عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
ابتلاع مدينة:
في قلب مدينة قديمة، ولد "ع"؛ طفل غريب الأطوار، . تميز منذ صغره بنوبات غضب عاتية، لا تهدأ إلا بفعل غريب: التهام أشياء غير تقليدية. فكان يقضم الفحم بعنف، ويلتهم تراب الجدران بشراهة..
مع تقدمه في السن، ازداد سلوكه غرابة. انجذب إلى ألعاب الحواة، حيث كان يشاهدهم بإعجاب يلتهمون المصابيح، ويبتلعون زجاج النوافذ، دون أن يصابوا بأذى. كما حرص على حضور احتفالات غريبة في مدينته، حيث كان بعض الأشخاص، في احتفالات عيد المولد النبوي، يقدمون عروضا مدهشة: يأكلون أوراق التوت الهندي الحارقة، ويشربون الماء الساخن، بل ويمضغون بمتعة قطع الزجاج المكسور!
وقد شاهد مرة شخصا يبتلع طائرة بأكملها، فبقي ينظر إليه بدهشة، كان الرجل ملهما.
كبر "ع"، وكبر غضبه مع ازدياد فوضى مدينته. حيث ضاق ذرعا بانعدام المسؤولية، وغياب الأمن والنظافة، وانتشار الإجرام والفساد، واستغلال الناس بأبشع الطرق.
في لحظة من اليأس، انفجر غضبه كبركان هائج، وقام بعمل غريب: فتح فمه الواسع، وبدأ يلتهم مباني مدينته حجرا حجرا، وشارعا شارعا حتى لم يخل من ورائه سوى أطلال.
شعر "ع" بامتلاء رهيب، ومغص حادٍ لم يشعر بمثله من قبل. وفجأة، سمع أصواتا غريبة تأتي من داخله: أصوات بكاء وطلب للنجدة. أدرك برعب أنه لم يلتهم مجرد حجارة، بل ابتلع مدينته بأكملها، وسكانها معه!
أصيب "ع" بهلع شديد، فحاول التقيؤ، لكن دون جدوى. شعر وكأن بطنه صار سجنا ضخما. بمرور الوقت، بدأت أصوات المدينة تختفي تدريجيا، ولم يتبق سوى صمت مريب.
في تلك اللحظة، أدرك "ع" خطأه الفادح. لقد ابتلع بسبب غضبه مدينته، ودمر حياة ناس أبرياء. ندمه كان هائلا، لكنه جاء بعد فوات الأوان.
وهكذا، عاش "ع" باقية حياته وحيدا، سجينا في مدينة داخل جسده، يعاني من عذاب الضمير، وثقل الندم، وصراخ الأشباح التي ابتلعها.
في لحظة، شعر "ع" بهزة قوية داخل جسده. وفجأة، انشق بطنه، وبدأت المدينة تخرج منه ببطء، حجرا حجرا، شارعا شارعا، حتى عادت كما كانت قبل أن يلتهمها.
خرج السكان من بطنه أحياء، لكن من دون ذاكرة؛ لم يتذكروا شيئا، كأن يدا مسحت الأحداث كلها.
وعاشوا حياة جديدة، وكأن مدينتهم قد ولدت من جديد. أما "ع"، فقد اختفى دون أثر، وكانه تبخر أو لم يكن له وجود أصلا.