نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

نقطة الارتكاز

نقطة الارتكاز​


جاءني صديقى خالد في أحد الأيام وكنت أنتظره في المقهى، متجهّم الوجه، مثقل الجفون وأنا ما عادته إلا بشوشا مبتسما صبورا هادئا. وخالد هو رجل متقاعد مثلي كان من موظّفي البريد. لا يكاد يمرّ يوم دون أن ألتقي به في مقهى الحيّ. هذا المقهى يكاد يكون خاصّا بالمتقاعدين. وكنت ألحظ أن كلّ شابّ يدخل إليه سرعان ما يهرول خارجا. معه حقّ وما الذي يجبره على رؤية الظهور المقوّسة والخطوات الوئيدة والوجوه المجعّدة والأيادي المرتعشة. إنّ هذا المنظر لا شكّ يذكّره بالمستقبل التعيس الذي ينتظره والذي لا يريد أن يفكّر فيه الآن.

بعد أن جلس خالد ملت إليه وسألته همسا كمن يسأل عن سرّ خطير ويتوقّع مصيبة:

ـ ما بك؟ ماذا جرى؟

ـ لقد اكتشفت أنّني أضعت نقطة الارتكاز.

ـ نعم.

ـ قلت لك أضعت نقطة الارتكاز.

ـ يا أخي خفت عليك

ـ هذا كلّ ما في الأمر؟ يا لأطوارك الغريبة يا أخي! لقد أقلقني منظرك وخفت عليك وكنت أتوقّع أن تكون حلّت بك مصيبة. فإذا بالأمر يتعلّق بشطحة من شطحاتك الميتافيزيقية.

أضفت ممازحا: " من الآن فصاعدا استعن بعكّاز".

ـ لا تسخر... هل تعتقد أن ضياع نقطة الارتكاز أمر هيّن؟

ـ رغم أنّني لم أفهم شيئا لكن أستطيع أن أحكم من البداية أنّها مسألة تافهة.

- لا تتعجّل في الحكم.

ـ طيّب ما هي نقطة الارتكاز هذه وكيف أضعتها ومتى أضعتها؟

ـ تعرف أنّني شخص مسالم وأحبّ الخير للنّاس وأكره الخصومات والمشاحنات.

ـ هذا أعرفه جيدا وفعلا الأمر كما تقول.

ـ لقد ربّتني أمّي على احترام النّاس وعلى تجنّب إزعاجهم ومساعدتهم.

ـ جميل.

ـ لا ليس جميلا.

ـ الله! ماذا تقول؟ هل تشتم الأخلاق الحميدة؟

ـ لقد اكتشفت وأنا في أرذل فترات العمر، أنّني أضعت حياتي.

ـ لا حول ولا قوّة إلا بالله! ما الذي قادك إلى هذا التفكير التعيس؟

ـ يبدو أن شجاعة الاعتراف بالأخطاء هي الشجاعة التي يجب أن نتحلّى بها من كان في سنّنا.

ـ ولكن لماذا تقول إنّك أضعت حياتك وما علاقة ذلك بتنكّرك للأخلاق الحميدة؟

ـ والله إن الحديث في هذا الأمر يرهقني حقّا ولكن لأنّك صديق مخلص ها أنا سأصارحك بهذا الاضطراب النفسي الذي أعيشه.

ـ أشكرك على ثقتك.

ـ لقد كان همّي منذ صغري هو أن أكون شخصا متخلّقا. طيلة حياتي لم أتردّد لحظة في مدّ يد المساعدة لمن يطلبها منّى ولمن هو في حاجة لمساعدة حتّى ولو لم يطلبها. كانت أمّي تقول لي دائما "بنيّ إيّاك والأنانية فهي عتبة الرذيلة. فهي أساس الجشع والإفتكاك والاعتداء بجميع أشكاله. عليك يا بنيّ أن تحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك. هل فهمت؟" وكنت دائما أجيب بنعم. وبفعل هذه التربية لم أكن أنانيا في يوم ما لأنّني كنت أخاف أن أكون أنانيا. أصبحت عدوّا لنفسي. وأصبحت أتنكّر لرغباتي. وكنت أراقب سلوكي. كان هناك دائما سؤال يخامرني في كلّ سلوك أقوم به: هل فيه ميل خفي نحو الأنانية أم لا؟

ـ أنا لم أفهم أين هو المشكل؟ الأنانية أمر منبوذ وحسنا فعلت حينما تجنّبتها.

ـ المشكل هو أن عمري ضاع وأنا أصارع نفسي. في الوقت الذي كان فيه النّاس يبنون ويكافحون ومشاكلهم مع الظروف والإمتحانات والصعوبات... كانت أنا مشكلتي مع نفسي. كنت مشغولا بجودة أخلاقي فحسب. فكنت أحاسبها على ما تأتيه من أفعال فأشكرها قليلا وأشتمها كثيرا. أفرح قليلا وأندم كثيرا. لم أكن طيلة حياتي راض عن نفسي رغم سعي الصادق لأكون شخصا فاضلا.

ـ أسمح لي أن أقول لك إنّك تبالغ.

ـ أبالغ! أبالغ في ماذا؟

ـ تبالغ في القسوة على نفسك. أنت رجل عظيم. لقد ربحت أكبر معركة وهي معركة الانتصار على الذات.

ـ ههههه.... أنا عظيم وربحت أكبر معركة. هل تسخر منّى؟

ـ حاشا وكلاّ... ما ألاحظه في المجتمع هو طغيان الأنانية وقلّة قليلة فقط هم الذين يؤثرون غيرهم ولو كانت بهم خصاصة ولذلك هم عظماء هذا ما أقصد.

ـ كنت أظنّ أنّك فهمتني عندما قلت لك أن في الوقت الذي كان فيه النّاس يبنون ويكافحون كنت أنا مشغولا بمراقبة أخلاقي ولكن يبدو أنّني مضطرّ لأن أضيف لك الجانب الثاني من المسألة حتّى تكتمل الصورة.

ـ ماذا تقصد؟

ـ أقصد أنّني صحيح أنّني كنت فاضلا ولم أكن مجرما، وأؤثر غيري على نفسي. ولكن ليست هنا العظمة. العظمة الحقيقية هي في بناء الحضارة. كان يجب أن أكون مثل أقليدس أو نيوتن أو باستور، أو أينشتاين... كان يجب أن أكون عظيما بهذا المعنى. ليس العظيم من لا يضرّ غيره ولكن العظيم هو الذي ينفع غيره. هل تفهمنى؟ أنا لم أضرّ غيري ولكن أيضا لم أفده بشيء. ألم أقل لك لقد أضعت حياتي. كنت أتمنّى أن يكون هدفي من الحياة هو خدمة الإنسانية باكتشاف عظيم وليس مراقبة أخلاقي.

ـ إذا فهمتك جيّدا تريد أن تقول أنّنا إذا رتّبنا السلوكات من الأدنى إلى الأعلى نجد: السلوكات السيّئة أو الرذيلة هي في أعلى السلّم ثمّ في الدرجة الثانية السلوكات الحسنة أو الفضيلة وفي القمّة نجد خدمة الإنسانية. هل هذا ما تريد أن تقول؟

ـ تماما فخدمة الإنسانية هي أسمى الفضائل وصاحبها هو الذي يسمّى بحقّ عظيم وهو الذي ربح أكبر معركة. المعركة ضدّ التخلّف والجهل. وأين أنا من هذا؟ ومع ذلك الحمد لله أنّني لم أكن مجرما. فأنا من هذه الناحية أفضل من البعض.

ـ ربّما في قلت هناك جانب من الصواب ولكن لم أفهم ما علاقة ذلك بنقطة الارتكاز التي تحدّثت عنها في البداية.

ـ نقطة الارتكاز التي أقصدها هي الرغبة في الإبداع، في الاكتشاف، في الحياة، في الإنطلاق، في المبادرة. وحتّى لا أطيل عليك نقطة الارتكاز هي تلك الرغبة الجامحة التي تدفعك إلى أن تبدع شيئا يخلّد ذكراك ويمنحك الخلود وينقذك من الموت. لقد قتلتْ فيّ الأخلاق هذه الرغبة من حيث لا أشعر. ذهب في ظنّى أنّه عليّ أن أكون فاضلا فحسب. ولكن تبيّن لي الآن أن الفضيلة ليست هي السبيل للخلود. فالفاضل يحيا في سكينة نعم ولكنّه يموت تافها.

ـ أعوذ بالله من أفكارك الغريبة يا أخي.

ـ لا تحاول أن تكذب على نفسك أنت أيضا. فما أقوله عن نفسي ينطبق عليك أيضا.

بمجرّد أن أنهى صديقي كلامه حتّى تجهّم وجهي وشعرت بقلق واضطراب وقد لاحظ خالد ذلك فسألني ما بك؟ فظللت واجما. فقال لي:

ـ ألم أقل لك إن ضياع نقطة الارتكاز ليس أمرا هيّنا.

ـ تصوّر أن فكرة الظفر بالخلود بخدمة الإنسانية وكوْنُ هذه الخدمة أسمى الفضائل، أفكار لم تخطر على بالي قطّ.

وظللنا صامتين، واجمين نحاول أن نتصالح مع هذه الكارثة التي قادنا إليها تفكيرنا. كنّا كمن فاته قطار الغروب وسيهجم عليه الليل. وبعد صمت طويل، نظرت في عيْنيْ:

ـ لم يفت شيء، يجب أن نتدارك ما فاتنا.

ـ لم يفت شيء! أنسيت أنّك في الواحدة الستين؟

ـ هو سنّ الحكمة والإبداع. لندع الكسل والخمول جانبا. ولنسع لأسمى الفضائل بكلّ ما أوتينا من قوّة.

ـ الأمر ليس بمثل هذه البساطة.

ـ ماذا هناك؟ لماذا؟

ـ عملية البناء والإكتشاف وكلّ عمل إبداعي بصفة عامّة هو مغامرة تحتمل النجاح والفشل. إذا فشل الشاب المبتدئ فإنّه يعذر في ذلك على أساس أنّه في خطواته الأولى ولا شكّ سيستفيد من أخطائه وعلى العموم مازالت الحياة أمامه ليحذق صنعته، ولكن ماذا سيقال لمن هو في سنّي وسنّك إذا أخطأ أخطاء مبتدئ؟ ألن نكون موضع سخرية عند ارتكاب أخطاء صبيانية؟

ولم أشعر إلاّ وأنا أقف وأضرب الطاولة بجمعي واصرخ في وجه خالد:

ـ ماذا تريد؟ ماذا تريد؟ قل بالله عليك ماذا تريد؟ منذ الصباح وأنت تحطّم عزيمتنا. اصبتني بعدوى تشاؤمك ولمّا قدّمت لك الحلّ هدّمته أيضا. ماذا تريد؟ هل تريدنا أن ننتحر؟ أن نستقيل من هذه الحياة؟.... أعوذ بالله من غضب الله.

رغم كلّ ما قلته ظلّ خالد صامتا هادئا. وفي الأخير ابتسم.

ـ وتبتسم أيضا.

ـ غضبك هذا دليل على أنّك شعرت بالرجّة النفسية التي شعرت بها قبلك.

ـ فلماذا تحبط من عزيمتي أيضا.

ـ أنا لم أحبط من عزيمتك. أنا وضّحت لك الصعوبات التي ستعترضنا فحسب. وهذه الصعوبات لا يجب أن تثنينا عن هدفنا. وبعد كلّ شيء لا يدفعك إلى المرّ إلاّ ما هو أمرّ.

ـ فعلا ليس أمامنا خيار آخر. لا معنى لحياتنا إذا استمرّت على هذا النحو.

ونهضنا من المقهى يحدونا عزم الشباب.
 
أردت أن أعدّل من النصّ لكن لم أتمكّن من ذلك . على العموم السطر رقم 12 و هو "ـ يا أخي خفت عليك" يجب أن يُحْــذفَ.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى