يفد علي بن الجهم الذي عاش بمنتصف القرن الثالث الهجري - وكان بدويًّا فظا أو بدويا جافا قاسيا أثرت فيه البادية كثيرا كما يورد ابن عربي - على الخليفة المتوكل فينشد بين يديه قصيدة جاء فيها :
انت كالكلب في حفظك للود = وكالتيس في قراع الخطوبِ
انت كالدلو، لا عدمناك دلواً = من كبار الدلا، كبيرَ الذنوبِ
ولان اجود الشعر اصدقه بحسب النقاد، فلم يستغرب الخليفة لقول هذا البدوي الفصيح، وسط استغراب الحضور الذين أجمعوا على ضربه، فقد فطن الى براءة مشاعره، ورقّة احساسه، وصدق مقصده، وخشونة لفظه، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة بها بستان فسيح ومنظر بهيج، ومأكل حسن وفراش نعيم، فأقام على ذلك مدة ثم جاء الى الخليفة لينشد بين يديه قصيدة يقول مطلعها
عيون المها بين الرصافة والجسر = جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فيصيح المتوكل: انظروا كيف تغيرت به الحال، والله خشيت عليه ان يذوب رقة ولطافة.
هكذا ترد قصة هذين البيتين بين مصدق ومشكك، لأن ظاهر القول فيهما هجو حتى وان جاء عن حسن نية لان القصة قد تبدو مصطنعة وتحوي كما من الخيال والصنعة.
جاء في مقال لــ د. عبد الله بن سليم الرشيد، نُشِر في المجلة العربية - عدد ( 250 ) ذو القعدة 1418 ص 58
"أقول : هكذا وردت القصة - بتصرف يسير - في محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار لابن عربي الصوفي ( 2/3 ) وعنه نقل محمد أحمد جاد المولى وصاحباه في قصص العرب (3/298) وخليل مردم في تحقيقه لديوان علي بن الجهم (حاشية ص 143) فالمصدر واحد لا ثاني له، وقد حاولت أن أجد لها أصلاً في كتب المتقدمين كالجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن عبد ربه وآخرين فلم أقع على شيء من ذلك، وهذا وحده كاف في توهينها .
فإذا عرفت أن ابن عربي أسند روايتها إلى مجهول فقال: ( حكى لنا بعض الأدباء …) زاد وهنها عندك، علما أن بين ابن الجهم ( ت 249هـ) وابن عربي ( ت 638هـ) ما يقارب أربعة قرون ، فأين انزوت هذه القصة الطريفة طوال أربعمائة سنة ؟!
زد إلى ذلك أن ابن عربي نفسه متّهم في دينه، مطعون في إيمانه، بل متهم بالكفر، نقل ذلك فيمن نقل الذهبي (سير أعلام النبلاء: 23/48 ) فقال: إن الشيخ العز بن عبد السلام يقول عن ابن عربي: (شيخ سوء كذاب)، وقال الذهبي نفسه: (ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص، فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر). فهذا الذي يتهم بالكفر كيف لا يتهم بصناعة قصة طريفة يأنس بها الناس ويهشون إليها ؟
أما وقد تسرّب الشكّ إلى نفسك في صحة هذه القصة - من حيث تفرّد امرئ مغموز في دينه ، متأخّر زمنه بروايتها - فاعلم أن متن القصة يحوي شيئاّ يكذبها :
قال: ( إن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً )، والتاريخ يقول خلاف هذا، ففي معجم الشعراء للمرزباني ( ص 286) أن أصله من خراسان، ولا يعني هذا أنه غير عربي، ونقل عمر فروخ ( تاريخ الأدب العربي 2/289) أنه ولد ببغداد عام 188هـ ، وفي طبقات الشعراء لابن المعتز (ص 319) ما يدل على أنه حضري لا صلة له بالبادية، فقد روي أنه حبس في المكتب، فكتب إلى أمه:
يا أمّـنا أفـديك من أمّ = أشكو إليك فظاظة الجهم
قد سرّح الصبيان كلهم = وبقيت محبوسـاً بلا جرم
وفي تاريخ الطبري ( 9/152) أن علي بن الجهم مدح الواثق بعد أن ولي الخلافة، وهذا يدلّ على صلته بالخلفاء قبل المتوكل، وعلى معرفته بما يلائم وما لا يلائم من فنون القول وضروب التشبيه .
وفي هذه القصة لفحة شعوبية تريد تصوير العرب أجلافاً لا يعرفون ذوقاً، ولا يدركون الحسن من السيء، ولذا جاء هذا البدوي فشبه الخليفة بالتيس والكلب والدلو - على سليقته زعموا - وعنده أن هذه الأشياء خير ما يشبه به.
والتاريخ الأدبي يكذب هذه الفرية، فالعرب لم تمدح أحداً بتشبيهه بالحمار أو التيس أو الكلب، وهذا أدبهم بين أيدينا، إنما شبّهوا بالبحر والقمر والشمس والسماء والجبل وغيرها من المشبهات الحسنة، أما عند الهجاء فلا عجب أن يشبهوا بالكلب أو الدلو أو ما قلّ وحقر في عيونهم.
هذا وقد وصف خليل مردم هذه القصة بأنها خيالية، وقال: إن أثر الوضع ظاهر عليها (انظر ديوان ابن الجهم ص 117،143) ولكنه لم يبيّن سبب شكّه، ومع ذلك أثبت البيتين الواردين فيها ضمن الديوان (ص117) واكتفى بقوله: ( والذي نراه - إن صحت نسبة البيتين له - أنه قالهما في أحد مجالس المتوكل يعبث ببعض الندماء أو المضحكين ).
أقول : إذا ثبت فساد القصة – و قد ثبت - فلا يصحّ أن يلحق البيتان بديوان ابن الجهم ؛ لعدم ورودهما في المصادر المتقدمة ، و لو أن مردماً جعلهما في آخر الديوان في ضمن ما ينسب للشاعر مع تحقيق ذلك لكان أولى"
انتهى كلام د. عبد الله بن سليم الرشيد
و تعد هذه القصيدة من بين اجمل النصوص الشعرية التي نظمها علي بن الجهم، استهلها بالنسيب على العادة التقليدية المتبعة ثم لمح الى محاسن ومباهج مدينة بغداد، وبداعة بساتينها، وجمال عيون حسانها، ثم خلصت الى مدح الخليفة المتوكل، ولهذه القصيدة اكثر من قصة كلها غاية في الطرافة والغرابة والتناقض والاختلاف ايضا.. اذ يشيع بين دارسي الأدب أن علي بن الجهم كان بدوي النشأة خشن الألفاظ خشن المعاشرة لعدم مخالطته لاهل الحضر، كما ذكر بعض كتاب السير والتراجم، والأمر غير صحيح كما يبدو من نتف أشعاره التي تدل على انه ليس من اهل البداوة، كما جاء في "معجم الشعراء" للمرزباني، و"طبقات الشعراء " لابن المعتز، ونقل عنهم عمر فروخ في "تاريخ الأدب العربي" مما يثبت ان اصله عربي وليس اعجميا.. وجاء في تاريخ الأمم والملوك لمحمد بن جرير الطبري انه خالط الخلفاء واتصل بالخليفة الواثق ومدحه قبل ان يفد على المتوكل العباسي وينشده القصيدة المعروفة يمدحه من خلالها:
أنت كالكلب في حفاظك للود = وكالتيس في قِراع الخطـوب
أنت كالدلو ، لا عدمناك دلواً = من كبار الدلا كثيـر الذنـو
وتقول الحكاية بان المتوكل اعترف حسن نية شاعرنا ومقصوده، وتفهم أن ما شبه به إلا لملازمته فأكرمه، وأمر له بدار حسنة تطل على ضفاف نهر دجلة قريبا من الجسر، حيث البساتين الزاهرة، والهواء العليل، والجو اللطيف، وامر له بأطيب وألذ المأكل، فأقام أشهرا في بحبوحة عيش بين مجالسات ومسامرات ومذاكرات المتأدبين، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده قصيدة مغايرة يقول مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسـر = جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن = سلوت ولكن زدت جمـرا على جمـر
حتى إن المتوكل قال: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة
وقد اورد الحكاية كل من العصامي في "سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي"، وابن خلكان صاحب "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" وهو من أشهر كتب التراجم، ومن أحسنها ضبطا وإحكاما، وجاءت في " ومسامرات الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار" للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي ، وهو المصدر الوحيد فيما يبدو الذي نقل عنه محمد أحمد جاد المولى في قصص العرب، فيما شكك خليل مردم الذي تعهد بشرح ديوان علي بن الجهم في صحتها، وقال " إن اثر الوضع ظاهر عليها "، لأن ابن عربي أسند روايتها إلى مجهول فقال: ( حكى لنا بعض الأدباء...) وعلق بالقول: " والذي نراه - إن صحت نسبة البيتين له - أنه قالهما في أحد مجالس المتوكل يعبث ببعض الندماء أو المضحكين"، لان الامر كما يبدو نسج خيال ولا يمت بصلة لأشعار العرب، ولا لهذا النوع من المديح الذي يصف المرء بالكلب والتيس وسائر الحيوانات الا اذا كان هجاء او تنقيصا من قيمة الممدوح... علما ان لعلي بن الجهم اشعارا رقيقة
وقد ساقت كتب السير والآداب لابن الجهم العديد من الاشعار الرقيقة منها:
طَلَعَت وَهِيَ في ثِيابِ حِدادٍ = طَلعَةَ البَدرِ مِن خِلالِ السَحابِ
بِتُّ في اللَهوِ وَاللَذاذَةِ لَيلي = أَرشِفُ الشُهدَ مِن ثُنايا عِذابِ
تَتَجَنّى وَساعَةً تَتَراضى = عَبَثاً وَالقُلوبُ غَيرُ غِضابِ
وَشَرِبنا مِنَ العِتابِ كُؤوساً = وَجَعَلنا التَقبيلَ نقلَ الشَرابِ
قراءة ماتعة
والى قصيدة قادمة وقصة جديدة
نقوس المهدي
*********************
القصيدة الرصافية
علي ابن الجهم
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ = جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن = سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ كَأَنَّما = تُشَكُّ بِأَطرافِ المُثَقَّفَةِ السُمرِ
وَقُلنَ لَنا نَحنُ الأَهِلَّةُ إِنَّما = تُضيءُ لِمَن يَسري بِلَيلٍ وَلا تَقري
فَلا بَذلَ إِلّا ما تَزَوَّدَ ناظِرٌ وَلا = وَصلَ إِلّا بِالخَيالِ الَّذي يَسري
أحينَ أزحنَ القَلبَ عَن مُستَقَرِّهِ = وَأَلهَبنَ ما بَينَ الجَوانِحِ وَالصَدرِ
صددنَ صدودَ الشاربِ الخمر عندما = روى نفسَهُ عن شربها خيفةَ السكرِ
ألا قَبلَ أَن يَبدو المَشيبُ بَدَأنَني = بِيَأسٍ مُبينٍ أَو جَنَحنَ إِلى الغَدرِ
فَإِن حُلنَ أَو أَنكَرنَ عَهداً عَهِدنَهُ = فَغَيرُ بَديعٍ لِلغَواني وَلا نُكرِ
وَلكِنَّهُ أَودى الشَبابُ وَإِنَّما = تُصادُ المَها بَينَ الشَبيبَةِ وَالوَفرِ
كَفى بِالهَوى شُغلاً وَبِالشَيبِ زاجِراً = لَوَ اَنَّ الهَوى مِمّا يُنَهنَهُ بِالزَجرِ
أَما وَمَشيبٍ راعَهُنَّ لَرُبَّما = غَمَزنَ بَناناً بَينَ سَحرٍ إِلى نَحرِ
وَبِتنا عَلى رَغمِ الوُشاةِ كَأَنَّنا = خَليطانِ مِن ماءِ الغَمامَةِ وَالخَمرِ
خَليلَيَّ ما أَحلى الهَوى وَأَمَرَّهُ = وَأَعلَمَني بِالحُلوِ مِنهُ وَبِالمُرِّ
بِما بَينَنا مِن حُرمَةٍ هَل رَأَيتُما = أَرَقَّ مِنَ الشَكوى وَأَقسى مِنَ الهَجرِ
وَأَفضَحَ مِن عَينِ المُحِبِّ لِسِرِّهِ = وَلا سِيَّما إِن أَطلَقَت عَبرَةً تَجري
وَما أَنسَ مِ الأَشياءِ لا أَنسَ قَولَها = لِجارَتِها ما أَولَعَ الحُبَّ بِالحُرِّ
فَقالَت لَها الأُخرى فَما لِصَديقِنا = مُعَنّىً وَهَل في قَتلِهِ لَكِ مِن عُذرِ
عِديهِ لَعَلَّ الوَصلَ يُحييهِ وَاِعلَمي = بِأَنَّ أَسيرَ الحُبِّ في أَعظَمِ الأَمرِ
فَقالَت أَداري الناسَ عَنهُ وَقَلَّما = يَطيبُ الهَوى إِلّا لِمُنهَتِكِ السِترِ
وَأَيقَنَتا أَن قَد سَمِعتُ فَقالَتا مَنِ = الطارِقُ المُصغي إِلَينا وَما نَدري
فَقُلتُ فَتىً إِن شِئتُما كَتَمَ الهَوى = وَإِلّا فَخَلّاعُ الأَعنَّةِ وَالعُذرِ
عَلى أَنَّهُ يَشكو ظَلوماً وَبُخلَها = عَلَيهِ بِتَسليمِ البَشاشَةِ وَالبِشرِ
فَقالَت هُجينا قُلتُ قَد كانَ بَعضُ = ما ذَكَرتِ لَعَلَّ الشَرَّ يُدفَعُ بِالشَرِّ
فَقالَت كَأَنّي بِالقَوافي سَوائِراً = يَرِدنَ بِنا مِصراً وَيَصدُرنَ عَن مِصرِ
فَقُلتُ أَسَأتِ الظَنَّ بي لَستُ شاعِراً = وَإِن كانَ أَحياناً يَجيشُ بِهِ صَدري
صِلي وَاِسأَلي مَن شِئتِ يُخبِركِ أَنَّني = عَلى كُلِّ حالٍ نِعمَ مُستَودَعُ السِرِّ
وَما أَنا مِمَّن سارَ بِالشِعرِ ذِكرُهُ = وَلكِنَّ أَشعاري يُسَيِّرُها ذِكري
وَما الشِعرُ مِمّا أَستَظِلُّ بِظِلِّهِ = وَلا زادَني قَدراً وَلا حَطَّ مِن قَدري
وَلِلشِّعرِ أَتباعٌ كَثيرٌ وَلَم أَكُن = لَهُ تابِعاً في حالِ عُسرٍ وَلا يُسرِ
وَما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها = وَلا كُلُّ مَن أَجرى يُقالُ لَهُ مُجري
وَلكِنَّ إِحسانَ الخَليفَةِ جَعفَرٍ = دَعاني إِلى ما قُلتُ فيهِ مِنَ الشِعرِ
فَسارَ مَسيرَ الشَمسِ في كُلِّ بَلدَةٍ = وَهَبَّ هُبوبَ الريحِ في البَرِّ وَالبَحرِ
وَلَو جَلَّ عَن شُكرِ الصَنيعَةِ مُنعِمٌ = لَجَلَّ أَميرُ المُؤمِنينَ عَنِ الشُكرِ
فَتىً تَسعَدُ الأَبصارُ في حُرِّ وَجهِهِ = كَما تَسعَدُ الأَيدي بِنائِلِهِ الغَمرِ
بِهِ سَلِمَ الإِسلامُ مِن كُلِّ مُلحِدٍ = وَحَلَّ بِأَهلِ الزَيغِ قاصِمَةُ الظَهرِ
إِمامُ هُدىً جَلّى عَنِ الدينِ بَعدَما = تَعادَت عَلى أَشياعِهِ شِيَعُ الكُفرِ
وَفَرَّقَ شَملَ المالِ جودُ يَمينِهِ = عَلى أَنَّهُ أَبقى لَهُ أَحسَنَ الذِكرِ
إِذا ما أَجالَ الرَأيَ أَدرَكَ فِكرُهُ = غَرائِبَ لَم تَخطُر بِبالٍ وَلا فِكرِ
وَلا يَجمَعُ الأَموالَ إِلّا لِبَذلِها = كَما لا يُساقُ الهَديُ إِلّا إِلى النَحرِ
وَما غايَةُ المُثني عَلَيهِ لَو أَنَّهُ زُهَيرٌ = وَأَعشى وَاِمرُؤُ القَيسِ من حُجرِ
إِذا نَحنُ شَبَّهناهُ بِالبَدرِ طالِعاً = وَبِالشَمسِ قالوا حُقَّ لِلشَمسِ وَالبَدرِ
وَمَن قالَ إِنَّ البَحرَ وَالقَطرَ أَشبَها = نَداهُ فَقَد أَثنى عَلى البَحرِ وَالقَطرِ
وَلَو قُرِنَت بِالبَحرِ سَبعَةُ أَبحُرٍ = لَما بَلَغَت جَدوى أَنامِلِهِ العَشرِ
وَإِن ذُكِرَ المَجدُ القَديمُ فَإِنَّما = يَقُصُّ عَلَينا ما تَنَزَّلَ في الزُبرِ
فإن كان أمسى جعفرٌ متوكِّلاً = على الله في سرِّ الأمورِ وفي الجهرِ
وولَّى عهودَ المسلمين ثلاثةً = يُحَيَّونَ بالتأييد والعزِّ والنصرِ
أَغَيرَ كِتابِ اللَهِ تَبغونَ شاهِداً = لَكُم يا بَني العَبّاسِ بِالمَجدِ وَالفَخرِ
كَفاكُم بِأَنَّ اللَهَ فَوَّضَ أَمرَهُ إِلَيكُم = وَأَوحى أَن أَطيعوا أولي الأَمرِ
وَلَم يَسأَلِ الناسَ النَبِيُّ مُحَمَّدٌ سِوى = وُدِّ ذي القُربى القَريبَةِ مِن أَجرِ
وَلَن يُقبَلَ الإيمانُ إِلّا بِحُبِّكُم = وَهَل يَقبَلُ اللَهُ الصَلاةَ بِلا طُهرِ
وَمَن كانَ مَجهولَ المَكانِ فَإِنَّما = مَنازِلُكُم بَينَ الحَجونِ إِلى الحِجرِ
وَما زالَ بَيتُ اللَهِ بَينَ بُيوتِكُم = تَذُبّونَ عَنهُ بِالمُهَنَّدَةِ البُترِ
أَبو نَضلَةٍ عَمرو العُلى وَهوَ هاشِمٌ أَبوكُم = وَهَل في الناسِ أَشرَفُ مِن عَمرو
وَساقي الحَجيجِ شَيبَةُ الحَمدِ بَعدَهُ = أَبو الحارِثِ المُبقي لَكُم غايَةَ الفَخرِ
سَقَيتُم وَأَسقَيتُم وَما زالَ فَضلُكُم = عَلى غَيرِكُم فَضلَ الوَفاءِ عَلى الغَدرِ
وُجوهُ بَني العَبّاسِ لِلمُلكِ زينَةٌ = كَما زينَةُ الأَفلاكِ بِالأَنجُمِ الزُهرِ
وَلا يَستَهِلُّ المُلكُ إِلّا بِأَهلِهِ = وَلا تَرجَعُ الأَيّامُ إِلّا إِلى الشَهرِ
وَما ظهر الإسلامُ إِلّا وجاركم = بني هاشمٍ بين المجرَّةِ والنسرِ
فَحَيّوا بَني العَبّاسِ مِنّي تَحِيَّةً = تَسيرُ عَلى الأَيّامِ طَيِّبَةَ النَشرِ
إِذا أُنشدَت زادت وليَّكَ غبطةً = وكانت لأهل الزيغ قاصمةَ الظهرِ
انت كالكلب في حفظك للود = وكالتيس في قراع الخطوبِ
انت كالدلو، لا عدمناك دلواً = من كبار الدلا، كبيرَ الذنوبِ
ولان اجود الشعر اصدقه بحسب النقاد، فلم يستغرب الخليفة لقول هذا البدوي الفصيح، وسط استغراب الحضور الذين أجمعوا على ضربه، فقد فطن الى براءة مشاعره، ورقّة احساسه، وصدق مقصده، وخشونة لفظه، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة بها بستان فسيح ومنظر بهيج، ومأكل حسن وفراش نعيم، فأقام على ذلك مدة ثم جاء الى الخليفة لينشد بين يديه قصيدة يقول مطلعها
عيون المها بين الرصافة والجسر = جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فيصيح المتوكل: انظروا كيف تغيرت به الحال، والله خشيت عليه ان يذوب رقة ولطافة.
هكذا ترد قصة هذين البيتين بين مصدق ومشكك، لأن ظاهر القول فيهما هجو حتى وان جاء عن حسن نية لان القصة قد تبدو مصطنعة وتحوي كما من الخيال والصنعة.
جاء في مقال لــ د. عبد الله بن سليم الرشيد، نُشِر في المجلة العربية - عدد ( 250 ) ذو القعدة 1418 ص 58
"أقول : هكذا وردت القصة - بتصرف يسير - في محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار لابن عربي الصوفي ( 2/3 ) وعنه نقل محمد أحمد جاد المولى وصاحباه في قصص العرب (3/298) وخليل مردم في تحقيقه لديوان علي بن الجهم (حاشية ص 143) فالمصدر واحد لا ثاني له، وقد حاولت أن أجد لها أصلاً في كتب المتقدمين كالجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن عبد ربه وآخرين فلم أقع على شيء من ذلك، وهذا وحده كاف في توهينها .
فإذا عرفت أن ابن عربي أسند روايتها إلى مجهول فقال: ( حكى لنا بعض الأدباء …) زاد وهنها عندك، علما أن بين ابن الجهم ( ت 249هـ) وابن عربي ( ت 638هـ) ما يقارب أربعة قرون ، فأين انزوت هذه القصة الطريفة طوال أربعمائة سنة ؟!
زد إلى ذلك أن ابن عربي نفسه متّهم في دينه، مطعون في إيمانه، بل متهم بالكفر، نقل ذلك فيمن نقل الذهبي (سير أعلام النبلاء: 23/48 ) فقال: إن الشيخ العز بن عبد السلام يقول عن ابن عربي: (شيخ سوء كذاب)، وقال الذهبي نفسه: (ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص، فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر). فهذا الذي يتهم بالكفر كيف لا يتهم بصناعة قصة طريفة يأنس بها الناس ويهشون إليها ؟
أما وقد تسرّب الشكّ إلى نفسك في صحة هذه القصة - من حيث تفرّد امرئ مغموز في دينه ، متأخّر زمنه بروايتها - فاعلم أن متن القصة يحوي شيئاّ يكذبها :
قال: ( إن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً )، والتاريخ يقول خلاف هذا، ففي معجم الشعراء للمرزباني ( ص 286) أن أصله من خراسان، ولا يعني هذا أنه غير عربي، ونقل عمر فروخ ( تاريخ الأدب العربي 2/289) أنه ولد ببغداد عام 188هـ ، وفي طبقات الشعراء لابن المعتز (ص 319) ما يدل على أنه حضري لا صلة له بالبادية، فقد روي أنه حبس في المكتب، فكتب إلى أمه:
يا أمّـنا أفـديك من أمّ = أشكو إليك فظاظة الجهم
قد سرّح الصبيان كلهم = وبقيت محبوسـاً بلا جرم
وفي تاريخ الطبري ( 9/152) أن علي بن الجهم مدح الواثق بعد أن ولي الخلافة، وهذا يدلّ على صلته بالخلفاء قبل المتوكل، وعلى معرفته بما يلائم وما لا يلائم من فنون القول وضروب التشبيه .
وفي هذه القصة لفحة شعوبية تريد تصوير العرب أجلافاً لا يعرفون ذوقاً، ولا يدركون الحسن من السيء، ولذا جاء هذا البدوي فشبه الخليفة بالتيس والكلب والدلو - على سليقته زعموا - وعنده أن هذه الأشياء خير ما يشبه به.
والتاريخ الأدبي يكذب هذه الفرية، فالعرب لم تمدح أحداً بتشبيهه بالحمار أو التيس أو الكلب، وهذا أدبهم بين أيدينا، إنما شبّهوا بالبحر والقمر والشمس والسماء والجبل وغيرها من المشبهات الحسنة، أما عند الهجاء فلا عجب أن يشبهوا بالكلب أو الدلو أو ما قلّ وحقر في عيونهم.
هذا وقد وصف خليل مردم هذه القصة بأنها خيالية، وقال: إن أثر الوضع ظاهر عليها (انظر ديوان ابن الجهم ص 117،143) ولكنه لم يبيّن سبب شكّه، ومع ذلك أثبت البيتين الواردين فيها ضمن الديوان (ص117) واكتفى بقوله: ( والذي نراه - إن صحت نسبة البيتين له - أنه قالهما في أحد مجالس المتوكل يعبث ببعض الندماء أو المضحكين ).
أقول : إذا ثبت فساد القصة – و قد ثبت - فلا يصحّ أن يلحق البيتان بديوان ابن الجهم ؛ لعدم ورودهما في المصادر المتقدمة ، و لو أن مردماً جعلهما في آخر الديوان في ضمن ما ينسب للشاعر مع تحقيق ذلك لكان أولى"
انتهى كلام د. عبد الله بن سليم الرشيد
و تعد هذه القصيدة من بين اجمل النصوص الشعرية التي نظمها علي بن الجهم، استهلها بالنسيب على العادة التقليدية المتبعة ثم لمح الى محاسن ومباهج مدينة بغداد، وبداعة بساتينها، وجمال عيون حسانها، ثم خلصت الى مدح الخليفة المتوكل، ولهذه القصيدة اكثر من قصة كلها غاية في الطرافة والغرابة والتناقض والاختلاف ايضا.. اذ يشيع بين دارسي الأدب أن علي بن الجهم كان بدوي النشأة خشن الألفاظ خشن المعاشرة لعدم مخالطته لاهل الحضر، كما ذكر بعض كتاب السير والتراجم، والأمر غير صحيح كما يبدو من نتف أشعاره التي تدل على انه ليس من اهل البداوة، كما جاء في "معجم الشعراء" للمرزباني، و"طبقات الشعراء " لابن المعتز، ونقل عنهم عمر فروخ في "تاريخ الأدب العربي" مما يثبت ان اصله عربي وليس اعجميا.. وجاء في تاريخ الأمم والملوك لمحمد بن جرير الطبري انه خالط الخلفاء واتصل بالخليفة الواثق ومدحه قبل ان يفد على المتوكل العباسي وينشده القصيدة المعروفة يمدحه من خلالها:
أنت كالكلب في حفاظك للود = وكالتيس في قِراع الخطـوب
أنت كالدلو ، لا عدمناك دلواً = من كبار الدلا كثيـر الذنـو
وتقول الحكاية بان المتوكل اعترف حسن نية شاعرنا ومقصوده، وتفهم أن ما شبه به إلا لملازمته فأكرمه، وأمر له بدار حسنة تطل على ضفاف نهر دجلة قريبا من الجسر، حيث البساتين الزاهرة، والهواء العليل، والجو اللطيف، وامر له بأطيب وألذ المأكل، فأقام أشهرا في بحبوحة عيش بين مجالسات ومسامرات ومذاكرات المتأدبين، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده قصيدة مغايرة يقول مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسـر = جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن = سلوت ولكن زدت جمـرا على جمـر
حتى إن المتوكل قال: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة
وقد اورد الحكاية كل من العصامي في "سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي"، وابن خلكان صاحب "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" وهو من أشهر كتب التراجم، ومن أحسنها ضبطا وإحكاما، وجاءت في " ومسامرات الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار" للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي ، وهو المصدر الوحيد فيما يبدو الذي نقل عنه محمد أحمد جاد المولى في قصص العرب، فيما شكك خليل مردم الذي تعهد بشرح ديوان علي بن الجهم في صحتها، وقال " إن اثر الوضع ظاهر عليها "، لأن ابن عربي أسند روايتها إلى مجهول فقال: ( حكى لنا بعض الأدباء...) وعلق بالقول: " والذي نراه - إن صحت نسبة البيتين له - أنه قالهما في أحد مجالس المتوكل يعبث ببعض الندماء أو المضحكين"، لان الامر كما يبدو نسج خيال ولا يمت بصلة لأشعار العرب، ولا لهذا النوع من المديح الذي يصف المرء بالكلب والتيس وسائر الحيوانات الا اذا كان هجاء او تنقيصا من قيمة الممدوح... علما ان لعلي بن الجهم اشعارا رقيقة
وقد ساقت كتب السير والآداب لابن الجهم العديد من الاشعار الرقيقة منها:
طَلَعَت وَهِيَ في ثِيابِ حِدادٍ = طَلعَةَ البَدرِ مِن خِلالِ السَحابِ
بِتُّ في اللَهوِ وَاللَذاذَةِ لَيلي = أَرشِفُ الشُهدَ مِن ثُنايا عِذابِ
تَتَجَنّى وَساعَةً تَتَراضى = عَبَثاً وَالقُلوبُ غَيرُ غِضابِ
وَشَرِبنا مِنَ العِتابِ كُؤوساً = وَجَعَلنا التَقبيلَ نقلَ الشَرابِ
قراءة ماتعة
والى قصيدة قادمة وقصة جديدة
نقوس المهدي
*********************
القصيدة الرصافية
علي ابن الجهم
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ = جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن = سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ كَأَنَّما = تُشَكُّ بِأَطرافِ المُثَقَّفَةِ السُمرِ
وَقُلنَ لَنا نَحنُ الأَهِلَّةُ إِنَّما = تُضيءُ لِمَن يَسري بِلَيلٍ وَلا تَقري
فَلا بَذلَ إِلّا ما تَزَوَّدَ ناظِرٌ وَلا = وَصلَ إِلّا بِالخَيالِ الَّذي يَسري
أحينَ أزحنَ القَلبَ عَن مُستَقَرِّهِ = وَأَلهَبنَ ما بَينَ الجَوانِحِ وَالصَدرِ
صددنَ صدودَ الشاربِ الخمر عندما = روى نفسَهُ عن شربها خيفةَ السكرِ
ألا قَبلَ أَن يَبدو المَشيبُ بَدَأنَني = بِيَأسٍ مُبينٍ أَو جَنَحنَ إِلى الغَدرِ
فَإِن حُلنَ أَو أَنكَرنَ عَهداً عَهِدنَهُ = فَغَيرُ بَديعٍ لِلغَواني وَلا نُكرِ
وَلكِنَّهُ أَودى الشَبابُ وَإِنَّما = تُصادُ المَها بَينَ الشَبيبَةِ وَالوَفرِ
كَفى بِالهَوى شُغلاً وَبِالشَيبِ زاجِراً = لَوَ اَنَّ الهَوى مِمّا يُنَهنَهُ بِالزَجرِ
أَما وَمَشيبٍ راعَهُنَّ لَرُبَّما = غَمَزنَ بَناناً بَينَ سَحرٍ إِلى نَحرِ
وَبِتنا عَلى رَغمِ الوُشاةِ كَأَنَّنا = خَليطانِ مِن ماءِ الغَمامَةِ وَالخَمرِ
خَليلَيَّ ما أَحلى الهَوى وَأَمَرَّهُ = وَأَعلَمَني بِالحُلوِ مِنهُ وَبِالمُرِّ
بِما بَينَنا مِن حُرمَةٍ هَل رَأَيتُما = أَرَقَّ مِنَ الشَكوى وَأَقسى مِنَ الهَجرِ
وَأَفضَحَ مِن عَينِ المُحِبِّ لِسِرِّهِ = وَلا سِيَّما إِن أَطلَقَت عَبرَةً تَجري
وَما أَنسَ مِ الأَشياءِ لا أَنسَ قَولَها = لِجارَتِها ما أَولَعَ الحُبَّ بِالحُرِّ
فَقالَت لَها الأُخرى فَما لِصَديقِنا = مُعَنّىً وَهَل في قَتلِهِ لَكِ مِن عُذرِ
عِديهِ لَعَلَّ الوَصلَ يُحييهِ وَاِعلَمي = بِأَنَّ أَسيرَ الحُبِّ في أَعظَمِ الأَمرِ
فَقالَت أَداري الناسَ عَنهُ وَقَلَّما = يَطيبُ الهَوى إِلّا لِمُنهَتِكِ السِترِ
وَأَيقَنَتا أَن قَد سَمِعتُ فَقالَتا مَنِ = الطارِقُ المُصغي إِلَينا وَما نَدري
فَقُلتُ فَتىً إِن شِئتُما كَتَمَ الهَوى = وَإِلّا فَخَلّاعُ الأَعنَّةِ وَالعُذرِ
عَلى أَنَّهُ يَشكو ظَلوماً وَبُخلَها = عَلَيهِ بِتَسليمِ البَشاشَةِ وَالبِشرِ
فَقالَت هُجينا قُلتُ قَد كانَ بَعضُ = ما ذَكَرتِ لَعَلَّ الشَرَّ يُدفَعُ بِالشَرِّ
فَقالَت كَأَنّي بِالقَوافي سَوائِراً = يَرِدنَ بِنا مِصراً وَيَصدُرنَ عَن مِصرِ
فَقُلتُ أَسَأتِ الظَنَّ بي لَستُ شاعِراً = وَإِن كانَ أَحياناً يَجيشُ بِهِ صَدري
صِلي وَاِسأَلي مَن شِئتِ يُخبِركِ أَنَّني = عَلى كُلِّ حالٍ نِعمَ مُستَودَعُ السِرِّ
وَما أَنا مِمَّن سارَ بِالشِعرِ ذِكرُهُ = وَلكِنَّ أَشعاري يُسَيِّرُها ذِكري
وَما الشِعرُ مِمّا أَستَظِلُّ بِظِلِّهِ = وَلا زادَني قَدراً وَلا حَطَّ مِن قَدري
وَلِلشِّعرِ أَتباعٌ كَثيرٌ وَلَم أَكُن = لَهُ تابِعاً في حالِ عُسرٍ وَلا يُسرِ
وَما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها = وَلا كُلُّ مَن أَجرى يُقالُ لَهُ مُجري
وَلكِنَّ إِحسانَ الخَليفَةِ جَعفَرٍ = دَعاني إِلى ما قُلتُ فيهِ مِنَ الشِعرِ
فَسارَ مَسيرَ الشَمسِ في كُلِّ بَلدَةٍ = وَهَبَّ هُبوبَ الريحِ في البَرِّ وَالبَحرِ
وَلَو جَلَّ عَن شُكرِ الصَنيعَةِ مُنعِمٌ = لَجَلَّ أَميرُ المُؤمِنينَ عَنِ الشُكرِ
فَتىً تَسعَدُ الأَبصارُ في حُرِّ وَجهِهِ = كَما تَسعَدُ الأَيدي بِنائِلِهِ الغَمرِ
بِهِ سَلِمَ الإِسلامُ مِن كُلِّ مُلحِدٍ = وَحَلَّ بِأَهلِ الزَيغِ قاصِمَةُ الظَهرِ
إِمامُ هُدىً جَلّى عَنِ الدينِ بَعدَما = تَعادَت عَلى أَشياعِهِ شِيَعُ الكُفرِ
وَفَرَّقَ شَملَ المالِ جودُ يَمينِهِ = عَلى أَنَّهُ أَبقى لَهُ أَحسَنَ الذِكرِ
إِذا ما أَجالَ الرَأيَ أَدرَكَ فِكرُهُ = غَرائِبَ لَم تَخطُر بِبالٍ وَلا فِكرِ
وَلا يَجمَعُ الأَموالَ إِلّا لِبَذلِها = كَما لا يُساقُ الهَديُ إِلّا إِلى النَحرِ
وَما غايَةُ المُثني عَلَيهِ لَو أَنَّهُ زُهَيرٌ = وَأَعشى وَاِمرُؤُ القَيسِ من حُجرِ
إِذا نَحنُ شَبَّهناهُ بِالبَدرِ طالِعاً = وَبِالشَمسِ قالوا حُقَّ لِلشَمسِ وَالبَدرِ
وَمَن قالَ إِنَّ البَحرَ وَالقَطرَ أَشبَها = نَداهُ فَقَد أَثنى عَلى البَحرِ وَالقَطرِ
وَلَو قُرِنَت بِالبَحرِ سَبعَةُ أَبحُرٍ = لَما بَلَغَت جَدوى أَنامِلِهِ العَشرِ
وَإِن ذُكِرَ المَجدُ القَديمُ فَإِنَّما = يَقُصُّ عَلَينا ما تَنَزَّلَ في الزُبرِ
فإن كان أمسى جعفرٌ متوكِّلاً = على الله في سرِّ الأمورِ وفي الجهرِ
وولَّى عهودَ المسلمين ثلاثةً = يُحَيَّونَ بالتأييد والعزِّ والنصرِ
أَغَيرَ كِتابِ اللَهِ تَبغونَ شاهِداً = لَكُم يا بَني العَبّاسِ بِالمَجدِ وَالفَخرِ
كَفاكُم بِأَنَّ اللَهَ فَوَّضَ أَمرَهُ إِلَيكُم = وَأَوحى أَن أَطيعوا أولي الأَمرِ
وَلَم يَسأَلِ الناسَ النَبِيُّ مُحَمَّدٌ سِوى = وُدِّ ذي القُربى القَريبَةِ مِن أَجرِ
وَلَن يُقبَلَ الإيمانُ إِلّا بِحُبِّكُم = وَهَل يَقبَلُ اللَهُ الصَلاةَ بِلا طُهرِ
وَمَن كانَ مَجهولَ المَكانِ فَإِنَّما = مَنازِلُكُم بَينَ الحَجونِ إِلى الحِجرِ
وَما زالَ بَيتُ اللَهِ بَينَ بُيوتِكُم = تَذُبّونَ عَنهُ بِالمُهَنَّدَةِ البُترِ
أَبو نَضلَةٍ عَمرو العُلى وَهوَ هاشِمٌ أَبوكُم = وَهَل في الناسِ أَشرَفُ مِن عَمرو
وَساقي الحَجيجِ شَيبَةُ الحَمدِ بَعدَهُ = أَبو الحارِثِ المُبقي لَكُم غايَةَ الفَخرِ
سَقَيتُم وَأَسقَيتُم وَما زالَ فَضلُكُم = عَلى غَيرِكُم فَضلَ الوَفاءِ عَلى الغَدرِ
وُجوهُ بَني العَبّاسِ لِلمُلكِ زينَةٌ = كَما زينَةُ الأَفلاكِ بِالأَنجُمِ الزُهرِ
وَلا يَستَهِلُّ المُلكُ إِلّا بِأَهلِهِ = وَلا تَرجَعُ الأَيّامُ إِلّا إِلى الشَهرِ
وَما ظهر الإسلامُ إِلّا وجاركم = بني هاشمٍ بين المجرَّةِ والنسرِ
فَحَيّوا بَني العَبّاسِ مِنّي تَحِيَّةً = تَسيرُ عَلى الأَيّامِ طَيِّبَةَ النَشرِ
إِذا أُنشدَت زادت وليَّكَ غبطةً = وكانت لأهل الزيغ قاصمةَ الظهرِ