تصادف هذه الأيام ذكرى رحيل الشاعر المصري الكبير محمد عيد إبراهيم الذي كان حاضرا بيننا قبل أربع سنوات، شغل حياته بنسج نصوص طاعنة في الحسن والرقة، معيدا للغة سيرتها البتول، مخفورا بوعول الشعر وأيائله وصولا الى النبع مبكرا قبل أن يغير هذا النبع صفوه، عامرا بفيوض اللغة، مفعما بتهيؤات الأليغوريا، ناذرا من عمره القصير متسعا للشعر والبهاء، ناصحا، موجها، مشاطرا حروفه التي تنعش المخيلة، محصنا إياها ضد حمى الشعارات المؤدلجة، وجموحها، مؤمِّنا على وثوقية الكلام وكنهه العرفاني، باعتبار أن (الكلام أعلى من اللغة في لغوها مع الفنون الأخرى) - "رحلة الأعمى إلى الكهف".
خمس وستون سنة، كانت مهرحانا للفرح والغبطة كانت، نثر خلالها المحبة بين عمرين، هكذا عرفت مولانا محمد عيد، مؤمنا بإخلاص القديسين، راعيا للصداقات بتفان، أنا الذي كتب لي الحظ أن أكون ضمن كوكبة خلانه الأصفياء.. قبل أن يسقط علينا نعيه كالصقيع عبر دموع ونشيج القديسة عنفوان فؤاد الصادر عن قلب مكلوم. وروح حزينة في ذلك المساء الكئيب.
عنفوان فؤاد السلطانة المخلصة للصداقات، القريبة إلى الروح، الخفيفة على المزاج، العاشقة للجمال والحرية، كانت تبكي بصدق، وهي تحمل الينا النبأ، نبأ الرحيل المغجع الحزين، غير مصدقة حتى اللحظة التي تكتب فيها:
(سأعتبر غيابك هذا
مجرد هدنة
هدنة مع الحياة
هدنة مع الشعر
هدنة مع الترجمة
هدنة مع الناس
هدنة مع الوطن)
عنفوان فؤاد - لا عزاء ولا مواساة في الأب الغالي محمد عيد
فهو من مواليد 1955م بالقاهرة، خريج كلية الإعلام قسم الصحافة 1978م. ترجمت أشعاره إلى أكثر من لغة. وترجم حوالي ثمانين كتابا من وإلى العربية.
لم يكن التعرف الى محمد عيد إبراهيم عسيرا بالمرة، لأن اشعاره من النوع التي تعشق من أول نظرة، تلك النظرة الجسورة التي تصرع عاشقا من الغمزة الأولى، ولإنه ذلك الشاعر المتنسك في خلوات الوجد الصوفي، المتوله بعشق الجمال، ذلك العشق المتأصل الذي خلقه انشداده للمتون التراثية والعرفانية، فقد نسج من تلك التولهات طيلسانا للشوق الوجداني، الذي تدكيه وتتعتعه الخمرة الالهية المعتقة في خوابي الروح.
- الشاعر محمد عيد ابراهيم وقصيدة النثر
جرب محمد عيد إبراهيم في كل فنون القول، وكانت قصيدة النثر محبوبته المفضلة، بل أهم سمات منجزه الإبداعي، إذ أسبغ عليها من حسه السوريالي الرهيف إهابا قشيبا. مهتديا بخطى أندري بريتون، وجورج حنين، وباقي رسل المذهب السوريالي، ومجانينه، متأثرا بسان جون بيرس، وأبولينير، وشعراء مجلة شعر، وكيمياء حجر الفلسفة
* (كانت يميني تُشيرُ
لمرآةٍ تلتقط ألمي
بصحراءَ
حيّةٍ بيضاءَ يصعُبُ إسكاتُها
وحُرِمتُ من النجومِ إلى الأبد،)
- رغمَ ذلكَ نصفي بستان
* (في الحديقةِ، يمشِي يومياً، عندَ تنفُّسِ الصباحِ، رجلٌ وكلبٌ وامرأة. الرجلُ طويلٌ، ليسَ طويلاً بالضبطِ، بل يَمِيلُ إلى الطولِ، بكَتِفَين مُعضَّلتَين، أقرَعُ، ومؤخِّرةٌ دبّابَة. والكلبُ ضَخمٌ نقيضَ العادةِ، "بيتبول دوج" أو الألمانيّ الفَجُّ العنيفُ. أما المرأةُ فقَصِيرةٌ نِسبياً، هَيفاءُ، مُدبِرةٌ، عكسَ الرجلِ، فمؤخِّرتُها مُنسَابةٌ سيَّالةٌ مَسحُوبة، كجِذعٍ مالَ إلى حَبِيبٍ، أو قوسِ ضِلْعٍ ذَبِيحٍ يَسرُّ الطاعِمِين، أو رقصةِ سامبا تخدمُ الخِفّةَ في عَضَلَتَيْ وِركَيْها، لكن المرأةَ بيضاءُ، لا نقطةٌ فيها خِلاسِيَّة.)
