حسن الولهازي
كاتب
ما هي الـحـكـمــة؟
أولا و قبل كلّ شيء وجب التفريق بين الفلسفة و الحكمة. تبدو الفلسفة -كما تظهر من خلال الفلسفة اليونانية و العربية – على أنّها السبيل إلى الحكمة لأنّ القدامى كانوا ينظرون إلى الحكمة على أنّها صفة إلهية و أن الله وحده هو الحكيم و لذلك يقال عن الفيلسوف أنّه يسعى إلى التقرّب من الإلوهية بقدر الطاقة الإنسانية. باختصار الفلسفة منهج يقود إلى الحكمة والحكمة هي هدف الفلسفة. بتعبير آخر الفلسفة معرفة أمّا الحكمة فهي امتلاك هذه المعرفة و العمل بها. قد يحشو الفيلسوف دماغه بنظريات متنوعة وقد يساهم هو نفسه في وضع نظريات و لكن لا يعني ذلك أنّه حكيم.
كلّ ما قلناه إلى حدّ الآن يتمحور حول التفريق بين الفلسفة و الحكمة ولكن ليس تعريقا للحكمة. فما هي الحكمة؟ من التفريق بين الفلسفة و الحكمة نفهم أن هناك جانبيْن في الحكمة، جانب نظري هو عبارة عن بحث فلسفي و جانب عملي هو توظيف هذه المعرفة في السلوك. فما هو الجانب النظري للحكمة أو ما هي المبادئ التي تؤهّل الشخص الذي يؤمن بها و يعمل بها إلى أن يصبح حكيما؟
الجانب النظري من الحكمة أو ما هي المبادئ التي يسلّم الحكيم بصحّتها؟
المبدأ الأوّل في هذه المعرفة –التي لا شكّ يصل إليها الإنسان بعد تجربة حياتية طويلة و بعد مطالعات عديدة و تفكير معمّق - هو:
المبدأ الأوّل: الاقتناع بأن السعادة الحقيقية ليست في الاستمتاع بالمنافع المادّية
المتعة الحسّية المرتبطة بالأكل و النوم و الجنس و غيرها ليست مسألة جوهرية في حياة الحكيم. بتعبير آخر مبسّط، ليست في امتلاك سيارة مرفّهة و قصرا فخما و عقارات شاسعة و رصيدا ضخما في البنك ... قد يملك الإنسان هذه الأشياء و يكون سعيدا ولكن لا يعني أن سعادته متأتية منها أو متوقّفة عليها. فقد يمتلكها و مع ذلك يكون في قمّة التعاسة. ولسائل أن يسأل لماذا لا تكمن السعادة الحقيقية في الاستمتاع بالمنافع المادّية. هناك سببان لذلك:
السبب الأوّل: إن الاستمتاع بالمنافع المادّية و إن كان يريح الجسد فهو لا يطوّر إنسانية الإنسان و لا يجعله يرتقي في سلّم الإلوهية. هي لذّة جسدية يشارك فيها الإنسانُ الحيوانَ سرعان ما تزول لتعود بعد وقت تضبطه الطبيعة، أنشطة تكرّر نفسها و لا تأتي بالجديد. و لو قارنّا هذه الأنشطة الجسدية الباحثة عن المتعة بالأنشطة الروحية، لاكتشفنا الفرق بينهما. ففي العلوم والفلسفة والعلوم الإنسانية و الآداب الفنون و كلّ الأنشطة الروحية هناك اكتشافات، و هناك بناء للشخصية فالأمّي يصبح متعلّما و الجاهل يصبح عالما... هذا التطوّر المعرفي هو تغيّر يمسّ الرّوح و بالتالي يمسّ الشخصية وهذا بخلاف الأنشطة المرتبطة بالأكل و النوم و الجنس.
السبب الثاني: إذا جعل الفرد المتعة الجسدية هدفا أساسيا في حياته، سيتحوّل إلى عبد لها. لا يمكن للإنسان أن يكون سعيدا و عبدا لشهواته في نفس الوقت. و كلّ من أطلق العنان لنزواته وشهواته ظلّ طيلة حياته يركض لإشباعها دون أن يصل إلى ذلك فهو كمن يحاول أن يملأ قربة مثقوبة. إضافة إلى ذلك فالعبودية للشهوات الجسدية عادة ما تفضي إلى الرذيلة. فعندما يصبح الفرد عبدا لغرائزه، يبحث عن المتعة أكبر و أعمق ويصبح عبدا لمبدأ التكالب على الأفضل و بطرق غير مشروعة. فهذا يخون زوجته لأنّه وجد امرأة أفضل منها أو هكذا تهيّأ له. و هذا تاجر يغش زبائنه لأنّه يريد رأسمال أفضل من الذي يملكه. وهذا موظّف يشي بزملائه لأنّه يريد رتبة أفضل من رتبته. كلّ هذه المصائب بسبب انعدام القناعة. يجب على الإنسان الحكيم أن يعايش فكرة "الحدّ" في حياته. لا بدّ أن يدرك أن هناك حدودا يجب أن يقف عندها و في كلّ المجالات. و الوقوف عندها ليس استنقاصا من قيمته بل هو عين الحكمة. لك أن تسمّي ذلك كبتا أو شقاء أو استعبادا ولكنّه ضروري.
المبدأ الثاني: البحث عن الخلود هو الغاية من وجود الفرد
كما هو معلوم دوام الحال من المحال و أنّ كلّ إنسان ينتظره الموت و سيرحل عن هذه الدنيا في يوم ما و سيخلّد في ذاكرة الإنسانية إن خدمها باكتشافات تفيدها و إذا لم يقم بذلك فسيكون مصيره النسيان و الاهمال حتّى من أحفاده و بعد قرن أو إثنين سيكون كمن لم يوجد أصلا. و لإدراك هذه الفكرة ليسأل كلّ واحد منّا نفسه: هل يعرف جدّه العاشر؟ طبعا يستحيل ذلك إن لم يكن جدّه مخلّدا في ذاكرة البشرية، و بالقياس سيكون هو نفسه نكرة بالنسبة لحفيده العاشر. ولسائل أن يسأل: ما دخل هذه الفكرة في الحكمة؟ تُعدّ هذه الفكرة مؤسسة للحكمة لأنّ الذي يدرك حقّا أن الموت ينتظره و أنّه إذا لم ينقذ نفسه بالخلود فسيكون كما لم يكن و بالتالي يكون وجوده عبثا. وهذا الهدف النبيل و هو الخلود يجعله يترفّع عن السفاسف و عن مضايقة غيره و عن البحث عن المتعة لأنّ كلّ هذه الأمور لا توصل إلي الخلود. ما قيمة الاستمتاع بالشهوات المادّية أمام الخلود؟ و الذي يعتقد أن الخلود لا يعنيه أصلا و أنّ هدفه هو المتعة لن أطيل معه الحوار لأنّ الحوار بيننا معدوم و لكن أنصحه بأن لا يتأخّر في زيارة طبيب نفسي.
المبدأ الثالث: الظالم جدير بالرثاء أكثر من المظلوم
يدرك الحكيم أن الظالم هو في وضعية غير سوية. يستحيل أن يكون هناك شخص ظالم و سعيد. لا بدّ أن يشعر في قرارة نفسه بأنّه نذل و حقير. قد يخفي هذه الحقيقة على غيره لكن لا يستطيع أن يخفيها على نفسه. قد يعود الظلم لأسباب مادّية كالاحتياج و قد يعود لأسباب نفسية كالرغبة في الشعور بالقوّة و لكن مهما كانت الأسباب فإنّها تعود جميعها إمّا إلى الجهل أو إلى ضعف الإرادة. ماذا يجهل الظالم؟ يجهل أنّ الخير الذي يجنيه من العدل أكثر بكثير من الذي يجنيه من الظلم هذا إذا كان الظلم ينتج خيرا. يجهل أن بسمة الغير في وجهه أهمّ بكثير من حافظة النقود التي أنتزعها منه. يجهل أن راحة الضمير نعمة كبيرة قلّ من يتمتّع بها. يجهل الظالم أيضا أنّه لا بدّ واقع في شرّ أعماله طال الزمان أو قصر وأن فرضية الإفلات من العقاب نادرا ما تتحقّق و إن تحقّقت فمن الصعب الإفلات من عذاب الضمير. ينظر الحكيم للظالم على أنّه شخص تعيس و جدير بالرثاء. يبدو لنا ظالما و يستعبد غيره، و لكن الواقع هو أيضا مظلوم و مُسْتَعْبَدٌ، هو عبد للجهل و الغرائز و لأصدقاء السوء و للشرور بمختلف أنواعها ... هو شخص ظلم نفسه، وقد يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه كما يقال. و لو تتوفّر للظالم فرصة الالتقاء بحكيم و يتكوّن على يديه التكوين الصحيح، لظلّ ينوح على أيّامه التي أهدرها في السخافات.
