى بقية القافلة وسرنا باتجاه الجبال الشاهقة. كانت تلك اللحظات ممزوجة بمشاعر الاثارة والتحدي والخوف. ثم اكتشف النصير الذي كان ينادي علينا من فوق التل ان شرواله كان مثقوبا برصاصة اطلقت باتجاهنا من قبل الجحوش. فعلّق أحد الأنصار:
وفي الجانب الآخر، كان الطاغية وحاشيته في جوٍ احتفالي، يجلسون الى الطاولة التي تحتوي على ما لذ وطاب، وينفثون من ثغورهم سموم الحقد والرذيلة. يتحدثون عن جرائمهم الشنيعة بحق الأبرياء وحرق قراهم ومزارعهم، وكأنهم يروون حكايات خيالية أو يسردون أحداثا لِفلم كوميدي ساخر، فيشعرون بالنشوة عند مشاهدة جثث الأطفال والنساء والشيوخ المنتشرة في كل مكان، يحتفلون ببطولاتهم في دفن الأحياء في قبور جماعية، والطاغية يرفع كأسه متبخترا بنصره العظيم الذي يبعث على الغبطة والانشراح، ويطلب الاستماع الى المزيد من القصص والمغامرات الشيقة، فينبري أحدهم ليروي له قصة الراعي الشاب الذي تم نقله بواسطة طائرة مروحية (هليكوبتر) وعلى ارتفاع 4 كيلومترات، وكان يشعر بالأسى نحوه لأن المواشي بقيت لوحدها
لقد حَصدوا أرواح الناس وزرعوا مكانها سموم الموت والتهجير واشعلوا نار الرهبة في كل شارع وزقاق حتى الطيور والعصافير توقفت عن الطيران والغناء.
بدأ الظلام يزحف إلينا رويداً رويدأً، وهذا ما كان يراودنا طويلا ونحن نشق دروب الجبال منذ الصباح.
______________________________
1- أطلق مصطلح الجحوش على رجال عصابات الكُرد الذين كانوا يعملون كمرتزقة مقابل المال مع الجيش لضرب الحركة الانصارية والبيشمركة المعادية للنظام.
قبل ان تنشف الدماء التي سالت في حرب عبثية راح ضحيتها أكثر من مليون انسان، وقبل ان تتنفس الثكالى الصعداء، قام الطاغية بزج جيشه في حرب داخلية طاحنة ضد أبناء شعبه تحت اسم الأنفال، هذا الاسم الذي مصدره آية قرآنية مات بسببه الاف الابرياء واحرقت آلاف البيوت وتهدمت قرى بأكملها، واستخدمت بها أنواع الاسلحة الفتاكة بما فيها الكيماوية.
كنا نسير عبر السهول والأراضي الزراعية الشاسعة وعيوننا تلتقط صوراً مؤلمة عن النباتات التي لوثتها صولة الأنفال واخلتها من مزارعيها. كنّا نادرا ما نلتقي بكائنات حية على طول مسيرتنا، فلم نرَ إلا بعض الأبقار والدواجن الضالة. وحتى الصمت تَفَتَتَ من دوي العنف وقساوة الحرب وتمزيق الأسر وتشريدها في ذرى الجبال البعيدة طلبا للنجاة من الموت الذي اختلطت رائحته بالهواء بحيث غدا استنشاقه إيذانا بانتهاء دورة الحياة.
حال دخولنا إلى فناء احد الدور، وقعت عينايّ على الفوضى المنتشرة في الأرجاء، الأشياء مبعثرة على الأرض الطينية التي كانت تحمل آثار احذية ربما تعود الى رجال غرباء، قد يكونون من الجحوش(1) والجيش ساعين وراء الأبرياء من الفلاحين. وكانت هناك على السُفرة المفروشة على الأرض حيث تتناول العائلة طعامها، صحون معدنية فيها بقايا من طعام أفسده الذعر والرعب. في كل زاوية من زوايا الغرفة الطينية الفاقدة للضوء، تجد آثار خوف وصراخ نجاة. انتعش العنكبوت في غياب أهل المنزل ونسج لنفسه كمائن عديدة حتى شعر انه المالك لهذا الدهليز المتروك، معلنا بناء مستعمرة له فهيمن على صمت الغرفة.
تابعنا مسيرتنا الشاقة ومعدنا خاوية والجوع يصرخ في أحشائنا صراخا جنونيا كالهواء. كنا نقطع مسافات طويلة عبر الطرق الجبلية الوعرة والوديان العميقة والسهول الواسعة. لم تصادفنا اية قرية حتى وصلنا الى هضبة تطل على احدى القرى المهجورة من سكانها، الذين هربوا خوفاً من البطش والاعتقالات العشوائية الشبيهة بالممارسات النازية.
كانت القرية تقع على منحدر تلة، وتضم ثلاثة بيوت غير مهدمة و مخفية عن الأنظار نوعا ما، ولكن ليس عن الجحوش الذين كانوا على علم بكل تضاريس المنطقة. كان الفضاء المرتعد في حالة انذار كما لو انه يوحي لنا عجزه التام عن حمايتنا. كان الجميع في حالة تأهب قصوى لمواجهة حدث مفاجىء أو سقوط غادر، وحتى الأشجار والحيطان نمت لها فجأة آذان وحدس.
نزلنا إليها بحذر وحيطة. الهدوء كان حضوره كئيب. والبيوت خالية من البشر. فمسألة سد الرمق من المهمات الأساسية في ديمومة البقاء وكذلك القدرة على التركيز والسير طويلا. فنحن نحتاج الى طاقة مخزونة. أصبحنا نفكر كما الجمل وهو يقطع المسافات في صحراء قاحلة و تحت شمس لاهبة. أغلب الأنصار خرجوا مبكرا من القرية وانتشروا على القمم في انتظارنا، بينما بقينا نحن الخمسة في القرية.
قمت بتحضير بعض الطعام من المواد المتروكة هناك. وجدت كيس حليب نيدو و لحم معلب عليه صورة بقرة، وضعته في الحال في حقيبتي الظهرية. عثرت على كيس طحين كان على رف خشبي وملطخا بالدهن الذي تطاير من القدور والطاوة أثناء الطبخ، إضافة إلى الأتربة والغبار.
المطبخ الصغير لم يكن في أحسن حال، ولكن أدوات الطبخ كانت كافية لطبخ الرز، اخذت قدر عميق ووضعت الطحين فيه واضفت الماء والملح وشرعت بتحضير العجين. وبعد نصف ساعة قمت بصنع قطع عجين متساوية الوزن على شكل كرة. انتظرت عشرة دقائق وبعدها قمت بوضع العجينة على الصاج الحار بعد ان وضعت الحطب تحته واشعلت النار الى ان اصبح الصاج حاميا جدا. وبعد ان انتهيت من عملي في صناعة الخبز، قال النصير نامق: هيا بنا هناك من ينادي ويطلب إلتحاقنا بالمفرزة.
جمعنا الخبز و أسرعنا الخطى. وبينما كنا ندنو نحو التلة هتف بنا من بعيد احد الانصار:
- اسرعوا الجحوش وصلوا وهم على مقربة من القرية .
- اسرعوا.
ركضنا بكل ما اوتينا من قوة الى ذلك المرتفع، وما ان صعدنا السفح حتى طفقت الرصاصات تمطر علينا و أزيزها يخترق مسامعنا. شعرت بثقل الأرض تحت أقدامي وكأن مغناطيسية الأرض تحولت الى مكنسة كهربائية عملاقة تسحبنا الى عالمها المظلم. كانت تلك الثواني المعدودة خط فاصل بين الحياة والموت. التل لم يكن مرتفعا، لم يتطلب سوى سرعة الجري وتوسيع الخطوات.
الشمس تبعث بحرارتها القاسية كالجحيم فتجعل من بنادقنا الحديدية أدوات تعذيب إضافية. في تلك اللحظة ونحن أمام فوهات و بنادق العدو المصوبة إلى أجسادنا. ومن جهتنا الخلفية فتح الأنصار النار على الجحوش لفتح الطريق لنا وتسهيل عملية العبور. بعد ان تحصنّا خلف ذلك المرتفع شرعنا بإطلاق النار عليهم. ثم قامت المفرزة بالتراجع بينما كان هناك نصير لديه قناصا. كان يطلق على أي شي يتحرك من بعيد بحيث أصبحنا في أمان حتى وصلنا الى بقية القافلة وسرنا باتجاه الجبال الشاهقة. كانت تلك اللحظات ممزوجة بمشاعر الاثارة والتحدي والخوف. ثم اكتشف النصير الذي كان ينادي علينا من فوق التل ان شرواله كان مثقوبا برصاصة اطلقت باتجاهنا من قبل الجحوش. فعلّق أحد الأنصار:
- هذه هي فوائد السروال الكردي، وإلا جان هسه كل قلاقيلك طايرة.
وفي الجانب الآخر، كان الطاغية وحاشيته في جوٍ احتفالي، يجلسون الى الطاولة التي تحتوي على ما لذ وطاب، وينفثون من ثغورهم سموم الحقد والرذيلة. يتحدثون عن جرائمهم الشنيعة بحق الأبرياء وحرق قراهم ومزارعهم، وكأنهم يروون حكايات خيالية أو يسردون أحداثا لِفلم كوميدي ساخر، فيشعرون بالنشوة عند مشاهدة جثث الأطفال والنساء والشيوخ المنتشرة في كل مكان، يحتفلون ببطولاتهم في دفن الأحياء في قبور جماعية، والطاغية يرفع كأسه متبخترا بنصره العظيم الذي يبعث على الغبطة والانشراح، ويطلب الاستماع الى المزيد من القصص والمغامرات الشيقة، فينبري أحدهم ليروي له قصة الراعي الشاب الذي تم نقله بواسطة طائرة مروحية (هليكوبتر) وعلى ارتفاع 4 كيلومترات، وكان يشعر بالأسى نحوه لأن المواشي بقيت لوحدها
- سيدي القائد فتحنا له الباب وطلبنا منه من هذا الارتفاع الشاهق ان يطير بسرعة ويذهب إلى مواشيه.
لقد حَصدوا أرواح الناس وزرعوا مكانها سموم الموت والتهجير واشعلوا نار الرهبة في كل شارع وزقاق حتى الطيور والعصافير توقفت عن الطيران والغناء.
بدأ الظلام يزحف إلينا رويداً رويدأً، وهذا ما كان يراودنا طويلا ونحن نشق دروب الجبال منذ الصباح.
______________________________
1- أطلق مصطلح الجحوش على رجال عصابات الكُرد الذين كانوا يعملون كمرتزقة مقابل المال مع الجيش لضرب الحركة الانصارية والبيشمركة المعادية للنظام.
التعديل الأخير: