حسن الولهازي
كاتب
الموضوع: إذا كان الآخر حاضرا معنا على الدّوام فهل في ذلك تهديد لفرديتنا؟
الـتـمـهـيـــد
الإنسان كائن واع. و أهمّ معاني هذا الوعي أنّه لا يدرك فقط ما يحيط به بل الأهمّ من ذلك هو أنّه يعي بذاته ككيان مستقلّ له خصوصيته. و تبعا لذلك يظلّ يجتهد طيلة حياته لإثبات ذاته وإظهار قيمته. هذا الاجتهاد في إثبات الذات يتمّ في إطار اجتماعي. فالآخر حاضر معنا على الدوام.
المشـكـل
هل يسمح الآخر للأنا بتحقيق ذاته؟ هل يترتّب عن الحضور الدائم للآخر تهديد لفرديتنا أم إثراؤها؟
الـتـحـلـيــل
I. الآخر بما هو تهديد لفرديتنا
1. تحديد الآخر بما هو المختلف نفسيا و اجتماعيا و ثقافياعندما نتأمّل القاّرات ونتفحّص ثقافات الشعوب التي تسكنها نقف على اختلافات كبيرة. فشتّان بين الذي يسكن في القطب الشمالي وبين الذي يسكن في خط الاستواء ويظهر هذا التصادم الحضاري عند الهجرة. فلكلّ مجتمع ظروف وتاريخ و موقع جغرافي وكلّها أمور و إن كانت لا تخلق تماثلا بين أفراده إلاّ أنّها توحّدهم إلى الحدّ الذي نستطيع أن نتكلّم فيه عن شخصية أساسية لذلك المجتمع مختلقة تماما عن الشخصية الأساسية في مجتمع آخر. كقولنا إن الصيني يختلف عن المغربي. وقد يذهب في ظنّنا أن امتلاك كلّ فرد من المجتمع للشخصية الأساسية يوحّدهم أو على الأقلّ يقرّبهم من بعضهم البعض، أبدا! فهم يظهرون متقاربين في عين الغريب ولكن هم في ما بينهم مختلفون كثيرا. صحيح أنّهم يتعايشون في ما بينهم وصحيح أن هذا الاختلاف يتّسع أحيانا ويضيق أحيانا أخرى ولكنّه حاصل. هذا الاختلاف حاصل حتّى بين أفراد العائلة الواحدة بين الزوج والزوجة، بين الآباء و الأبناء وبين الإخوة والسبب في ذلك هو أن لكلّ فرد مشاغله و همومه وطموحاته. كلّ فرد عالم بأسره.
2. دلالة الحضور الدائم للآخر
طبعا عندما نتحدّث عن التعايش بين أفراد العائلة أو بين أفراد المجتمع أو ما نسمّيه الحضور الدائم للآخر، يجب أن نفهم هذا الحضور في معناه الشامل. صحيح أن الآخر يعايشني أي أنّه موجود في محيطي و أحتكّ به يوميا في أماكن مختلفة وأوقات مختلفة كما يظهر ذلك في قطاع الاقتصاد (بيع و شراء وعمل في المصانع) والتعليم الصحّة... و لكن الأهمّ من ذلك أن الآخر حاضر معي ككيان مستبطن شبيه بما يسمّيه دوركهايم الضمير الأخلاقي أو ما يسمّيه فرويد الأنا الأعلى. أثناء عملية التربية يستبطن الفرد القواعد الأخلاقية في مجتمعه و تظلّ تتحكّم فيه طيلة حياته وما الندم إلاّ دليل على ذلك. فليس الضمير الأخلاقي إلاّ صوت الآخر فينا. فالآخر ليس فقط ذلك الذي يقف قبالتي بل هو حزء من كياني. فهل بعد هذا نتحدّث عن استقلالية للفرد؟
3. دلالة التهديد لفرديتنا
و يا ليت مشكلة الأنا مع الآخر تتوقّف عند الحضور المستمرّ و المقيت بل الأمر يمكن أن يتعدّى ذلك إلى التهديد. و هذا التهديد يتوقّف على نوعية حضور الآخر. فإذا كان الآخر مستبطن في شكل ضمير، يمكن أن يؤدّي هذا الضمير بصاحبه إلى الانتحار إذا كان قاسيا. و كم من أمّ تلقي برضيعها في مصبّ القمامة بسبب خوفها من المجتمع. و إن كان هذا الآخر يقف قبالتي فحدّث ولا حرج. فالسبّ والشتم و الاستفزازات لا حدود لها وقد تتطوّر أحيانا إلى اللكم و الركّل و القتل وغير ذلك من الجرائم.
وكما يوجد صراع بين الأفراد في نطاق ضيّق، يوجد كذلك صراع بين المجتمعات و الشعوب و يكون ذلك في شكل هيمنة ثقافية و استغلال اقتصادي و حتّى حروب و استعمار.
نستخلص من مما سبق أن للآخر أشكال مختلفة من الحضور وأشكال مختلفة من التهديد لفرديتنا.
الواقع أن لفظة "الآخر" هي لفظة تغالطنا لأنّها تجمّع المختلف. فالآخر هو مجموعة من الأفراد المختلفين، فهل كلّ الأحكام التي أصدرناها على الآخر تنطبق على كلّ الأفراد؟ قلنا أن الآخر يهدّد فرديتي، فهل يعني هذا أن كلّ الأفراد الذين أحتكّ بهم يهدّدون فرديتي؟
II. الآخر بما هو إثراء لفرديتنا
1. الآخر مقوّم أساسي لبنية الإنية
أوّلا و قبل كلّ شيء يجب أن نقرّ أنّه ما كانت لتكون لكلّ فرد شخصية نراها الآن مستقلّة لو لا تدخّل الآخر بعملية التربية. فمعروف أن الإنسان يولد كتلة صغيرة من اللحم. و العائلة هي التي تربّيه وتعلّمه وتكسبه لغة و تنشئه على مجموعة من العادات و التقاليد. وفي تلك الفترة فترة الطفولة يتكوّن للطفل الضمير الأخلاقي. صحيح أن هناك عائلات تربّي الطفل تربية سيّئة فيتحوّل عندما يكبر إلى مجرم يهدّد غيره، لكن ليست كلّ العائلات لا تحسن التربية. و العائلات الجيّدة أكثر من العائلات السيّئة. فالتربية الفاضلة تكوّن ضميرا أخلاقيا حسنا و هذا من شأنه أن يحمي الطفل في حياته من الوقوع في الزلل ومخاطر التهوّر. من ذلك التكوين تنشأ للطفل شخصية مستقلّة لها ميولها وطموحاتها ومواقفها. فلو لا الآخر ما كانت لتكون لكلّ واحد منّا شخصية بل ما كان ليكون إنسانا أصلا إذا نظرنا للإنسان في بعديْه البيولوجي والثقافي لا البيولوجي فقط.
2. الآخر يثري هويتنا الثقافية
هل يقف دور الآخر على عملية التربية فقط؟ طبعا لا! فهويتنا تظلّ مفتوحة على التكوين و الاستفادة من الآخر طيلة حياتها. فبعد التربية في الأسرة و المدرسة والجامعة، هناك العمل و الزواج وتربية الأبناء... وفي كلّ هذه المشاغل هناك احتياج للآخر واستفادة منه. فلا يمكن لشخص واحد أن يكون طبيبا وحدّادا وتاجرا في نفس الوقت. و المسألة لا تقتصر على تلبية الحاجيات فقط، إذ أن كلّ احتكاك مع الآخر هو تجربة حياتية فيها فائدة و درس و عبرة وفي النهاية تعدّل فلسفة الأنا في الحياة. فيكون متفائلا أو متشائما، جسورا أن عديم الحيلة... ويكون إثراء الهوية أكبر و الاستفادة أعظم إذا توسّعت تجربة الفرد. فيحتك بمجتمعات أجنبية ويطّلع على ثقافات مغايرة لثقافته الأم. وهذا ما نشهده اليوم في ظلّ انتشار الأنترنت واللاقط للتلفزة و الهواتف المنقولة. فهناك من تعلّم حرفا ولغات وتقنيات وذلك بفضل الأنترنت و وسائل التواصل الاجتماعي. وقد يعجب الواحد منّا بباب صنع في دولة من دول أمريكا اللاتينية فيسجّله في هاتفه المنقول ويحمله إلى الحدّاد ويطلب منه أن يصنع مثله. فتنتقل التقنيات و المعارف من قارّة إلى أخرى في دقائق. وهكذا يثري كلّ صانع وكلّ عامل معارفه وتجاربه و بالتالي هويته. فهل بعد كلّ هذا نقول إن الآخر يهدّد هويتنا بإطلاق؟ طبعا لا!
الـخاتـمـــة
خلاصة القول إن الحكم على الآخر بأنّه يهدّد فرديتنا هو حكم خاطئ لأنّه حكم مطلق. والواقع أن في الآخر هناك أناس أشقياء يهدّدون فرديتنا وهناك أناس طيّبون يساعدوننا على إثراء كياننا. و المهمّ في كلّ ذلك هو أن نكفّ نحن عن ذمّ الآخر و التشكّي منه و نكون في مستوى ما ينتظره منّا.