حسن الولهازي
كاتب
الدعاية و العلم
(I) من المؤكد أن الصفحات الاشهارية لأي صحيفة تعطي أمثلة عن هذا الطابع "العلمي" الذي يتيح لمنتج ما أن يثبت عن طريق وقائع و أرقام و بمساعدة "مصلحة بحث" بأن صابونه هو "الأفضل في العالم". (II) و ليس أقلّ تأكيد من ذلك، القول بوجود ضرب من العنف في شطحات خيال خبراء الإشهار. إذ يتخفى حلم مجنون بالاحتكار وراء تأكيدهم بأن النسوة اللاتي لا يستعملن هذا النوع المخصوص من الصابون يبقين مدى الحياة بثرات و عوانس، حلم يجعل منتج هذا "الصابون الوحيد الذي يمنع البثور" قادرا في يوم ما على أن يحرم من الزواج كلّ النساء اللاتي لا يستعملن هذا النوع من الصابون.
ففي مجال الإشهار كما هو الشأن في مجال الدعاية لا يكون العلم إلاّ نتاجا لتعويض القوّة.
حنّا آرنت (1906- 1975). أصول الكليانية
Hannah Arendt. L’origine du totalitarisme
Ed. Seuil, Paris
Hannah Arendt. L’origine du totalitarisme
Ed. Seuil, Paris
تـمـهـيــد
يُنظُر للعلم عادة على أنّه الثقافة التي خلّصت الإنسان من الثقافة الأسطورية و كان الأساس لتقنية فعّالة لبّت حاجيات الإنسان وسهّلت عليه تحقيق رغباته في عدّة مجالات. و يبدو أن المجال الذي حصل فيه تقدّم هائل و حتّى مفزع هو مجال الإعلام و التواصل. فـبفضل وسائل الإعلام و التواصل أمكن تبادل المعلومات و الرسائل و العلوم بسرعة كبيرة و بين مختلف القارّات و بذلك تمكّن الإنسان من الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى و التالي تطوير حياته.
لكن هل أن الخدمات التي تقدّمها وسائل الإعلام و التواصل كلّها ايجابية، ألا يمكن توظيفها في خدمة غايات دنيئة، إيديولوجية و رأسمالية؟
الإشكالية
هل أن الإشهار في خدمة أفراد المجتمع أم أنّه موظّف لغايات إيديولوجية و رأسمالية؟ كيف يضفي الإشهار على نفسه الشرعية و المصداقية؟
الأطروحة
يرتكز الإشهار على العلم في الدعاية لمنتوجه و يسمّى ذلك عنفا.
مـحـاور النص
І. جنوح الإشهار للارتكاز على العلم.
ІІ. عنف الإشهار.
التـحـلـيــل
ما هو الإشهار؟ و ما هو الفرق بينه و بين الدعاية؟
يظهر الإشهار على أنّه إعلام، أي جعل شيء ما مشهورا و معروفا لدى الناس. بينما تظهر الدعاية على أنّها مدح لشيء ما. فأن يدعو شخص لحزب ما معناه أنّه يوجّه أنظارهم نحوه و ذلك ببيان محاسنه و فوائده. و لكن لأن الإشهار لا يكون إلا ببيان فوائد الشيء الذي نعلن عنه و ندعو الجمهور لطلبه فإنّه يلتقي مع الدعاية التي تنبني على المدح رأسا. فمن الناحية الجوهرية لا فرق بين الإشهار و الدعاية فكلاهما يهدف إلى التأثير على الجمهور لطلب شيء ما و ذلك ببيان فوائده. لكن إن كانت الدعاية تصرّح بأهدافها (الترغيب) من أوّل وهلة فإنّ الإشهار يزعم أنّه مجرّد إعلام و لكن هو في جوهره دعاية. فهو ليس إعلاما بريئا و موضوعيا.
إلى أي شيء يلجأ الإشهار ليضفي مشروعية على ما يعلنه؟
حتّى يضفي الإشهار على نفسه مصداقية crédibilité، يلتجئ إلى العلم. فيقول عن منتوجه إنّه نتيجة تجارب دامت سينين و أن فوائده مضمونة بالتجربة تمّت في مخابر و لمدّة سنين. و عادة ما يلصق المنتج بطاقة يبيّن فيها مواصفات و خصائص و مدّة صلوحيته حتّى يبيّن الإنتاج ليس عملا عشوائيا.
ما هو حكم الكاتبة على الإشهار؟
الإشهار في نظر حنّا آرنت هو "ضرب من العنف" لأنّه يتردّد بين أمرين هما: الترغيب و الترهيب.
أ. الترغيب: ترغيب الجمهور في سلعة ما إلى حدّ الإزعاج و الإقلاق كأن تجد إشهارا لنفس السلعة في الإذاعة و التلفزة و الجرائد و الأنترنت. هذا الإشهار هو شكل من أشكال العنف في نظر الكاتبة لأنّك تجد نفسك عندما تتنقّل محاصرا بالإعلانات من كلّ جانب و تراه عندما تركب وسائل النقل و في المحطّات و تسمعه عندما تسير في الشارع و كلّ ذلك يتمّ غصبا عنك. و رغم أن الجمهور عادة ما يسخر من الإشهار و يعرف أنّه في خدمة المنتج لا المستهلك، لكنّه لا يستطيع أن يفعل شيئا للتخلّص منه. أقصى ما يستطيع أن يفعله هو أن لا يشتريه.
ب. الترهيب: و كما يسعى الإشهار للترغيب في اقتناء سلعة ما يسعى بالمقابل لتخويف المستهلك من ترك تلك السلعة أو الذهاب إلى غيرها. مثال ذلك أن الشركة التي تنتج الصابون تدّعي أن صابونها هو الوحيد الذي يمنع البثور و ويل للنسوة اللاّئي لا يقتنينه فهنّ سيبقين مدى الحياة بثرات. فالإشهار بهذا الشكل يستخدم إرهابا معنويا و ينشر معلومات مخيفة و لكنّها في الأصل خاطئة.
إن الإشهار يفعل فعله في المتلقّي و لا يستثني أحدا. فالذي تهمّه السلعة المعلن عنها إمّا أنّه ينطلق في البحث عنها أو أنّه يشعر بالحنق لعدم قدرته الشراء. و إن كانت لا تهمّه السلعة يعتبر الإشهار استفزازا
له.
الـنـقــد
ـ إن التوجّه الذي يمارسه الإشهار على الفرد فيه تأثير عليه، هذا أكيد لكن وصفه بأنّه "ممارسة للعنف" فيه تهويل للأمور، لأنّ مفهوم العنف يقتضي معنى التسّلط باستخدام القوّة الفعلية. وهذا ما لا نجده في الإشهار. فموقف المتلقّي من الإشهار ينحصر عموما بين الاستمتاع أو التجاوب أو السخرية أو الإشمئزار و على العموم لا يسعى للتخلّص منه كمن يتخلّص من سوط على ظهره.
ـ الواقع أنّ ليس كلّ إشهار يغالط المواطن. فهناك سلع مفيدة و مطابقة للمواصفات المذكورة و الحلّ ليس في القضاء على الإشهار لأنّ هناك أناس لا يمكن أن يعلموا بالمنتوج إلاّ عن طريق الإشهار، و لكن الحلّ يتمثّل في فضح كلّ إشهار يغالط و يظهر سلعة تافهة على أنّها جيّدة أو مضرّة على أنّها نافعة.
التعديل الأخير: