خالد أمرابظ
كاتب
أكوام الأزبال المتراكمة في أواسط الشارع ليلا، هضاب متفرقة تفوح منها روائح نتة، تتصاعد منها أعمدة دخان كثيرة تغطي المدينة شارعا بشارع، تراها أمواجا تصطدم بسحب السماء الكثيفة دون توقف. العمارات في المدينة لا نوافذ فيها تم إغلاق كل منفذ إليها بإحكام بسبب الروائح العفنة والمترسبة للأزبال في الشوارع، عوضت بمكيفات هوائية وأجهزة ضخمة مستوردة من اليابان وكوريا للتهوية والتبريد، فقد هيأت الحكومة العمارات على شكل قرى نموذجية بأحدث التجهيزات والتقنيات لأجل راحة السكان الجدد أقصد لأبناء الفشوش*، الذين أصبحوا لقمة سهلة الأكل والمضغ والبلع للمحتجين حين كانوا في نعيم فيلاتهم لوحدهم مع نفر حراسهم، فتحولوا للعيش مع السكان المختارين الناقمين على المشردين، محميين بشبابيك وأسلاك حديدية مكهربة، وكلاب مسعورة دربت ولقحت بداء الكلب لفتك المشردين فقط، فهم الخطر الأول والأخير.
كانت كل عمارة تراكم نفاياتها إلى منتصف الليل فيخرجها عمال ببدلات كتلك التي تحوي أجسام علماء الكمياء في مختبراتهم أو تلك التي يرتديها رجال المطافئ، تحت حراسة مشددة من قناصين فوق العمارة يراقبون والكلاب تمشي أمامهم، فالمشردون لم يعودوا كما السابق همجيون يقاتلون بشكل مباشر، بل اختاروا أسلوب الكامندوز؛ الغارة وصنع الكمائن، كان الشاعر فيديركو جارسيا لوركا، من المشاهير الذين وقفوا مع المشردين، حين سمع بقضيتهم، فجاء تلبية لنداء ضميره الحي ولحسه الإنساني المرهف ولتجربته الطويلة في شوارع نيويورك، فاقترح عليهم أسلوب الكامندوز، أسلوب مكن من تحقيق انتصارات عديدة للمشردين، إذا فخطاء واحد لو صغر حجمه للحراس قد يكلف استيلاء المشردين على عمارة مشيدة بكاملها، حرقها وأخذ سكانها رهائن، أو تفجير شاحنة الأزبال داخل القرية وتلك أسوء، فالأزبال لم تعد فقط مكونة من بقايا الطعام بل زرعت فيها قنابل سامة ومواد جرثومية، في مختبرات داخل القرية ستصيب المشردين بأمراض خطيرة، لذا فعملية النقل تتم تحت حراسة مشددة وبحذر شديد.
لم يكن هناك احتجاج ولا مظاهرة بل أمن وأمان، أناس ينامون وآخرون يستيقظون للشارع هو مأكلهم وملبسهم ومشربهم دون فوضى أو ضجيج، مع ازدياد الفقراء بسبب الأزمة المالية ونزوح أهالي الريف للمدن بسبب الجفاف، تأزم سكان العمارات وتأففوا من ضيق العيش، فسعوا لتفريغ أزمتهم النفسية على سكان الشارع أقصد المشردين، هم وحدهم من سيتحمل هذا السخط. يقول محمد شكري وهو من المثقفين المشردين:
مورس علينا حصار شديد وخانق، ولشدة حقد سكان العمارات الذين هم أهالينا في الأصل ونحن أبناءهم، دافعوا بغير حق من أجل سحقنا، فقد طبق حظر التجوال علينا، الشيء الذي لم يحدث في التاريخ، حدث في هذه الأقاليم، فكيف سيمنعوننا من الخروج، الشارع كما قال الشيخ بيتنا وكلمتنا، هو مأوانا، إنه لنا وليس لكم الحق في مصادرته. كان عمدة المدينة المتسلط الملقب بشابلان؛ ليس لشبه مع شابلان الممثل بل لأنه لم يُر في الساسة سياسي بقبعة سوداء وعصا كتلك التي كانت للسيد شارلي، أما اسمه الحقيق فهو الحاج أحيوظ* وهو من أصول أمازيغية مغربية، قد تلا بيان الحظر لم يكمله حتى طبق بعنف، ذلك لكثير الشكايات التي تلقاها مكتبه خصوصا شديدة اللهجة تلك التي جاءت من مايكل أولفير سيد شركات النسيج الأول في البلاد:
لقد لوث المشردون الشارع اجتثهم قبل أن أجتثك أيها الأحمق.
لكن ما أجج الاحتجاج وأشعل فتيل الثورة كما يقال، هو ليلة طحن قرد لعجوز محبوب لدى جميع المشردين، يعمل حكواتي، به يعيل أسرته المتفرعة إلى جذور كثيرة تحت الأرض أيام السلم، بشاحنة النفايات بعد أن كان عائدا لسكناه تحت الأرض. كانت كاميرا مراقبة على الشاحنة سجلت عملية الطحن التراجيدية المؤلمة، فنشر العمال التسجيل على مواقع التواصل الاجتماعي بكل وقاحة ما استفز المشردين أكثر، فقد كانت اهانة بحق. تظاهر المشردون في الشوارع احتجاجا، لكن القمع الذي ووجهت به المظاهرة فاقم الوضع وأججه فدخلوا في عصيان مدني شل كل مؤسسات المدينة.
من اعتقد أن هؤلاء الحثالة سيفعلون هذا وهم الهاربون من الحياة دائما. تصريح شابلان هذا لأحدى الجرائد الوطنية تعليقا على العصيان المدني الذي انتقل إلى عديد المدن، سيكون له سيل جارف، سيأتي على كل شيء.
كانت الشاحنة في التسجيل تلقف وتطحن كل ما يقع بين فكيها، في لحظة ظهر عجوز يستنجد، لكن العمال القريبين منه غارقين في ثيابهم المعدنية، لا سمعوه ولا شعروا به، فمهمتهم الرمي فقط داخل الشاحنة لا التفحص أو الإنقاذ، وعندما رآه السائق على المرآة الأمامية للشاحنة خرج عليه غاضبا بالصفع والركل.
حركت الأقدار أوراقها وزامنت تصريح العمدة مع انتشار الفيديو، ليزيد شرارة الفتيل. خُلخل الأمن والعيش في البلاد ككل فمالت بكل ثقلها على المقهورين جميعا؛ ثار المشردون في كل المدن في انتفاضة سموها بثورة المشردين، على غرار ثورة الزنوج وثورة الطلاب؛ يطالبون فيها بالعدل والمساواة كباقي حركات التحرر العالمية في وقت كان فيه المشرد هو من ترك الوطن قناعة لا الوطن من تركه، باحثا عن هَناه.
شارك في الثورة مثقفون وسياسيون وإعلاميون كبار من كل بقاع العالم، كأندرسون كوبر، وميلان كونديرا، والسيد إيشرو أودا حتى أن هناك من لمح تشي غيفارا رابطا بين الصفوف صامدا، فهل كانت الرؤية لحماس الثوار أم أن روح تشي لازالت تسعى لمعانقة الحرية؟ فرغم الإنزال الوازن والمكثف لهذه الشخصيات وانضمام الكثير من سكان القرى والمداشر ومن القبائل الرحل، حتى أولائك الذين دمرت حياتهم في بداية الاحتجاجات، واعتبروا أن المشردين عار وعالة على المدن يجب سحقهم، اعتنقوا أفكار المشرد وصاروا يدافعون عنهم؛ ففي هذا الوطن جميعنا مشردون، أمام هذا الصمود التاريخي للمشردين، والوجه المشرق للنضال والثورة، لم تتوقف أسلاك الاتصالات لأجهزة الدولة، فقد طالت، تكثفت، ثم قطعت نهائيا، فوضعت أمام حل رادع واحد لا ثاني له؛ ليلة رعب ثانية.
*ليلة الرعب الأولى هي تلك التي عاشتها باريس، أو مايسمى مدبحة سان بارتيليمي هي مدبحة حدثت في فرنسا عام 1572 والتي ذبح خلالها ما يزيد عن 30 ألف بروتستانتي فرنسي على يد السلطات الكاثوليكية "والمتعصبين من الكاثوليك".
*أبناء الفشوش أقصد أبناء الطبقة الحاكمة.
*أحيوظ بالأمازيغية تعني أحمق.
14-05-2017
كانت كل عمارة تراكم نفاياتها إلى منتصف الليل فيخرجها عمال ببدلات كتلك التي تحوي أجسام علماء الكمياء في مختبراتهم أو تلك التي يرتديها رجال المطافئ، تحت حراسة مشددة من قناصين فوق العمارة يراقبون والكلاب تمشي أمامهم، فالمشردون لم يعودوا كما السابق همجيون يقاتلون بشكل مباشر، بل اختاروا أسلوب الكامندوز؛ الغارة وصنع الكمائن، كان الشاعر فيديركو جارسيا لوركا، من المشاهير الذين وقفوا مع المشردين، حين سمع بقضيتهم، فجاء تلبية لنداء ضميره الحي ولحسه الإنساني المرهف ولتجربته الطويلة في شوارع نيويورك، فاقترح عليهم أسلوب الكامندوز، أسلوب مكن من تحقيق انتصارات عديدة للمشردين، إذا فخطاء واحد لو صغر حجمه للحراس قد يكلف استيلاء المشردين على عمارة مشيدة بكاملها، حرقها وأخذ سكانها رهائن، أو تفجير شاحنة الأزبال داخل القرية وتلك أسوء، فالأزبال لم تعد فقط مكونة من بقايا الطعام بل زرعت فيها قنابل سامة ومواد جرثومية، في مختبرات داخل القرية ستصيب المشردين بأمراض خطيرة، لذا فعملية النقل تتم تحت حراسة مشددة وبحذر شديد.
لم يكن هناك احتجاج ولا مظاهرة بل أمن وأمان، أناس ينامون وآخرون يستيقظون للشارع هو مأكلهم وملبسهم ومشربهم دون فوضى أو ضجيج، مع ازدياد الفقراء بسبب الأزمة المالية ونزوح أهالي الريف للمدن بسبب الجفاف، تأزم سكان العمارات وتأففوا من ضيق العيش، فسعوا لتفريغ أزمتهم النفسية على سكان الشارع أقصد المشردين، هم وحدهم من سيتحمل هذا السخط. يقول محمد شكري وهو من المثقفين المشردين:
مورس علينا حصار شديد وخانق، ولشدة حقد سكان العمارات الذين هم أهالينا في الأصل ونحن أبناءهم، دافعوا بغير حق من أجل سحقنا، فقد طبق حظر التجوال علينا، الشيء الذي لم يحدث في التاريخ، حدث في هذه الأقاليم، فكيف سيمنعوننا من الخروج، الشارع كما قال الشيخ بيتنا وكلمتنا، هو مأوانا، إنه لنا وليس لكم الحق في مصادرته. كان عمدة المدينة المتسلط الملقب بشابلان؛ ليس لشبه مع شابلان الممثل بل لأنه لم يُر في الساسة سياسي بقبعة سوداء وعصا كتلك التي كانت للسيد شارلي، أما اسمه الحقيق فهو الحاج أحيوظ* وهو من أصول أمازيغية مغربية، قد تلا بيان الحظر لم يكمله حتى طبق بعنف، ذلك لكثير الشكايات التي تلقاها مكتبه خصوصا شديدة اللهجة تلك التي جاءت من مايكل أولفير سيد شركات النسيج الأول في البلاد:
لقد لوث المشردون الشارع اجتثهم قبل أن أجتثك أيها الأحمق.
لكن ما أجج الاحتجاج وأشعل فتيل الثورة كما يقال، هو ليلة طحن قرد لعجوز محبوب لدى جميع المشردين، يعمل حكواتي، به يعيل أسرته المتفرعة إلى جذور كثيرة تحت الأرض أيام السلم، بشاحنة النفايات بعد أن كان عائدا لسكناه تحت الأرض. كانت كاميرا مراقبة على الشاحنة سجلت عملية الطحن التراجيدية المؤلمة، فنشر العمال التسجيل على مواقع التواصل الاجتماعي بكل وقاحة ما استفز المشردين أكثر، فقد كانت اهانة بحق. تظاهر المشردون في الشوارع احتجاجا، لكن القمع الذي ووجهت به المظاهرة فاقم الوضع وأججه فدخلوا في عصيان مدني شل كل مؤسسات المدينة.
من اعتقد أن هؤلاء الحثالة سيفعلون هذا وهم الهاربون من الحياة دائما. تصريح شابلان هذا لأحدى الجرائد الوطنية تعليقا على العصيان المدني الذي انتقل إلى عديد المدن، سيكون له سيل جارف، سيأتي على كل شيء.
كانت الشاحنة في التسجيل تلقف وتطحن كل ما يقع بين فكيها، في لحظة ظهر عجوز يستنجد، لكن العمال القريبين منه غارقين في ثيابهم المعدنية، لا سمعوه ولا شعروا به، فمهمتهم الرمي فقط داخل الشاحنة لا التفحص أو الإنقاذ، وعندما رآه السائق على المرآة الأمامية للشاحنة خرج عليه غاضبا بالصفع والركل.
حركت الأقدار أوراقها وزامنت تصريح العمدة مع انتشار الفيديو، ليزيد شرارة الفتيل. خُلخل الأمن والعيش في البلاد ككل فمالت بكل ثقلها على المقهورين جميعا؛ ثار المشردون في كل المدن في انتفاضة سموها بثورة المشردين، على غرار ثورة الزنوج وثورة الطلاب؛ يطالبون فيها بالعدل والمساواة كباقي حركات التحرر العالمية في وقت كان فيه المشرد هو من ترك الوطن قناعة لا الوطن من تركه، باحثا عن هَناه.
شارك في الثورة مثقفون وسياسيون وإعلاميون كبار من كل بقاع العالم، كأندرسون كوبر، وميلان كونديرا، والسيد إيشرو أودا حتى أن هناك من لمح تشي غيفارا رابطا بين الصفوف صامدا، فهل كانت الرؤية لحماس الثوار أم أن روح تشي لازالت تسعى لمعانقة الحرية؟ فرغم الإنزال الوازن والمكثف لهذه الشخصيات وانضمام الكثير من سكان القرى والمداشر ومن القبائل الرحل، حتى أولائك الذين دمرت حياتهم في بداية الاحتجاجات، واعتبروا أن المشردين عار وعالة على المدن يجب سحقهم، اعتنقوا أفكار المشرد وصاروا يدافعون عنهم؛ ففي هذا الوطن جميعنا مشردون، أمام هذا الصمود التاريخي للمشردين، والوجه المشرق للنضال والثورة، لم تتوقف أسلاك الاتصالات لأجهزة الدولة، فقد طالت، تكثفت، ثم قطعت نهائيا، فوضعت أمام حل رادع واحد لا ثاني له؛ ليلة رعب ثانية.
*ليلة الرعب الأولى هي تلك التي عاشتها باريس، أو مايسمى مدبحة سان بارتيليمي هي مدبحة حدثت في فرنسا عام 1572 والتي ذبح خلالها ما يزيد عن 30 ألف بروتستانتي فرنسي على يد السلطات الكاثوليكية "والمتعصبين من الكاثوليك".
*أبناء الفشوش أقصد أبناء الطبقة الحاكمة.
*أحيوظ بالأمازيغية تعني أحمق.
14-05-2017
التعديل الأخير: