حسن الولهازي
كاتب
كيف نخرج من التخلّف؟
ذهب في ظنّنا نحن سكّان القارّة الأفريقية ـ وليسمح لي سكّانها أن أتحدّث بإسمهم – ذهب في ظنّنا أنّنا عندما سنتخلّص من الاستعمار ستفتح لنا أبواب الجنّة على مصراعيها. و لكن يبدو ـ و هذا تبيّن بعد عقود ـ أنه قد كُتب علينا الشقاء. و إذا ظلّت الأوضاع كما هي عليه الآن فلن نلتحق بركب الدوّل المتقدّمة إلى يوم يبعثون و ذلك لسببيْن على الأقلّ:
أ. لأنّ حكّامنا للأسف الشديد يتّصفون بالغباء و الفساد و الجبن. الغباء في تسيير دواليب الدولة و الفساد في تواطئهم مع المفسدين و الجبن في إقامة العدل و معاقبة كل من أضرّ بغيره مهما كان منصبه. تخلّصنا من الاستعمار الخارجي فإذا بأبناء جلدتنا يستعمروننا. و أنظروا ماذا يحصل في السجون و مراكز الشرطة. مصائب يشيب لهولها الوِلْدان .
ب. السبب الثاني هو أن الدوّل المتقدّمة تجاوزتنا بسنوات ضوئية و قيّدتنا بنظام عالمي يجعلنا تحت رحمتها و وصايتها. بالنظام العالمي السياسي و الاقتصادي الحالي، لن نتقدّم حتّى لو تحوّلت أنظمتنا إلى أنظمة وطنية و ديمقراطية. الدول المتقدّمة و خاصّة الولايات المتّحدة الأمريكية ليست لها مشكلة مع الأنظمة الدكتاتورية و لكن مشكلتها مع الأنظمة الوطنية التي تسعى إلى التقدّم. و طالما أن أغلب الدول المتخلفة تحكمها دكتاتوريات، فهي متروكة في سبيل حالها. فقد كافهم الحاكم مشقّة التدخّل بأنفسهم. و لنُدْرِك مدى خضوعنا للدوّل المتقدّمة تخيّلوا لو تقطع عنّا الأدوية و الأجهزة الطبية و الإعلامية و الصناعية أو قطع غيار الآلات التي اشتريناها منهم. و في الحاجة تكمن الحرية كما يقال. المجال الوحيد الذي بإمكاننا أن نعمل فيه بدون الحاجة الكلّية لمساعدة أجنية هو مجال الفنون. الأدب و الغناء و التمثيل و الرقص و الرسم....
ما هو الحلّ للخروج من عنق الزجاجة؟ المنطلق الأساسي للخروج من التخلّف هو وجود حاكم وطني، عادل وشجاع. فلا الثورة تفيد، و لا الدساتير التقدّمية تفيد، و لا المؤسسات الوطنية تفيد. و السبب في أنّها لا تفيد، هو أن كلّ هذه الأمور بيد الإنسان و الإنسان قادر على أن يظهر الباطل على أنّه حقّ و الظلم على أنّه إقامة للعدل و الكلمة الحرّة الناقدة على أنّها تآمر على أمن الدولة. فمن أدراك أن بعد الثورة سيكون هناك حاكم وطني وعادل و شجاع، فقد يكون أتعس ممن سبقه. و كم من دستور جيّد وقع العبث به و تأويل فصوله في خدمة المصالح و الأهواء. و كم من مؤسسات وجدت لخدمة المصلحة العامّة و لكن لم يستفدْ منها إلا المقرّبون من الباب العالي.
ما لم يَجُدْ الزمان بحاكم وطني و عادل وشجاع سنظلّ في مؤخرة الأمم. متى يجود الزمان بهذا الحاكم؟ علم ذلك عند الله. أمر مؤسف أن يكون مصير الشعوب في يد المجهول و لكن هذا هو الواقع. لنفترض أن الزمان جاد بهذا الحاكم الوطني و العادل و الشجاع، تأتي هنا العقبة الثانية فماذا يقدر أن يفعل و هو محاصر بنظام عالمي جائر كما ذكرنا سابقا؟ خلاصة القول بمجهودنا الذاتي لن نتقدّم أو في أحسن الحالات سيكون سيرنا كسَيْرِ السلحفاة بحيث لا يكاد يكون هناك فرق بين التقدّم و السكون.
