عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
تدحرج
**
من بين أنقاض المدينة المنهارة، حيث يختلط الدخان بالغبار، ظهرت امرأة كشبح. ثيابها ممزقة، وجهها شاحب كالجص، وعيناها حفرتان عميقتان. كانت تحمل بين ذراعيها جثة طفلها المشوه، تبحث بعينين جامدتين عن شيء مفقود.
"من رأى منكم رأس ابني؟" صرخت بصوت أجش يقطع هدوء الموت.
كان السؤال يعلق في الهواء، يرتد عن الجدران المتصدعة، يختلط بأنين الجرحى وصرخات البائسين. لم يكن هناك من يجيب، فكل من حولها مشغول بألمه الخاص. بقي السؤال سيفا مسلطا على رقاب الناجين والجرحى والقتلى والمفقودين، ظل مرا في حلق الجميع الكل يريد أن يتقيأه، أن يتخلص من مرارته، أن ينساه، لكن واقع الانفجارات ودوي الرصاص يفشل المحاولات: أنى لنا أن ننسى؟
كانت تحدث نفسها فتقول بحيرة فيلسوف:
"هل سأجد الرأس؟ وهل سيعيد لي رأسه الحياة التي فقدتها؟" تساءلت وهي تنبش الأنقاض. ثم توقف عقلها عن طرح الأسئلة لبرهة، وسرعان ما عاد ليقول: "لا... هذا عبث. الحياة لا تُستعاد. ولكن... ماذا تبقى لي غير البحث؟"
كانت المرأة تشعر أن الزمن قد توقف، وأن كل شيء من حولها يسير ببطء مخيف. كل شيء ضبابي ومشوش، عدا ألمها الذي كان واضحا وحادا كالسيف. كانت تستحضر لحظات ما قبل الكارثة، تذكر كيف كان ابنها يضحك ويركض في المنزل... كيف تغيرت حياته فجأة لتصبح مجرد جسد ممزق بين يديها. لم تعد تفهم الفرق بين الحياة والموت، بين الضياع والأمل، كان الألم يبتلعها ببطء.
جلست المرأة على الأرض، ووضعت جسد طفلها بين ركبتيها. ثم بدأت بالبحث بين الأنقاض عن شيء ما، كأنها تبحث عن مفتاح لسر الحياة والموت. أمسكت بقطعة من الزجاج، وبدأت تنظر إليها بعينين فارغتين.
كانت الأم تشعر بأن كل خطوة تخطوها بين الأنقاض هي تدحرج لقطعة من روحها. كأنما كل قطعة زجاج أو حجر تصطدم به قد أخذ جزءا من قلبها معها. لم تعد هي، بل شظايا إنسان يحاول إعادة تجميع ذاته المبعثرة في هذا العالم المدمر.
لم تعد تعرف كم من الوقت مر منذ بدأت تبحث. ربما دقائق، ربما ساعات، وربما عمر بأكمله. الزمن كان يبدو وكأنه يتدحرج ببطء بين أصابعها. كانت تود أن تصرخ، لكن صرختها ضاعت في فضاء لا متناهٍ من الحزن.
عندما نظرت إلى الزجاج، لم ترَ وجهها فقط، بل رأت فيه كل الألم الذي عاشته، كل الذكريات التي كانت تلاحقها. انعكاس وجهها لم يكن وجه امرأة فقط، بل وجه أم فقدت كل شيء. للحظة، شعرت بأنها لم تعد تعرف من تكون. هل هي امرأة لا تزال على قيد الحياة، أم أنها ميتة بين الأحياء؟ ثم... وكأن شيئًا بداخلها تحطم وانبعث من جديد، رأت قوة غريبة تتصاعد من أعماق نفسها. تلك المرأة التي تراها الآن في المرآة، رغم الجراح والتشوهات، هي ناجية. ستستمر بالمضي قدمًا، حتى وإن كان العالم من حولها ينهار.
شاهدها أحد الرجال، لكنه لم يستطع أن يتحرك. كان يقف بجانب حائط مهدم، وعيناه مملوءتان بالخوف. حاول أن ينطق، أن يقول شيئا، لكن الكلمات رفضت أن تخرج من حلقه. لم يكن يعرف ماذا يفعل. كان المشهد أمامه فوق طاقته.
في لحظة سريعة وحادة كالسيف، سقطت قطرة دم على صفحة الزجاج الصقيلة، وظهر انعكاس وجهها المشوه. نظرت إليه بتمعن، فرأت امرأة أخرى، امرأة قوية وشجاعة، امرأة قادرة على تحمل كل شيء.
ابتسمت بمرارة، ومسحت الدم عن وجهها وعن المرآة، ثم نهضت، حملت جسد طفلها، وسارت بشموخ، حتى صارت بعيدة عن الأنقاض. كانت تمشي بخطوات ثابتة، وكأنها تعرف إلى أين تتجه.
في لحظة كالحلم، اختفت المرأة بين الأنقاض، تاركة وراءها سؤالها المؤرق يتردد في الأرجاء، باحثا عن جواب شاف لقلبها المكلوم..
**
من بين أنقاض المدينة المنهارة، حيث يختلط الدخان بالغبار، ظهرت امرأة كشبح. ثيابها ممزقة، وجهها شاحب كالجص، وعيناها حفرتان عميقتان. كانت تحمل بين ذراعيها جثة طفلها المشوه، تبحث بعينين جامدتين عن شيء مفقود.
"من رأى منكم رأس ابني؟" صرخت بصوت أجش يقطع هدوء الموت.
كان السؤال يعلق في الهواء، يرتد عن الجدران المتصدعة، يختلط بأنين الجرحى وصرخات البائسين. لم يكن هناك من يجيب، فكل من حولها مشغول بألمه الخاص. بقي السؤال سيفا مسلطا على رقاب الناجين والجرحى والقتلى والمفقودين، ظل مرا في حلق الجميع الكل يريد أن يتقيأه، أن يتخلص من مرارته، أن ينساه، لكن واقع الانفجارات ودوي الرصاص يفشل المحاولات: أنى لنا أن ننسى؟
كانت تحدث نفسها فتقول بحيرة فيلسوف:
"هل سأجد الرأس؟ وهل سيعيد لي رأسه الحياة التي فقدتها؟" تساءلت وهي تنبش الأنقاض. ثم توقف عقلها عن طرح الأسئلة لبرهة، وسرعان ما عاد ليقول: "لا... هذا عبث. الحياة لا تُستعاد. ولكن... ماذا تبقى لي غير البحث؟"
كانت المرأة تشعر أن الزمن قد توقف، وأن كل شيء من حولها يسير ببطء مخيف. كل شيء ضبابي ومشوش، عدا ألمها الذي كان واضحا وحادا كالسيف. كانت تستحضر لحظات ما قبل الكارثة، تذكر كيف كان ابنها يضحك ويركض في المنزل... كيف تغيرت حياته فجأة لتصبح مجرد جسد ممزق بين يديها. لم تعد تفهم الفرق بين الحياة والموت، بين الضياع والأمل، كان الألم يبتلعها ببطء.
جلست المرأة على الأرض، ووضعت جسد طفلها بين ركبتيها. ثم بدأت بالبحث بين الأنقاض عن شيء ما، كأنها تبحث عن مفتاح لسر الحياة والموت. أمسكت بقطعة من الزجاج، وبدأت تنظر إليها بعينين فارغتين.
كانت الأم تشعر بأن كل خطوة تخطوها بين الأنقاض هي تدحرج لقطعة من روحها. كأنما كل قطعة زجاج أو حجر تصطدم به قد أخذ جزءا من قلبها معها. لم تعد هي، بل شظايا إنسان يحاول إعادة تجميع ذاته المبعثرة في هذا العالم المدمر.
لم تعد تعرف كم من الوقت مر منذ بدأت تبحث. ربما دقائق، ربما ساعات، وربما عمر بأكمله. الزمن كان يبدو وكأنه يتدحرج ببطء بين أصابعها. كانت تود أن تصرخ، لكن صرختها ضاعت في فضاء لا متناهٍ من الحزن.
عندما نظرت إلى الزجاج، لم ترَ وجهها فقط، بل رأت فيه كل الألم الذي عاشته، كل الذكريات التي كانت تلاحقها. انعكاس وجهها لم يكن وجه امرأة فقط، بل وجه أم فقدت كل شيء. للحظة، شعرت بأنها لم تعد تعرف من تكون. هل هي امرأة لا تزال على قيد الحياة، أم أنها ميتة بين الأحياء؟ ثم... وكأن شيئًا بداخلها تحطم وانبعث من جديد، رأت قوة غريبة تتصاعد من أعماق نفسها. تلك المرأة التي تراها الآن في المرآة، رغم الجراح والتشوهات، هي ناجية. ستستمر بالمضي قدمًا، حتى وإن كان العالم من حولها ينهار.
شاهدها أحد الرجال، لكنه لم يستطع أن يتحرك. كان يقف بجانب حائط مهدم، وعيناه مملوءتان بالخوف. حاول أن ينطق، أن يقول شيئا، لكن الكلمات رفضت أن تخرج من حلقه. لم يكن يعرف ماذا يفعل. كان المشهد أمامه فوق طاقته.
في لحظة سريعة وحادة كالسيف، سقطت قطرة دم على صفحة الزجاج الصقيلة، وظهر انعكاس وجهها المشوه. نظرت إليه بتمعن، فرأت امرأة أخرى، امرأة قوية وشجاعة، امرأة قادرة على تحمل كل شيء.
ابتسمت بمرارة، ومسحت الدم عن وجهها وعن المرآة، ثم نهضت، حملت جسد طفلها، وسارت بشموخ، حتى صارت بعيدة عن الأنقاض. كانت تمشي بخطوات ثابتة، وكأنها تعرف إلى أين تتجه.
في لحظة كالحلم، اختفت المرأة بين الأنقاض، تاركة وراءها سؤالها المؤرق يتردد في الأرجاء، باحثا عن جواب شاف لقلبها المكلوم..