حسن الولهازي
كاتب
الفيلسوف
كان في إحدى المدن القديمة شخص لا يتوقّف في ليله ونهاره عن طرح الأسئلة الفلسفية على من يعترضه أو يحيط به ثمّ مناقشة أجوبتهم وآرائهم. لم يرتد المدارس إذ لم تكن هناك مدارس ولكنّه كان مسكونا بأسئلة فلسفية لا تنفكّ تقضّ مضجعه. كان بعض النّاس ينظرون إلى تفلسفه على أنّه هواية أو تسلية والبعض يراها تهريجا. والبعض الآخر يرثي لحاله ويرى في ما يقوم به مظهر لوثة فكرية ويطلب له الشفاء. ولكن ما كانت آرائهم حول شخصه تؤثر فيه أو تصدّه عن تفلسفه لأنّه يعتبر أحكامهم تلك صدى لقصر نظرهم ولذلك لا بدّ من توعيتهم وإقناعهم بجدّية تفكيره. لذلك بقدر ما يزدادون هم في نقدهم له يزداد هو في التفلسف.والواقع أنّه ما كان يبحث عن زعامة أو جاه أو سلطان لقد كان صادقا في إيمانه بجدّية الأسئلة التي كان يطرحها وهذا هو السبب الذي جعل كثير من النّاس يتأثّرون به وتفتح لهم أسئلته وأقواله آفاقا جديدة. حاول البعض الإطاحة به والسخرية منه بتقديم إجابات عن أسئلته لكن سرعان ما كان ينقدها ويبيّن سذاجتها فيعدّل نقّاده من أجوبتهم ولكن كان دائما يحاصرهم بنقده إلى أن يقرّوا في النهاية بجهلهم وتتحوّل السخرية منه إلى تقدير له.
أصبح ذلك الفيلسوف علما من أعلام تلك المدينة يشار إليه بالبنان وتجاوزت شهرته مدينته إلى المدن المجاورة. وشدّ إليه بعض المتفلسفة الرّحال وأصبح له مريدون. وكانت تحيط به في تنقّلاته في المدينة كوكبة من الشبّان والكهول والصغار لا همّ لهم سوى الاستماع إليه. كانت حواراته تعقد مع من يعترضه صدفة سواء كان تاجرا أم جنديا أم عابر سبيل... ويمكن للحوار أن يطول بقدر ما يواصل المحاور الإجابة عن أسئلة الفيلسوف. فإذا سكت واحتار تركه مشدوها فاغر الفاه وواصل سيره ويظلّ يتجوّل وسط مريديه والمعجبين حتّى يعقد حلقة نقاش أخرى.
وجد شباب المدينة -بما في ذلك أبناء الطبقة الأرستقراطية- في ما يقول الفيلسوف فائدة وفتح أعينهم على عوالم كانوا يجهلونها وشعروا أنّهم كانوا في سبات عميق وأدركوا أن المعايير التي تسيّر المدينة ليست مقدّسة. مثّل تأثّر أبناء الطبقة الأرستقراطية بأفكار الفيلسوف صدمة للطبقة الأرستقراطية. كان أفراد هذه الطبقة يتمنّون أن يحوز أبناؤها المناصب العليا في المدينة، في الجيش والسياسة... فإذا بهذا المشعوذ كما يسمّونه، يفسد أخلاق أبنائهم ويطيح بمشروعهم. وقرّروا رفع قضية ضدّه بتهمة إفساد أخلاق الشباب وسبّ الآلهة ونقد المقدّسات.
وقبض على الفيلسوف متلبّسا. كان في حلقة نقاش. واقتيد إلى السجن. بعد أيّام وقف في قفص الاتهام. سأله القاضي:
القاضي: أنت متّهم بالشك في المعتقدات المألوفة والسخرية من المقدّسات وإشاعة الفوضى. فما هو ردّك على هذه التهمة؟
الفيلسوف: كلّ ما في الأمر هو أنني تساءلت لماذا لا تكون قدرتنا العقلية مهيّأة للخطإ.
القاضي: ما معنى ذلك؟
الفيلسوف: يعني من أدرانا أن ما تحكم به عقولنا، هو الحقيقة الحقّة؟ لماذا لا تكون الحقائق التي نعرفها مجرّد مظاهر مثال ذلك أنّنا عندما نقول أن الماء لا لون له فلا يعني ذلك بالضرورة أن الماء لا لون له فقد يكون له لون لا نستطيع ننحن كبشر أن نراه. وعندما نجمع اثنين مع اثنين نقول أن النتيجة أربعة، فلماذا لا تكون هذه النتيجة هي ما تراه عقولنا وليست هي الحقيقة الحقّة.
القاضي: وفي نظرك أنت ما هو مجموع هذين العددين؟
الفيلسوف: عقلي يقول لي أن الحاصل أربعة لكن هل صحيح ما ذهب إليه عقلي؟ هذا ما لا أعرفه.
القاضي: يا سلام!!! ما هذه السفسطة يا رجل؟
الفيلسوف: ما أقوله ليس سفسطة نحن لا نعرف الواقع كما هو ولكن كما يمكن أن نعرفه. فلو زادت للإنسان حاسّة من الحواس أو نقصت حاسّة لتغيّر الواقع في نظرنا دون أن يكون هو قد تغيّر فعلا. فلو لم يكن للإنسان حاسّة السمع مثلا لما كانت في حضارتنا لغة ولا غناء ولما سمعنا الأصوات في الطبيعة، ولما اعتبرناها موجودة رغم أنّها ستكون موجودة بالفعل نستنتج من هنا أنّنا لا نعرف الواقع كما هو ولكن نعرفه في حدود قدرتنا الذهنية.
القاضي: (ملتفتا إلى المستشارين) ها أن المحكمة تحوّلت إلى قاعة للدرس وأصبحنا فيها تلاميذ. (يعمّ الضحك القاعة. بعد ذلك يلتفت القاضي للفيلسوف.)
القاضي: يعني باختصار عقولنا قاصرة، وليست هناك حقائق فيزيائية ولا حقائق رياضية وليس من المستبعد أن تكون من الملحدين الناكرين لوجود الله.
الفيلسوف: أنا لم أهدم قديما ولم أبْنِ جديدا. لم أنف شيئا ولم أثبت شيئا. أنا أسأل فقط.
القاضي: وطالما أنك مازالت في مرحلة طرح السؤال، لماذا تشيع هذه الفوضى في الناس وتسعى لتجلب الأنظار حولك.
الفيلسوف: لست حكيما وليس لديّ ما أعلّمه للناس ولكنّي دعوتهم ليعيدوا نظرهم في قدرتهم العقلية.
القاضي: وماذا يفيد ذلك طالما أنّك لا تعرف الإجابة. فكيف تدعوهم للسؤال وأنت لا تعرف إن كانت الإجابة ممكنة أم غير ممكنة.
الفيلسوف: المهمّ هو طرح السؤال.
القاضي: ألا تعلم أنّك بهذا الصنيع تكون كمن ألقى بغيره في النهر ودعاه للسباحة دون أن يعلم مسبّقا إن كان يتقن السباحة أم لا. كان عليك وأنت تطرح المشكل أن تصحبه بالحلّ.
الفيلسوف: الحلّ ليس في قدرتي.
القاضي: في قدرة من إذا؟
الفيلسوف: لا أعرف.
القاضي: إن لم تكن تعرف الإجابة، فعلى الأقلّ كان عليك أن تعرف أن طرح الأسئلة على النّاس من دون أن تكون مصحوبة بأجوبة يمثّل مصيبة.
الفيلسوف: إن دعوة الناس للتفكير ليس جريمة، وإظهار الحقيقة واجب.
القاضي: عن أيّة حقيقة تتحدّث؟ ألم تقلْ أنّك لا تعرف شيئا وأن ليس لديك ما تعلّمه للناس.
الفيلسوف: أعرف حقيقة واحدة.
القاضي: وما هي؟
الفيلسوف: هي أنّنا لا نعرف هل أن ما نعرفه صحيح أم خاطئ.
القاضي: من أين لي بالصبر على هذا الرّجل!! ها نحن عدنا للبداية. اسمع المحكمة ليست مكانا للجدال الفلسفي. الذي يهمّها هو أمن النّاس وأنت بأفكارك هذه بقطع النظر عن صحّتها أو خطئها قد ارتكبت جريمة فادحة...
الفيلسوف: جريمة؟ أيّة جريمة؟
القاضي: جريمتك أنّك سلبت النّاس راحتهم وانتزعت سعادتهم وقتلت طموحهم وأشعت فيهم الفوضى. أفراد هائمون على وجههم، وآخرون فقدوا شهيّتهم للحياة وتقاعسوا عن أداء واجباتهم حتّى الأبناء تمرّدوا آبائهم. ألا يكفيك هذا؟ إلى أين تنوي أن تحمل المدينة؟ ما جدوى هذه البلبلة التي أحدثتها؟ النّاس لا يحتاجون للسؤال وإنّما للطمأنينة، لا يحتاجون للإزعاج وإنّما للرّاحة.
الفيلسوف: قد تكون حقيقة مزعجة أفضل من وهم مريح.
القاضي: يبدو أنّه لا خير يرجى منك. هل ستلتزم بعدم الخوض في هذه المسائل مرّة أخرى أم لا؟ حدّد مصيرك بنفسك.
أطرق الفيلسوف قليلا ثمّ قال: غدا أغادر البلدة.
ومن الغد شوهد الفيلسوف يحمل أطماره على عاتقه ويقصد وجهة غير معلومة.