في نظري المتواضع، يكمن الحلّ في التالي: في التقرّب من دولة متقدّمة و مصادقتها. تقرّب من العطّار تشمّ عطره و تقرّب من الفحّام يطالك سواده هكذا يقول المثل. طبعا لن نختار أي دولة و لكن نختار الدولة التي نراهن على أنّها ستنتشلنا من التخلّف. المشكلة أن أي دولة لن تقبل بذلك بدون أن تكون لها هي نفسها مصالح. ماذا يمكن أن نقدّم نحن مقابل الاستفادة من الخدمات التي ستقدّمها الدولة المتقدّمة لنا في المجالات الحيوية؟ نحن لا نملك إلاّ أن نقدّم بعض التنازلات. و هذه التنازلات ستكون على حساب السيادة و الهوية. ما معنى ذلك؟
لنفهم ذلك نأخذ هذه الفرضية. لنفترض أن دولة إفريقية و لتكن الموزمبيق مثلا، عقدت اتفاقا مع اليابان. تلتزم بمقتضاه اليابان أن تحوّل ذلك البلد بفضل إمكانياتها التقنية وخبراتها العلمية في ظرف زمني قصير إلى دولة متقدّمة فتنتشر الطرقات المعبّدة و يعمّ الماء الصالح للشراب و الكهرباء المدن و الأرياف و تكثر المستشفيات و المدارس و المعاهد و الكليات و تنتفي البطالة. و تلتزم الموزمبيق من جهتها بأن تتحوّل إلى مركز لإنتاج و تصدير المنتوجات اليابانية إلى الدول المجاورة باعتبار أن قارّة إفريقيا موجودة بين ثلاث قارّات يحدّها من الشمال أوروبّا و من الغرب أمريكا و من الشرق آسيا. و كذلك تدرّس اللغة اليابانية و تصبح اللغة الثانية في البلاد و تفتح قنوات تلفزية ناطقة باليابانية بحيث تصبح هذه الدولة تابعة سيّاسيا و اقتصاديا لليابان و لكن لا تفرض اليابان على سكّان دولة الموزمبيق أن يتركوا دينهم و لغتهم. هذا هو المقصود بالتنازل جزئيا عن الهوية. طبعا أنا أخذت كمثال اليابان و الموزمبيق، لكن يمكن أن نأخذ مثالا آخر.
السؤال الخطير الآن هو هل نقبل هذا الاقتراح أم نرفضه؟ من يرفض هذه الفرضية هو من أنصار الهوية و من يقبلها، يغلّب التقدّم على المحافظة على الهوية. أنا من دعاة قبوله. قد يقول البعض أن في قبول هذا الاقتراح دفاع عن الاستعمار.
يصعب أن نتحدّث هنا عن استعمار، لأنّ الاستعمار هو تدخّل بالغصب في شؤون دولة ضعيفة و استعباد شعبها. في الاستعمار، القوّي يتسلّط على الضعيف في حالة التي نتحدّث عنها هناك اتفاق و انسجام. في الاستعمار، القوي هو الذي يذهب إلى الضعيف بينما في حالتنا نحن الضعيف هو الذي يذهب إلى القوّي. منذ البداية هناك حوار و اتفاق و ليس تدخّل و تسلّط.
المسألة الجديرة بالنقاش ليست الاستعمار لأن هذا مستبعد و لكن مسألة حدود التقارب بين الدولتين. إلى أي حدّ تنصهر الدولة الضعيفة في الدولة المتقدّمة؟ بتعبير آخر إلى أيّ حدّ تتنازل الدولة عن هويّتها و تاريخها؟ هل نقبل أن نتصهر الدولة الضعيفة في الدولة القوية إلى حدّ الذوبان بحيث تصبح الدولة الضعيفة و كأنّها مجرّد ولاية تابعة للدولة المتقدّمة و هو أمر ينسف تاريخها و هويّتها؟
إن التقارب بين الدولتين مع المحافظة كلّ منهما على هويتها هو أفضل وضع، و لكن إذا اقتضى الأمر أن يكون التقارب أبعد من ذلك فليكن. ألسْنا جميعا أبناء آدم و حواء و بالتالي إخوة؟ إن معرفة التاريخ تشعر الفرد بالانتماء و هذا أمر ايجابي. و التمسّك بالهوية يشعره بالاطمئنان و هذا أمر ايجابي أيضا. و لكن أليس تطوير الحضارة يستلزم مقوّمات أخرى تتجاوز المشاعر لتكون دراية و تكوينا و انفتاحا على الحضارات الأخرى و الاستفادة منها؟ لنكوّن جيلا من المبدعين لا بدّ من أن توفّر لهم الدولة الرعاية الصحّية الجيّدة و التعليم الراقي و البيئة النظيفة كما تمكّنهم أن يتعمّقوا في اختصاصاتهم إلى أبعد ما يكون و لن يكون ذلك إلا بإتقان اللغات الحيّة. و عند الكبر يكون لكلّ موظّف أجر محترم و سكن صحّي و لا يشعر بالضيم من قبل السلطة السياسية.
يجب أن نتساءل أيّهما أفضل للأب أن يترك ابنه متعلّما مواكبا للحضارة الإنسانية في معرفته و أكله وشربه ولباسه و تفكيره أم يتركه ذلك الريفي الذي يسكن أعالي الجبال و متمسّك بعاداته و تقاليده و هويّته؟ يجب أن نتساءل أيّهما أفضل لأبنائنا أن نتركهم في صورة أشخاص متحضّرين يسكنون المدن و يستخدمون وسائل تقنية عصرية، أم نتركهم في صورة ريفيين يرعون الأغنام و الجمال في الصحراء و يلغون الماء من الغدران و كلّ ذلك احتراما للهوية. و هل هذه هويّة تشرّفنا حتّى نتمسّك بها؟ الحقيقة أن التمسّك بالهوية لا يمكن أن يكون هدفا في حدّ ذاته. فالهدف هو راحة الأجيال القادمة و لذلك إذا كان هناك عامل من عوامل الهوية يخدم الأجيال القادمة وجب الاحتفاظ به أمّا إذا كان عائقا فيجب طرحه بغير تردّد.
لماذا التنازل عن الهوية مع التقدّم أفضل من التمسّك بالهوية مع التخلّف؟
التاريخ هو أساس لكن أن يتحوّل ذلك الأساس إلى متحكّم في مصيرنا فإنّه يتحوّل إلى كارثة. مثل الأب الذي ينجب ابنا و يريده أن يكون نسخة منه. هل يمكن أن نبني حضارة قوية اليوم تنبني على الإعلامية و تهدف إلى غزو الفضاء بناء على الماضي. هل بناء حضارة يكون على مقوّمات الماضي أم على مستلزمات الحاضر؟ إن الماضي أساس من حيث هو سابق لا من حيث هو يتحكّم في الحاضر. دوره يقتصر على أنّه الأرضية فقط و ليس له دخل في تسيير الحاضر. هل من حقّ بنّاء المنزل أن يفرض على ساكنيه كيفية العيش فيه؟
التمسّك بالتاريخ يخدم المجتمع روحيا بينما الانفتاح على الحضارة الإنسانية يخدمه مادّيا و الحاجة المادّية أولى من الحاجة الرّوحية. فالإنسان أوّلا و قبل كلّ شيء كائن حيّ له حاجات مادّية و لن يكون مفكّرا و مبدعا بـدون تلبية تلك الحاجات المادّية على الوجه الأفضل. يستطيع الإنسان أن يتغذّى و لا يبدع، لكن لا يستطيع أن يبدع بدون أن يتغذّى تغذية سليمة و يحيا حياة كريمة.
عندما يعتبر الفرد نفسه ابن الإنسانية فإنّه يتواضع و يكفّ عن تقديس حضارته و احتقار الحضارات الأخرى. فيتخلّص من تلك الأنوية المقيتة. على نقيض ذلك فإنّ الانفتاح على الحضارة الإنسانية يمكّن المجتمع من الإطّلاع على ما يستجدّ فيها، فيستفيد منها و يساهم في بنائها في مختلف الميادين.
أبناؤنا في شمال إفريقيا و حتّى من جنوب الصحراء يتسلّلون إلى أوروبّا في قوارب الموت و هم يحلمون بأن لا يعيش أبناؤهم العيش الذي كان لهم. لو يقع استفتاء في دولة إفريقية حول انضمام شعبها إلى دولة متقدّمة لصوّتت الغالبية لصالح الانضمام.
التعديل الأخير: