كفاح الزهاوي
كاتب
لقد أقبل الشتاء إلينا باكرًا، وكان الجو باردًا، حتى إن النَفَسَ التي خرجت من أفواهنا، كانت مجرد مليمترات قبل أن تتجمد. مشينا في مساحة بيضاء ناصعة، وغطى الثلج أجسادنا، حتى لم يعد من الممكن تمييزنا، بَدَونا كأشباح تتحرك في وحشة الأرض وصمتها. قوة مسلحة تخترق طرقًا صخرية، لا حياة فيها، عالَمًا ساكنًا كأنه أفق مجهول الأبعاد.
ساد الصمت في كل مكان، ولم نفتح فمنا بكلمة واحدة، لئلا تتجمد أنفاسنا، وتفسد جهودنا، وتقودنا إلى الهلاك، والضلال. في هذه اللحظة تذكرت نكتة عبد الله آغا، عندما كان يتحدث عن رحلته مع بعض مقاتليهم، في أجواء باردة تحت الصفر. قال: إنه نادى على مقاتليهم من بيشمرگة حزبهم:
ـ حمه، نوري، صادق… ولكن لم يرد أحد منهم.
وأضاف بتواضع:
ـ وحالما وصلنا الى أحد الكهوف، وأشرقت الشمس، وإذا بصوت يصدح في الهواء؛ يردد الأسماء: حمه، نوري، صادق…
عندما سئل عن مصدر الصوت، أجاب بثقة كبيرة:
ـ عندما ناديتهم في المرة الاولى، بدا صوتي متجمدًا من قسوة البرد، وما إن بزغت الشمس، حتى ذاب حرارتها كلماتي وأصبحت مسموعة.
لم يكن في حساباتنا أي شعور بالتسلية أو قضاء وقت ممتع، فهطول الثلج بهذه الغزارة يعد عائقًا حقيقيًا في مسيرتنا الطويلة، ثم إن الرياح السامة في هذا البرد القارس كانت تصفع وجوهنا، وتمر عبر مسامات قُفازاتنا الرقيقة، كأنها سكاكين قاصِلة تترك شروخًا خلفها.
وفي المنحدرات الحادة تنفث الريح الثلوج؛ فتتطاير باتجاه الطريق الضيق الواقع بين السفوح العالية، والهاوية السحيقة؛ فتخفي الأرض الصلبة عن الأنظار. كان هذا المقدار المتراكم على الأرض كافيًا لمواصلة المشي، وتحريك القدمين بخطوات متقنة لتتناغم مع استقبال الأرض لها. كلما استمر تساقط الثلوج، ونفخ الريح لها من المنحدرات المطلة على الطريق، وتجمعها أكوامًا؛ أثقلت حركة القدمين من التقدم بسهولة؛ لأنهما تغوصان فيها.
لو كانت البغال معنا في رحلتنا؛ ليسرت علينا مشقة البحث، واتخاذ الحذر؛ لأنها متمرسة في تناغمها مع الأرض فضلًا على ذلك، فهي تمشي على أربع، وقادرة على فتح الطريق، مما تفسح لنا الفرصة في تتبع آثار حوافرها؛ والأنكى من ذلك، هو ما نحمله من حقائب على ظهورنا، وعلى أكتافنا أسلحتنا الشخصية، وحول بطوننا مخازن الرصاص، وهذا ما يزيد الطين بلة.
تلك الإرادة الفذة كانت في العمق، صفة الأنصار، لا تستسلم للموت ببساطة، تجده على الرغْم من هيجان العواصف، وضراوة الأعاصير في كنف الثلوج، والصقيع منتصبًا بقامته العمودية متحديًا الأهوال الشاقة.
ساد الصمت في كل مكان، ولم نفتح فمنا بكلمة واحدة، لئلا تتجمد أنفاسنا، وتفسد جهودنا، وتقودنا إلى الهلاك، والضلال. في هذه اللحظة تذكرت نكتة عبد الله آغا، عندما كان يتحدث عن رحلته مع بعض مقاتليهم، في أجواء باردة تحت الصفر. قال: إنه نادى على مقاتليهم من بيشمرگة حزبهم:
ـ حمه، نوري، صادق… ولكن لم يرد أحد منهم.
وأضاف بتواضع:
ـ وحالما وصلنا الى أحد الكهوف، وأشرقت الشمس، وإذا بصوت يصدح في الهواء؛ يردد الأسماء: حمه، نوري، صادق…
عندما سئل عن مصدر الصوت، أجاب بثقة كبيرة:
ـ عندما ناديتهم في المرة الاولى، بدا صوتي متجمدًا من قسوة البرد، وما إن بزغت الشمس، حتى ذاب حرارتها كلماتي وأصبحت مسموعة.
لم يكن في حساباتنا أي شعور بالتسلية أو قضاء وقت ممتع، فهطول الثلج بهذه الغزارة يعد عائقًا حقيقيًا في مسيرتنا الطويلة، ثم إن الرياح السامة في هذا البرد القارس كانت تصفع وجوهنا، وتمر عبر مسامات قُفازاتنا الرقيقة، كأنها سكاكين قاصِلة تترك شروخًا خلفها.
وفي المنحدرات الحادة تنفث الريح الثلوج؛ فتتطاير باتجاه الطريق الضيق الواقع بين السفوح العالية، والهاوية السحيقة؛ فتخفي الأرض الصلبة عن الأنظار. كان هذا المقدار المتراكم على الأرض كافيًا لمواصلة المشي، وتحريك القدمين بخطوات متقنة لتتناغم مع استقبال الأرض لها. كلما استمر تساقط الثلوج، ونفخ الريح لها من المنحدرات المطلة على الطريق، وتجمعها أكوامًا؛ أثقلت حركة القدمين من التقدم بسهولة؛ لأنهما تغوصان فيها.
لو كانت البغال معنا في رحلتنا؛ ليسرت علينا مشقة البحث، واتخاذ الحذر؛ لأنها متمرسة في تناغمها مع الأرض فضلًا على ذلك، فهي تمشي على أربع، وقادرة على فتح الطريق، مما تفسح لنا الفرصة في تتبع آثار حوافرها؛ والأنكى من ذلك، هو ما نحمله من حقائب على ظهورنا، وعلى أكتافنا أسلحتنا الشخصية، وحول بطوننا مخازن الرصاص، وهذا ما يزيد الطين بلة.
تلك الإرادة الفذة كانت في العمق، صفة الأنصار، لا تستسلم للموت ببساطة، تجده على الرغْم من هيجان العواصف، وضراوة الأعاصير في كنف الثلوج، والصقيع منتصبًا بقامته العمودية متحديًا الأهوال الشاقة.