حاميد اليوسفي
كاتب
عطش زهرة
حاميد اليوسفي
قصة قصيرة
اعتاد معلم اللغة الفرنسية بأن يناديها (ماتيا)*.. اسمها الحقيقي زهرة. كانت تطرب للاسمين معا، ولا تفرق بينهما. اليوم تجلس وحيدة في فناء البيت. زوجها يوسف هاجر إلى الجنوب للبحث عن شغل مثل أغلب شباب القرية. عندما يطول النهار في فصل الصيف، يعمل في أوراش البناء. المقاولون مثل البق*، لا بد أن يمتصّوا دمه أكثر من اثنتي عشرة ساعة في اليوم مقابل أجر لا يتجاوز ثمانين درهما. ولا يعود إلى البيت حتى يقترب موسم الحرث.
كل سنة يتحول الصيف في القرية إلى جحيم. فيصبح شغل الناس الشاغل هو البحث عن الماء.ماتيا أو زهرة عندما تجلس وحيدة، أحيانا تسرقها ذكريات المعلم والمدرسة. كانت تأمل وهي طفلة أن تُنهي دراستها، وتجد عملا، وتستقر في إحدى المدن البعيدة. تحلم مع نفسها إذا تحقق لها ذلك، أن تذهب في الصيف إلى الشاطئ رفقة ولديها وزوجها. تخيلت كل شيء، بدءا من الزوج والأولاد ومايو السباحة إلى المنشفة، والمظلة الكبيرة التي تحمي من أشعة الشمس، والوجبات الخفيفة، وكيفية الحفاظ عليها. كل ذلك تضعه بعناية في صندوق السيارة الخلفي. وتطلب من زوجها أن يسوق بتأنّ حتى يصلا، ويعودا إلى البيت بسلام.
لم يسبق لها أن ذهبت إلى البحر، فقط سمعت المعلم يتحدث عنه في القسم. تفتح حسابا في البنك. تسافر مرة عبر الميناء، ومرة عبر الطائرة أو القطار. كانت تعمل كل ذلك في الخيال.
الأشياء الجميلة التي كان يتحدث عنها المعلم في المدرسة لازالت عالقة بذهنها. الطرق السيارة، والموانئ، والغابات، والحوامض، والمطارات، والقطارات، والفنادق، وملاعب الكولف، والقصور الفخمة، والأبناك، والفوسفاط، والعملة الصعبة، والأسماك في البحر والمحيط، والهيدروجين الأخضر، والطاقات المتجددة.. لكنها الآن تشعر بالغبن، والأسى العميق. كل هذه الخيرات لم يصل منها شيء إلى القرية.
بدا لها الأمر مثل أضغاث أحلام. طفلها يغفو ويستيقظ، ليطلب فقط جرعة ماء.
تجف بئر القرية في الصيف. والناس لا يتوفرون على المال لحفر بئر جديدة. المرشحون يأتون كل خمس سنوات، ويعدون الناخبين بحفر بئر. أولاد الحرام دائما يخلفون الوعد. يمارسون بإتقان لعبة الكذّاب يغلب الطمّاع. قالها ولد لويزة منذ عشر سنوات، بأن البئر لن تُحفر بالتصويت في الانتخابات على هذا المرشح أو ذاك. ودعا إلى تقديم ملتمس إلى الأمم المتحدة، ولم يصدقه الناس.
ها هم الآن يسافرون بضعة أميال لجلب الماء في الليل، تجنبا لحرارة النهار. والبئر التي يسقون منها ذات صبيب ضعيف. لتملأ دلوين، وتحملهما على الحمار لا بد أن يرتفع ضغط دمك، وتتخاصم وأنت تنتظر لساعات طوال، وقد لا تعود إلى البيت حتى تُشرق الشمس.
ماتيا أو زهرة امرأة في مقتبل العمر. رغم الفقر لازالت تحافظ على قدر كبير من جمالها وأنوثتها، ولا يمكن أن تقطع كل هذه المسافة في الليل وحيدة، دون أن تتعرض للتحرش أو الاغتصاب. في المغرب النساء يخفن ذئاب الليل حتى في المدن المكتظة التي تتوفر على شرطة، ومراكز أمن، وسيارات إسعاف.
تنتظر مضطرة حتى الصباح. تقطع المسافة تحت لفحات شمس حارقة، وعندما تصل البئر تجدها جفت. ولا تعود إلى البيت حتى تشعر بأن روحها ستزهق من شدة الحر، ومن وقع الخيبة. ولا يبقى أمامها إلا التوسل للجيران.
اليوم قررت ماتيا أو زهرة، أن تعمل شريط فيديو مباشر، وتوجه عبره نداءً إلى وطنها الحبيب. ارتدت جلبابها الرمادي، وغطت شعرها بمنديل أبيض، ووقفت في فناء البيت، وطلبت من صديقتها أن تأخذ الهاتف، وتقترب منها، حتى تلتقط الصوت، وتظهر صورتها بشكل واضح. ارتبكت قليلا ثم قالت بصوت يفيض أسى وألما:
ـ يا وطني الحبيب! أنا ماتيا أو زهرة لا فرق. أعيش رفقة ابني في قرية من قرى المغرب المنسي. والله بصدق لا أريد بحرا ولا ميناءا ولا مطارا ولا قطارا سريعا ولا سوقا ممتازا، ولا طريقا سيارا ، ولا حسابا في البنك؟!
يا وطني الحبيب! أنا ماتيا بالأمازيغية، وزهرة بالعربية. في عز لهيب الشمس، وارتفاع درجات الحرارة إلى الخمسين، والله لا أريد سوى بئرا قريبة من البيت، لأسقي دلو ماء، أشرب منه رفقة ابني، وأهيئ له لقمة طعام على قلته، ودلوا آخر لأغسل جسمه، وأنظف ملابسه. فهل ستنتظرون حتى أسقط أنا وابني في بئر جافة، وتأتي فرق الإنقاذ، وآلات الحفر، والقنوات التلفزية من آخر الدنيا لتصوير، ونقل مأساتنا إلى العالم؟!
يا وطني الحبيب! هل دلو ماء كثير على أنا وابني في عز هذه النار التي تنزل على رأسينا من السماء ؟!
كررت التقاط الشريط ثلاث مرات حتى استقرت على أفضل إخراج..
قبل أن تنهي صديقتها التصوير، مسحت ماتيا دمعة سقطت من العين. تنهدت وأحست كأنها تزيح حملا ثقيلا عن كتفيها.
المعجم :
ـ ماتيا : اسم مؤنث بالأمازيغية، يعني سيدة النساء.
ـ البق من حشرات الفراش، وهي حشرات صغيرة بلا أجنحة وذات لون بني مائل للحمرة تمتص الدم.
مراكش 20 غشت 2023
حاميد اليوسفي
قصة قصيرة
اعتاد معلم اللغة الفرنسية بأن يناديها (ماتيا)*.. اسمها الحقيقي زهرة. كانت تطرب للاسمين معا، ولا تفرق بينهما. اليوم تجلس وحيدة في فناء البيت. زوجها يوسف هاجر إلى الجنوب للبحث عن شغل مثل أغلب شباب القرية. عندما يطول النهار في فصل الصيف، يعمل في أوراش البناء. المقاولون مثل البق*، لا بد أن يمتصّوا دمه أكثر من اثنتي عشرة ساعة في اليوم مقابل أجر لا يتجاوز ثمانين درهما. ولا يعود إلى البيت حتى يقترب موسم الحرث.
كل سنة يتحول الصيف في القرية إلى جحيم. فيصبح شغل الناس الشاغل هو البحث عن الماء.ماتيا أو زهرة عندما تجلس وحيدة، أحيانا تسرقها ذكريات المعلم والمدرسة. كانت تأمل وهي طفلة أن تُنهي دراستها، وتجد عملا، وتستقر في إحدى المدن البعيدة. تحلم مع نفسها إذا تحقق لها ذلك، أن تذهب في الصيف إلى الشاطئ رفقة ولديها وزوجها. تخيلت كل شيء، بدءا من الزوج والأولاد ومايو السباحة إلى المنشفة، والمظلة الكبيرة التي تحمي من أشعة الشمس، والوجبات الخفيفة، وكيفية الحفاظ عليها. كل ذلك تضعه بعناية في صندوق السيارة الخلفي. وتطلب من زوجها أن يسوق بتأنّ حتى يصلا، ويعودا إلى البيت بسلام.
لم يسبق لها أن ذهبت إلى البحر، فقط سمعت المعلم يتحدث عنه في القسم. تفتح حسابا في البنك. تسافر مرة عبر الميناء، ومرة عبر الطائرة أو القطار. كانت تعمل كل ذلك في الخيال.
الأشياء الجميلة التي كان يتحدث عنها المعلم في المدرسة لازالت عالقة بذهنها. الطرق السيارة، والموانئ، والغابات، والحوامض، والمطارات، والقطارات، والفنادق، وملاعب الكولف، والقصور الفخمة، والأبناك، والفوسفاط، والعملة الصعبة، والأسماك في البحر والمحيط، والهيدروجين الأخضر، والطاقات المتجددة.. لكنها الآن تشعر بالغبن، والأسى العميق. كل هذه الخيرات لم يصل منها شيء إلى القرية.
بدا لها الأمر مثل أضغاث أحلام. طفلها يغفو ويستيقظ، ليطلب فقط جرعة ماء.
تجف بئر القرية في الصيف. والناس لا يتوفرون على المال لحفر بئر جديدة. المرشحون يأتون كل خمس سنوات، ويعدون الناخبين بحفر بئر. أولاد الحرام دائما يخلفون الوعد. يمارسون بإتقان لعبة الكذّاب يغلب الطمّاع. قالها ولد لويزة منذ عشر سنوات، بأن البئر لن تُحفر بالتصويت في الانتخابات على هذا المرشح أو ذاك. ودعا إلى تقديم ملتمس إلى الأمم المتحدة، ولم يصدقه الناس.
ها هم الآن يسافرون بضعة أميال لجلب الماء في الليل، تجنبا لحرارة النهار. والبئر التي يسقون منها ذات صبيب ضعيف. لتملأ دلوين، وتحملهما على الحمار لا بد أن يرتفع ضغط دمك، وتتخاصم وأنت تنتظر لساعات طوال، وقد لا تعود إلى البيت حتى تُشرق الشمس.
ماتيا أو زهرة امرأة في مقتبل العمر. رغم الفقر لازالت تحافظ على قدر كبير من جمالها وأنوثتها، ولا يمكن أن تقطع كل هذه المسافة في الليل وحيدة، دون أن تتعرض للتحرش أو الاغتصاب. في المغرب النساء يخفن ذئاب الليل حتى في المدن المكتظة التي تتوفر على شرطة، ومراكز أمن، وسيارات إسعاف.
تنتظر مضطرة حتى الصباح. تقطع المسافة تحت لفحات شمس حارقة، وعندما تصل البئر تجدها جفت. ولا تعود إلى البيت حتى تشعر بأن روحها ستزهق من شدة الحر، ومن وقع الخيبة. ولا يبقى أمامها إلا التوسل للجيران.
اليوم قررت ماتيا أو زهرة، أن تعمل شريط فيديو مباشر، وتوجه عبره نداءً إلى وطنها الحبيب. ارتدت جلبابها الرمادي، وغطت شعرها بمنديل أبيض، ووقفت في فناء البيت، وطلبت من صديقتها أن تأخذ الهاتف، وتقترب منها، حتى تلتقط الصوت، وتظهر صورتها بشكل واضح. ارتبكت قليلا ثم قالت بصوت يفيض أسى وألما:
ـ يا وطني الحبيب! أنا ماتيا أو زهرة لا فرق. أعيش رفقة ابني في قرية من قرى المغرب المنسي. والله بصدق لا أريد بحرا ولا ميناءا ولا مطارا ولا قطارا سريعا ولا سوقا ممتازا، ولا طريقا سيارا ، ولا حسابا في البنك؟!
يا وطني الحبيب! أنا ماتيا بالأمازيغية، وزهرة بالعربية. في عز لهيب الشمس، وارتفاع درجات الحرارة إلى الخمسين، والله لا أريد سوى بئرا قريبة من البيت، لأسقي دلو ماء، أشرب منه رفقة ابني، وأهيئ له لقمة طعام على قلته، ودلوا آخر لأغسل جسمه، وأنظف ملابسه. فهل ستنتظرون حتى أسقط أنا وابني في بئر جافة، وتأتي فرق الإنقاذ، وآلات الحفر، والقنوات التلفزية من آخر الدنيا لتصوير، ونقل مأساتنا إلى العالم؟!
يا وطني الحبيب! هل دلو ماء كثير على أنا وابني في عز هذه النار التي تنزل على رأسينا من السماء ؟!
كررت التقاط الشريط ثلاث مرات حتى استقرت على أفضل إخراج..
قبل أن تنهي صديقتها التصوير، مسحت ماتيا دمعة سقطت من العين. تنهدت وأحست كأنها تزيح حملا ثقيلا عن كتفيها.
المعجم :
ـ ماتيا : اسم مؤنث بالأمازيغية، يعني سيدة النساء.
ـ البق من حشرات الفراش، وهي حشرات صغيرة بلا أجنحة وذات لون بني مائل للحمرة تمتص الدم.
مراكش 20 غشت 2023