هذه قصيدة للشاعر اللبناني الكبير عباس بيضون، كتبها اثناء مرحلة من مراحل انخراطه في العمل السياسي، ونشرت بمجلة مواقف عدد 27، لشهر يناير من سنة 1974، تحت عنوان ( قصيدة حب لشعب مهان) ، ويصنفها بعض النقاد على انها من أجمل وأروع ما كتب من شعر، وهي في تمجيد الشهيد " علي شعيب" الذي استشهد في العام 1973، اثر الهجوم على " بنك أوف أميركا " في بيروت، والذي نفذته مجموعة مسلّحة تابعة لـ " منظمة الاشتراكيين الثوريين"، مطالبة الدولة بالإفراج عن رفاق لهم. وقد حوصر المسلحون داخل البنك، وخرجت في الشوارع مظاهرات تأييدية ورمى المسلّحون بالعملات النقدية إلى الجماهير " الأحقّ طبقياً بتلك الأموال، وللتأكيد على أننا لم نكن عصابة من السارقين بل مناضلين عندنا قضية سياسية". قتل الجيش في اقتحامه للبنك اثنين من المجموعة أحدهما علي شعيب، الذي مجده عباس بيضون بهذه القصيدة الرائعة بتأثير المرحلة الثورية
وقد زعم النقاد أيضا أن الشاعر عباس بيضون قد تبرأ من هذه القصيدة برغم جمالها المفرط وقوة شاعريتها وبداعة نظمها، وروعتها لاحقاً واصفا العملية بالارهابية، ولا نعرف مصداقية هذا الادعاء من طرف النقاد، وهو موقف متدبدب يلقي بظلاله على خلفيات هذا القرار السياسي الارتكاسي الذي انخرط فيه العديد من المثقفين لاعتقادهم انهم ضحايا " الحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية " التي قادت برأيهم الوطن الى اتون حرب طائفية طاحنة "، من ضمنهم طبعا الشاعر ، وزياد الرحباني الذي الف مسرحية بعنوان " يا نور عينيا رحنا ضحية ضحية الحركة الثورية "، وتلك حكاية اخرى
وقد اشتهرت القصيدة بــــ " يا علي" شعرا ومغنى شهرة منقطعة النظير بفضل ادائها من طرف الفنان التقدمي مارسيل خليفة، وأحبّها الكثير من اليساريين، وذاعت شهرتها اكثر لدى اهل الجنوب اللبناني خاصة، حيث اعتقد الكثيرون أن مارسيل خليفة يغني للإمام علي، لورود البيت الذي يقول فيه " يا علي نحن أهل الجنوب "، ولأن كلمة " علي" رائجة بكثرة في الأوساط الجنوبية، فحين يريد المواطن أن يقوم باي عمل يقول " يا علي ".
ويتنذر البعض في امر موقف صاحب هذه القصيدة، ويحرفون مجرى كلماتها الى: " يا علي لم نعد أهل الجنوب "
اختيار وتعليق: نقوس المهدي
*****
القصيدة
قصيدة حب لشعب مهان
( مصرع علي شعيب)
( يـــا عـلي)
عباس بيضون
أكتب قصيدة بلا دم ولا أزهار. حين تكون الجثة منصوبة على السهل، حين نجمع كسر رجالنا بعد العاصفة، نجد القلب ما زال يعصر، القلب ما زال يعصر. الكتف تختلج كالسنبلة والقامات الصلبة التي تدحرجت كأنغام كبيرة من الجبال تتحول إلى شظايا قانية، ودم فوار.
حين ننقب في الأرض، نجد فتات رجالنا يجرح لهاة الأرض، والتراب يعرق من مضاجع القتلى، بينما تتفصد الينابيع الواسعة من الجراح الغائرة.
الهواء يجدف هادئاً على المرتفعات والسفوح، والجثة تسافر في غبرة حديدية بين شرطة وعربات تستقبلها النساء بعيون واسعة، وقصيدتي تندس بينهن، تمتلئ البرك إلى حافاتها بخفقة قلب، وتلذع جنوب النسوة أمومة مذعورة، وترق الأرض تحت الجثة المرشوشة بالرصاص، بينما يجلل الحزن القرى كقميص من حديد. ويحوم الهواء مسلحاً على رأس السرية والحرس.
تنضح أوراق النقد دماً، ووجوه الصيارفة كوجوه الدمى. وعلى الباحات والسلالم ينصب سوق الدم القطرة مقابل الرصاصة. والقلوب تنتفخ وتعمل كالفَعَلة.
تسقط قطرات على نجوم القادة، فتكتهل وتسقط على الأرض بلا مجد، بينما ينزف القادة رصاصاتهم في المباول. لكن القطرة تنزل أيضاً على قلب الجبان وفم الأخرس، والأمن الذي يطحن قلوب الأطفال.
يا علي نحن أهل الجنوب، حفاة المدن نروي سيرتك على أصفى البرك والأودية.
إن حطام أبنائنا وأسلحتهم يغطي السفوح، ونحن نرى ذلك بصمت.
تسقط كل صبيحة بندقية على الجبل، ونحن نرى ذلك بصمت، لكننا ذات يوم سنوجه سكك محاريثنا إلى قلوبهم السمينة الفاجرة.
ذات يوم نرفعك كزهرة، حيث قاتلتَ وسقطتَ كسنبلة كاسرة تحطمتْ على رؤوس القتلة. ذات يوم ننصبك على جبالنا.
قاومت لتحرر دمك من عنابر الزيت، وفمك من مخازن الكَسر وعظامك من مقاعد البكوات وأمراء الدواوين. قضمت قلبك بأسنانك، لتفك رأسك وساعديك. لكن أيها الصديق، أين تجد هنا مكاناً لرأس طليق ويدين حرتين.
الهواء محكوم والماء مصفد في برك سيدك. النسمة داجنة في الحقول، والليل مربوط إلى الأرض.
سيكون رأسك صخرة على كتفيك، وذراعك ثقيلة كسلسلة حديدية. لذا تقف في برية نفسك، تتدلى من فمك صيحتك الجارحة. تنطبع على قلبك صورة الصرخة، كما تنطبع بقعة الدم على الرصاصة، وتتحرك بقع الزيت على المياه. بينما تتجمع الغابات على رؤوس أناملها ويمشي الليل على أذياله، ويمر الهواء كاللص على سفوح البحر.
كنت تسير معذباً بهذه الطبيعة الميتة ككف مقطوع وذراع وحيدة، وعين منفصلة وسلاح مدفون في الرمل.
لكنك تذكُر الفلاحين الذين كانوا يرافقون القوافل ويطبقون على المدن، المهربين الذين كانوا يبرقون كالسيوف على خطوط النار ويأكلون الموت بأعينهم وضحكاتهم الماطرة. لصوص الجبال الذين سقطوا في ساحات القرى، بين أعين النساء الحانية، والذين كانوا ينزلون كرعد الجبال والصخور من الذرى، ليرشوا لحم القطعان المسلوبة على الناس.
تذكُر الرجال الذين كانوا يدفنون الأحياء ويقتلون الأطفال على حليب الأمهات، كما تذكر شيوخ القرى الذين خنقوا ساداتهم بالمصاحف.
تذكر أننا كنا نحمل ذراعاً تضرب وبندقية تصيب، وقلباً يعض على الموت.
لم نكن من قبل شحاذي المدن ولا صعاليك العواصم، ولا عبيد التبغ والسادة لم يجرؤوا علينا إلا حين ماتت قطعاننا وجفّت مياهنا في الآبار. لذلك كنت تسير كرجل من الماضي، كصخرة من الماضي.
من ينسى عيون الأطفال الفارغة في أرض موطني؟ من ينسى كيف يغوص الفلاحون في تربة خوفهم كالخِلد؟ من ينسى كيف يقتتل الإخوة على موائد السادة وكيف أذلت الجبال العالية، وكسرت الأرض العامرة؟ كيف يولد الذعر مع العين، والخور مع القلب في أرض الصخر الخاضع والجياد المسوطة والذرى الداجنة؟
من يرى الدم والعقال والشارب على الطريق والقامات الوعرة المرتفعة، منكبة على الأجران والحفائر وروث الخيل؟ من يرى الأهل الباكين والأمهات المجلودات والشيوخ الكبار ساقطي الرأس، من يرى كل ذلك ولا يحترق قلبه في موضعه كزهرة مصعوقة ولا يتحول قلبه إلى إبرة كاسرة، ويد ضارية وطُعم مسموم؟
لذلك أتحدث عنك وقلبي يطل من فمي، يا ابن موطني، ايها الرعد المبكر الذي ينزل على جبالنا ليفكها، وعلى أرضنا ليطلق سهلها وبركها الواسعة يا قامة الوعر المنتصبة والجرد الذي يختزن الصواعق والبندقية التي تحركت على المرتفعات والقلب الذي يترقرق بماء الوطن. لقد أخرجتك دموع الأمهات وسلاسل الشيوخ قبل الأوان إلى نهايتك المبكرة.
يا علي،
أنا الشاعر، قلبي طينة جنوبية وطبل جنوبي وأنا مثلك يوماً ما، على أرض أقل مجداً، سيقتلني حبي، سيقتلني حزني.
(مجلة «مواقف»، عدد كانون الثاني/ يناير ١٩٧٤)
وقد زعم النقاد أيضا أن الشاعر عباس بيضون قد تبرأ من هذه القصيدة برغم جمالها المفرط وقوة شاعريتها وبداعة نظمها، وروعتها لاحقاً واصفا العملية بالارهابية، ولا نعرف مصداقية هذا الادعاء من طرف النقاد، وهو موقف متدبدب يلقي بظلاله على خلفيات هذا القرار السياسي الارتكاسي الذي انخرط فيه العديد من المثقفين لاعتقادهم انهم ضحايا " الحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية " التي قادت برأيهم الوطن الى اتون حرب طائفية طاحنة "، من ضمنهم طبعا الشاعر ، وزياد الرحباني الذي الف مسرحية بعنوان " يا نور عينيا رحنا ضحية ضحية الحركة الثورية "، وتلك حكاية اخرى
وقد اشتهرت القصيدة بــــ " يا علي" شعرا ومغنى شهرة منقطعة النظير بفضل ادائها من طرف الفنان التقدمي مارسيل خليفة، وأحبّها الكثير من اليساريين، وذاعت شهرتها اكثر لدى اهل الجنوب اللبناني خاصة، حيث اعتقد الكثيرون أن مارسيل خليفة يغني للإمام علي، لورود البيت الذي يقول فيه " يا علي نحن أهل الجنوب "، ولأن كلمة " علي" رائجة بكثرة في الأوساط الجنوبية، فحين يريد المواطن أن يقوم باي عمل يقول " يا علي ".
ويتنذر البعض في امر موقف صاحب هذه القصيدة، ويحرفون مجرى كلماتها الى: " يا علي لم نعد أهل الجنوب "
اختيار وتعليق: نقوس المهدي
*****
القصيدة
قصيدة حب لشعب مهان
( مصرع علي شعيب)
( يـــا عـلي)
عباس بيضون
أكتب قصيدة بلا دم ولا أزهار. حين تكون الجثة منصوبة على السهل، حين نجمع كسر رجالنا بعد العاصفة، نجد القلب ما زال يعصر، القلب ما زال يعصر. الكتف تختلج كالسنبلة والقامات الصلبة التي تدحرجت كأنغام كبيرة من الجبال تتحول إلى شظايا قانية، ودم فوار.
حين ننقب في الأرض، نجد فتات رجالنا يجرح لهاة الأرض، والتراب يعرق من مضاجع القتلى، بينما تتفصد الينابيع الواسعة من الجراح الغائرة.
الهواء يجدف هادئاً على المرتفعات والسفوح، والجثة تسافر في غبرة حديدية بين شرطة وعربات تستقبلها النساء بعيون واسعة، وقصيدتي تندس بينهن، تمتلئ البرك إلى حافاتها بخفقة قلب، وتلذع جنوب النسوة أمومة مذعورة، وترق الأرض تحت الجثة المرشوشة بالرصاص، بينما يجلل الحزن القرى كقميص من حديد. ويحوم الهواء مسلحاً على رأس السرية والحرس.
تنضح أوراق النقد دماً، ووجوه الصيارفة كوجوه الدمى. وعلى الباحات والسلالم ينصب سوق الدم القطرة مقابل الرصاصة. والقلوب تنتفخ وتعمل كالفَعَلة.
تسقط قطرات على نجوم القادة، فتكتهل وتسقط على الأرض بلا مجد، بينما ينزف القادة رصاصاتهم في المباول. لكن القطرة تنزل أيضاً على قلب الجبان وفم الأخرس، والأمن الذي يطحن قلوب الأطفال.
يا علي نحن أهل الجنوب، حفاة المدن نروي سيرتك على أصفى البرك والأودية.
إن حطام أبنائنا وأسلحتهم يغطي السفوح، ونحن نرى ذلك بصمت.
تسقط كل صبيحة بندقية على الجبل، ونحن نرى ذلك بصمت، لكننا ذات يوم سنوجه سكك محاريثنا إلى قلوبهم السمينة الفاجرة.
ذات يوم نرفعك كزهرة، حيث قاتلتَ وسقطتَ كسنبلة كاسرة تحطمتْ على رؤوس القتلة. ذات يوم ننصبك على جبالنا.
قاومت لتحرر دمك من عنابر الزيت، وفمك من مخازن الكَسر وعظامك من مقاعد البكوات وأمراء الدواوين. قضمت قلبك بأسنانك، لتفك رأسك وساعديك. لكن أيها الصديق، أين تجد هنا مكاناً لرأس طليق ويدين حرتين.
الهواء محكوم والماء مصفد في برك سيدك. النسمة داجنة في الحقول، والليل مربوط إلى الأرض.
سيكون رأسك صخرة على كتفيك، وذراعك ثقيلة كسلسلة حديدية. لذا تقف في برية نفسك، تتدلى من فمك صيحتك الجارحة. تنطبع على قلبك صورة الصرخة، كما تنطبع بقعة الدم على الرصاصة، وتتحرك بقع الزيت على المياه. بينما تتجمع الغابات على رؤوس أناملها ويمشي الليل على أذياله، ويمر الهواء كاللص على سفوح البحر.
كنت تسير معذباً بهذه الطبيعة الميتة ككف مقطوع وذراع وحيدة، وعين منفصلة وسلاح مدفون في الرمل.
لكنك تذكُر الفلاحين الذين كانوا يرافقون القوافل ويطبقون على المدن، المهربين الذين كانوا يبرقون كالسيوف على خطوط النار ويأكلون الموت بأعينهم وضحكاتهم الماطرة. لصوص الجبال الذين سقطوا في ساحات القرى، بين أعين النساء الحانية، والذين كانوا ينزلون كرعد الجبال والصخور من الذرى، ليرشوا لحم القطعان المسلوبة على الناس.
تذكُر الرجال الذين كانوا يدفنون الأحياء ويقتلون الأطفال على حليب الأمهات، كما تذكر شيوخ القرى الذين خنقوا ساداتهم بالمصاحف.
تذكر أننا كنا نحمل ذراعاً تضرب وبندقية تصيب، وقلباً يعض على الموت.
لم نكن من قبل شحاذي المدن ولا صعاليك العواصم، ولا عبيد التبغ والسادة لم يجرؤوا علينا إلا حين ماتت قطعاننا وجفّت مياهنا في الآبار. لذلك كنت تسير كرجل من الماضي، كصخرة من الماضي.
من ينسى عيون الأطفال الفارغة في أرض موطني؟ من ينسى كيف يغوص الفلاحون في تربة خوفهم كالخِلد؟ من ينسى كيف يقتتل الإخوة على موائد السادة وكيف أذلت الجبال العالية، وكسرت الأرض العامرة؟ كيف يولد الذعر مع العين، والخور مع القلب في أرض الصخر الخاضع والجياد المسوطة والذرى الداجنة؟
من يرى الدم والعقال والشارب على الطريق والقامات الوعرة المرتفعة، منكبة على الأجران والحفائر وروث الخيل؟ من يرى الأهل الباكين والأمهات المجلودات والشيوخ الكبار ساقطي الرأس، من يرى كل ذلك ولا يحترق قلبه في موضعه كزهرة مصعوقة ولا يتحول قلبه إلى إبرة كاسرة، ويد ضارية وطُعم مسموم؟
لذلك أتحدث عنك وقلبي يطل من فمي، يا ابن موطني، ايها الرعد المبكر الذي ينزل على جبالنا ليفكها، وعلى أرضنا ليطلق سهلها وبركها الواسعة يا قامة الوعر المنتصبة والجرد الذي يختزن الصواعق والبندقية التي تحركت على المرتفعات والقلب الذي يترقرق بماء الوطن. لقد أخرجتك دموع الأمهات وسلاسل الشيوخ قبل الأوان إلى نهايتك المبكرة.
يا علي،
أنا الشاعر، قلبي طينة جنوبية وطبل جنوبي وأنا مثلك يوماً ما، على أرض أقل مجداً، سيقتلني حبي، سيقتلني حزني.
(مجلة «مواقف»، عدد كانون الثاني/ يناير ١٩٧٤)