- المرأة والكلب..
* (قَمرٌ كالثدي، في ليلٍ كلهُ غامضٌ،
وراحَ فمي، في هُيامٍ، يردّد: “لوما”،
و”لوما”، فرأيتُ “لوما”،
تنضّ عنها بُرنُسَ البحرِ، تزعقُ
وهي تبكي: “أيعوي الشوقُ، كالكلبِ، مِن
مِنبره؟”، ثمةَ بإصبَعها، زهرةٌ، كعَظْمةٍ بيضاءَ
مَقصُوصةٍ، “لوما” تُخَرخِشُ تفّاحةً، بقَواطِعها
الأماميةِ، تحدِجُ، للوراءِ، في سُخطٍ، شَفتاها
كحلقةِ نيرانٍ، على أخضرِ الفاكهةِ،)
- “ لوما” في ساحل المجاز
***
- محمد عيد إبراهيم والتراث:
لا نتطرق لسيرة الشاعر محمد عيد ابراهيم دون التطرق الى علاقته بالمتون الصوفية العربية والتراثية العتيقة التي عشقها وخصها بكثير العناية، ووشاها بالقيم الانسانية، وطرزها بفتون الأصالة، ووميض الشعر الحرون، وهكذا نتعثر بشطحات مولانا الرومي بلخي والفردوسي، ومخاطبات النفري، ورؤى أبي يزيد البسطامي، وتباريح عماد الدين نسيمي، وتهويمات الحلاج.
* (مِن بَردِيّةِ ظَهرَت أمامي
رأيتُ ألسِنَةً كالطيرِ
وامرأةً ترقُص وحدَها، في
الجَنبِ شَقْفَةُ وَجهٍ وسُنبلةٌ
وبأعلَى يبدو أنها ساقُ رَجُل،
على اليسارِ طَيفٌ تآكَلَ في دَعَةٍ
لكاهنٍ بمنقارٍ، أيضاً
حَرفٌ كقاربٍ فيهِ نُقطَة ثَمَر
تَحتَهُ خَطٌّ بتعَرّجاتٍ و
نجوم، قُربَ ساقِ الرَجُل
سَرطانٌ وسطَ جُعرانٍ له
جناحانِ
مَنصوبانِ على ثَديٍ حولَه فيرانٌ)
- كا ـ "نون"..
* (سأكونُ آخرَ مَن يَعبدُ الماءَ
من أجلِها، وأُرتِّب حياتي
للوصولِ
من جَيبِ معركةٍ إلى شارعٍ،
من سِقَالَةٍ لفنونِ أغصانٍ،
ومن قِطارٍ لِجِسرٍ لحَفَّارٍ لِلَطافَةِ أسلاكِ الكَهرباءِ،
أعصابي لآلِيّاتِ أسناني
وفَمي بأنَّتِها على المَذبَحِ. لا
يَشدُّني شيءٌ أو ألفُّ لأشباحٍ
خارجَ الحُلمِ، كالبومةِ
أَحشَاؤها ساخِنةٌ، بكثيرٍ من الرِقّة...
.
إلى أن أرميَ الجَمَرَاتِ ـ)
- غاياتٌ كبيرة لعَبَدَةِ الماء
* (تحجّ إلى رُكنِ آلهتي، بوِفادةِ رَحّالٍ،
وتلبَث...، أُغطّيكَ بالتُلّ والثناءِ،
عمودياً أُصلّي، باتّجاهِ عُرفِكَ، و
في فمي رَغوةٌ: أتطولُ بي الحياةُ؟")
- أصلّي لربٍّ على شكلِ طائر
المزيّن
يحلقُ المزيّنُ حتى ما وراء المساءِ
ليكسبَ القليلَ الذي يتبلّعُ بهِ، بغطاءٍ على كتفيهِ،
يأخذُ نفسَهُ من شارعٍ لشارعٍ
ليصطادَ أحداً جاهزاً للحلاقةِ
معتمداً على قوّةِ ذراعهِ ليملأَ بطنَهُ
كالنحلةِ الشغّالةِ وقتَ العملِ.
الخزّاف
الخزّافُ مع طِينهِ وطَميهِ ــــ
ينهضُ مبكراً مع الخدَمِ؛
يُعِيقُ الثوبُ والأعشابُ مَجهوداتهِ
حتى يوفَّقَ في حَرقِ قُدورهِ
ملابسهُ تتيبّسُ من الوَحلِ
ومئزرهُ الجلديُّ مهترئٌ؛
الهواءُ الداخلُ مِنخَرَهُ
ينزُّ مباشرةً من كِيرهِ.
يعملُ بقدميهِ مَدقّةً
ليرُضَّ بها الطينَ مفروداً،
يسعلُ باستمرارٍ في أفنيةِ البيوتِ،
وغيرُ مقبولٍ بالأماكنِ العامةِ.
البنّاء
دعني أحكي لكَ عن بنّاءِ الجدرانِ ــــ
حياتهُ مُؤسّيةٌ.
واجبهُ أن يعملَ بالخارجِ وقتَ الريحِ العاتيةِ،
ويظلُّ هكذا بالمِئزرِ القصيرِ؛
مِئزرهُ خِرقةٌ
و”بيتُ الراحةِ” عنهُ بعيدٌ.
ذراعاهُ ميتتان من استعمالهِ الإزميلَ،
وقياسهُ خطأٌ دائماً؛
يأكلُ بأصابعهِ طعامَهُ
ويغتسلُ مرةً في اليومِ.
النجّار
النجّارُ شقيٌّ وهو يمسكُ رَسمَتهُ ــــ
حينَ يقومُ بتشطيبِ غُرفةٍ،
نِطاقٍ بمقبرةٍ 6 في 10.
يمضي شَهرٌ ـــــ
أعمالهُ الخشبيةُ مشقوقةٌ، وحصيرهُ مفتّتٌ،
وكلّ ما كانَ مركّباً بعنايةٍ دُمّرَ
وعمّا قد يُزوّدُ بهِ أهلَ بيتهِ،
فليسَ بمستطيعٍ أن يُطعِمَ أولادَهُ.)
- نقد الصنائع
"قصائد من الأدب المصريّ القديم"
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
***
- محمد عيد إبراهيم والترجمة
يعتقد الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم بأن "الترجمة قراءة للنص والقصيدة ترجمة للوعي"، وخصص لها حيزا عريضا من شغفه، وخلف إرثا ضخما من الترجمات الأنيقة في الشعر العالمي لمشاهير الأدباء، ويتأسف جيدا لذلك النكران المجحف الذي جوبه به، والإهمال الذي تعرض له من طرف النقاد، إذ قال لي في مناسبة اليوم العالمي للترجمة بكثير من الأسى والتحسر، "لقد ترجمت زهاء ثمانين كتابا، وبرغم ذلك لم يذكرني احد ولو بسوء"
لم تكن حياة الشاعر القديس محمد عيد إبراهيم حياة عرضية، بقدر ما كانت محطة للعطاء والإبداع الفاتن والحكمة والتوهج، وهب لها قسطا وافرا من عمره، بتواضع بليغ، ونكران ذات، من دون نرجسيه ولا غطرسة، غير مجامل او متباه بما يكتب. كما يقول:
* (من يغترّ بما يكتبُ، تصدُر عنه رائحةٌ نتنة، تنفّر منه ملاكةَ الشعر.
مَن يتصوّر أن ملاكةَ الشعرِ طَوعُ يدَيه، واهِمٌ، أحمق، مهرّج!
فهي للجميع، حقاً، لكن مهرها الجماليّ عالٍ،
لا تبلغُ بابَها إلا بكثيرٍ من الدأب، والطرقُ دائماً بكلّ أدب!
كلما كتبتُ شيئاً جديداً، وأنا عمري 62 سنة، أتشكّك: هل هذه قصيدة؟!
يقولُ قائل عني: شاعرٌ (مرموق)، وقد يقولُ آخر: (معطوبُ الموهبة)!
ليكن... فاختلافكُم رحمة!) - "أحوال/ أهوال... ملاكة الشعر!"
فحق له أن يكرم
وحق له أن يرتاح مرتاحا، حاضنا أفراحه، مؤملا تحقيق أمنيته
(وبحُلمي
رغبةٌ بيضاءُ
أن أموتَ على
عشبٍ، ومحبوبي معي،
كالمُنَوّمِ تحتَ المطر.)
(*) من ديوان "الملاك الأحمر"،
خمس وستون سنة، كانت مهرحانا للفرح والغبطة كانت، نثر خلالها المحبة بين عمرين، هكذا عرفت مولانا محمد عيد، مؤمنا بإخلاص القديسين، راعيا للصداقات بتفان، أنا الذي كتب لي الحظ أن أكون ضمن كوكبة خلانه الأصفياء.. قبل أن يسقط علينا نعيه كالصقيع عبر دموع ونشيج القديسة عنفوان فؤاد الصادر عن قلب مكلوم. وروح حزينة في ذلك المساء الكئيب.
عنفوان فؤاد السلطانة المخلصة للصداقات، القريبة إلى الروح، الخفيفة على المزاج، العاشقة للجمال والحرية، كانت تبكي بصدق، وهي تحمل الينا النبأ، نبأ الرحيل المغجع الحزين، غير مصدقة حتى اللحظة التي تكتب فيها:
(سأعتبر غيابك هذا
مجرد هدنة
هدنة مع الحياة
هدنة مع الشعر
هدنة مع الترجمة
هدنة مع الناس
هدنة مع الوطن)
عنفوان فؤاد - لا عزاء ولا مواساة في الأب الغالي محمد عيد
فهو من مواليد 1955م بالقاهرة، خريج كلية الإعلام قسم الصحافة 1978م. ترجمت أشعاره إلى أكثر من لغة. وترجم حوالي ثمانين كتابا من وإلى العربية.
لم يكن التعرف الى محمد عيد إبراهيم عسيرا بالمرة، لأن اشعاره من النوع التي تعشق من أول نظرة، تلك النظرة الجسورة التي تصرع عاشقا من الغمزة الأولى، ولإنه ذلك الشاعر المتنسك في خلوات الوجد الصوفي، المتوله بعشق الجمال، ذلك العشق المتأصل الذي خلقه انشداده للمتون التراثية والعرفانية، فقد نسج من تلك التولهات طيلسانا للشوق الوجداني، الذي تدكيه وتتعتعه الخمرة الالهية المعتقة في خوابي الروح.
- الشاعر محمد عيد ابراهيم وقصيدة النثر
جرب محمد عيد إبراهيم في كل فنون القول، وكانت قصيدة النثر محبوبته المفضلة، بل أهم سمات منجزه الإبداعي، إذ أسبغ عليها من حسه السوريالي الرهيف إهابا قشيبا. مهتديا بخطى أندري بريتون، وجورج حنين، وباقي رسل المذهب السوريالي، ومجانينه، متأثرا بسان جون بيرس، وأبولينير، وشعراء مجلة شعر، وكيمياء حجر الفلسفة
* (كانت يميني تُشيرُ
لمرآةٍ تلتقط ألمي
بصحراءَ
حيّةٍ بيضاءَ يصعُبُ إسكاتُها
وحُرِمتُ من النجومِ إلى الأبد،)
- رغمَ ذلكَ نصفي بستان
* (في الحديقةِ، يمشِي يومياً، عندَ تنفُّسِ الصباحِ، رجلٌ وكلبٌ وامرأة. الرجلُ طويلٌ، ليسَ طويلاً بالضبطِ، بل يَمِيلُ إلى الطولِ، بكَتِفَين مُعضَّلتَين، أقرَعُ، ومؤخِّرةٌ دبّابَة. والكلبُ ضَخمٌ نقيضَ العادةِ، "بيتبول دوج" أو الألمانيّ الفَجُّ العنيفُ. أما المرأةُ فقَصِيرةٌ نِسبياً، هَيفاءُ، مُدبِرةٌ، عكسَ الرجلِ، فمؤخِّرتُها مُنسَابةٌ سيَّالةٌ مَسحُوبة، كجِذعٍ مالَ إلى حَبِيبٍ، أو قوسِ ضِلْعٍ ذَبِيحٍ يَسرُّ الطاعِمِين، أو رقصةِ سامبا تخدمُ الخِفّةَ في عَضَلَتَيْ وِركَيْها، لكن المرأةَ بيضاءُ، لا نقطةٌ فيها خِلاسِيَّة.)
- المرأة والكلب..
* (قَمرٌ كالثدي، في ليلٍ كلهُ غامضٌ،
وراحَ فمي، في هُيامٍ، يردّد: “لوما”،
و”لوما”، فرأيتُ “لوما”،
تنضّ عنها بُرنُسَ البحرِ، تزعقُ
وهي تبكي: “أيعوي الشوقُ، كالكلبِ، مِن
مِنبره؟”، ثمةَ بإصبَعها، زهرةٌ، كعَظْمةٍ بيضاءَ
مَقصُوصةٍ، “لوما” تُخَرخِشُ تفّاحةً، بقَواطِعها
الأماميةِ، تحدِجُ، للوراءِ، في سُخطٍ، شَفتاها
كحلقةِ نيرانٍ، على أخضرِ الفاكهةِ،)
- “ لوما” في ساحل المجاز
***
- محمد عيد إبراهيم والتراث:
لا نتطرق لسيرة الشاعر محمد عيد ابراهيم دون التطرق الى علاقته بالمتون الصوفية العربية والتراثية العتيقة التي عشقها وخصها بكثير العناية، ووشاها بالقيم الانسانية، وطرزها بفتون الأصالة، ووميض الشعر الحرون، وهكذا نتعثر بشطحات مولانا الرومي بلخي والفردوسي، ومخاطبات النفري، ورؤى أبي يزيد البسطامي، وتباريح عماد الدين نسيمي، وتهويمات الحلاج.
* (مِن بَردِيّةِ ظَهرَت أمامي
رأيتُ ألسِنَةً كالطيرِ
وامرأةً ترقُص وحدَها، في
الجَنبِ شَقْفَةُ وَجهٍ وسُنبلةٌ
وبأعلَى يبدو أنها ساقُ رَجُل،
على اليسارِ طَيفٌ تآكَلَ في دَعَةٍ
لكاهنٍ بمنقارٍ، أيضاً
حَرفٌ كقاربٍ فيهِ نُقطَة ثَمَر
تَحتَهُ خَطٌّ بتعَرّجاتٍ و
نجوم، قُربَ ساقِ الرَجُل
سَرطانٌ وسطَ جُعرانٍ له
جناحانِ
مَنصوبانِ على ثَديٍ حولَه فيرانٌ)
- كا ـ "نون"..
* (سأكونُ آخرَ مَن يَعبدُ الماءَ
من أجلِها، وأُرتِّب حياتي
للوصولِ
من جَيبِ معركةٍ إلى شارعٍ،
من سِقَالَةٍ لفنونِ أغصانٍ،
ومن قِطارٍ لِجِسرٍ لحَفَّارٍ لِلَطافَةِ أسلاكِ الكَهرباءِ،
أعصابي لآلِيّاتِ أسناني
وفَمي بأنَّتِها على المَذبَحِ. لا
يَشدُّني شيءٌ أو ألفُّ لأشباحٍ
خارجَ الحُلمِ، كالبومةِ
أَحشَاؤها ساخِنةٌ، بكثيرٍ من الرِقّة...
.
إلى أن أرميَ الجَمَرَاتِ ـ)
- غاياتٌ كبيرة لعَبَدَةِ الماء
* (تحجّ إلى رُكنِ آلهتي، بوِفادةِ رَحّالٍ،
وتلبَث...، أُغطّيكَ بالتُلّ والثناءِ،
عمودياً أُصلّي، باتّجاهِ عُرفِكَ، و
في فمي رَغوةٌ: أتطولُ بي الحياةُ؟")
- أصلّي لربٍّ على شكلِ طائر
المزيّن
يحلقُ المزيّنُ حتى ما وراء المساءِ
ليكسبَ القليلَ الذي يتبلّعُ بهِ، بغطاءٍ على كتفيهِ،
يأخذُ نفسَهُ من شارعٍ لشارعٍ
ليصطادَ أحداً جاهزاً للحلاقةِ
معتمداً على قوّةِ ذراعهِ ليملأَ بطنَهُ
كالنحلةِ الشغّالةِ وقتَ العملِ.
الخزّاف
الخزّافُ مع طِينهِ وطَميهِ ــــ
ينهضُ مبكراً مع الخدَمِ؛
يُعِيقُ الثوبُ والأعشابُ مَجهوداتهِ
حتى يوفَّقَ في حَرقِ قُدورهِ
ملابسهُ تتيبّسُ من الوَحلِ
ومئزرهُ الجلديُّ مهترئٌ؛
الهواءُ الداخلُ مِنخَرَهُ
ينزُّ مباشرةً من كِيرهِ.
يعملُ بقدميهِ مَدقّةً
ليرُضَّ بها الطينَ مفروداً،
يسعلُ باستمرارٍ في أفنيةِ البيوتِ،
وغيرُ مقبولٍ بالأماكنِ العامةِ.
البنّاء
دعني أحكي لكَ عن بنّاءِ الجدرانِ ــــ
حياتهُ مُؤسّيةٌ.
واجبهُ أن يعملَ بالخارجِ وقتَ الريحِ العاتيةِ،
ويظلُّ هكذا بالمِئزرِ القصيرِ؛
مِئزرهُ خِرقةٌ
و”بيتُ الراحةِ” عنهُ بعيدٌ.
ذراعاهُ ميتتان من استعمالهِ الإزميلَ،
وقياسهُ خطأٌ دائماً؛
يأكلُ بأصابعهِ طعامَهُ
ويغتسلُ مرةً في اليومِ.
النجّار
النجّارُ شقيٌّ وهو يمسكُ رَسمَتهُ ــــ
حينَ يقومُ بتشطيبِ غُرفةٍ،
نِطاقٍ بمقبرةٍ 6 في 10.
يمضي شَهرٌ ـــــ
أعمالهُ الخشبيةُ مشقوقةٌ، وحصيرهُ مفتّتٌ،
وكلّ ما كانَ مركّباً بعنايةٍ دُمّرَ
وعمّا قد يُزوّدُ بهِ أهلَ بيتهِ،
فليسَ بمستطيعٍ أن يُطعِمَ أولادَهُ.)
- نقد الصنائع
"قصائد من الأدب المصريّ القديم"
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
***
- محمد عيد إبراهيم والترجمة
يعتقد الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم بأن "الترجمة قراءة للنص والقصيدة ترجمة للوعي"، وخصص لها حيزا عريضا من شغفه، وخلف إرثا ضخما من الترجمات الأنيقة في الشعر العالمي لمشاهير الأدباء، ويتأسف جيدا لذلك النكران المجحف الذي جوبه به، والإهمال الذي تعرض له من طرف النقاد، إذ قال لي في مناسبة اليوم العالمي للترجمة بكثير من الأسى والتحسر، "لقد ترجمت زهاء ثمانين كتابا، وبرغم ذلك لم يذكرني احد ولو بسوء"
لم تكن حياة الشاعر القديس محمد عيد إبراهيم حياة عرضية، بقدر ما كانت محطة للعطاء والإبداع الفاتن والحكمة والتوهج، وهب لها قسطا وافرا من عمره، بتواضع بليغ، ونكران ذات، من دون نرجسيه ولا غطرسة، غير مجامل او متباه بما يكتب. كما يقول:
* (من يغترّ بما يكتبُ، تصدُر عنه رائحةٌ نتنة، تنفّر منه ملاكةَ الشعر.
مَن يتصوّر أن ملاكةَ الشعرِ طَوعُ يدَيه، واهِمٌ، أحمق، مهرّج!
فهي للجميع، حقاً، لكن مهرها الجماليّ عالٍ،
لا تبلغُ بابَها إلا بكثيرٍ من الدأب، والطرقُ دائماً بكلّ أدب!
كلما كتبتُ شيئاً جديداً، وأنا عمري 62 سنة، أتشكّك: هل هذه قصيدة؟!
يقولُ قائل عني: شاعرٌ (مرموق)، وقد يقولُ آخر: (معطوبُ الموهبة)!
ليكن... فاختلافكُم رحمة!) - "أحوال/ أهوال... ملاكة الشعر!"
فحق له أن يكرم
وحق له أن يرتاح مرتاحا، حاضنا أفراحه، مؤملا تحقيق أمنيته
(وبحُلمي
رغبةٌ بيضاءُ
أن أموتَ على
عشبٍ، ومحبوبي معي،
كالمُنَوّمِ تحتَ المطر.)
(*) من ديوان "الملاك الأحمر"،