محمد داني
كاتب
استطاع الأديب المغربي محمد سعيد الريحاني أن يقدم مجموعته القصصية الجديدة(حاء الحرية:خمسون قصة قصيرة)،وتتضمن 50 قصة قصيرة جدا،تتفاوت طولا وقصرا.فهي تتكون من 552 سطرا،و5092 كلمة،في 73 صفحة.
ومن خلال تصفح القصص المنضوية تحت هذه المجموعة،نجد أن الأستاذ سعيد الريحاني يمزج ما بين الأقصوصة،والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا.ومن ثمة جاءت النصوص القصصية متفاوتة طولا وقصرا.
- أطول نص: (رحلة الوصايا العشر)،ص:71.عدد سطوره(23). عدد كلماته(304).
- أقصر نص الجواد والقطة المتوحشة). الصفحة:52. عدد سطوره 03. عدد كلماته : 40.
وهذه المجموعة القصصية للأديب سعيد الريحاني تحمل في طياتها ألاوين المفارقات،والتناقضات التي يعرفها المجتمع المغربي..مما يجعل منها كتابة مرجعية،كحقبة اجتماعية وسياسية لمغرب اليوم.
وداخل هذه المجموعة القصصية نكتشف الحكي القصصي من خلال التبدلات الثقافية والاجتماعية،والسياسية التي يرصدها سعيد الريحاني،ويقدمها للمتلقي.والجميل هو أننا نجد الكتابة القصصية عنده في هذه المجموعة،تتحول وبفنية عالية إلى تخييل ذاتي،حيث لا يتقيد الكاتب بمطابقة النص لوقائع المعيش الشخصي.وإنما يجعل من اللغة وابتداع مواقف الذات المتخيلة العنصر الأكثر بروزا،ورجحانا[1]..
إن هذه الحكايات لا تخلو من مكاشفة بعيدا عن أي إيديولوجية مستترة المعيش في إنجاز كتابة تعيد الاعتبار للقيم وللإنسان.صحيح،أننا لا ننكر أن(حاء الحرية) في تجلياتها" أرست أسسا لصوت الذات المسائلة للمؤسسات،والأنساق،والقيم الموروثة"[2].وهذا لا يمنعنا من القول بأن سعيد الريحاني يدرك الواقع،ويعيه جيدا.وقد اتخذه مرجعية له.فلقد استوحى هذا الواقع،وأتى به في " صورة صياغة لغوية،سردية،تعطي النص قيمة رمزية تتيح قراءة تأويلية لما ينطوي عليه "واقع النص"،ولما قد يكون له من امتدادات في الواقع الموار،المتحرك،المبتذل باستمرار"[3].
ومن خلال نصوصه القصصية المتضمنة في المجموعة القصصية(حاء الحرية)،نجد ملامح التجريب،وأقصد بالتجريب: "البحث عن تشكيلات نصية،وتيمات غير مطروقة"[4].وهذا يتيح له تجديد أسلوبه القصصي،ومنهجيته في الكتابة.وهذا يبين لنا شيئا مهما،وهو:أن أديبنا تجاوز وبمسافة كبيرة مرحلة البدايات.ووجد في نفسه ضرورة الاهتمام بوضع ملامح شكلية ومضمونية تميزه، وتساعده على بناء كونه القصصي،وخطابه السردي.
وهذه التجربة عند سعيد الريحاني،أخذت صورتين جليتين:
1- استلهام واستيهام التراث.وإعادة توظيفه ،كما في قصة(نيرون)، والتي يقول فيها:"أحببت قول الشعر،فتأوهتم لما جادت به قريحتي.حاولت الغناء فوقفتم إجلالا لفرادة صوتي.جربت الرقص فصفقتم لمهارتي.نشدت الألوهية فعظمتموني.أما الآن،فأنا أريد حرقكم،فانظروا ما أنتم فاعلون"(ص:64).
وكذلك في قصته(أوهام جمال الدين الأفغاني)،و(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)،و(عمر)،و(الكوليزيوم)، و(كليغولا)، و(قبر معاوية) ...وهي قصص ذات مرجعية تراثية إما عربية أو غربية.
2- تجريب تقنيات حداثية في الحكي.مثل:
* تكسير مسارات السرد الخطي،والحفر،واختراق للزمن،وتعدد مستويات اللغة.
* توظيف العجائبي والباروديا.
* تذويت الكتابة.
وسعيد الريحاني من خلال (حاء الحرية)،يهدف إلى تقديم قصة وظيفتها الإخبار والتطهير،كما في المفهوم الأرسطي،وإثارة الانفعالات،وتهييج العواطف كما في المنظور الإفلاطوني..فتصبح قصصه شكلا من أشكال تمثل العالم،ووسيلة معرفة،وأداة تكشف الواقع.
إنها انعكاس للمجتمع،وتصور له،وبالتالي تصبح كتاباته- حسب المنظور اللوكاتشي- عملا أدبيا:"لا يعكس الواقع من خلال رسم مظاهره الحسية،وإنما ينقل تجربة إنسانية حية،ومعقدة،أي ينقل رؤية فنية للعالم"[5]...فسعيد الريحاني يتسم برؤيته للمجتمع كعالَم.وهذه الرؤيا ليست مجرد صوت إيديولوجي نعثر عليه في النص،إنها أعمق من ذلك.فهي حصيلة المشاعر، والأحاسيس، والتفضيلات التي تظهر في العمل الأدبي،والتي لا تعبر عن ذات الكاتب فحسب،وإنما عن وعي الطبقة أو الجماعة التي ينتمي إليها،ويعبر عن وعيها القائم،والممكن معا،دون أن يوقعه ذلك في هوة التصوير المباشر،أو يجعله رجع صدى لهذه الزمرة أو تلك[6]...
وسعيد الريحاني يتحدث عن واقع مغيب،يعوض عنه حضور الدلائل،والمتمثلة في النص واللغة.وهذا ما يسميه ميشال ريفاتير بالوهم المرجعي illusion référentielle.
- العنوان والعنونة:
يعنون سعيد الريحاني عمله القصصي ب(حاء الحرية)..والعنوان عالم يطل عليه ومنه الكاتب،ويشكل وسيطا بين العمل الأدبي والواقع.إنه يفرز خطابا لغويا حاسما رغم أنه يحمل في طياته رسالة مشفرة ،علينا تفكيكها للوصول إلى مقصدية الكاتب،وما يريد إبلاغنا به.
ويقدم العنوان نافذة غنية بالأسئلة حول حقله الدلالي،وحول سببية اعتماد الكاتب الإضافة والإسناد في هذا العنوان.فنجد المقول اللغوي اللفظي،أو الكتابي يرتبط بالوصف والتملك والإشارة،والإسناد..حيث يرتبط حرف بمبدأ فلسفي هو"الحرية".فهل النصوص القصصية هي حاءات؟وأن الكتابة حرية،يجد فيها الكاتب منطلقه،ونفسه،وعالمه، وحريته؟..وهب قصص المجموعة تتضمن معنى الحرية،او تؤدي إليها؟..وبالتالي تشكل العناوين حرية عنده،وتمثل في:
- الحرية= (التحرير- الثورة- الرقص- تشي غيفارا- العزف والغناء- المطار- التعاقد- تسونامي- الهجرة- النظارة- المظاهرة- المناضل- الكرامة- التحدي- التحول إلى ذئب- الرفض-)
وبالتالي القصص القصيرة جدا ،والتي تضمنها المجموعة(حاء الحرية)،هي حاءات متعددة،تجتمع كلها بين نص لاحق(النصوص الخمسون)،وآخر سابق (العنوان)،ومن ثمة يصبح العنوان نصا متفرعا له ارتباط بنص سابق هو نص أصل Hypotexte.
- الفضاء كشكل هندسي في (حاء الحرية):
عندما نتمعن نصوص هذه المجموعة القصصية،نجد أنها تتميز بتنوع فضاءاتها،الشيء الذي يجعل القراءة البصرية تتأثر بشكل هذا الفضاء وتسايره.وهذا التنوع يؤدي أيضا إلى التنوع في الشكل والتشكيل الهندسي،حيث نجد اختلافا في الكتابة الطوبوغرافية للنصوص القصصية.
ومن الفضاءات التي نجدها في (حاء الحرية)..
* الفضاء المقطعي:ويتجلى في النصوص التي تعتمد على أسلوب التقطيع،حيث يأتي النص مقطعا إلى أجزاء.كل جزء يحمل رقما،او عنوانا،أو علامة ،أو بياضا(فراغا)،كما في القصة(خمس قصص قصيرة جدا بعناوين طويلة جدا).وهي قصة تتكون من خمسة أجزاء،يحمل كل جزء عنوانا طويلا.
* المحاورة:جاءت بعض النصوص القصصية منبنية على محاورة.وكل سؤال فيها تطلب إجابة وشرحا وتفصيلا.وهذا نجده في قصة (تحرير) والتي يقول فيها:
" انتبه الحلايقي إلى الفتور الذي علا محيا الحضور المتحلق حوله،فوضع" بنديره" على الأرض ودفع برجله جانبا ليتفرغ للجمهور:
- ماهي وظيفة الموسيقى؟
استيقظ الجمهور فجأة ليرد جوابا حفظه عن ظهر قلب:
- الموسيقى تحرر الأحياء من الضيم !
- وكيف تحرر الموسيقى الأحياء من الضيم؟
- بترقيصهم!
- وماذا يرقص البندير المغربي؟
- البندير المغربي يرقص السعادين!
- والناي المغربي؟
- يرقص العقارب!
- والمزمار المغربي؟
- يرقص الثعابين!
- والمكان المغربي؟
- يرقص المجانين!
- والجمهور المغربي؟
- يرقص الشياطين!
- والإنسان المغربي على ماذا يرقص؟
- الإنسان المغربي يرقص على " صفيح ساخن" يسمى فنيا"القعدة".
أطل الحلايقي برأسه فوق الأعناق المشكلة لدائرية الحلقة،وطلب من أحد أعوانه المجهولين:-أفرغ طلك البرميل من الجمر واقلبه هنا داخل الحلقة،ليرقص الناس فوقه ويتحرروا"(ص:27).
*التكرار:نجد قصص سعيد الريحاني تمتاز بأسلوبها التكراري.ومن التكرارات التي نجدها:
- تكرار السؤال،كما مر معنا في النص السابق(تحرير)،حيث تكرر فيها السؤال ثمان مرات.
- تكرار الجملة الفعلية.كما في قصة(ثورة)،والتي يقول فيها:
- تكرار الاسم الموصول.كما في قصة (الرجل والكلب)،والتي يقول فيها:" وعندما هيأ مطبخ السجن الكفتة للأسرى بمناسبة قدوم وفد أجنبي عن إحدى المنظمات الحقوقية الدولية،أكل الرجل وحده الكفتة ولم يترك شيئا للكلب الذي لم يصدق عينيه.
والذي صمت طويلا وهو يحدق في عيني صديقه.
والذي بدأ يئن ويتوجع.
والذي تملكه نباح مسعور.
والذي انقض على صديقه فأكله"(ص:29).
- تكرار الفعل الماضي.كما في قصة (نيرون)،حيث تكررت صيغة الفعل الماضي أربع مرات.
" أحببت قول الشعر فتأوهتم لما جادت به قريحتي.
حاولت الغناء فوقفتم إجلالا لفرادة صوتي.
جربت الرقص فصفقتم لمهارتي.
نشدت الألوهية فعظمتموني.أما الآن،فأنا أريد حرقكم فانظروا ما أنتم فاعلون"(ص:64).
- تكرار الحرف.في بعض قصصه نجد تكرار حرف العطف(الواو)و(أو)،كما في قصة (كاليغولا) التي جاء في كل مقطع الواو(الثاني والثالث)،أو قصة(الرجل والكلب) التي تكرر فيها الواو ست مرات في كل سطر،أو حرف الجر(في) كما في قصة (التحدي)،والتي تكرر فيها هذا الحرف أربع مرات في كل مقطع.وفي قصة(من رجل حر إلى وثيقة عائلية)،تكرر(في) خمس مرات في كل مقطع..أو تكرار الناسخ الحرفي،كما في قصة(لا للاغتيال)،حيث تكررت(لأنه) خمس مرات..كل ناسخ في سطر.
- تكرار شبه الجملة.كما في قصة(توازنات)،والتي يقول فيها:" في الواحد والعشرين من شهر مارس من كل سنة،تحتفل الطبيعة بدخول فصل الربيع،وتحتفل هذه المدينة الساحلية بمهرجان "التوازن"،الذي يشمل كل فنون الإبداع على كل الساحات العمومية،والقاعات المفتوحة،والجدران العذراء.
في الواحد والعشرين من مارس،تبدع الطبيعة الخضرة والحب،ويبدع الإنسان الأمل والتواصل.
في الواحد والعشرين من مارس،تبشر الطبيعة بحياة جديدة بينما يبشر الصوت الإنساني في بوق ندوة في الهواء الطلق بوعي جديد" (ص:41).
- تكرار ظرف الزمان.كما في قصة (أعطني حريتي أطلق يدي)،والتي تكررت فيها (حين) أربع مرات،كل واحدة في سطر.
- تكرار الجملة الاسمية.كما في القصة(الدرس) ،حيث تكررت جملة(جهاز التلفاز المنصب في الزاوية المقابلة للطائر في القفص) ست مرات،وهي أسطر هذه القصة.كل جملة في سطر.
* توظيف الجملة الطويلة:نجد سعيد الريحاني يوظف في قصصه القصيرة جدا الجملة الطويلة،حيث تتعدى الجملة أكثر من خمس كلمات،كما في قصة(تحرير).إذ نجد الجملة التالية انتبه الحلايقي إلى الفتور الذي علا محيا الحضور المتحلق حوله فوضع بنديره على الأرض ودفع برجله قرده جانبا ليتفرغ للجمهور)..وهي جملة طويلة يمتد فيها النفس لينخفض شيئا ما، ما بين(حوله)و(فوضع).. وهي جملة تتركب منفعل+فاعل+جار ومجرور+اسم موصول+فعل+فاعل ضمير مستتر(هو)+مفعول به مضاف+ مضاف إليه+ نعت+ظرف مكان+حرف عطف(رابط)+فعل+فاعل مقدر(هو)+مفعول به+جار ومجرور+رابط(حرف عطف+ فعل+ فاعل مستتر تقديره(هو) +جار ومجرور+ مفعول به مضاف+الهاء مضاف إليه+ ظرف مكان+لام التعليل+ فعل مضارع+ فاعل مقدر(هو)+جار ومجرور).
وفي قصة(ثورة)،نجد الجملة تمتد ثلاثة أسطر،دون وجود علامة ترقيم تجد الجملة،أو توقفها."تلك كانت صيحة الفلاحين الثلاثين ألفا الثائرين على سياسة الإمبراطورة كاترينا الثانية وهم يلوحون بالبنادق وراء"بوغاتشوف" العسكري الهارب من الجندية الذي ادعى أنه الإمبراطور الشرعي المغتال بيدي الإمبراطورة والمبشر للفلاحين بإنهاء نظام الإقطاع وتحرير الأقنان والفلاحين"..ونجد أن هذه الجملة الطويلة جدا تنتهي بنقطة الوقف.
وطول الجمل في قصصه يخرجها من خانة القصة القصيرة جدا.ويبين أن مجال القصة وعالمها ما زال يجتذب سعيد الريحاني الذي هو كاتب قصة قصيرة بامتياز.ومحاولته هاته في القصة القصيرة جدا جاءت مبتسرة،وغير ناضجة.
[1] - مجموعة من الباحثين، الأدب المغاربي اليوم،منشورات اتحاد كتاب المغرب،ط1، 2006، ص:11
[2] - المرجع نفسه، ص:12
[3] المرجع نفسه، ص:12
[4] - داني،(محمد)، الكتابة والحفر،مطبعة سجلماسة، مكناس، ط1، الدار البيضاء،2015، ص:7
[5] - كيليطو،(عبد الفتاح)،المقامات، ترجمة،عبد الكبير الشرقاوي،دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،ط2، 2001، ص:41
[6] - المرجع نفسه، ص:42
ومن خلال تصفح القصص المنضوية تحت هذه المجموعة،نجد أن الأستاذ سعيد الريحاني يمزج ما بين الأقصوصة،والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا.ومن ثمة جاءت النصوص القصصية متفاوتة طولا وقصرا.
- أطول نص: (رحلة الوصايا العشر)،ص:71.عدد سطوره(23). عدد كلماته(304).
- أقصر نص الجواد والقطة المتوحشة). الصفحة:52. عدد سطوره 03. عدد كلماته : 40.
وهذه المجموعة القصصية للأديب سعيد الريحاني تحمل في طياتها ألاوين المفارقات،والتناقضات التي يعرفها المجتمع المغربي..مما يجعل منها كتابة مرجعية،كحقبة اجتماعية وسياسية لمغرب اليوم.
وداخل هذه المجموعة القصصية نكتشف الحكي القصصي من خلال التبدلات الثقافية والاجتماعية،والسياسية التي يرصدها سعيد الريحاني،ويقدمها للمتلقي.والجميل هو أننا نجد الكتابة القصصية عنده في هذه المجموعة،تتحول وبفنية عالية إلى تخييل ذاتي،حيث لا يتقيد الكاتب بمطابقة النص لوقائع المعيش الشخصي.وإنما يجعل من اللغة وابتداع مواقف الذات المتخيلة العنصر الأكثر بروزا،ورجحانا[1]..
إن هذه الحكايات لا تخلو من مكاشفة بعيدا عن أي إيديولوجية مستترة المعيش في إنجاز كتابة تعيد الاعتبار للقيم وللإنسان.صحيح،أننا لا ننكر أن(حاء الحرية) في تجلياتها" أرست أسسا لصوت الذات المسائلة للمؤسسات،والأنساق،والقيم الموروثة"[2].وهذا لا يمنعنا من القول بأن سعيد الريحاني يدرك الواقع،ويعيه جيدا.وقد اتخذه مرجعية له.فلقد استوحى هذا الواقع،وأتى به في " صورة صياغة لغوية،سردية،تعطي النص قيمة رمزية تتيح قراءة تأويلية لما ينطوي عليه "واقع النص"،ولما قد يكون له من امتدادات في الواقع الموار،المتحرك،المبتذل باستمرار"[3].
ومن خلال نصوصه القصصية المتضمنة في المجموعة القصصية(حاء الحرية)،نجد ملامح التجريب،وأقصد بالتجريب: "البحث عن تشكيلات نصية،وتيمات غير مطروقة"[4].وهذا يتيح له تجديد أسلوبه القصصي،ومنهجيته في الكتابة.وهذا يبين لنا شيئا مهما،وهو:أن أديبنا تجاوز وبمسافة كبيرة مرحلة البدايات.ووجد في نفسه ضرورة الاهتمام بوضع ملامح شكلية ومضمونية تميزه، وتساعده على بناء كونه القصصي،وخطابه السردي.
وهذه التجربة عند سعيد الريحاني،أخذت صورتين جليتين:
1- استلهام واستيهام التراث.وإعادة توظيفه ،كما في قصة(نيرون)، والتي يقول فيها:"أحببت قول الشعر،فتأوهتم لما جادت به قريحتي.حاولت الغناء فوقفتم إجلالا لفرادة صوتي.جربت الرقص فصفقتم لمهارتي.نشدت الألوهية فعظمتموني.أما الآن،فأنا أريد حرقكم،فانظروا ما أنتم فاعلون"(ص:64).
وكذلك في قصته(أوهام جمال الدين الأفغاني)،و(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)،و(عمر)،و(الكوليزيوم)، و(كليغولا)، و(قبر معاوية) ...وهي قصص ذات مرجعية تراثية إما عربية أو غربية.
2- تجريب تقنيات حداثية في الحكي.مثل:
* تكسير مسارات السرد الخطي،والحفر،واختراق للزمن،وتعدد مستويات اللغة.
* توظيف العجائبي والباروديا.
* تذويت الكتابة.
وسعيد الريحاني من خلال (حاء الحرية)،يهدف إلى تقديم قصة وظيفتها الإخبار والتطهير،كما في المفهوم الأرسطي،وإثارة الانفعالات،وتهييج العواطف كما في المنظور الإفلاطوني..فتصبح قصصه شكلا من أشكال تمثل العالم،ووسيلة معرفة،وأداة تكشف الواقع.
إنها انعكاس للمجتمع،وتصور له،وبالتالي تصبح كتاباته- حسب المنظور اللوكاتشي- عملا أدبيا:"لا يعكس الواقع من خلال رسم مظاهره الحسية،وإنما ينقل تجربة إنسانية حية،ومعقدة،أي ينقل رؤية فنية للعالم"[5]...فسعيد الريحاني يتسم برؤيته للمجتمع كعالَم.وهذه الرؤيا ليست مجرد صوت إيديولوجي نعثر عليه في النص،إنها أعمق من ذلك.فهي حصيلة المشاعر، والأحاسيس، والتفضيلات التي تظهر في العمل الأدبي،والتي لا تعبر عن ذات الكاتب فحسب،وإنما عن وعي الطبقة أو الجماعة التي ينتمي إليها،ويعبر عن وعيها القائم،والممكن معا،دون أن يوقعه ذلك في هوة التصوير المباشر،أو يجعله رجع صدى لهذه الزمرة أو تلك[6]...
وسعيد الريحاني يتحدث عن واقع مغيب،يعوض عنه حضور الدلائل،والمتمثلة في النص واللغة.وهذا ما يسميه ميشال ريفاتير بالوهم المرجعي illusion référentielle.
- العنوان والعنونة:
يعنون سعيد الريحاني عمله القصصي ب(حاء الحرية)..والعنوان عالم يطل عليه ومنه الكاتب،ويشكل وسيطا بين العمل الأدبي والواقع.إنه يفرز خطابا لغويا حاسما رغم أنه يحمل في طياته رسالة مشفرة ،علينا تفكيكها للوصول إلى مقصدية الكاتب،وما يريد إبلاغنا به.
ويقدم العنوان نافذة غنية بالأسئلة حول حقله الدلالي،وحول سببية اعتماد الكاتب الإضافة والإسناد في هذا العنوان.فنجد المقول اللغوي اللفظي،أو الكتابي يرتبط بالوصف والتملك والإشارة،والإسناد..حيث يرتبط حرف بمبدأ فلسفي هو"الحرية".فهل النصوص القصصية هي حاءات؟وأن الكتابة حرية،يجد فيها الكاتب منطلقه،ونفسه،وعالمه، وحريته؟..وهب قصص المجموعة تتضمن معنى الحرية،او تؤدي إليها؟..وبالتالي تشكل العناوين حرية عنده،وتمثل في:
- الحرية= (التحرير- الثورة- الرقص- تشي غيفارا- العزف والغناء- المطار- التعاقد- تسونامي- الهجرة- النظارة- المظاهرة- المناضل- الكرامة- التحدي- التحول إلى ذئب- الرفض-)
وبالتالي القصص القصيرة جدا ،والتي تضمنها المجموعة(حاء الحرية)،هي حاءات متعددة،تجتمع كلها بين نص لاحق(النصوص الخمسون)،وآخر سابق (العنوان)،ومن ثمة يصبح العنوان نصا متفرعا له ارتباط بنص سابق هو نص أصل Hypotexte.
- الفضاء كشكل هندسي في (حاء الحرية):
عندما نتمعن نصوص هذه المجموعة القصصية،نجد أنها تتميز بتنوع فضاءاتها،الشيء الذي يجعل القراءة البصرية تتأثر بشكل هذا الفضاء وتسايره.وهذا التنوع يؤدي أيضا إلى التنوع في الشكل والتشكيل الهندسي،حيث نجد اختلافا في الكتابة الطوبوغرافية للنصوص القصصية.
ومن الفضاءات التي نجدها في (حاء الحرية)..
* الفضاء المقطعي:ويتجلى في النصوص التي تعتمد على أسلوب التقطيع،حيث يأتي النص مقطعا إلى أجزاء.كل جزء يحمل رقما،او عنوانا،أو علامة ،أو بياضا(فراغا)،كما في القصة(خمس قصص قصيرة جدا بعناوين طويلة جدا).وهي قصة تتكون من خمسة أجزاء،يحمل كل جزء عنوانا طويلا.
* المحاورة:جاءت بعض النصوص القصصية منبنية على محاورة.وكل سؤال فيها تطلب إجابة وشرحا وتفصيلا.وهذا نجده في قصة (تحرير) والتي يقول فيها:
" انتبه الحلايقي إلى الفتور الذي علا محيا الحضور المتحلق حوله،فوضع" بنديره" على الأرض ودفع برجله جانبا ليتفرغ للجمهور:
- ماهي وظيفة الموسيقى؟
استيقظ الجمهور فجأة ليرد جوابا حفظه عن ظهر قلب:
- الموسيقى تحرر الأحياء من الضيم !
- وكيف تحرر الموسيقى الأحياء من الضيم؟
- بترقيصهم!
- وماذا يرقص البندير المغربي؟
- البندير المغربي يرقص السعادين!
- والناي المغربي؟
- يرقص العقارب!
- والمزمار المغربي؟
- يرقص الثعابين!
- والمكان المغربي؟
- يرقص المجانين!
- والجمهور المغربي؟
- يرقص الشياطين!
- والإنسان المغربي على ماذا يرقص؟
- الإنسان المغربي يرقص على " صفيح ساخن" يسمى فنيا"القعدة".
أطل الحلايقي برأسه فوق الأعناق المشكلة لدائرية الحلقة،وطلب من أحد أعوانه المجهولين:-أفرغ طلك البرميل من الجمر واقلبه هنا داخل الحلقة،ليرقص الناس فوقه ويتحرروا"(ص:27).
*التكرار:نجد قصص سعيد الريحاني تمتاز بأسلوبها التكراري.ومن التكرارات التي نجدها:
- تكرار السؤال،كما مر معنا في النص السابق(تحرير)،حيث تكرر فيها السؤال ثمان مرات.
- تكرار الجملة الفعلية.كما في قصة(ثورة)،والتي يقول فيها:
" يحيا بوغاتشوف،قائد ثورة الفلاحين.
يحيا بوغاتشوف،زعيم الفلاحين الثوار.
يحيا بوغاتشوف،يحيا بوغاتشوف."(ص:28)
- تكرار الاسم الموصول.كما في قصة (الرجل والكلب)،والتي يقول فيها:" وعندما هيأ مطبخ السجن الكفتة للأسرى بمناسبة قدوم وفد أجنبي عن إحدى المنظمات الحقوقية الدولية،أكل الرجل وحده الكفتة ولم يترك شيئا للكلب الذي لم يصدق عينيه.
والذي صمت طويلا وهو يحدق في عيني صديقه.
والذي بدأ يئن ويتوجع.
والذي تملكه نباح مسعور.
والذي انقض على صديقه فأكله"(ص:29).
- تكرار الفعل الماضي.كما في قصة (نيرون)،حيث تكررت صيغة الفعل الماضي أربع مرات.
" أحببت قول الشعر فتأوهتم لما جادت به قريحتي.
حاولت الغناء فوقفتم إجلالا لفرادة صوتي.
جربت الرقص فصفقتم لمهارتي.
نشدت الألوهية فعظمتموني.أما الآن،فأنا أريد حرقكم فانظروا ما أنتم فاعلون"(ص:64).
- تكرار الحرف.في بعض قصصه نجد تكرار حرف العطف(الواو)و(أو)،كما في قصة (كاليغولا) التي جاء في كل مقطع الواو(الثاني والثالث)،أو قصة(الرجل والكلب) التي تكرر فيها الواو ست مرات في كل سطر،أو حرف الجر(في) كما في قصة (التحدي)،والتي تكرر فيها هذا الحرف أربع مرات في كل مقطع.وفي قصة(من رجل حر إلى وثيقة عائلية)،تكرر(في) خمس مرات في كل مقطع..أو تكرار الناسخ الحرفي،كما في قصة(لا للاغتيال)،حيث تكررت(لأنه) خمس مرات..كل ناسخ في سطر.
- تكرار شبه الجملة.كما في قصة(توازنات)،والتي يقول فيها:" في الواحد والعشرين من شهر مارس من كل سنة،تحتفل الطبيعة بدخول فصل الربيع،وتحتفل هذه المدينة الساحلية بمهرجان "التوازن"،الذي يشمل كل فنون الإبداع على كل الساحات العمومية،والقاعات المفتوحة،والجدران العذراء.
في الواحد والعشرين من مارس،تبدع الطبيعة الخضرة والحب،ويبدع الإنسان الأمل والتواصل.
في الواحد والعشرين من مارس،تبشر الطبيعة بحياة جديدة بينما يبشر الصوت الإنساني في بوق ندوة في الهواء الطلق بوعي جديد" (ص:41).
- تكرار ظرف الزمان.كما في قصة (أعطني حريتي أطلق يدي)،والتي تكررت فيها (حين) أربع مرات،كل واحدة في سطر.
- تكرار الجملة الاسمية.كما في القصة(الدرس) ،حيث تكررت جملة(جهاز التلفاز المنصب في الزاوية المقابلة للطائر في القفص) ست مرات،وهي أسطر هذه القصة.كل جملة في سطر.
* توظيف الجملة الطويلة:نجد سعيد الريحاني يوظف في قصصه القصيرة جدا الجملة الطويلة،حيث تتعدى الجملة أكثر من خمس كلمات،كما في قصة(تحرير).إذ نجد الجملة التالية انتبه الحلايقي إلى الفتور الذي علا محيا الحضور المتحلق حوله فوضع بنديره على الأرض ودفع برجله قرده جانبا ليتفرغ للجمهور)..وهي جملة طويلة يمتد فيها النفس لينخفض شيئا ما، ما بين(حوله)و(فوضع).. وهي جملة تتركب منفعل+فاعل+جار ومجرور+اسم موصول+فعل+فاعل ضمير مستتر(هو)+مفعول به مضاف+ مضاف إليه+ نعت+ظرف مكان+حرف عطف(رابط)+فعل+فاعل مقدر(هو)+مفعول به+جار ومجرور+رابط(حرف عطف+ فعل+ فاعل مستتر تقديره(هو) +جار ومجرور+ مفعول به مضاف+الهاء مضاف إليه+ ظرف مكان+لام التعليل+ فعل مضارع+ فاعل مقدر(هو)+جار ومجرور).
وفي قصة(ثورة)،نجد الجملة تمتد ثلاثة أسطر،دون وجود علامة ترقيم تجد الجملة،أو توقفها."تلك كانت صيحة الفلاحين الثلاثين ألفا الثائرين على سياسة الإمبراطورة كاترينا الثانية وهم يلوحون بالبنادق وراء"بوغاتشوف" العسكري الهارب من الجندية الذي ادعى أنه الإمبراطور الشرعي المغتال بيدي الإمبراطورة والمبشر للفلاحين بإنهاء نظام الإقطاع وتحرير الأقنان والفلاحين"..ونجد أن هذه الجملة الطويلة جدا تنتهي بنقطة الوقف.
وطول الجمل في قصصه يخرجها من خانة القصة القصيرة جدا.ويبين أن مجال القصة وعالمها ما زال يجتذب سعيد الريحاني الذي هو كاتب قصة قصيرة بامتياز.ومحاولته هاته في القصة القصيرة جدا جاءت مبتسرة،وغير ناضجة.
[1] - مجموعة من الباحثين، الأدب المغاربي اليوم،منشورات اتحاد كتاب المغرب،ط1، 2006، ص:11
[2] - المرجع نفسه، ص:12
[3] المرجع نفسه، ص:12
[4] - داني،(محمد)، الكتابة والحفر،مطبعة سجلماسة، مكناس، ط1، الدار البيضاء،2015، ص:7
[5] - كيليطو،(عبد الفتاح)،المقامات، ترجمة،عبد الكبير الشرقاوي،دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،ط2، 2001، ص:41
[6] - المرجع نفسه، ص:42