تتأتي أهمية قصيدة " بانت سعادُ " لكعب بن زهير بن ابي سُلمى، لارتباطها بفترة حرجة ودقيقة من فترات فجر الاسلام ونزول سورة الشعراء. التي تتوعد الذين هجوا الرسول وصحبه، ونالوا من اعراض المسلمين بالقدح والتشنيع ، وتصدوا للدعوة الاسلامية بالتشهير في فترة انطلاقها، فاهدر الرسول دمهم، من امثال كعب بن الأشرف وعبد الله بن الزعبري، وأبو سفيان بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، و أبو عزة الجمحي . وقد اعلن كل من كعب بن زهير وعبد الله بن الزبعرى توبتهما عما بدر منهما فصفح النبي عنهما . فيما لاذ هبيرة بن أبي وهب المخزومي باليمن. أما ابو عزة الجمحي فقد أسر يوم بدر ، وعفى عنه ، لكنه عاد مع قريش في موقعة أحد وأُسر فيها وقتل.
وكعب بن زهير من الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الاسلام ، وقد أورد ابن كثير في الجزء الرابع من البداية والنهاية ، حول إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته بانت سعاد
( قال ابن إسحاق : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا مسلما وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك وكان كعب قد قال معاتبا أخاه بعد أن أسلم:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة = فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبيِّن لنا إن كنت لست بفاعل = على أي شيء غير ذلك دلكا
على مذهب لم تلف أما ولا أبا = عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف = ولا قائل إما عثرت لعا لكا
سقاك بها المأمون كأسا روية = فأنهلك المأمون منها وعلكا)
وقد نطم قصيدته الشهيرةبعد ان اهدر النبي دمه، وجاء ملثما مستخفيا الى مجلسه في المسجد، وانشد القصيدة التي يمدح فيها الرسول ويثني عليه ويمجده ويعدد فيها صفاته واخلاقه وكرم سجاياه. ويشيد بالاسلام والصحابة، ويعتذر له ويطلب منه الصفح، ويتهم فيها الوشاة، فامنه الرسول وعفا عنه، وكساه بردته فسميت ايضا بـــ " البردة ".
وهي قصيدة شهيرة لم تستطرد كتب التفاسير كما لم تختلف في عرض ظروف نظمها وملابساتها التاريخية اكثر مما ذكر واجمعت عليه كتب تاريخ الادب، فهي كنار على علم، لانه لا يمكن لاي قارئ ان يتجاهلها وانكار روعتها على حد قول ابي الطيب المتنبي:
ومن يك ذا فم مر مريض = يجد مرا به الماء الزلالا
وتأتى الأهمية التاريخية لقصيدة البردة من قيمتها الجمالية والفنية، ومن اهمية ملابسات تلك الفترة الاسلامية المتقدمة، كونها وليدة تلك الفترة البينية التي تفصل بين مرحلتين تاريخيتين غاية في الدقة، وتاثرها بالنسق العام لتلك المرحلة، لان الشاعر ابن بيئته كما يقال، ويستعير مفرداته من معجم يجمع النقاد على تسميته بالحيوانيّ، لهيمنة صفات وسمات الخيول والجمال والظباء والاسود والسعالي ومناخ الصحراء ...إلخ، بعكس العصر العباسي الذي يسميه النقاد بالنباتي، لما يحتوي عليه من اوصاف الحدائق والبساتين والزهور والورود .
وقد جمعت القصيدة على عادة قصائد اهل الجاهلية بين اغراض النسيب، والوصف، والحماسة، والمدح، والاعتذار، والاستعطاف، والحِكَم، الى جانب جزالة اللفظ، وقوة البيان، وبراعة الوصف، وحسن النظم، وفرادة الأسلوب..
وتاثرت في بنائها بصورة مباشرة بعدد من قصائد الشعراء السابقين لكعب بن زهير، من حيث توظيف اسم " سعاد " وهو اسم لا يستعمل الا في المديح، وفي الشعر العربي العديد من الامثلة الشعرية التي استلهمت اسم سعاد لهذا الغرض.
مثل قصيدة الأعشى ميمون في مدح هوذة بن علي الحنفي في قصيدة يقول في مطلعها:
بـانت سعــادُ وأمسى حبلُها انقطعا = واحتلَّت الغَمرَ فالجُدَّينِ فالفَرَعا
او في قصيدة اخرى للاعشى في مدح إياس بن قبيصة الطائي يقول غيها:
بانـت سعـاد وأمسـى حبلهـا رابـا = وأحدث النأي لي شوقًا وأوصابا.
والنابغة الذبياني في قصيدة يقول فيها:
بانـت سعـاد وأمسـى حبلـهـا انجـذمـا = واحتلت الشرع فالأجزاع من إضما.
و ربيعة بن مقروم في مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمى بن ربيعة في قصيدته التي مطلعها :
بانت سعادُ فأمسى القلبُ معمودا = وأخلَفَتْـكَ ابنـةُ الـحُـرِّ المواعـيـدا
وطفيل الغنوي في لامية يصف فيها محبوبته " شماء " بظريقة تكاد تتطابق واوصاف سعاد كعب بن زهير يقول فيها :
هل حبل شماء قبل البين موصول = أم ليس للصرم عن شماء معدول
كما تأثر بها العديد من الشعراء اللاحقين، واستعملها أبو نواس، عندما مدح العباس بن عبيد الله في قصيدته التي مطلعها:
حلَّت سعادُ وأهلُها سَرِفا = قومًا عدًى ، ومحلةً قذفا
فيما نظمت على منوالها العديد من القصائد بغرض المعارضة او التشطير والتخميس هذا الى انفرادها بالعديد من الشروح التي تفوق الخمسين شرحا..
ومن المعارضات البديعة لهذه القصيدة نذكر منها لامية الحميدي التي مطلعها:
بانت سُليمى ففكر الصب مشغول = وقلبه من لظى الهجران مشغول
ولامية عبد الرحمن بن حسن:
لي في الهوى مذهبٌ ما عنه تحويل = ومـا لحبي تغيير وتبديل
ولامية النابلسي:
هل في البروق عن الأحباب تعليللا = والـذي مالـه فـي الحكـم تعلـيـلُ
أما أشهر هذه المعارضات فهي لامية البوصيري، التي يقول في مطلعها:
إلى متى أنت باللـذات مشغـول = وأنت عن كل ما قدمت مسئول
الى جانب بردة الامام البوصيري التي تربو على أكثر من 160 بيتا من غرر الشعر والتي يقول في مطلعها :
أمـن تذكـر جـيـران بــذي سـلـم = مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وعارضها الشاعر أحمد شوقي في قصيدة نهج البردة والتي يقول في مطلعها :
ريم على القاع بين البان والعلـم = أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
والشاعر المراكشي أسماعيل زويريق الذي قال :
بانت سعاد فمـا للحـزن تمهيـلا = لدمع منسجل والجسم مهزول
الى العديد من الامثلة التي يضيق عنها هذا المقام نورد فقط نموذجا فريدا لقصيدة شطر فيها الخفاجي " بانت سعاد " وضمنها في تشطيره العديد من الألفاظً الغريبة يقول في بعض ابياتها:
ولــن يـبـلــغــهــا إلا عــــذافــــرةٌ = صلـخـدمٌ عـســلٌ سـجـحـاء عـيـهـول
قصـيـة شـيـظـمٌ عـلـطـوس سـاهـمـةٌ = لها عـلى الأيـن إرقـالٌ وتبغيـلُ
غـلـبـاء وجـنـاء عـلكــوم مـذكـرةٌ = عرفاس عرمس ما في اللحم ترهيل
هـرجاب مائرة الضبعـين عجلـزةٌ = في خلقهـا عـن بنـات الفحـل تفضيـل
الى غير ذلك من الامثلة الاخرى
قراءة ممتعة
مع تحيات نقوس المهدي
*****
كعب بن زهير
قصيدة البردة
بانت سعادُ
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ = مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا = إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً = لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت = كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ
شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ = صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ
تَجلو الرِياحُ القَذى عَنُه وَأَفرَطَهُ = مِن صَوبِ سارِيَةٍ بيضٍ يَعاليلُ
يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَت = ما وَعَدَت أَو لَو أَنَّ النُصحَ مَقبولُ
لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سيطَ مِن دَمِها = فَجعٌ وَوَلعٌ وَإِخلافٌ وَتَبديلُ
فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها = كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ
وَما تَمَسَّكُ بِالوَصلِ الَّذي زَعَمَت =إِلّا كَما تُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
كَانَت مَواعيدُ عُرقوبٍ لَها مَثَلاً =وَما مَواعيدُها إِلّا الأَباطيلُ
أَرجو وَآمُلُ أَن يَعجَلنَ في أَبَدٍ = وَما لَهُنَّ طِوالَ الدَهرِ تَعجيلُ
فَلا يَغُرَّنَكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت = إِنَّ الأَمانِيَ وَالأَحلامَ تَضليلُ
أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها = إِلّا العِتاقُ النَجيباتُ المَراسيلُ
وَلَن يُبَلِّغها إِلّا عُذافِرَةٌ =فيها عَلى الأَينِ إِرقالٌ وَتَبغيلُ
مِن كُلِّ نَضّاخَةِ الذِفرى إِذا عَرِقَت =عُرضَتُها طامِسُ الأَعلامِ مَجهولُ
تَرمي الغُيوبَ بِعَينَي مُفرَدٍ لَهَقٍ = إِذا تَوَقَدَتِ الحُزّانُ وَالميلُ
ضَخمٌ مُقَلَّدُها فَعَمٌ مُقَيَّدُها = في خَلقِها عَن بَناتِ الفَحلِ تَفضيلُ
حَرفٌ أَخوها أَبوها مِن مُهَجَّنَةٍ = وَعَمُّها خَالُها قَوداءُ شِمليلُ
يَمشي القُرادُ عَلَيها ثُمَّ يُزلِقُهُ = مِنها لَبانٌ وَأَقرابٌ زَهاليلُ
عَيرانَةٌ قُذِفَت في اللَحمِ عَن عُرُضٍ = مِرفَقُها عَن بَناتِ الزورِ مَفتولُ
كَأَنَّ ما فاتَ عَينَيها وَمَذبَحَها = مِن خَطمِها وَمِن اللَحيَينِ بَرطيلُ
تَمُرُّ مِثلَ عَسيبِ النَخلِ ذا خُصَلٍ = في غارِزٍ لَم تَخَوَّنَهُ الأَحاليلُ
قَنواءُ في حُرَّتَيها لِلبَصيرِ بِها = عِتقٌ مُبينٌ وَفي الخَدَّينِ تَسهيلُ
تَخدي عَلى يَسَراتٍ وَهيَ لاحِقَةٌ = ذَوابِلٌ وَقعُهُنُّ الأَرضَ تَحليلُ
سُمرُ العُجاياتِ يَترُكنَ الحَصى زِيَماً = لَم يَقِهِنَّ رُؤوسَ الأُكُمِ تَنعيلُ
يَوماً يَظَلُّ بِهِ الحَرباءُ مُصطَخِماً =كَأَنَّ ضاحِيَهُ بِالنارِ مَملولُ
كَأَنَّ أَوبَ ذِراعَيها وَقَد عَرِقَت = وَقَد تَلَفَّعَ بِالقورِ العَساقيلُ
وَقالَ لِلقَومِ حاديهِم وَقَد جَعَلَت = وُرقُ الجَنادِبِ يَركُضنَ الحَصى قيلوا
شَدَّ النهارُ ذِراعاً عَيطلٍ نَصَفٍ =قامَت فَجاوَبَها نُكدٌ مَثاكيلُ
نَوّاحَةٌ رَخوَةُ الضَبعَين لَيسَ لَها = لَمّا نَعى بِكرَها الناعونَ مَعقولُ
تَفِري اللِبانَ بِكَفَّيها وَمِدرَعِها = مُشَقَّقٌ عَن تَراقيها رَعابيلُ
يَسعى الوُشاةُ بِجَنبَيها وَقَولُهُم = إِنَّكَ يَا بنَ أَبي سُلمى لَمَقتولُ
وَقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنتُ آمُلُهُ = لا أُلفِيَنَّكَ إِنّي عَنكَ مَشغولُ
فَقُلتُ خَلّوا سبيلي لا أَبا لَكُمُ = فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَحمَنُ مَفعولُ
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ = يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني =وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ ال = قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ
لا تَأَخُذَنّي بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم = أُذِنب وَلَو كَثُرَت عَنّي الأَقاويلُ
لَقَد أَقومُ مَقاماً لَو يَقومُ بِهِ = أَرى وَأَسمَعُ ما لَو يَسمَعُ الفيلُ
لَظَلَّ يُرعَدُ إِلّا أَن يَكونَ لَهُ = مِنَ الرَسولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنويلُ
مازِلتُ أَقتَطِعُ البَيداءَ مُدَّرِعاً =جُنحَ الظَلامِ وَثَوبُ اللَيلِ مَسبولُ
حَتّى وَضَعتُ يَميني لا أُنازِعُهُ = في كَفِّ ذي نَقِماتٍ قيلُهُ القيلُ
لَذاكَ أَهَيبُ عِندي إِذ أُكَلِّمُهُ = وَقيلَ إِنَّكَ مَسبورٌ وَمَسؤولُ
مِن ضَيغَمٍ مِن ضِراءَ الأُسدِ مُخدِرَةً = بِبَطنِ عَثَّرَ غيلٌ دونَهُ غيلُ
يَغدو فَيَلحَمُ ضِرغامَين عَيشُهُما = لَحمٌ مِنَ القَومِ مَعفورٌ خَراذيلُ
إذا يُساوِرُ قِرناً لا يَحِلُّ لَهُ= أَن يَترُكَ القِرنَ إِلّا وَهُوَ مَفلولُ
مِنهُ تَظَلُّ حَميرُ الوَحشِ ضامِرَةً = وَلا تُمَشّي بِواديهِ الأَراجيلُ
وَلا يَزالُ بِواديِهِ أخَو ثِقَةٍ =مُطَرَّحُ البَزِّ وَالدَرسانِ مَأكولُ
إِنَّ الرَسولَ لَنورٌ يُستَضاءُ بِهِ = مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم = بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّا أَسَلَموا زولوا
زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ = عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ
شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ = مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
بيضٌ سَوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ = كَأَنَّها حَلَقُ القَفعاءِ مَجدولُ
يَمشون مَشيَ الجِمالِ الزُهرِ يَعصِمُهُم = ضَربٌ إِذا عَرَّدَ السودُ التَنابيلُ
لا يَفرَحونَ إِذا نالَت رِماحُهُمُ = قَوماً وَلَيسوا مَجازيعاً إِذا نيلوا
لا يَقَعُ الطَعنُ إِلّا في نُحورِهِمُ = ما إِن لَهُم عَن حِياضِ المَوتِ تَهليلُ
وكعب بن زهير من الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الاسلام ، وقد أورد ابن كثير في الجزء الرابع من البداية والنهاية ، حول إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته بانت سعاد
( قال ابن إسحاق : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا مسلما وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك وكان كعب قد قال معاتبا أخاه بعد أن أسلم:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة = فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبيِّن لنا إن كنت لست بفاعل = على أي شيء غير ذلك دلكا
على مذهب لم تلف أما ولا أبا = عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف = ولا قائل إما عثرت لعا لكا
سقاك بها المأمون كأسا روية = فأنهلك المأمون منها وعلكا)
وقد نطم قصيدته الشهيرةبعد ان اهدر النبي دمه، وجاء ملثما مستخفيا الى مجلسه في المسجد، وانشد القصيدة التي يمدح فيها الرسول ويثني عليه ويمجده ويعدد فيها صفاته واخلاقه وكرم سجاياه. ويشيد بالاسلام والصحابة، ويعتذر له ويطلب منه الصفح، ويتهم فيها الوشاة، فامنه الرسول وعفا عنه، وكساه بردته فسميت ايضا بـــ " البردة ".
وهي قصيدة شهيرة لم تستطرد كتب التفاسير كما لم تختلف في عرض ظروف نظمها وملابساتها التاريخية اكثر مما ذكر واجمعت عليه كتب تاريخ الادب، فهي كنار على علم، لانه لا يمكن لاي قارئ ان يتجاهلها وانكار روعتها على حد قول ابي الطيب المتنبي:
ومن يك ذا فم مر مريض = يجد مرا به الماء الزلالا
وتأتى الأهمية التاريخية لقصيدة البردة من قيمتها الجمالية والفنية، ومن اهمية ملابسات تلك الفترة الاسلامية المتقدمة، كونها وليدة تلك الفترة البينية التي تفصل بين مرحلتين تاريخيتين غاية في الدقة، وتاثرها بالنسق العام لتلك المرحلة، لان الشاعر ابن بيئته كما يقال، ويستعير مفرداته من معجم يجمع النقاد على تسميته بالحيوانيّ، لهيمنة صفات وسمات الخيول والجمال والظباء والاسود والسعالي ومناخ الصحراء ...إلخ، بعكس العصر العباسي الذي يسميه النقاد بالنباتي، لما يحتوي عليه من اوصاف الحدائق والبساتين والزهور والورود .
وقد جمعت القصيدة على عادة قصائد اهل الجاهلية بين اغراض النسيب، والوصف، والحماسة، والمدح، والاعتذار، والاستعطاف، والحِكَم، الى جانب جزالة اللفظ، وقوة البيان، وبراعة الوصف، وحسن النظم، وفرادة الأسلوب..
وتاثرت في بنائها بصورة مباشرة بعدد من قصائد الشعراء السابقين لكعب بن زهير، من حيث توظيف اسم " سعاد " وهو اسم لا يستعمل الا في المديح، وفي الشعر العربي العديد من الامثلة الشعرية التي استلهمت اسم سعاد لهذا الغرض.
مثل قصيدة الأعشى ميمون في مدح هوذة بن علي الحنفي في قصيدة يقول في مطلعها:
بـانت سعــادُ وأمسى حبلُها انقطعا = واحتلَّت الغَمرَ فالجُدَّينِ فالفَرَعا
او في قصيدة اخرى للاعشى في مدح إياس بن قبيصة الطائي يقول غيها:
بانـت سعـاد وأمسـى حبلهـا رابـا = وأحدث النأي لي شوقًا وأوصابا.
والنابغة الذبياني في قصيدة يقول فيها:
بانـت سعـاد وأمسـى حبلـهـا انجـذمـا = واحتلت الشرع فالأجزاع من إضما.
و ربيعة بن مقروم في مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمى بن ربيعة في قصيدته التي مطلعها :
بانت سعادُ فأمسى القلبُ معمودا = وأخلَفَتْـكَ ابنـةُ الـحُـرِّ المواعـيـدا
وطفيل الغنوي في لامية يصف فيها محبوبته " شماء " بظريقة تكاد تتطابق واوصاف سعاد كعب بن زهير يقول فيها :
هل حبل شماء قبل البين موصول = أم ليس للصرم عن شماء معدول
كما تأثر بها العديد من الشعراء اللاحقين، واستعملها أبو نواس، عندما مدح العباس بن عبيد الله في قصيدته التي مطلعها:
حلَّت سعادُ وأهلُها سَرِفا = قومًا عدًى ، ومحلةً قذفا
فيما نظمت على منوالها العديد من القصائد بغرض المعارضة او التشطير والتخميس هذا الى انفرادها بالعديد من الشروح التي تفوق الخمسين شرحا..
ومن المعارضات البديعة لهذه القصيدة نذكر منها لامية الحميدي التي مطلعها:
بانت سُليمى ففكر الصب مشغول = وقلبه من لظى الهجران مشغول
ولامية عبد الرحمن بن حسن:
لي في الهوى مذهبٌ ما عنه تحويل = ومـا لحبي تغيير وتبديل
ولامية النابلسي:
هل في البروق عن الأحباب تعليللا = والـذي مالـه فـي الحكـم تعلـيـلُ
أما أشهر هذه المعارضات فهي لامية البوصيري، التي يقول في مطلعها:
إلى متى أنت باللـذات مشغـول = وأنت عن كل ما قدمت مسئول
الى جانب بردة الامام البوصيري التي تربو على أكثر من 160 بيتا من غرر الشعر والتي يقول في مطلعها :
أمـن تذكـر جـيـران بــذي سـلـم = مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وعارضها الشاعر أحمد شوقي في قصيدة نهج البردة والتي يقول في مطلعها :
ريم على القاع بين البان والعلـم = أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
والشاعر المراكشي أسماعيل زويريق الذي قال :
بانت سعاد فمـا للحـزن تمهيـلا = لدمع منسجل والجسم مهزول
الى العديد من الامثلة التي يضيق عنها هذا المقام نورد فقط نموذجا فريدا لقصيدة شطر فيها الخفاجي " بانت سعاد " وضمنها في تشطيره العديد من الألفاظً الغريبة يقول في بعض ابياتها:
ولــن يـبـلــغــهــا إلا عــــذافــــرةٌ = صلـخـدمٌ عـســلٌ سـجـحـاء عـيـهـول
قصـيـة شـيـظـمٌ عـلـطـوس سـاهـمـةٌ = لها عـلى الأيـن إرقـالٌ وتبغيـلُ
غـلـبـاء وجـنـاء عـلكــوم مـذكـرةٌ = عرفاس عرمس ما في اللحم ترهيل
هـرجاب مائرة الضبعـين عجلـزةٌ = في خلقهـا عـن بنـات الفحـل تفضيـل
الى غير ذلك من الامثلة الاخرى
قراءة ممتعة
مع تحيات نقوس المهدي
*****
كعب بن زهير
قصيدة البردة
بانت سعادُ
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ = مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا = إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً = لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت = كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ
شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ = صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ
تَجلو الرِياحُ القَذى عَنُه وَأَفرَطَهُ = مِن صَوبِ سارِيَةٍ بيضٍ يَعاليلُ
يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَت = ما وَعَدَت أَو لَو أَنَّ النُصحَ مَقبولُ
لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سيطَ مِن دَمِها = فَجعٌ وَوَلعٌ وَإِخلافٌ وَتَبديلُ
فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها = كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ
وَما تَمَسَّكُ بِالوَصلِ الَّذي زَعَمَت =إِلّا كَما تُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
كَانَت مَواعيدُ عُرقوبٍ لَها مَثَلاً =وَما مَواعيدُها إِلّا الأَباطيلُ
أَرجو وَآمُلُ أَن يَعجَلنَ في أَبَدٍ = وَما لَهُنَّ طِوالَ الدَهرِ تَعجيلُ
فَلا يَغُرَّنَكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت = إِنَّ الأَمانِيَ وَالأَحلامَ تَضليلُ
أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها = إِلّا العِتاقُ النَجيباتُ المَراسيلُ
وَلَن يُبَلِّغها إِلّا عُذافِرَةٌ =فيها عَلى الأَينِ إِرقالٌ وَتَبغيلُ
مِن كُلِّ نَضّاخَةِ الذِفرى إِذا عَرِقَت =عُرضَتُها طامِسُ الأَعلامِ مَجهولُ
تَرمي الغُيوبَ بِعَينَي مُفرَدٍ لَهَقٍ = إِذا تَوَقَدَتِ الحُزّانُ وَالميلُ
ضَخمٌ مُقَلَّدُها فَعَمٌ مُقَيَّدُها = في خَلقِها عَن بَناتِ الفَحلِ تَفضيلُ
حَرفٌ أَخوها أَبوها مِن مُهَجَّنَةٍ = وَعَمُّها خَالُها قَوداءُ شِمليلُ
يَمشي القُرادُ عَلَيها ثُمَّ يُزلِقُهُ = مِنها لَبانٌ وَأَقرابٌ زَهاليلُ
عَيرانَةٌ قُذِفَت في اللَحمِ عَن عُرُضٍ = مِرفَقُها عَن بَناتِ الزورِ مَفتولُ
كَأَنَّ ما فاتَ عَينَيها وَمَذبَحَها = مِن خَطمِها وَمِن اللَحيَينِ بَرطيلُ
تَمُرُّ مِثلَ عَسيبِ النَخلِ ذا خُصَلٍ = في غارِزٍ لَم تَخَوَّنَهُ الأَحاليلُ
قَنواءُ في حُرَّتَيها لِلبَصيرِ بِها = عِتقٌ مُبينٌ وَفي الخَدَّينِ تَسهيلُ
تَخدي عَلى يَسَراتٍ وَهيَ لاحِقَةٌ = ذَوابِلٌ وَقعُهُنُّ الأَرضَ تَحليلُ
سُمرُ العُجاياتِ يَترُكنَ الحَصى زِيَماً = لَم يَقِهِنَّ رُؤوسَ الأُكُمِ تَنعيلُ
يَوماً يَظَلُّ بِهِ الحَرباءُ مُصطَخِماً =كَأَنَّ ضاحِيَهُ بِالنارِ مَملولُ
كَأَنَّ أَوبَ ذِراعَيها وَقَد عَرِقَت = وَقَد تَلَفَّعَ بِالقورِ العَساقيلُ
وَقالَ لِلقَومِ حاديهِم وَقَد جَعَلَت = وُرقُ الجَنادِبِ يَركُضنَ الحَصى قيلوا
شَدَّ النهارُ ذِراعاً عَيطلٍ نَصَفٍ =قامَت فَجاوَبَها نُكدٌ مَثاكيلُ
نَوّاحَةٌ رَخوَةُ الضَبعَين لَيسَ لَها = لَمّا نَعى بِكرَها الناعونَ مَعقولُ
تَفِري اللِبانَ بِكَفَّيها وَمِدرَعِها = مُشَقَّقٌ عَن تَراقيها رَعابيلُ
يَسعى الوُشاةُ بِجَنبَيها وَقَولُهُم = إِنَّكَ يَا بنَ أَبي سُلمى لَمَقتولُ
وَقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنتُ آمُلُهُ = لا أُلفِيَنَّكَ إِنّي عَنكَ مَشغولُ
فَقُلتُ خَلّوا سبيلي لا أَبا لَكُمُ = فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَحمَنُ مَفعولُ
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ = يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني =وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ ال = قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ
لا تَأَخُذَنّي بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم = أُذِنب وَلَو كَثُرَت عَنّي الأَقاويلُ
لَقَد أَقومُ مَقاماً لَو يَقومُ بِهِ = أَرى وَأَسمَعُ ما لَو يَسمَعُ الفيلُ
لَظَلَّ يُرعَدُ إِلّا أَن يَكونَ لَهُ = مِنَ الرَسولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنويلُ
مازِلتُ أَقتَطِعُ البَيداءَ مُدَّرِعاً =جُنحَ الظَلامِ وَثَوبُ اللَيلِ مَسبولُ
حَتّى وَضَعتُ يَميني لا أُنازِعُهُ = في كَفِّ ذي نَقِماتٍ قيلُهُ القيلُ
لَذاكَ أَهَيبُ عِندي إِذ أُكَلِّمُهُ = وَقيلَ إِنَّكَ مَسبورٌ وَمَسؤولُ
مِن ضَيغَمٍ مِن ضِراءَ الأُسدِ مُخدِرَةً = بِبَطنِ عَثَّرَ غيلٌ دونَهُ غيلُ
يَغدو فَيَلحَمُ ضِرغامَين عَيشُهُما = لَحمٌ مِنَ القَومِ مَعفورٌ خَراذيلُ
إذا يُساوِرُ قِرناً لا يَحِلُّ لَهُ= أَن يَترُكَ القِرنَ إِلّا وَهُوَ مَفلولُ
مِنهُ تَظَلُّ حَميرُ الوَحشِ ضامِرَةً = وَلا تُمَشّي بِواديهِ الأَراجيلُ
وَلا يَزالُ بِواديِهِ أخَو ثِقَةٍ =مُطَرَّحُ البَزِّ وَالدَرسانِ مَأكولُ
إِنَّ الرَسولَ لَنورٌ يُستَضاءُ بِهِ = مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم = بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّا أَسَلَموا زولوا
زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ = عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ
شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ = مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
بيضٌ سَوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ = كَأَنَّها حَلَقُ القَفعاءِ مَجدولُ
يَمشون مَشيَ الجِمالِ الزُهرِ يَعصِمُهُم = ضَربٌ إِذا عَرَّدَ السودُ التَنابيلُ
لا يَفرَحونَ إِذا نالَت رِماحُهُمُ = قَوماً وَلَيسوا مَجازيعاً إِذا نيلوا
لا يَقَعُ الطَعنُ إِلّا في نُحورِهِمُ = ما إِن لَهُم عَن حِياضِ المَوتِ تَهليلُ