هذه المبادئ الثلاثة هي الأساس النظري للحكمة و هي الأرضية للسعادة و الغبطة و السكينة التي يشعر بها الحكيم. كيف يوظّف الحكيم هذا الأساسي النظري في سعادته؟
الجانب العملي من الحكمة أو كيف يتصرّف الحكيم في الحياة اليومية؟
يعتقد الحكيم أن السعادة الحقيقية هي في تغليب الجانب الرّوحي في الإنسان، هي في القناعة و في السكينة و الاستمتاع بما توفّر لدينا. الحكيم يدرك أنّنا بقدر ما نتذوّق الحياة بقدر ما نكون سعداء. ولسنا في حاجة لأشياء كثيرة للاستمتاع بالحياة. لسنا في حاجة لنكون أثرياء لنستمتع بالحياة. نستطيع أن نعيش بأشياء قليلة و بسيطة و مع ذلك نكون سعداء. و بالمقابل نستطيع أن نعيش بأشياء ثمينة و في رفاهية و مع ذلك لا يعجبنا شيء و نحيا في توتّر دائم.
في الحياة اليومية عندما يغتسل الحكيم يستمتع بالماء الدافئ ثم عندما يتناول غذاءه يرى نفسه محظوظا.... ثم عندما يتمدّد في سريره يشعر بالعافية.... وعندما يشاهد وجه طفل يبتسم يشعر بالغبطة ....كل ذلك و غيره يبعث البهجة في قلبه.
و ليس المقصود بــ "ما توفّر لدينا" الممتلكات المادّية و المحيط المقرّب منّا، بل أكثر من ذلك يدخل في هذا النطاق كلّ ما يحيط بنا في المجال الطبيعي. فالهواء النقيّ، و أشعّة الشمس الدافئة، والنسيم العليل، و عطر الزهور، و خرير المياه، و زقزقة العصافير.... كلّ ذلك يدخل في نطاق "ما توفّر لدينا". يشعر الحكيم بالغبطة في تنفّس الهواء النقي و المتعة في مشاهدة المناظر الطبيعية كما يتدبّر بهدوء ما يرى و ما يسمع. عندما نرى في كلّ شيء درسا يبعث فينا السكينة و الهدوء ويجعلنا نرضى عمّا نحن عليه ويشعرنا بسعادة عميقة و دائمة ساعتها نكون حكماء. يقول إليا أبو ماضي ولله درّه في ذلك، قال بيتا يكتب بماء الذهب:
كَمْ تَشْتَكِي وَ تَقُولُ إنّكَ مُعْدَمُ وَ الأَرْضُ مُلْكُكَ وَ السَّمَاء وَالأَنْجُمُ
هل لا نقبل أن نستمتع بأشعّة الشمس و الهواء النقيّ و مناظر الحقول إلاّ إذا أخذنا صكّا بملكيّتها ووضعناه في جيبنا؟ الاستمتاع بالجمال و الصحّة والنظافة و الأناقة والهدوء و القناعة. هي مطالب الحكيم بعيدا عن ضوضاء هذا العالم.
نستطيع أن نقف على روعة ما في الطبيعة و نستمتع به كلّ يوم.كلّ ذلك معطى لنا مجّانا. يكفي فقط أن يكون لنا الوعي بالتلذّذ بالحياة في كلّ لحظة. أغلبنا لا يعرف قيمة القدرات التي له إلا عندما يفقدها. عندما يصبح أعمى يعرف معنى الاستمتاع بنور الشمس و يتمنّى أن يرى ذلك النور و يستمتع به ولكن لمّا كان أمامه لم يكن يستمتع به. و عندما يصبح الشخص كسيحا يعرف قيمة أن يجري حرّا في الهواء الطلق مثل الغزال. لكن لمّا كان سليما لم يكن يستمتع لا بالمشي و لا بالعدو. المهمّ بالنسبة للحكيم هو أن نستمتع بهذه القدرات و نحن نملكها لا أن نتمنّاها بعد أن نفقدها.
ما يجعلنا نذهل عن الاستمتاع بالحياة هو أن هذه الوضعيات التي نعيشها، نعيشها وذهننا مشغول بغيرها. نراها و لا نراها. لأنّنا في كلّ لحظة مشغولون، في كلّ لحظة نحن تجاه مهمّة يجب القيام بها. نحن دائما في عجلة من أمرنا. دائما نفكّر في أشياء أخرى تحرمنا من رؤية و الاستمتاع بما هو أمامنا. دائما تحت الضغط. و لذلك تمرّ الحياة بسرعة. لذلك يجب أن نأخذ وقتنا في الاستمتاع باللحظات السعيدة و المفرحة في حياتنا خاصّة، خاصّة و أنّها معطاة لنا مجّانا يكفي فقط أن نراها و نُحسن تقييمها و التلذّذ بها.
و لنستمتع باللحظات السعيدة في حياتنا اليومية يجب أن نتحكّم في عمل وعينا. التلقائية في ردود الفعل يجب إيقافها. لا أقوم بفعل ما و أنا مشغول بغيره. مثال، إذا تناولتُ فطوري لا أفكّر في شيء آخر غير الوضعية التي أنا فيها و إذا لبست ثيابي نفس الشيء و إذا سرتُ في الشارع نفس الشيء. أعيش اللحظة بتفاصيلها. حتّى الأنشطة التي تدخل في طبيعتنا الحيوانية يجب أن نقوم بها بوعي. الحكمة ليست فقط في تقبّل الحياة كما هي. كلّنا يتقبّل الحياة. الحكيم فقط هو الذي يحياها بوعي أي بتوجيه تفكيره حتّى يقبل الحياة بأكثر ما يمكن من الايجابية بحيث يكون في بهجة مهما حصل.
و لسائل أن يسأل: هل الحكمة ممكنة في أيّامنا؟ كيف يحيا الحكيم بهذه العقلية (عقلية الهدوء والقناعة) و الحال أن الواجبات تكبّله و مشاغل الحياة اليومية تحاصره؟ أ لا تفتكّ منه مصائب الحياة البسمة من شفتيه حتّى و لو أراد تجاهلها؟ فما يصيب الإنسان العادي مزعج و مقلق و أحيانا مدمر فما بالك بما يعانيه الكسيح و الأعمى و الأصمّ و المصاب بأمراض مزمنة.... هل يمكن أن يكون الإنسان العادي وخاصّة المعاق، حكيما في ظلّ ما يعانيه ؟
الحكيم شخص محنّك بلغ مستوى من الصبر (و ربّما المعاناة) يجعله لا يبحث عن ملاءمة العالم لرغباته. هو شخص يأخذ العالم كما هو بصبر و جلد. يقبله بأفراحه و أتراحه بدون شكوى أو تقزّز أو نفور أو سخط. يرى دائما أن هناك شيئا ايجابيا يمكن تعلّمه في كلّ الحالات بما في ذلك حالات الموت و المرض و الحوادث المأسوية... نستطيع رغم كلّ شيء أن نستنتج درسا في الحياة بشكل يجعلنا نكبر في الإنسانية في سعادة عميقة و دائمة.
لا يعني هذا أن الحكيم هو شخص مغلوب على أمره و تعيس و صابر صبر العاجزين بل يعني أنّه يفهم أن الموت و الحياة شيئان متلازمان. و هكذا الفرح و الحزن، و اللذّة و الألم. الصحّة و المرض، الخير و الشرّ... هذا الموقف يعني أن الحكيم توصّل إلى أن ينظر إلى الحياة بطريقة تجعله يرضى عنها. الحكيم مثله مثل الإنسان العادي يتعرّض للحوادث التراجيدية لكن الفرق بينهما هو أن الحكيم توصّل إلى أن يتحرّر من تأثير الحوادث عليه و هكذا كانت سعادته لا تتوقّف على الأحداث الخارجية و إنّما تنبع من داخله و بالتحديد في نظرته للعالم. نحن نحمل معنا العالم كما نراه. شخص سعيد سيكون سعيدا حتّى و لو وضع في جهنّم. وشخص تعيس سيكون تعيسا حتّى و لو وضع في الجنة. ما يجب تغييره ليس العالم و لكن نظرتنا إليه.
التعديل الأخير: