عبد الغني ورضي
كاتب
بتتا طز
كان لنا بيت واسع وبه غرف كثيرة لا نستعمل أغلبها عادة إلا عندما يزورنا الضيوف.
أربعة غرف، منها غرفتي نوم واحدة لوالدي والثانية لنا نحن الابناء وغرفة للجوس وأخرى للضيوف، وبهو فسيح.. مطبخ وحمام.. كيفما كان الامر فالغرف كثيرة.
الجميل في بيتنا انه كان وسط المدينة بل في قلب المدينة، بالقرب من محطة القطار والطريق السيار والسوق الممتاز الكبير وحي الجامعات وغيرها من المرافق. فكان طبيعي أن يسأل أناس كثيرون عن البيت وفيما كان أهله يريدون بيعه. لكن والدي وكلما سأل أحد عن البيت كان يأخذ وثائق الملكية بيده فيقبلها أمامنا ثم يقول: بيتنا كنز، لن أفرط فيه.. فيقول أخي الصغير والذي بالكاد نستطيع فهم كلماته : بتتا طز. فنضحك جميعا.
وكان بيتنا فعلا كذلك.. كنز ورثه أبونا عن والده عن جده من بين أملاك كثيرة تفرقت على الأحفاد.
كان أبي يشتغل مياوما في سوق السمك، وبالكاد كان يحصل على مبلغ من المال يكفي لنفقات البيت من طعام ولباس بسيط أغلبه مستعمل وأداء فواتير الماء والكهرباء.
في تلك الفترة، أذكر أنه بدأت تظهر في الأسواق وواجهات المحلات الكبرى شاشات التلفاز الجديدة والتي كان يطلق عليها إسم شاشة الليد.. كانت تلفزة رائعة مغرية مسطحة وعندما كنا نزور عمتي والتي استطاعت شراء واحدة نتسمر أمامها لنشاهد الأفلام والبرامج بتقنية جديدة وكفاءة عالية عبر الصحون الهوائية.. متعة ما بعدها متعة، سرعان ما تفتر بمجرد العودة إلى البيت وتشغيل التلفاز ذو البطن المنتفخ والألوان الباهتة والمسكون بقناتين بئيستين.
وأذكر أنه في تلك الأيام كنا نطلب من أبينا أن يشتري تلفازا من النوع الجديد، وكنا نلح في الطلب، وكان أبونا يجيبنا بحركة بسيطة، كان يخرج أحشاء جيوبه الفارغة أمامنا ثم يجلس.
بعد الشاشة العجيبة ظهر الهاتف النقال العجيب الجديد ذو الشاشة الكبيرة.. اصبح كل شيء مغريا اليوم، وأصبح كل شيء أيضا يجعلنا نمقت حالة الحاجة والشدة والفقر التي كنا عليها.
أصبح أبي أمام لائحة طلبات لا تنتهي ويد قصيرة لا تصل منها شيئا.
يوما ما عاد إلى البيت مبكرا.. جلس إلى والدتي وأخذ يكلمها، نحن الصغار لم ننتبه للأمر ولم نكن نلقي له بالا، لكنني أذكر أن أمي كانت ترفض كل مرة عندما كان يكرر كلمة لم أكن أعرف معناها.
وقبل انقضاء ذلك الشهر، أذكر أن أبي وأمي وأختي الكبرى كانوا جميعا يفرغون إحدى الغرف من الفراش ويضعونه في غرفة الجلوس إلى أن يجدوا له مشتريا..
بعد أيام من ذلك وعندما عدت مساء من المدرسة، ظلت عيناي جاحظتين أمام الشاشة الجديدة المعلقة على الحائط. " لقد اشترى والدي العزيز شاشة تلفاز جديدة وكبيرة، حتى أكبر من شاشة التلفاز ببيت عمتي" كم كان ذلك رائعا، يمكننا القول الآن أننا صرنا نملك تلفازا، تلفازا أباهي به الجميع، كنت أحاول تلمسه.. أمرر يدي على شاشته الملساء المسطحة أحمل جهاز التحكم وأحملق في الازرار الكثيرة الملونة. لقد انتقلت المتعة والسعادة إلى بيتنا الجميل أخيرا.. وفي لحظة صار كل شيء جميلا بديعا..
حل ببيتنا شخصان غريبان يحملان حقيبتين كبيرتين، شابان قال عنهما والدي أنهما طالبان سيقيمان معنا طوال فترة دراستهما في الغرفة التي كنا قد أفرغناها من الفراش.
دخل الطالبان إلى الغرفة واجتمع بنا والدنا.." لا أحد يدخل الغرفة إنها مسكنهما الآن، وقد اشترطت عليهما عدم استعمال المطبخ والسطح وعدم إثارة الضجيج أو المشاكل في البيت ويمكنهما استعمال الحمام فقط خارج الغرفة. ولكن بمقابل ذلك سيعطونني أجر كراء شهري سيكفينا فيما بعد لشراء هاتف نقال واستعمال الانترنيت وربما تناول طعام أفضل.. الغرفة أصلا لا نستعملها ولا نستفيد منها." قال والدي السعيد.
بعد سنتين .. كنا مجتمعين في البهو نشاهد مباراة كرة القدم على التلفاز جميعا ومعنا الطالبان العزيزان ومعهما ضيفهما الذي لا نعرف من يكون، يجلسان بجانب أختي، يشاهدان المباراة تارة ويشرح أحدهما لها نظرية النسبية تارة أخرى على ورق أزرق سمعت أنه خاص بطلاب الهندسة في انتظار وصول أبي الذي ذهب ليستلم سيارته الجديدة والتي اشتراها بالتقسيط المريح .. وقبل نهاية المباراة خرج المكتري الجديد للغرفة الثانية مع زوجته الجميلة الحسناء والتي كانت في مقتبل العمر، وكلبهما القبيح والذي لم يكن يتوقف عن التبول على جدران البيت.. قامت خلفه أختي الصغيرة على أثره ترش بالبخاخ على البول متذمرة .. أحكما إغلاق الباب ولوحا بالتحية من بعيد ثم غادرا بعدما وضعا شيئا ما في الثلاجة داخل المطبخ.
في تلك الأيام وفي الليل.. وعندما كان يعود أبي من العمل متأخرا، كان يفتح علينا الغرفة أنا وإخوتي باسما والتي لم نعد نغادرها إلا للحمام إذا كان خاليا أو المطبخ أو غرفة أمي، يحيينا ويوزع علينا بعض الحلوى والشكولاتة، يودعنا وينصرف لغرفة النوم بعدما يطلب منا إحكام إقفال الباب خلفه .. فتشتعل الحرب والخصومة اليومية مع والدتي إلى أن نسمع سكان بيتنا الجدد يصيحون ويشتكون بتذمر من داخل غرفهم المنيعة.
فيما بعد فهمت أن سبب الخصومة اليومية كان عدم موافقة أمي على قدوم مكتر جديد لغرفة نومنا..
أصبحنا نملك كل شيء.. سيارة تلفاز أخر صيحة لباس جديد كل شهر.. طعام جيد هواتف نقالة وشبكة الانترنيت..كل شيء إلا بيتنا الذي كان.
الضيوف الجدد كانوا يعلمونا أشياء كثيرة .. فهمت أختي نظرية النسبية على ورق أزرق بتفوق، وتعلم أخي الصغير تلوين قوس قزح ببراعة .. تعلمنا كيف نجادل ولو بغنج حتى نحصل على ما نريد، كيفما كان هذا الشيء الذي نريده.. وفهمنا أننا مع ذلك نملك بيتا، ليس هذا البيت بل وثيقة لايزال والدي يحملها معه وهو يمر بيننا في بيتنا المزدحم بالغرباء، يقبلها ويقول " بيتنا كنز.. إنه فعلا كنز حقيقي" ولا يزال أخي الصغير يجيبه وإن صار يجيد الكلام " بتتا طز".
أما أنا فما عدت أعرف متى أستطيع العودة ..
عبد الغني ورضي
كان لنا بيت واسع وبه غرف كثيرة لا نستعمل أغلبها عادة إلا عندما يزورنا الضيوف.
أربعة غرف، منها غرفتي نوم واحدة لوالدي والثانية لنا نحن الابناء وغرفة للجوس وأخرى للضيوف، وبهو فسيح.. مطبخ وحمام.. كيفما كان الامر فالغرف كثيرة.
الجميل في بيتنا انه كان وسط المدينة بل في قلب المدينة، بالقرب من محطة القطار والطريق السيار والسوق الممتاز الكبير وحي الجامعات وغيرها من المرافق. فكان طبيعي أن يسأل أناس كثيرون عن البيت وفيما كان أهله يريدون بيعه. لكن والدي وكلما سأل أحد عن البيت كان يأخذ وثائق الملكية بيده فيقبلها أمامنا ثم يقول: بيتنا كنز، لن أفرط فيه.. فيقول أخي الصغير والذي بالكاد نستطيع فهم كلماته : بتتا طز. فنضحك جميعا.
وكان بيتنا فعلا كذلك.. كنز ورثه أبونا عن والده عن جده من بين أملاك كثيرة تفرقت على الأحفاد.
كان أبي يشتغل مياوما في سوق السمك، وبالكاد كان يحصل على مبلغ من المال يكفي لنفقات البيت من طعام ولباس بسيط أغلبه مستعمل وأداء فواتير الماء والكهرباء.
في تلك الفترة، أذكر أنه بدأت تظهر في الأسواق وواجهات المحلات الكبرى شاشات التلفاز الجديدة والتي كان يطلق عليها إسم شاشة الليد.. كانت تلفزة رائعة مغرية مسطحة وعندما كنا نزور عمتي والتي استطاعت شراء واحدة نتسمر أمامها لنشاهد الأفلام والبرامج بتقنية جديدة وكفاءة عالية عبر الصحون الهوائية.. متعة ما بعدها متعة، سرعان ما تفتر بمجرد العودة إلى البيت وتشغيل التلفاز ذو البطن المنتفخ والألوان الباهتة والمسكون بقناتين بئيستين.
وأذكر أنه في تلك الأيام كنا نطلب من أبينا أن يشتري تلفازا من النوع الجديد، وكنا نلح في الطلب، وكان أبونا يجيبنا بحركة بسيطة، كان يخرج أحشاء جيوبه الفارغة أمامنا ثم يجلس.
بعد الشاشة العجيبة ظهر الهاتف النقال العجيب الجديد ذو الشاشة الكبيرة.. اصبح كل شيء مغريا اليوم، وأصبح كل شيء أيضا يجعلنا نمقت حالة الحاجة والشدة والفقر التي كنا عليها.
أصبح أبي أمام لائحة طلبات لا تنتهي ويد قصيرة لا تصل منها شيئا.
يوما ما عاد إلى البيت مبكرا.. جلس إلى والدتي وأخذ يكلمها، نحن الصغار لم ننتبه للأمر ولم نكن نلقي له بالا، لكنني أذكر أن أمي كانت ترفض كل مرة عندما كان يكرر كلمة لم أكن أعرف معناها.
وقبل انقضاء ذلك الشهر، أذكر أن أبي وأمي وأختي الكبرى كانوا جميعا يفرغون إحدى الغرف من الفراش ويضعونه في غرفة الجلوس إلى أن يجدوا له مشتريا..
بعد أيام من ذلك وعندما عدت مساء من المدرسة، ظلت عيناي جاحظتين أمام الشاشة الجديدة المعلقة على الحائط. " لقد اشترى والدي العزيز شاشة تلفاز جديدة وكبيرة، حتى أكبر من شاشة التلفاز ببيت عمتي" كم كان ذلك رائعا، يمكننا القول الآن أننا صرنا نملك تلفازا، تلفازا أباهي به الجميع، كنت أحاول تلمسه.. أمرر يدي على شاشته الملساء المسطحة أحمل جهاز التحكم وأحملق في الازرار الكثيرة الملونة. لقد انتقلت المتعة والسعادة إلى بيتنا الجميل أخيرا.. وفي لحظة صار كل شيء جميلا بديعا..
حل ببيتنا شخصان غريبان يحملان حقيبتين كبيرتين، شابان قال عنهما والدي أنهما طالبان سيقيمان معنا طوال فترة دراستهما في الغرفة التي كنا قد أفرغناها من الفراش.
دخل الطالبان إلى الغرفة واجتمع بنا والدنا.." لا أحد يدخل الغرفة إنها مسكنهما الآن، وقد اشترطت عليهما عدم استعمال المطبخ والسطح وعدم إثارة الضجيج أو المشاكل في البيت ويمكنهما استعمال الحمام فقط خارج الغرفة. ولكن بمقابل ذلك سيعطونني أجر كراء شهري سيكفينا فيما بعد لشراء هاتف نقال واستعمال الانترنيت وربما تناول طعام أفضل.. الغرفة أصلا لا نستعملها ولا نستفيد منها." قال والدي السعيد.
بعد سنتين .. كنا مجتمعين في البهو نشاهد مباراة كرة القدم على التلفاز جميعا ومعنا الطالبان العزيزان ومعهما ضيفهما الذي لا نعرف من يكون، يجلسان بجانب أختي، يشاهدان المباراة تارة ويشرح أحدهما لها نظرية النسبية تارة أخرى على ورق أزرق سمعت أنه خاص بطلاب الهندسة في انتظار وصول أبي الذي ذهب ليستلم سيارته الجديدة والتي اشتراها بالتقسيط المريح .. وقبل نهاية المباراة خرج المكتري الجديد للغرفة الثانية مع زوجته الجميلة الحسناء والتي كانت في مقتبل العمر، وكلبهما القبيح والذي لم يكن يتوقف عن التبول على جدران البيت.. قامت خلفه أختي الصغيرة على أثره ترش بالبخاخ على البول متذمرة .. أحكما إغلاق الباب ولوحا بالتحية من بعيد ثم غادرا بعدما وضعا شيئا ما في الثلاجة داخل المطبخ.
في تلك الأيام وفي الليل.. وعندما كان يعود أبي من العمل متأخرا، كان يفتح علينا الغرفة أنا وإخوتي باسما والتي لم نعد نغادرها إلا للحمام إذا كان خاليا أو المطبخ أو غرفة أمي، يحيينا ويوزع علينا بعض الحلوى والشكولاتة، يودعنا وينصرف لغرفة النوم بعدما يطلب منا إحكام إقفال الباب خلفه .. فتشتعل الحرب والخصومة اليومية مع والدتي إلى أن نسمع سكان بيتنا الجدد يصيحون ويشتكون بتذمر من داخل غرفهم المنيعة.
فيما بعد فهمت أن سبب الخصومة اليومية كان عدم موافقة أمي على قدوم مكتر جديد لغرفة نومنا..
أصبحنا نملك كل شيء.. سيارة تلفاز أخر صيحة لباس جديد كل شهر.. طعام جيد هواتف نقالة وشبكة الانترنيت..كل شيء إلا بيتنا الذي كان.
الضيوف الجدد كانوا يعلمونا أشياء كثيرة .. فهمت أختي نظرية النسبية على ورق أزرق بتفوق، وتعلم أخي الصغير تلوين قوس قزح ببراعة .. تعلمنا كيف نجادل ولو بغنج حتى نحصل على ما نريد، كيفما كان هذا الشيء الذي نريده.. وفهمنا أننا مع ذلك نملك بيتا، ليس هذا البيت بل وثيقة لايزال والدي يحملها معه وهو يمر بيننا في بيتنا المزدحم بالغرباء، يقبلها ويقول " بيتنا كنز.. إنه فعلا كنز حقيقي" ولا يزال أخي الصغير يجيبه وإن صار يجيد الكلام " بتتا طز".
أما أنا فما عدت أعرف متى أستطيع العودة ..
عبد الغني ورضي