نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

متوازيان..

متوازيان. .
استبد بي القلق ذلك المساء. كان اﻷصدقاء مجتمعين، كالعادة، في ركنهم بالمقهى. ضحكاتهم تصم اﻵذان. ربما هو قلقي الذي يشوه كل جميل. جلست معهم، رغبة في تغيير الحال الذي يقال عنه محال. أشار صديقي محمد إلى مجلات وجرائد كانت موضوعة على الجانب، معلقا:
- لا تقلق كثيرا، ستتكفل شركة التأمين بتعويضك عن السفن الغارقة هذا اليوم.
خيل لي أني ابتسمت.
واصل أصدقائي جدلهم ،فيما عدت إلى قوقعتي. وبعد لحظات قليلة، قمت من مكاني وتوجهت إلى حيث كان صديقنا ابن رشد يصارع الكلمات والانزياحات، محاطا بطلابه القادمين من مشارق الشمس ومغاربها. كان فصل المقال عسيرا. رفع عينيه نحوي مؤكدا: " الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له". أزعجني قوله فعلقت : هل تقصد وجها الحق، كأن نقول وجهان لحق واحد، أم حقان في وجود واحد.
أشاح بوجهه عني،فانفرط عقد الطلاب. حدجني بنظرة غاضبة، وقال بصوت عميق الهدوء:
- هو فصل في مقام لا يحتمل التثنية، فإما ظاهر وإما باطن.
- جعلت الحق حقين يا أبا الوليد، وفرقتنا شعبين، وقلت أنك ستفصل ما اتصل.
- كل ذلك بقواعد ﻻ يحيد عنها إلا جاهل.
- لقد صارت عندنا قاعدة واحدة، شغلت العالم، بعدما أشعلته. واستكانت داعشية في الشرق ودامسية في الغرب.
- لسان العرب لا يجيز هذه العبارات.
- يكفي أن واقع العرب قد أجازه.
شعرت بيد توضع على كتفي. ألتفت لأجد صديقي محمد يخبرني أن الوقت قد حان للذهاب إلى إلبيت. كانت نظراتي شاردة . يضع يده تحت ذراعي، ويواصل:
- عليك أن تذهب معي إلى البيت، زوجتك تنتظر أن تصالحها. ولدك يسأل متى يعودان إلى بيتكم؟
- صحيح، سأذهب إلى البيت، لكن.. وحدي.. هي و أنا خطان متوازيان .. على اﻷقل، اﻵن..
(2)
عدت إلى البيت مساء.. كان الصمت قاسيا في إطباقه على كل اﻷركان. . غرف اﻷولاد باردة.. تبخر أﻷمل في سماع ضجيجهم وصراعاتهم التي لا تنتهي. لم تعد إلى البيت. لا زالت مصرة على الفراق. و أنا مصر على عدم مصالحتها.
أحيانا أضحك من تفاهتنا نحن الإثنين معا. تجاذب الأضداد ليس دائما طاقة للنجاح. نحن عالمان متعارضان. كان جديرا بي ألا أظلمها بإكمال ديني معها. أنا كائن دائم الدين والمديونية. وهي دائمة التفكير في الآمان و الضمان. أحب أضواء المطارات و منارات الموانئ، وهي تسعد بدفء المطبخ و عبق الوصفات الجديدة. التوتر الداخلي عندي مؤشر للحياة، الهدوء وا الاستكانة، عندها ، متعة الوجود.
دخلت غرفة المكتبة. أوراق وكتب متناثرة على المكتب و في كل الجوانب. إنها الفوضى التي تعرفها حياتي. قد أتحدث كثيرا عن النظام وأهميته، وعن التخطيط وفعاليته، وقد أصول و أجول في دنيا المفاهيم ودلالاتها.. لكن ذلك،كله، لا يخفي المسافة الفارقة بين ما أقول و بما أقوم.. أنا لست أنا.. يا إلهي، ما هذا؟ إذا كنت أنا لست أنا، فمن أنا؟ أظاهر أنا أم باطن؟ هل أنا المعلن أم المبطن؟ .. مسكينة زوجتي.. مع من تتعامل؟
(3)
استيقظت على صوت المنبه، المبرمج دائما على نفس التوقيت. الغرفة باردة. السكون مستمر في السيطرة على المكان.
أمام المرآة، كان وجهي يبحث عن نفسه في انعكاس صورة ليست هو.. شعر أشعث. . لحية طويلة بلا لون.. عينان حمراوان.. و سؤال يجتاحني بإلحاح: ماذا لو كنت شيطانا؟ هلعا، أرتمي تحت الرشاش. أغمضُ عيني، وأترك الماء ينساب من أعلى رأسي إلى جسدي . ترتخي عضلاتي وينتظم تنفسي.. ماذا دهاني؟ لماذا لم أعد أعرف نفسي؟ هل حقا لا أعرفها، أم أني اﻵن أكشفها وأعريها؟ اللعنة.. لماذا هذه اﻷسئلة؟
- أرأيت كم أنت جبان؟ تخاف حتى السؤال..
أضع يدي على أذني، رغبة في إسكات هذا الصوت.. لكنه صوتي الذي لا يستكين أبدا. أصرخ في وجه هذا الوجه الغريب:
- لست شيطانا، ولا جبانا. أنا .. أنا..
- أنت من يعود سكرانا، بعد منتصف الليل، و يوقظ زوجته من نومها لتهيأ له عشاء، يعرف أنه لن يأكله. و لكنه فقط يتلذذ برؤية نفسه آمرا ناهيا عليها.. أنت المناصر للمرأة وقضاياها في الخارج، والقاهر لها في الداخل.
أخرج من الحمام مسرعا.. أغير ملابسي و أغادر البيت.
كانت القاعة غاصة بالحضور. . غالبيتهم أطفال .. هاجس الكم يضغط على المنظمين.. انطلقت الندوة.. تحدثوا عن المرأة والمشاركة السياسية.. و.. و.. وجاء دوري لأجعل صوتي القوي يلعلع مع دفقات الأدرينالين ..
" يأتي الاحتفال باليوم العالمي للمرأة ....." و أسمع صوتي اﻵخر يجلجل بضحكات طويلة مرددا: " ظاهر وباطن.. خارج وداخل..
 

محمد فري

المدير العام
طاقم الإدارة
جميل ما كتبت
ما شد انتباهي هو التقسيم الذي اخترته للنص: هو بدوره يطرح ثنائية في الشكل …
فالفقرات تتيح قراءتها منفصلة عن بعضها مما يجعلنا أمام ثلاثة نصوص
وبالإمكان قراءتها مندمجة مع بعضها مكونة ما يمكن اعتباره ثلاثية سردية
مودتي
 
جميل ما كتبت
ما شد انتباهي هو التقسيم الذي اخترته للنص: هو بدوره يطرح ثنائية في الشكل …
فالفقرات تتيح قراءتها منفصلة عن بعضها مما يجعلنا أمام ثلاثة نصوص
وبالإمكان قراءتها مندمجة مع بعضها مكونة ما يمكن اعتباره ثلاثية سردية
مودتي
شكرا جزيلا أستاذي وصديقي العزيز السي محمد فري، على هذه الإضاءة التي أعتز بها. دام لك الإبداع و التألق..
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى