المصطفى سالمي
كاتب
تكدس التلاميذ من الجنسين في سيارة المبادرة الوطنية كالسردين في العلبة الصفيحية، كانوا هكذا يسارعون إلى احتلال مواقعهم داخل العربة، لم يكن هناك مكان أفضل من غيره، بل أين هي الأماكن أو المقاعد أصلا، إنهم ينتقلون من وإلى الإعدادية وقوفا في رحلات الذهاب والإياب على مدى الأيام والشهور، يتكدسون بالعشرات في مساحة ضيقة، يلتصق بعضهم بالبعض الآخر، يتصببون عرقا في كل الفصول، يهتزون في كل تلة ومنخفض على طريق قليلها إسفلت وكثيرها تراب وحصى، وتتوقف العربة في الطريق لمرات، فقط في العودة ينزل بعض النازلين، عندها يتخفف الباقي ويجلسون على محفظاتهم، ينتعشون بقليل من الأوكسجين بعد اختناق والتصاق..
كان السائق (عزوز) لا ينفك يصدر عباراته المعتادة: (تزاحموا تراحموا)، ثم يصدر قهقهاته الساخرة، كانت استفزازاته للإناث تثير غضب باقي زملائهن الذكور، كانوا رغم ضآلة أجسادهم مقارنة بـ (عزوز) يدافعون بحمية عن بنات دواويرهم إزاء ما يعتبرونه استفزازا مبطنا في كلمات مبتذلة نابية، بل لقد وصل الأمر ببعض أولياء التلميذات الذين لم يرضيهم تحرش السائف ببناتهم إلى إخراجهن من المدرسة، هكذا فعل (سليمان) الذي استبدت به الحمية، فمنع ابنته من استكمال دراستها التي كانت تعد بمسار موفق، كانت الفتاة (رحمة) في سنتها الثالثة إعدادية، وكانت آخر من يصل للدوار، لم يتقبل الرجل أن ينفرد سائق تتجه الأصابع نحوه بالسوء بفلذة كبده التي نما جسدها وأصبح مثيرا للناظرين. لم يمض وقت طويل على توقف (رحمة) عن دراستها حتى وجدت نفسها تُزف لابن عمها وتلتحق بدورة الحياة المعتادة عند أهل البادية، وهي من كان يمني النفس بأن تصبح طبيبة لمعالجة ناس قريتها الذين يئنون تحت وطأة الأمراض والعلل الجسدية وغير الجسدية. وفي الوقت الذي كانت الأم تتآكل من الداخل أكثر من ابنتها، كان الأب مزهوا بأن تخلص من حمل ثقيل على كاهله، إنه لا يطيق أن يمرغ كرامته بالخزي والعار كما ادعى.
تعامل السيد (العربي) مع الأمور بشكل مختلف تماما، فقد وصفه ناس القرية بأنه يتصف باللامبالاة، أما هو فاعتبر أن وصول ابنته للسنة النهائية إعدادي إنجازا للعائلة الأمية، ثم إنه يتقاضى مبلغا ماليا ـ ولو ضئيلا ـ عن كل شهر من شهور الدراسة كتعويض من الدولة التي تواجه به ما يسمى الهدر المدرسي، فهل يفرط في هذا المبلغ وهو أب لأربع بنات، واحدة منهن أو اثنتان في البيت تكفي لأداء كل المهام المنزلية.
كان (عزوز) يحب المزاح والنكتة، ولم يكن يبالي بنظرة الآخرين له أو اتهامهم إياه بالفجور والزندقة، حقا كان يشرب الخمور مع شباب (الدوار)، وكان قد انقطع عن الدراسة باكرا، وهو الآن يقتات على دراسة الآخرين، رأس ماله مجرد (رخصة سياقة)، واستغل أنه الشخص الوحيد الحاصل عليها في دواوير (العجيلات) كلها. إنها أيضا فرصة لأبناء تلك القرى للذهاب للمدينة بحثا عن الرزق، إنهم في (دواويرهم) النائية تلك يعانون الحصار وما يعتبرونه سجنا بسبب ضيق ذات اليد، والسيارة الصفراء التي خُطّت عليها عبارة: (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية) يفترض فيها ـ حسب السيد (عزوز) ـ أن تنمي كل البشر هناك، لا أن يستفيد منها فقط قلّة من التلاميذ الذين درسوا بالقرى النائية قبل أن تحكم عليهم الأقدار بأن يولوا وجوههم نحو إعدادية المدينة، وأغلبهم مازال يتهجى الحروف ويجد صعوبة بالغة في مسايرة إيقاع أبناء المدينة بفعل غدر بعض الغشاشين من المعلمين، مما يجعل آمال وفرص أغلبهم في استكمال المشوار الدراسي ضئيلة. كان (عزوز) كذلك يتلقى مبالغ إضافية عن قضاء حاجيات الناس، فيشتري لهم بعض السلع من المدينة، أو يوصل مبالغ مالية لأبنائهم ممن يستكمل دراسته الثانوية ويقطن بدور الإيجار، أو يوصل من لا يدرس للمدينة بمقابل زهيد. كانوا جميعا يعرفون حماقاته ويتقبلونها على مضض، في حين كان بعضهم يتهمه بأنه حاقد على المتعلمين لأنه فشل في استكمال دراسته، وعلق (عزوز) ذات يوم على كلامهم المتداول قائلا:
ـ إنه المجتمع المنافق الذي يمارس كل الرذائل في الظل، ويشرب رجاله الخمور في الأعراس والأركان المظلمة، ثم يلوم شابا تعيسا على كلمات عابرة على مسامع الجميع.
تمر الأيام وينقطع (عزوز) فجأة عن مهامه، لقد رمت به الأقدار نحو مدينة الدار البيضاء حيث اشتغل سائقا في إحدى الشركات بمقابل سخي، وتوقفت العربة الصفراء لأسابيع طويلة عن التحرك قبل أن تخط لها مسارا جديدا بعيدا عن قرى (العجيلات)، فانقطع بعض التلاميذ عن دراستهم، بينما قلة قليلة محظوظة وجدوا لهم مكانا في الداخلية اليتيمة في المدينة، بينما باقي التلميذات لَزِمْنَ البيوتَ، والذكور استعانوا بدراجات هوائية في انتظار أن يجود الزمان بسيارة اخرى تحقق التنمية الموعودة، أو بسائق آخر يتمناه أهل (العجيلات)، ولو كان فيه بعض من مساوئ (عزوز) أو كلها، وكاد المصير القاتم يتهدد أبناء قرى (العجيلات)، لولا أن السيد (العربي) فاجأ الجميع بعربة مجرورة بحصان مغطاة بنفس ألوان وشعار المبادرة الوطنية، وبدأت قصص جديدة مع سائقين جدد لا يحتاجون رخصا حقيقية للقيادة، وحيث أصبح الاختناق والالتصاق مجرد ذكريات من الماضي البعيد.
كان السائق (عزوز) لا ينفك يصدر عباراته المعتادة: (تزاحموا تراحموا)، ثم يصدر قهقهاته الساخرة، كانت استفزازاته للإناث تثير غضب باقي زملائهن الذكور، كانوا رغم ضآلة أجسادهم مقارنة بـ (عزوز) يدافعون بحمية عن بنات دواويرهم إزاء ما يعتبرونه استفزازا مبطنا في كلمات مبتذلة نابية، بل لقد وصل الأمر ببعض أولياء التلميذات الذين لم يرضيهم تحرش السائف ببناتهم إلى إخراجهن من المدرسة، هكذا فعل (سليمان) الذي استبدت به الحمية، فمنع ابنته من استكمال دراستها التي كانت تعد بمسار موفق، كانت الفتاة (رحمة) في سنتها الثالثة إعدادية، وكانت آخر من يصل للدوار، لم يتقبل الرجل أن ينفرد سائق تتجه الأصابع نحوه بالسوء بفلذة كبده التي نما جسدها وأصبح مثيرا للناظرين. لم يمض وقت طويل على توقف (رحمة) عن دراستها حتى وجدت نفسها تُزف لابن عمها وتلتحق بدورة الحياة المعتادة عند أهل البادية، وهي من كان يمني النفس بأن تصبح طبيبة لمعالجة ناس قريتها الذين يئنون تحت وطأة الأمراض والعلل الجسدية وغير الجسدية. وفي الوقت الذي كانت الأم تتآكل من الداخل أكثر من ابنتها، كان الأب مزهوا بأن تخلص من حمل ثقيل على كاهله، إنه لا يطيق أن يمرغ كرامته بالخزي والعار كما ادعى.
تعامل السيد (العربي) مع الأمور بشكل مختلف تماما، فقد وصفه ناس القرية بأنه يتصف باللامبالاة، أما هو فاعتبر أن وصول ابنته للسنة النهائية إعدادي إنجازا للعائلة الأمية، ثم إنه يتقاضى مبلغا ماليا ـ ولو ضئيلا ـ عن كل شهر من شهور الدراسة كتعويض من الدولة التي تواجه به ما يسمى الهدر المدرسي، فهل يفرط في هذا المبلغ وهو أب لأربع بنات، واحدة منهن أو اثنتان في البيت تكفي لأداء كل المهام المنزلية.
كان (عزوز) يحب المزاح والنكتة، ولم يكن يبالي بنظرة الآخرين له أو اتهامهم إياه بالفجور والزندقة، حقا كان يشرب الخمور مع شباب (الدوار)، وكان قد انقطع عن الدراسة باكرا، وهو الآن يقتات على دراسة الآخرين، رأس ماله مجرد (رخصة سياقة)، واستغل أنه الشخص الوحيد الحاصل عليها في دواوير (العجيلات) كلها. إنها أيضا فرصة لأبناء تلك القرى للذهاب للمدينة بحثا عن الرزق، إنهم في (دواويرهم) النائية تلك يعانون الحصار وما يعتبرونه سجنا بسبب ضيق ذات اليد، والسيارة الصفراء التي خُطّت عليها عبارة: (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية) يفترض فيها ـ حسب السيد (عزوز) ـ أن تنمي كل البشر هناك، لا أن يستفيد منها فقط قلّة من التلاميذ الذين درسوا بالقرى النائية قبل أن تحكم عليهم الأقدار بأن يولوا وجوههم نحو إعدادية المدينة، وأغلبهم مازال يتهجى الحروف ويجد صعوبة بالغة في مسايرة إيقاع أبناء المدينة بفعل غدر بعض الغشاشين من المعلمين، مما يجعل آمال وفرص أغلبهم في استكمال المشوار الدراسي ضئيلة. كان (عزوز) كذلك يتلقى مبالغ إضافية عن قضاء حاجيات الناس، فيشتري لهم بعض السلع من المدينة، أو يوصل مبالغ مالية لأبنائهم ممن يستكمل دراسته الثانوية ويقطن بدور الإيجار، أو يوصل من لا يدرس للمدينة بمقابل زهيد. كانوا جميعا يعرفون حماقاته ويتقبلونها على مضض، في حين كان بعضهم يتهمه بأنه حاقد على المتعلمين لأنه فشل في استكمال دراسته، وعلق (عزوز) ذات يوم على كلامهم المتداول قائلا:
ـ إنه المجتمع المنافق الذي يمارس كل الرذائل في الظل، ويشرب رجاله الخمور في الأعراس والأركان المظلمة، ثم يلوم شابا تعيسا على كلمات عابرة على مسامع الجميع.
تمر الأيام وينقطع (عزوز) فجأة عن مهامه، لقد رمت به الأقدار نحو مدينة الدار البيضاء حيث اشتغل سائقا في إحدى الشركات بمقابل سخي، وتوقفت العربة الصفراء لأسابيع طويلة عن التحرك قبل أن تخط لها مسارا جديدا بعيدا عن قرى (العجيلات)، فانقطع بعض التلاميذ عن دراستهم، بينما قلة قليلة محظوظة وجدوا لهم مكانا في الداخلية اليتيمة في المدينة، بينما باقي التلميذات لَزِمْنَ البيوتَ، والذكور استعانوا بدراجات هوائية في انتظار أن يجود الزمان بسيارة اخرى تحقق التنمية الموعودة، أو بسائق آخر يتمناه أهل (العجيلات)، ولو كان فيه بعض من مساوئ (عزوز) أو كلها، وكاد المصير القاتم يتهدد أبناء قرى (العجيلات)، لولا أن السيد (العربي) فاجأ الجميع بعربة مجرورة بحصان مغطاة بنفس ألوان وشعار المبادرة الوطنية، وبدأت قصص جديدة مع سائقين جدد لا يحتاجون رخصا حقيقية للقيادة، وحيث أصبح الاختناق والالتصاق مجرد ذكريات من الماضي البعيد.