يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي "شهود الحق في النساء أعظم الشهود"، وهو ضرب من القول الذي يمكن تطبيقه على المبدعة مريم بن بخثة أو الشريفة كما يحلو للعديد من الأدباء مناداتها، أحبت الأدب والفكر حبا جما وأخلصت له، وأبت إلا أن ينمو مع ذلك الشغف العظيم بالقراءة، عشقها للأدب الذي ظل يراود مخيالها منذ زمن الصبا، فراكمت رصيدا معرفيا غنيا بحكم انفتاح مداركها على فضاءات شاسعة، وإتقانها للغة الفرنسية أيضا، ولم تتوقف طموحاتها الإبداعية عند جنس معين، فكتبت في أجناس أدبية متنوعة غطت الرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والمقالة، والشعر، كالتالي:
- وشم في الذاكرة، رواية، سنة 2009 عن دار إفريقيا الشرق
- سقوط المرايا، رواية، 2015 عن دار الوطن للنشر
- حديث الليل"، شعر، عن نفس الدار سنة 2014
- بأمر من مولانا السلطان، قصص قصيرة، سنة 2012 عن نفس الدار
- امرأة عن الرف، قصص قصيرة جدا، عن دار الوطن للنشر سنة 2016
- رقص على إيقاع الروح، قصص قصيرة، سنة 2020 عن دار الوطن
نشرت نصوصها عبر جرائد و مجلات وطنية وعربية، تناولها بالدراسة الكثير من النقاد كالدكتور مصطفى سلوي والأديب الباحث محمد داني، مصطفى فرحات، وغيرهم كثيرون.
ويأتي دور الزجل الذي خصتني الشاعرة الأديبة الشريفة بن بخثة بشرف تقديم إضمامتها الزجلية البكر التي اختارت لها عنوان (رحبة الاحلام)، فوجدتني إزاء عمل إبداعي جاد ومتزن، وكتابة عامية بديعة ومتميزة، ومغايرة للسائد والمألوف، خاصة أن المغرب عرف فورة زجلية عارمة، مع وصول الانترنت، ووسائل النشر الإلكتروني، وأفرز زجالين جادين وحقيقيين شكلوا دروعا للتراث الشفهي، وحراسا للذاكرة الشعبية واللفظ الأصيل، والنظم الرصين، وعملوا على الانتصار للقصيدة الزجلية الجادة من عبث المتهافتين، وحفظوا لها ماء الوجه، وعملوا على تطويرها، وتطهيرها، وميزوها عن الكلام المنطوق الدارج، واوصالوها الى آفاق واسعة وعريضة
ونصيب الأديبة الشريفة مريم بن بخثة في هذا المضمار أنها حفرت تجربتها الأدبية بثبات، شاقة لها سمتا واضحا، وإسما بارزا بأدوات إبداعية فريدة، لأن الكتابة في اعتبارها فكرة تنبثق من صميم واقع مرير مزنر بالخراب والفقد والظلم والبؤس، وخيال مجنح، وتساؤلات وجودية. مؤمنة بقدسية الكتابة، وجسامة رسالتها، غير معنية بمعارك الزجالين الصغيرة، وصداع الرأس
وفي تعريفها للزجل تقول الشريفة مريم بن بخثة بأنه فن من فنون الأدب الشعبي، لغته مستقاة من بيئة الشاعر، ووسيلة من وسائل التعبير بلغة عامية، يقال انها تعود في الاصل الى أهل المغرب والعدوة المقابلة، وحاليا تغير عن قديمه واتخذ شكلا حديثا نظرا للتطورات التي تعرفها اللهجات، -خاصة اللهجة المغربية- وإن بقيت اللهجة العامية او التسمية العامية هي اساس كتابته وقاموسه
والشاعرة الشريفة مريم بن بخثة تحب الزجل وتجده قريبا من النفس البشرية أكثر من غيره. لكن ليس كل ما يكتب من أزجال جيدة، بعكس تلك النصوص التي تلامس المشاعر والوجدان، مثل الأزجال التي تغنت بها مجموعات الأجيال طيلة خمسين عاما الماضية، إثر الصدمة الكبرى التي أحدثتها هزيمة 67.
وتقول أيضا: (أعشق زجل علي مفتاح لما فيه من عمق وبعد فلسفيين، وصور شعرية، واستثمار لدراسته الجامعية في اللسانيات، واطلاعه الواسع والكثير، فالقصيدة الواحدة عند علي مفتاح يشتغل عليها شهورا وربما حولا، ويهتم بنوعية الإبداع على حساب الكمية، وقد قرأت تقريبا دواوينه كلها، ووقفت على مدى المعاناة والجهد في كتابة نص واحد لديه ولدى زجالين محترمين آخرين، ولأجل هذه الاسباب تهيبت وتخوفت من النشر، ولم أطبع إضمامتي الزجلية الاولى، وحتى الآن حذفت نصوصا كثيرة احتراما وتقديرا لهذا الفن النبيل، ولمشاعر القارئ الحصيف).
وما دمنا بصدد الحديث عن الزجل، لا يفوتنا التأكيد على ان المرجعية المعجمية في أرض احمر التي تنحدر منها الشاعرة الشريفة مريم بن يخثة، تنماز بخاصية فريدة كونها محصلة تاريخية وتراثية نظرا لما تزخر به المنطقة من تقاليد عريقة، ومحكيات شفهية، وأهازيج النساء الحمريات في المناسبات واللمات.
والقصيدة الزجلية عند أديبتنا مريم بن بخثة متميزة وعميقة، مشغولة بلغة سهلة سلسة، وذات إيقاعية، وصور شعرية بليغة، وواضحة ومعبرة، إنها لغة الذات التي تذيب المسافة بين الروح وما يعتلج فيها من هموم وأحاسيس جياشة، وبين النظم العامي والشعر المعرب، الذي يدخل من باب الزجل العالم، المبني على قواعد وأسس معرفية ودراية بميكانيزمات الكتابة الأدبية المعترف بها، والمتسمة بالإقناع والإمتاع من دون تكلف أو تصنع، واللغة التي لم تتلوث بشوائب أهل الحضر، وترتبط بأصالة وبساطة أناسها، مزاوجة بين النظم الشعبي الدارج وما يشبعه من علاقات ممكنة بالمنحى الإنساني، بمفردات فريدة أصيلة وفية لطبيعة المنطقة، ومحافظة أمينة على أصالة وجمالية منطوقها، الذي يقع في المنزلة بين المنزلتين، وهذه الميزة جعلت سائر من يستمع لشعراء منطقة أحمر يصفونهم بــ"العروبية"، وهي صفة هجينة فيها ما فيها من تحامل وتغول..
تعتبر الشاعرة مريم بن بخثة شاعرة مقلة، لا تتهافت على النشر من أجل النشر، ولا غرابة في ان تولد القصيدة الزجلية على يديها مكتملة النمو بعد مخاض عسير، ومعاناة، وترو، ونشوة، وشعور بجسامة مسؤولية الكتابة، وإحساس جمالي يسري في أوصال الروح الشاعرة، وليست لغوا فارغا، وإهراقا للمداد على شريعة البياض.
ينبني عنوان ديوان (رحبة الاحلام)، والجو العام لقصائده ببلاغة وعمق معانيها، على ماهية وكيمياء "الحلم" وأبعاده الدلالية والرمزية، والصوفية أحيانا التي تفيض بنفحة روحانية، وخشوع في محراب الإيمان، هذه الأحلام التي حار في أمرها الفلاسفة، ووردت عند المفسرين على عدة توظيفات دون التوصل الى معرفة كنهها الذي يبقى ملغزا وسرابا غير ملموس، ويستعصي على أي تأويل أو تفسير، غير ما يكتنفها من حمولة نفسية الشيء الذي يحيل على جسامة ما تشيله الذات من أوصاب، ومعاناة، وهموم، ومسؤوليات، وهواجس
(وإذا كانت النفوس كبارا - تعبت في مرادها الأجسامُ) كما يقول المتنبي
بينما ترتبط مفردة "الحلمة أو الاحلام"، التي تتردد بنوع من الخشوع في سائر النصوص بصيغ مختلفة، نابت عنها سيميائية عناوين القصائد، ببلاغتها واختلاف مراميها ومقاصدها، وانزياحاتها مما أسبغ عليها بعدا إنسانيا، يجسد ما تعنيه، وما ترمز إليه من دلالات، وما تعانيه وتجتره الذات الشاعرة من معاناة وشجون، وتهيؤات، وهي تعافر من اجل إثبات الوجود، في مجتمع ذئبي السمات، دنيء الأخلاق، يحكمه التفاوت الطبقي، والظلم، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وعدوانية الحياة التي تطحن الكائن وتعرضه لشتى الهزات الوجدانية، والأوصاب في مجتمع لا يرحم، بثتها الشاعرة الشريفة مريم بن بخثة من أعماق نفسها، وصفاء سريرتها، وصدق مشاعرها، وحسن خلقهاـ ودماثة أخلاقها، وصدق طويتها ما أضفى عليها بعدا جماليا، وسمات إنسانية، ميزها قاموس شعري مغرق في أصالته، متهيبة خائفة، وجلة من جسامة وكيمياء الحلم وخذلانه عن أداء وظيفته الشعرية. كما تساءلت في قصيدة:
"هي غير حلمة وانا تقت فيها"(
...
جَلَّسْنِي على عَتْبَة ايَّامٍي
خَلِّيني نْشوفْها مَنْ الْفُوقْ
كِيفْ دازِت بْلا مَا تَعْلَمْنِي
ما حقَّقْتْ فِيها الشُّوفْ
وشوقي ليها ملاوط على عتبة العمر
سيحت هذاك الراس المحني
حاط عينه على باب الزهر
واش يدي منه بالحفنة ولا بقنطار العمر
سيحت ديك الحلمة ل وخداني
على قد شوف البصر
نطل فيها على راسي)
إلى أن تقول أيضا:
(حمامة نلقاني في رحبة الفرح
ترفرف في العالي
. هي غير حلمة و انا تقت فيها
سعدات حروفي لي هزا هبالي
و عاسة على طلة الحلمة
في جناح الظلمة...
وفي غرق ديك الحلمة
شديت خيوط منامي
نسولف عليهم و نسولف بيهم
نزاوك في الظلمة لا تضيع حقي في الحلمة
نلقى راسي فرادي)....
وهي إحالة على قصيدة النفس أو القصيدة العينية المنسوبة للشيخ الرئيس اين سينا
(هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ = وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ = وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ)
وسواها من القصائد التي أتت متتابعة كالتالي (الحلمة دازت وما وقفاتش عندي - مداد لحروف - بنت المطرة والريح - خايفة منك يا حرفي – تغيب في جوف صدري كلما هزتني الاشواق – رحبة الاحلام – قمرة مدسوسة بين جلايل الليل - شوقي لك مريا – زينة النسا - حلمي لهبيل – غير حلمة وانا تقت فيها - غِير خُذني على قد هْبالي – حوارية العشق- يعشق غيري).
لعل الحديث عن الزجل وتعريفاته لم يصل بعد حد اليقين لدى العديد من أهل هذا اللون من الشعور، وقد تنوعت الأسماء والمعنى واحد، ما بين الزجل، والملحون، والمحكيات الشعبية، والموشح، والأراجيز، والأمثال الشعبية، والأحجيات، والقصص، والألغاز، والخرافات، والخوارق، والعادات، والفولكلور، والشعر النبطي، والشعر الحلمنتيشي، والكان وكان أو "الزكالش" (وهو شعر عامي عراقي ظهر في القرن الخامس الهجري/ العاشر الميلادي)، وهي ألوان من المقول الشعبي المصوت به، هكذا يضحي الكلام المنظوم والشفهي المسجوع إحدى دعامات الذاكرة الشعبية وعنوان سماتها الحضارية وهي ترطن بعديد انتمائها القبلي ولغوها المحلي، ولهجاتها وألسنها وكثافة انزياحاتها وخصائصها الوظيفية، وجدية طروحاتها وفيض أحاسيسها ومشاعرها، واقترانه بالإنشاد والصوت والإيقاع والأداء الغنائي تجسده مقولة "لكلام عسل والصوت شهدة" كما يقول الشيخ إسماعيل المراكشي
وعطفا على هذا نستل من كتاب "بلوغ الأمل في فن الزجل" لأبي بكر حجة الحموي قولته الشهيرة: "... وإنما سمي هذا الفن زجلا لأنه لا يلتذ به وتفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به ويصوت"، وذلك للتدليل على العلاقة الوطيدة بين الزجل والأداء الصوتي مما يطرب له العامة، وبهذا التوصيف يعتبر فن الزجل مرآة تعكس مظاهر الحياة قديمها وحديثها ومستقبلها، وضربا من ضروب القول الشعري حديثه وتليده، وأداة للتواصل والتطريب، ونوعا من العلامات المميزة لديوان (رحبة الاحلام) للأديبة المتعددة والشاعرة المجيدة الشريفة مريم بن بخثة...
نقوس المهدي - اليوسفية
- وشم في الذاكرة، رواية، سنة 2009 عن دار إفريقيا الشرق
- سقوط المرايا، رواية، 2015 عن دار الوطن للنشر
- حديث الليل"، شعر، عن نفس الدار سنة 2014
- بأمر من مولانا السلطان، قصص قصيرة، سنة 2012 عن نفس الدار
- امرأة عن الرف، قصص قصيرة جدا، عن دار الوطن للنشر سنة 2016
- رقص على إيقاع الروح، قصص قصيرة، سنة 2020 عن دار الوطن
نشرت نصوصها عبر جرائد و مجلات وطنية وعربية، تناولها بالدراسة الكثير من النقاد كالدكتور مصطفى سلوي والأديب الباحث محمد داني، مصطفى فرحات، وغيرهم كثيرون.
ويأتي دور الزجل الذي خصتني الشاعرة الأديبة الشريفة بن بخثة بشرف تقديم إضمامتها الزجلية البكر التي اختارت لها عنوان (رحبة الاحلام)، فوجدتني إزاء عمل إبداعي جاد ومتزن، وكتابة عامية بديعة ومتميزة، ومغايرة للسائد والمألوف، خاصة أن المغرب عرف فورة زجلية عارمة، مع وصول الانترنت، ووسائل النشر الإلكتروني، وأفرز زجالين جادين وحقيقيين شكلوا دروعا للتراث الشفهي، وحراسا للذاكرة الشعبية واللفظ الأصيل، والنظم الرصين، وعملوا على الانتصار للقصيدة الزجلية الجادة من عبث المتهافتين، وحفظوا لها ماء الوجه، وعملوا على تطويرها، وتطهيرها، وميزوها عن الكلام المنطوق الدارج، واوصالوها الى آفاق واسعة وعريضة
ونصيب الأديبة الشريفة مريم بن بخثة في هذا المضمار أنها حفرت تجربتها الأدبية بثبات، شاقة لها سمتا واضحا، وإسما بارزا بأدوات إبداعية فريدة، لأن الكتابة في اعتبارها فكرة تنبثق من صميم واقع مرير مزنر بالخراب والفقد والظلم والبؤس، وخيال مجنح، وتساؤلات وجودية. مؤمنة بقدسية الكتابة، وجسامة رسالتها، غير معنية بمعارك الزجالين الصغيرة، وصداع الرأس
وفي تعريفها للزجل تقول الشريفة مريم بن بخثة بأنه فن من فنون الأدب الشعبي، لغته مستقاة من بيئة الشاعر، ووسيلة من وسائل التعبير بلغة عامية، يقال انها تعود في الاصل الى أهل المغرب والعدوة المقابلة، وحاليا تغير عن قديمه واتخذ شكلا حديثا نظرا للتطورات التي تعرفها اللهجات، -خاصة اللهجة المغربية- وإن بقيت اللهجة العامية او التسمية العامية هي اساس كتابته وقاموسه
والشاعرة الشريفة مريم بن بخثة تحب الزجل وتجده قريبا من النفس البشرية أكثر من غيره. لكن ليس كل ما يكتب من أزجال جيدة، بعكس تلك النصوص التي تلامس المشاعر والوجدان، مثل الأزجال التي تغنت بها مجموعات الأجيال طيلة خمسين عاما الماضية، إثر الصدمة الكبرى التي أحدثتها هزيمة 67.
وتقول أيضا: (أعشق زجل علي مفتاح لما فيه من عمق وبعد فلسفيين، وصور شعرية، واستثمار لدراسته الجامعية في اللسانيات، واطلاعه الواسع والكثير، فالقصيدة الواحدة عند علي مفتاح يشتغل عليها شهورا وربما حولا، ويهتم بنوعية الإبداع على حساب الكمية، وقد قرأت تقريبا دواوينه كلها، ووقفت على مدى المعاناة والجهد في كتابة نص واحد لديه ولدى زجالين محترمين آخرين، ولأجل هذه الاسباب تهيبت وتخوفت من النشر، ولم أطبع إضمامتي الزجلية الاولى، وحتى الآن حذفت نصوصا كثيرة احتراما وتقديرا لهذا الفن النبيل، ولمشاعر القارئ الحصيف).
وما دمنا بصدد الحديث عن الزجل، لا يفوتنا التأكيد على ان المرجعية المعجمية في أرض احمر التي تنحدر منها الشاعرة الشريفة مريم بن يخثة، تنماز بخاصية فريدة كونها محصلة تاريخية وتراثية نظرا لما تزخر به المنطقة من تقاليد عريقة، ومحكيات شفهية، وأهازيج النساء الحمريات في المناسبات واللمات.
والقصيدة الزجلية عند أديبتنا مريم بن بخثة متميزة وعميقة، مشغولة بلغة سهلة سلسة، وذات إيقاعية، وصور شعرية بليغة، وواضحة ومعبرة، إنها لغة الذات التي تذيب المسافة بين الروح وما يعتلج فيها من هموم وأحاسيس جياشة، وبين النظم العامي والشعر المعرب، الذي يدخل من باب الزجل العالم، المبني على قواعد وأسس معرفية ودراية بميكانيزمات الكتابة الأدبية المعترف بها، والمتسمة بالإقناع والإمتاع من دون تكلف أو تصنع، واللغة التي لم تتلوث بشوائب أهل الحضر، وترتبط بأصالة وبساطة أناسها، مزاوجة بين النظم الشعبي الدارج وما يشبعه من علاقات ممكنة بالمنحى الإنساني، بمفردات فريدة أصيلة وفية لطبيعة المنطقة، ومحافظة أمينة على أصالة وجمالية منطوقها، الذي يقع في المنزلة بين المنزلتين، وهذه الميزة جعلت سائر من يستمع لشعراء منطقة أحمر يصفونهم بــ"العروبية"، وهي صفة هجينة فيها ما فيها من تحامل وتغول..
تعتبر الشاعرة مريم بن بخثة شاعرة مقلة، لا تتهافت على النشر من أجل النشر، ولا غرابة في ان تولد القصيدة الزجلية على يديها مكتملة النمو بعد مخاض عسير، ومعاناة، وترو، ونشوة، وشعور بجسامة مسؤولية الكتابة، وإحساس جمالي يسري في أوصال الروح الشاعرة، وليست لغوا فارغا، وإهراقا للمداد على شريعة البياض.
ينبني عنوان ديوان (رحبة الاحلام)، والجو العام لقصائده ببلاغة وعمق معانيها، على ماهية وكيمياء "الحلم" وأبعاده الدلالية والرمزية، والصوفية أحيانا التي تفيض بنفحة روحانية، وخشوع في محراب الإيمان، هذه الأحلام التي حار في أمرها الفلاسفة، ووردت عند المفسرين على عدة توظيفات دون التوصل الى معرفة كنهها الذي يبقى ملغزا وسرابا غير ملموس، ويستعصي على أي تأويل أو تفسير، غير ما يكتنفها من حمولة نفسية الشيء الذي يحيل على جسامة ما تشيله الذات من أوصاب، ومعاناة، وهموم، ومسؤوليات، وهواجس
(وإذا كانت النفوس كبارا - تعبت في مرادها الأجسامُ) كما يقول المتنبي
بينما ترتبط مفردة "الحلمة أو الاحلام"، التي تتردد بنوع من الخشوع في سائر النصوص بصيغ مختلفة، نابت عنها سيميائية عناوين القصائد، ببلاغتها واختلاف مراميها ومقاصدها، وانزياحاتها مما أسبغ عليها بعدا إنسانيا، يجسد ما تعنيه، وما ترمز إليه من دلالات، وما تعانيه وتجتره الذات الشاعرة من معاناة وشجون، وتهيؤات، وهي تعافر من اجل إثبات الوجود، في مجتمع ذئبي السمات، دنيء الأخلاق، يحكمه التفاوت الطبقي، والظلم، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وعدوانية الحياة التي تطحن الكائن وتعرضه لشتى الهزات الوجدانية، والأوصاب في مجتمع لا يرحم، بثتها الشاعرة الشريفة مريم بن بخثة من أعماق نفسها، وصفاء سريرتها، وصدق مشاعرها، وحسن خلقهاـ ودماثة أخلاقها، وصدق طويتها ما أضفى عليها بعدا جماليا، وسمات إنسانية، ميزها قاموس شعري مغرق في أصالته، متهيبة خائفة، وجلة من جسامة وكيمياء الحلم وخذلانه عن أداء وظيفته الشعرية. كما تساءلت في قصيدة:
"هي غير حلمة وانا تقت فيها"(
...
جَلَّسْنِي على عَتْبَة ايَّامٍي
خَلِّيني نْشوفْها مَنْ الْفُوقْ
كِيفْ دازِت بْلا مَا تَعْلَمْنِي
ما حقَّقْتْ فِيها الشُّوفْ
وشوقي ليها ملاوط على عتبة العمر
سيحت هذاك الراس المحني
حاط عينه على باب الزهر
واش يدي منه بالحفنة ولا بقنطار العمر
سيحت ديك الحلمة ل وخداني
على قد شوف البصر
نطل فيها على راسي)
إلى أن تقول أيضا:
(حمامة نلقاني في رحبة الفرح
ترفرف في العالي
. هي غير حلمة و انا تقت فيها
سعدات حروفي لي هزا هبالي
و عاسة على طلة الحلمة
في جناح الظلمة...
وفي غرق ديك الحلمة
شديت خيوط منامي
نسولف عليهم و نسولف بيهم
نزاوك في الظلمة لا تضيع حقي في الحلمة
نلقى راسي فرادي)....
وهي إحالة على قصيدة النفس أو القصيدة العينية المنسوبة للشيخ الرئيس اين سينا
(هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ = وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ = وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ)
وسواها من القصائد التي أتت متتابعة كالتالي (الحلمة دازت وما وقفاتش عندي - مداد لحروف - بنت المطرة والريح - خايفة منك يا حرفي – تغيب في جوف صدري كلما هزتني الاشواق – رحبة الاحلام – قمرة مدسوسة بين جلايل الليل - شوقي لك مريا – زينة النسا - حلمي لهبيل – غير حلمة وانا تقت فيها - غِير خُذني على قد هْبالي – حوارية العشق- يعشق غيري).
لعل الحديث عن الزجل وتعريفاته لم يصل بعد حد اليقين لدى العديد من أهل هذا اللون من الشعور، وقد تنوعت الأسماء والمعنى واحد، ما بين الزجل، والملحون، والمحكيات الشعبية، والموشح، والأراجيز، والأمثال الشعبية، والأحجيات، والقصص، والألغاز، والخرافات، والخوارق، والعادات، والفولكلور، والشعر النبطي، والشعر الحلمنتيشي، والكان وكان أو "الزكالش" (وهو شعر عامي عراقي ظهر في القرن الخامس الهجري/ العاشر الميلادي)، وهي ألوان من المقول الشعبي المصوت به، هكذا يضحي الكلام المنظوم والشفهي المسجوع إحدى دعامات الذاكرة الشعبية وعنوان سماتها الحضارية وهي ترطن بعديد انتمائها القبلي ولغوها المحلي، ولهجاتها وألسنها وكثافة انزياحاتها وخصائصها الوظيفية، وجدية طروحاتها وفيض أحاسيسها ومشاعرها، واقترانه بالإنشاد والصوت والإيقاع والأداء الغنائي تجسده مقولة "لكلام عسل والصوت شهدة" كما يقول الشيخ إسماعيل المراكشي
وعطفا على هذا نستل من كتاب "بلوغ الأمل في فن الزجل" لأبي بكر حجة الحموي قولته الشهيرة: "... وإنما سمي هذا الفن زجلا لأنه لا يلتذ به وتفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به ويصوت"، وذلك للتدليل على العلاقة الوطيدة بين الزجل والأداء الصوتي مما يطرب له العامة، وبهذا التوصيف يعتبر فن الزجل مرآة تعكس مظاهر الحياة قديمها وحديثها ومستقبلها، وضربا من ضروب القول الشعري حديثه وتليده، وأداة للتواصل والتطريب، ونوعا من العلامات المميزة لديوان (رحبة الاحلام) للأديبة المتعددة والشاعرة المجيدة الشريفة مريم بن بخثة...
نقوس المهدي - اليوسفية