حسن الولهازي
كاتب
التاريخ عند ابن خلدون
l. أسباب الخطأ في كتابة التاريخ حسب ابن خلدون
يبيّن ابن خلدون أسباب الأخطاء في كتابة التاريخ و من بين الأسباب التي ذكرها:
1. التشيّع للآراء و المذاهب: فالـمتشيّع أعمى لأنّه يفقر للموضوعية أي أنّه يحكم قبل الدراسة.
2. الثقة بالناقلين: اعتماد الثقة في السند، مبدأ أخلاقي لا علمي. و إن لزم اعتماد السند فلا بدّ من التجريح و التعديل أي البحث في حامل الخبر، في انـتـماءاته، في موضوعيته... أي في نهاية الأمر تجريح الناقل قصد تعديل الخبر إن لزم الأمر.
3. نقل الأخبار بالظنّ و التخمين: يرتكب الرّاوي أخطاء غير مقصودة نتيجة الجهل. يؤوّل الناقل الملاحظ و الـمسموع حسب مزاجه و تكوينه فيكون هناك اختلاف بين الظاهرة كما هي و كما نقلت. كأن يلاحظ شخص امرأة بطنها منتفخ فيحكم عليها بأنّها حامل و الحال أن ذلك الانتفاخ قد يكون نتيجة أمراض. يقول ابن خلدون "لم يلاحظوا أسباب الوقائع و الأحوال و لم يراعوها و لا رفضوا ترّهات الأحاديث و لا دفعوها". لا يتسامح ابن خلدون في أخطاء الرواية مهما كان نوعها مقصودة أو غير مقصودة.
4. التحيّز من أجل التكسّب و المنفعة الشخصية: الميل مع المصلحة كأن يعيش المؤرخ في البلاط و يؤرخ للملك أو السلطان.
5. الجهل بتطبيق طبائع العمران على الأحوال المشاهدة: إن الحدث ليس نفسه أمام المؤرخ و غير المؤرخ. المشاهد العادي ينقل الوقائع كما رآها و لكن المؤرخ يطبّق معرفته لطبائع العمران على الوقائع و يدرك بحكم صنعته نتائج هامّة. فما علم العمران و ما علاقته بعلم التاريخ؟
ll. علم العمران (علم الإجتماع) كشرط ضروري لعلم التاريخ
من بين الأسباب المذكورة سابقا يعتبر ابن خلدون أن الجهل بطبائع العمران هو السبب الرئيسي لوجود أخطاء في كتابة التاريخ. يقول ابن خلدون و لو "كان السامع عارفا بطبائع الحوادث و الأحوال في الوجود (الإنساني) و مقتضاياتها أعانه ذلك في تـمحيص الخبر على تـمـيّز الصدق من الكذب". واضح أن ابن خلدون يعتبر علم العمران البشري كشرط ضروري لعلم التاريخ. فما هو علم العمران؟
الـمقـصود بالعمران هو مختلف أوجه الحياة أو النشاطات الاجتماعية لمجموعة من الناس يحوزون رقعة أرضية ما لهم كيان يرتكز على العصبية. و العصبية هي شعور بالإتحاد حول كيان اجتماعي قد يكون القبيلة أو الدولة.
ابن خلدون يعتبر أن الشرط اللازم لدراسة التاريخ و لتحرّي الصدق في معرفة التاريخ هو معرفة طبائع العمران أوّلا أي معرفة الـقوانين الثابتة التي تسيّر الحياة الاجتماعية. يعتبر ابن خلدون أن الحياة الاجتماعية خاضعة لأسباب واقعية "فإن كلّ حادث من الحوادث... لا بـدّ له من طبيعة تخصّه في ذاته". تفهم لفظة "الطبيعة" هنا في معنى القانون. أي أن الظواهر الاجتماعية محكومة بقوانين ثابتة تسيّرها.
فما هو فحوى طبائع العمران أو بتعبير أبسط قوانين الحياة الاجتماعية؟
يعتقد ابن خلدون أن المجتمع الإنساني يخضع في نشأته و تطوّره لقوانين عامّة لا غنى للمؤرخ المحقّق من الوقوف عليها و هي:
1. الاجتماع الإنساني ضروري: يردّ ابن خلدون اجتماع الأفراد إلى عاملين أساسيين:
أ. تقصير الفرد في استيفاء حاجياته الضرورية في ما يتعلّق بالطعام و الكساء و المأوى.
ب. عجزه منفردا عن دفع ما قد يتعرّض له من عدوان.
قاعدة عامّة: الاجتماع الإنساني ضروري و غاية ذلك التعاون. "و ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت و لا غذاء و لا تتمّ حياته".
2. تأثير العوامل الطبيعية على المجتمع: و هي الأقاليم و التربة و طبيعة الهواء.
أ. الأقاليم المعتدلة: يرى ابن خلدون أن العمران البشري أوّل ما نشأ، نشأ في الأقاليم المعتدلة. فانتظم التعاون و قامت الدوّل و ازدهر الاقتصاد و تقدّمت المعارف و بقيت المناطق الحارّة و الباردة بعيدة عن العمران لبعدها عن الاعتدال.
ب. طبيعة الأرض: تؤثر في العمران من خصب التربة و ثروتها المعدنية و المائية و موقعها من سواحل البحار أو ضفاف الأنهار. فذلك كلّه من عوامل توجيه العمران. إذ به يتوجّه المجتمع نحو الزراعة أو التجارة أو الصناعة.
ج. طبيعة الهواء: تؤثر طبيعة الهواء على أمزجة الناس و أخلاقهم. نجد الكسل و اللهو و الطيش في المناطق الحارّة و النشاط و النباهة و الاتّزان في المناطق الباردة. كما يعود لون البشرة إلى المناخ و مردّ سوادها في المناطق الاستوائية إلى تأثير الشمس و بياضها في المناطق الباردة إلى برودة الطقس.
3. المجتمع كائن متطوّر: كلّ مجتمع ينشأ و يتطوّر و يمرّ بثلاثة أدوار (مراحل): بدوي و غزوي و حضري. فالبداوة هي طور المجتمع الأوّل. و البدو يقتصرون في حياتهم على الضروري. فيعيش الرعاة منهم على تربية المواشي و ينتقلون بها من مكان إلى مكان في طلب المراعي. فإذا ازداد عدد السكّان و قصرت موارد عيشهم و رأوا عند جيرانهم المتحضّرين خيرات كثيرة عزوهم. فإذا لم يقدروا عليهم أقاموا عند تخومهم و بادلوهم المنافع و أخذوا عنهم فنون الحضارة فتتحوّل قبيلتهم إلى مملكة و إذا استشعروا منهم ضعفا غزوهم في عقر دارهم و بسطوا عليهم سلطانهم. فإذا تمّ لهم ذلك استعانوا على إدارة دولتهم بأبناء الأمّة المغلوبة. ثمّ يميلون إلى اللهو و المجون و يغفلون عن الحزم في الإدارة فيضعف أمرهم إلى أن يعزوهم البدو و هكذا... هذه المراحل التي يمرّ كلّ مجتمع هي التي سُمّيت بالتصوّر الدوري عند ابن خلدون. فكلّ مجتمع يمرّ من البداوة إلى الغزو إلى الحضارة و لكنّه يعود من جديد إلى البداوة و لكن يرافق هذا التطوّر السياسي من دور البداوة إلى الحضارة توسّع حضري على سبيل التقليد بالتشبّه الجزئي من جيل إلى آخر إلى أن ينتهي إلى المفارقة و المباينة.
lll. التاريخ عند ابن خلدون
يقول ابن خلدون "إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار و في باطنه نظر و تحقيق". الظاهر هو الرواية و لكن الباطن هو الروابط التي تكمن خلف الأحداث. يعتمد المؤرخون السابقون عن ابن خلدون على سرد الأحداث و لكن كتابة التاريخ يجب أن تعتمد على إيجاد العلاقات الكامنة وراء الظواهر. ابن خلدون أدخل فكر ة التفسير السبـبـي في تفسير الظواهر الإنسانية. التفسير السبـبـي معناه ربط الأسباب بالنتائج و لا نستطيع وضع هذه الأسباب بدون معرفة طبائع العمران. إذا الأحداث محكومة بقوانين تعود إلى طبائع العمران. "إن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة". لم يتحدّث القدامى عن القانون في التاريخ. يقول المسعودي "الحمد لله القدير القادر يول الحكم من يشاء و يعزل من يشاء". يقول ابن خلدون متحدّثا عن المؤرخين الذين سبقوه "و هم إنّما أعطوا السبب النجومي و بقى عليهم أن يعطوا السبب الأرضي و هو ما ذكرناه من كثرة العمران".
الخلاصـــة
نستطيع أن نقول أن ابن خلدون قد أقام قطيعة ابستيمولوجية مع من سبقه. إن المتأمّل في ما أورده ابن خلدون يتأكّد أن العقل النقدي قادر على أن يستفيد من الأخطاء. فملاحظة ابن خلدون لجهل المؤرخين و لتقليدهم أيقظ فيه الحسّ النقدي . فاتّجه إلى البحث عن الأسباب الحقيقية للأحداث معتبرا أن معرفة أحوال العمران البشري و طبيعته من العوامل الأساسية لتصحيح التاريخ و تخليصه من الأباطيل و الترّهات.