نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

نص ومسافة جديدة. أحد عشرة أيقونة في الغياب... مأخوذ من آخر كتاب:"كأن لا أحد" للكاتب محمد آيت علو

ـ 1 ـ

القبورُ تنتقلُ.. والسَّماءُ تنزلُ بالمطرِ، وحفيفُ الأشجارِ يمتَدُّ ينتشِرُ، وعُشٌّ دافئ بين الأغصانِ، وقش يتحطَّمُ ويندَثِرُ، وأنا لستُ هناكَ سوى قبر مضيء بين ظلام المقبرة وبين القبور المتنقلةِ الخائفةِ..لم هم خائفون؟ لم يكن بين الغابةِ والبحرِ إلا بضع خُطوات، والمقبرةُ بينهُما تلقي النُّورَ المشِعَّ وهي تتسلَّقُ الظِّلالَ الممَددَةِ للأشجارِ الوارفةِ السَّامِقةِ، والَّتي لم تعُد تحلمُ بالبحرِ...

ـ 2 ـ
اللَّونُ الأبيضُ المشِعُّ على امتدادِ الأفُقِ، يكسر اللونين الأخضر والأزرق، ثم يتوارى ويقبعُ خلفَ ستائر الخشوعِ إجلالاً لمن رحَلُوا، الجميع ينامُ رغماً عنهُ هنا الآنَ...! وأنا المجنَّحُ الوحيدُ بين هذه الحشودِ النَّائمةِ، أشعرُكأني بقيتُ مُنزوياً منعزلاً وحدي هنا، وكأنه لم يعد لي شيءٌ سوى أن أشربَ الحياةَ في جوفِ البحرِ...وأتنفس الهواء العليل في مكنونِ الغابةِ، وأتدثر بأوراقِها وأتسربلُ بأزهارها وأستنشقُ عبيرَ أريجها، وأتنقلُ في رَحِمِ طُهْرِها وصَفائِها،

وأحتمي كقبرٍ مضيئٍ بنقاءِ وصفاءِ نقائها....

ـ 3 ـ

أرنُو إلى المقبرةِ فأرى على الشواهد أسماءَ مَنْ مَرُّوا، أستنفرُ خطايَ مِنْ مكانٍ لآخرَ، أرى الغابةَ والبحرَ تمتلئ الحياةُ في عيني مزيجاً من الثَّراءِ، في عِبارةٍ أو شَذْرةٍ من شذراتِ الولَهِ "هذه خلوةُ من خبرَ الحياةَ وعبرَ في صمتٍ".
البحرُ زاخرٌ بأَشْرِعَةِ الحياةِ والأسرارِ، والغابةُ حين تنحني كأنها تنبئ بسرِّ الوُجودِ لتمتَدَّ في الأعالي شامخةً بعد هدوءِ العواصفِ والأنواءِ، ضاربة في أعماقِ الأرضِ والحياةِ بالظِّلالِ والعَطاءِ...أجلسُ القُرْفُصاءَ أمام المقبرةِ...أُدْرِكُ بأنَّ هُنا سِرُّ الأسرارِ..تَنْبُتُ أحزاني فجأةً، أسحبُ أطرافَ الأفكارِ المبتورةِ الموزَّعَةِ على كافَّةِ الأرجاءِ بينَ البحرِ والغابةِ...

تلك انطلاقةٌ أُخْرَى لتضربَ بأجنحتِكَ الوقتَ الآسر...

ـ 4 ـ
وكأنَّني أجتازُ قفراً من الغرَابةِ والعُزلةِ الآنَ...! أدُورُ في متاهاتِ تفكيرٍ تائهٍ، أغْفُو وأَسْبَحُ متأمِّلاً، أرى ما لا يُرى، يعتريني طيفٌ مِنَ الرُّؤَى والوجوهِ والصورِ، مثقلة بالآيات والعِبَر، فعلى لِحى أشجارِ الغابةِ نُحِثَتْ أسماءٌ وقلوبٌ...، وعلى شواهدِ القبورِ رُصِّعَتْ أسماءٌ وأسماءٌ لمنْ عَبَرَ في هذهِ الحياةِ، وآياتٌ وعِبَرٌ شتَّى أُخَر..، أرنُو إلى المقبرةِ فأرى الشَّاهدَ شاهِدَ صاحبِ الخلوةِ، فأتلبَّس بحرفِ البدءِ والختمِ مَرَّةً أُخْرَى" هُنا يرقدُ ..من كانَ يحبُّ الحياةَ!!" فأشتعِلُ بالوَلَهِ!! تَضْطَرِبُ حالتي، تختَفي مَعَالمُ طَريقِي، وأَجْزَعُ من الخاتمةِ! أُفتَتنُ كمن يرتعِشُ في يدهِ مفتاحُ بابٍ وهو في عَجَلةٍ من أمرهِ لموعدِه معَ سفرٍ عاجلٍ لَمْ يُرَتِّب لَهُ وَلم يكن في الحُسْبَان، رَحَّالَةٌ بلا محطَّاتِ وُصُول....هو الَّذي كانَ يحلُمُ بالحُبِّ والسَّفَرِ البعيدِ،

لكن هذهِ المرة تتَثاقَلُ الخُطُواتُ كمَنْ لايَنْوِي الوُصُولَ....

ـ 5 ـ
الغائبونَ تحتَ التُّرابِ أكثرُ حضوراً منَّا، وقد مَضَواْ فوقَ أَجْنِحَةِ الرَّحيلِ، كشواهدَ القُبورِكانَ غِيَّابهُم، أُوَدِّعُهُم رغماً عَنِّي، ويمضون إلى حيثُ تستريحُ أرواحُهُم..، وجوهُهمُ المُشرِقَةُ كما لَوْ كانَ موتهُم اختيارُهم، كانوا نجوماً في الظُّلْمَةِ، ترَكُوا السَّاحَة مَلآ بالحُضورِ الزائفِ وغابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فلقد عاشُوا للخيرِ والحُبِّ والعطاءِ، وسيلهجُ ويَنْبُضُ القلبُ بذكرِهِم، قلوبهُمُ النابضة بالصِّدْقِ والإشْرَاقِ وحُبِّ النَّاسِ لن تتوقَّفَ، وستدقُّ دقاتٍ عديدةٍ إلى آخرِ العُمْرِ...!

رحالة تركَ خلفَهُ أكبر الأثر!!

ـ 6 ـ
هذانِ دَربانِ، الأوَّلُ يأخُذُني للبحرِ، والثاني يأخذُني للمَقْبرَةِ...فأَرْنُو إلى القبورِ، أستنفرُ خُطايَ، أفكر في النهاية، أحتاطُ من المجهولِ، أُنْصِتُ لنداءِ الغيبِ، البحرُ زاخرٌ بصنوفِ الحياةِ، يمنحُ الكائنَ أسرارَ الدَّهْرِ المنسابةِ كالأمواجِ في مدِّها وجَزْرِها، أشرعة بيضاء تنشرُ امتداداً من الحياةِ الذَّاهِبَةِ الفانيةِ، والقبرُ مليئٌ بحياةٍ أبديةٍ حقيقيةٍ خاليةٍ من الزَّيْفِ، حياةٌ طاهرةٌ صامتةٌ لكنها كاشفة، هُنا جواب واعضٌ يقينِيٌّ عن كل أسئلتي وحَيْرَتِي، وأرى ما لايُرى،

فهأنذَا أطوفُ ما أطوفُ، لكن حتماً سَتَسْرَحُ بي قدمايَ رغماً عَني حيثُ تريدُ...

ـ 7 ـ
أعتمِرُ قُبَّعَتي ثم أُصَوِّبُ خُطايَ من نُقْطةٍ ما ثم تنطلقُ الخطواتُ...، تتساقطُ اتِّباعاً في مَهَبِّ ما لايُدْرَكُ، والقلبُ يَنْخَلِعُ من مكانهِ، يتهَلَّلُ للوداعِ، قد تهدينا الخُطُواتُ إلى ما قد وُجِدَ بهما، قد أركضُ وأَجْتَرُّ حرَّ الآهِ...! ثم أنبِشُ عن مُسْتَقَرٍّ يمسحُ ما في القلبِ من كَمَدٍ، مستقر أُسائِلُ فيه عن حرفِ البَدْءِ وحرفِ الختمِ، فأطلبُ مدداً...، غير أنَّ خُطوةً واحدةً خاطئةً قد ترميني في الهُوَّةِ السَّحيقَةِ، لكن حَسْبِي الإحْتِمَاءُ بالحذرِ إن نفَعْ،

أُقَدِّمُ رِجْلاً ويُؤَخِّرُ أُخْرَى، كمَنْ لايَنْوِي الوُصُول....

ـ 8 ـ
كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي...ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك... وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء...

لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ ...

ـ 9
الخطواتُ تتلوها الخطواتُ، وهو يمشي ثمَّةَ مكانٌ سوف يصلُ إليه، وبعدهُ ثمةَ مكانٌ آخرَ، لم يحس بخطاه أبداً، لايلتَفِتُ، كلُّ الأشياءِ من حولهِ تبدُو غائمةً، والشمسُ محرقةٌ، والسرابُ يكتَسِحُ الطريقَ الوَعْرَ الجافَّ، منذُ ساعاتٍ وهو يسيرُ، شرَدَ ذهنُهُ إلى بعيدٍ، إلى الماضي الَّذي تجسَّدَ أمامهُ في هذهِ اللَّحَظاتِ، فَرَاحَ يستعرضُ صُوَّرَهُ...كمَنْ يحاولُ عبثاً أن يُقَصِّرَ المسافَةَ، فلا الطريقُ قصُرَت، ولا الذِّكرَياتُ جادَت، تعب ولم يتعب الشُّرودُ، ووَهْمُ الوصولِ مُرْفَقٌ بألفِ احتمالٍ، فلقاءُ أُمِّهِ قد يكونُ الأخيرَ..
كم هو فظيعٌ أَلمُ الفراقِ...سنواتٌ سيئة، حين يعيش الإنسانُ على ألمِ الفقدِ، وكعادتهِ يظلُّ يمشي تائهاً يستَبِدُّ بِهِ الشُّرُودُ من كفنٍ إلى كفن، يعصُرُه الصَّمْتُ سحاباتٍ وقلَّما باسماتٍ، تسقي أَدِيمَ الرَّحيل، يتجرَّعُهُ العَويلُ مسافاتٍ بين النَّعيمِ والجَحِيمِ، بين اليقظَةِ والحُلْمِ، والخُطوات تصيرُ أَمْيالاً!
تَعِبَ من كثرةِ المشْيِ، المسافةُ طويلةٌ، وحقيبةُ الأغراضِ الَّتي يحملُها على كتفهِ ثقيلةٌ، والطريقُ ما تزال طويلة، تحسَّسَ الصَّخْرةَ الملساءَ بالقربِ من الشَّجرَةِ الوارفَةِ الظِّلالِ فجلسَ، نَظَر َبالقُربِ منهُ قافلةٌ من النَّملِ راح يُتابِعُها، ثم نظرَ بعيداً...

هُوَ الَّذي قد ترحلُ أمُّهُ هذا اليوم، يأخذهُ الشَّتاتُ والتِّيهُ إلى حيثُ لايدري، يُسنِدُ ظهرَهُ إلى جذعِ الشَّجَرةِ ليستريحَ، يُمَدِّدُ جسَدهُ على الأرضِ العراءِ كمَنْ لايَنْوِي الوُصُولَ.

ـ 10 ـ
كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي...ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك... وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء...

لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ ...

ـ 11 ـ
أجل، لقد غابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فمن بين ما أتذ كر من دُرَرهم وحكمهم وبمزيج من العشق والشوق، ما ذكره لي ذات يوم أبي ناصحا " لو علمت السرعة التي سينساك بها الناس بعد موتك يا بني...فلن تعيشَ لإرضاء أحد سوى الله".

منذُ ذلك اليوم، وأنا أدعو لوالدي أن يتغمدَهُ الله برحمته، ولم ولن أنساه ماحييتُ.​
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

محمد فري

المدير العام
طاقم الإدارة
الخانة هنا تخص القصة القصيرة جدا؛ ولم أجد علاقة للنص أو النصوص هنا بهذا الجنس
تحيتي
 
تحية ود وتقدير كبيرين للمدير العام ومدير النشر وللطاقم الإداري والفني ولكل الفضليات والفضلاء بهيئة التحرير بمطر المتميزة. .
وسلام يعبر عن الوداد طيب عبيره، ويخبرعن إخلاص الفؤاد لطف تعبيره، وثناءٌ على محاسن تلك الشمائل، أرق من نسمات الشمائل،...
وبعد، بداية نشكرك على رأيك المتميز والذي نحترمه، والذي لم ننتبه إليه إلا الآن، وقد أثلج قلبنا، صحيح إن النص القصصيَ سواء أكان قصة قصيرة أو قصة قصيرة جدا أو لقطات قصصية أو أقصوصة ... وجب أن يمتثل لجنسه الذي أدرج ضمنه، وأن يلتزم بخصائصه ومكوناته المعلومة،غير أننا وللتوضيح نقول: فلقد ركبنا طموحا آخر وخاصة في كتابنا الأول يطبعتين"باب لقلب الريح" وكذلك في إصدارنا الأخير الجديد" كأن لا أحد" وذلك من خلال مشروع نصوص منفلتة ومسافات، وهو مشروع لقي استحسانا كبيرا، وقد وجد له موقعا وصدى في سوق التلقي الأدبي عموما، جعلنا نواصل الحفرفي التجربة بثقة كبيرة، وجملة ما فيه أنها نصوص انفلتت من عقال التجنيس المقيد لكل نفس إبداعي أحيانا، ويأخذ مشروعيته ويمتلكها من الدلالة اللغوية نفسها " انفلات/ ومسافة..." انفلات من أي حد أو قيد، إنه التحليق خارج المألوف، انفلات من قيد اليد والانطلاق إلى كافة العوالم بأجنحة فنية لاحدود لها، والمعول عليه هو الإبداع/ مسافة بين المقروء والمتلقي للاقتراب من مأدبته، وإكمال المشاركة بين المؤلف والمتلقي عموما بغض النظر عن أفق انتظاره...ذلك أن الكتابة عندي تنبثق من خلال ما أشعر به فأعطيه الحرية، ومن خلال معطى جمالي فني أيضا، على أن التجريب هو دينامية داخلية تسري في نسغ النص وهو روح العملية الإبداعية برمتها، علاوة عن الانفتاح على فنون موازية، مثل اللقطة السينمائية أو السكريبت/السيناريو"نص يحدد البناء العام للفيلم أو المسرحية..."..التكثيف والاختزال والانزياح، واقتناص الدهشة في غابات الحياة بجمالها وأسرارها وأسئلتها وغموضها، والمزج بين ما هو خيالي وواقعي، والمنطق والحلم، والانفتاح على بعض خصائص القصيدة الحداثية، والتشكيل، والمسرح...والانفتاح على شتى العلوم، مثل علوم الكونيات... حيث يصير الكاتب بوصلة وصيادا للدهشة، فهو يحيكُ وجودهُ بالتشابك المهيب بكل ما يحيط به، علاوة عن كون هاجس الفن هو حافز اصطناع تجربة إنسانية، إن أي تجربة إذا لم تبدع في مستوى اصطناع تصورات وتحولات لانهائية، فإنها حتما ستتلاشى قبل أن ننتهي من التفكير فيها...هناك الغامض الهام، والتافه الممل، والتافه، والواضح الرائع، والواضح الجميل...ثم إن الأعمال لايحددها بعد قياس ثابت، فهذا لايحدث حتى في الحلم، ناهيك بالتصنيف الأجناسي الذي فقد ما كان يتمتعُ به من يقين وحسم لإدراك العالم، فضلا على أنه لم يعد له أي معنى، فمع "كروتشه" و"بارث"و"بلانشو"وغيرهم كثير، وأن مسألة الأجناس الأدبية لا وجود لها، وأن الحدود الفاصلة التي ما انفك النقاد يقيمونها بين الأجناس مجرد وهم، إن الكتابة والابداع بشكل عام لاتنفك تخترق نفسها وثوابتها في سياق التحولات العامة على مستوى الواقع والتاريخ، وقد صارت بنية النصوص السردية بحلتها الجديدة أكثر جمالا بمفارقتها وانزياحاتها، على أن التجريب هو روح العملية الابداعية، وفي نهاية المطاف هي بحث مستمر لما هو أفضل وبخلفية فنية...، كما تحضرني الآن مقولة "ميخائيل باختين" بأن جنس الرواية مثلا قال:" إنها جنسٌ لم يتشكل بعد"، أستحضر"بورخيس" يقول ما مضمنه: إن القصة كما أراها مجرد كتابة ماسة صافية، لاتحتمل أي زيادة أو ترهل ...كتابة فنية مراوغة وهجينة متعددة لاأساس لها ولا قاعدة، الخلخلة هي الفعل الدائم والمحاط بالعملية الإبداعية أيضا الكثير من الأجناس الأدبية ولا سيما القصة قد استنفدت طاقاتها ووصلت إلى أوجها وهذا ما تحصل عند جمهرة من كتاب القصة القصيرة فيما نعتقد، إن كل شيء يصاب بالتغيير والتكيف، ولسنا فراغا لرجع صدى ما هو عادي...ومن هنا أعتقد أن تكون لنا بصمة وأثر، إن هدف الإبداع والفن هو حافز لاصطناع تجربة إنسانية تسمو بالذوق، وتتجاوز مستوى التسجيل الصرف. المبدع عندما يعيد اصطناع الواقع لا لكي يغتصب الحقيقة من أجل التشويق الملهي والمتعة، فكل شيء ينبغي أن يصفى في الذهن، أن نفهم الحياة من خلال الفن....
الصراع كان مع تركيب الكلمات، إن الإحساسات والصور يملكها الكثيرون، ليس المعيش اليومي وإنما الإيهام به، ومعلوم إن المشاعر أكبر من اللغة، التعبير عنها يبقى هو الأهم، الإيهام بالمعيش وليس الشهادة العيانية...ليس هناك حياة حكاية، بل حكاية حياة...ما قيمة الحياة إذا لم ينقحها الإبداع، إن أي تجربة إذا لم تبدع في مستوى اصطناع تصورات وتحولات لانهائية...فإنها ستتلاشى قبل أن ننتهي من التفكير فيها، فصبرنا ينفذ بدافع الملل والسآم التي تبعثه فينا رؤاهُ أو تقنيته، ومن فشل بعض المبدعين هو أن مصيرهم يتقرر بما يختاره لهم قراؤهم ومنتقدوهم ونقادهم، وهكذا لم يستطيعوا اكتساب شخصيتهم، إنهم عيال الأدب كما يسميهم الصديق الكاتب الكبير"محمد شكري"، فالشكل والموضوع يُملى عليهم من هذه الفئة أو تلك، كما نطلب من النجار أن يصنع لنا كراسي أو طاولات على قياس أو شكلما، تبريرهم القاصر في الابداع الشخصي والعبقري هو أنهم يكتبون تحت الطلب، وبهذا التبرير جعلوا الأدب يخضع لمشاكل عصرهم التجارية مثلما تخضع الأشياء لقياس الحجم...، هناك من يرفض أن يؤكد له الكاتب ما يعرفه، يريد منه غير المعروف، الخارق للعادة. لكن الكاتب لايعبر فقط عن معنى وجوده حتى وإن أراد ذلك ."إن معنى كتاباتي ، مثل معنى وجودي، هو انتصارٌ لما هو إنساني" كما يقول جوتيه.
العالم يفلت منا باستمرار، والفن يحاول القبض على هذا الإفلات. نحن حين نستعيدُ بالإبداع، هذا العالم الهارب منا لا نضعه في صورة مؤطرة ونحتفظ به كذكرى . إن مادته تتحول كأي معدن ينصهر وتعاد صياغته في شكل يلائم عصرنا وما سيأتي بعدنا.
إن الأحكام التي جعلت اكتشاف كافكا في غير أوانه، إهمال نتشه لفترة، إعتبار لينين شعر ما ياكوفسكي هذيانا، حكم أندري جيد على أول جزء من البحث عن الزمن الضائع قدمه بروست لغاليمار قد انقبرت بينما صمدت إبداعات هؤلاء المرفوضين في زمانهم، إن المبدع الحقيقي لاينتظر أحدا لتزكيته وتعزيزه، فقد تأخر معاصروا شوبنهور في فهم مؤلفه"العالم إرادة وتخيل" فمدح نفسه بالاعتزاز الذي يستحقه، إن ما يعيش طويلا ينمو ببطء.
محنة الكاتب العربي اليوم هي أنه مطالب بتطوير تقنيته وموضوعه أكثر من أي وقت سابق، إنه مزاحم من الكتاب الغربيين...وبإكراهات عدة...
الكتابة استكشاف حياة أفضل....ثم إنه لايمكن لأي تجربة أن يتم استسهالها ولا تقزيمها، إن كل صدمة تولد الإحساس بصدمات أخرى في الواقع أوفي الخيال أو في الوهم.....
إن الرهان يحتم علينا أن نؤمن بأن كل كتابة تحملُ صمودها أو خذلانها.
 

محمد فري

المدير العام
طاقم الإدارة
بعد التحية
شكرا على هذا المقال المستفيض؛ والمناصر عامة لشساعة الأدب وعدم محدوديته؛ وهذا أمر لا خلاف فيه؛ ولا يجادل فيه أحد؛ فالأدب تعبير جميل غني بعناصره المتجددة واللامحدودة للتعبير عن خلجات النفس اللامتناهية؛ وفي هذا السياق لم أبخس النص ولم أنتقده؛ بل هو نص جميل بلغته وصوره؛ يذكرني بالأديب محمد الصباغ الذي تميز بأسلوبه الأنيق والرومانسي في التعبير عن مكنونات النفس؛ وأستحضر هنا بالخصوص كتابه ( اللهاث الجريح ) …
النص إذن لايخلو من قيمة أدبية أضفاها عليه أسلوبه المتميز الأنيق … وملاحظتي ارتبطت بتساؤلي حول الخانة الأدبية التي يمكن ربطه بها؛ وهنا لك إمكانية الشرح والتوضيح؛ فإن اعتبرت النص قصة أو قصصا قصيرة جدا فالمرجو إفادتنا في الموضوع لنفتح نقاشا نتبادل فيه الفائدة؛ وإن اعتبرته شعرًا فالتساؤل يبقى واردًا؛ والإدلاء بالتوضيح يغني الحديث …
مسألة التجنيس تحتاج إلى حوار دقيق وهادىء؛ ولا يمكن رفضها أو إلغاؤها بجرة قلم؛ أو بدعوى التحرر والتجريب وما شابه؛ هذا التجريب مطلوب ومرغوب؛ لكن ضمن سياقه الذي يسمو به ويضمن له تطويرًا لايخلو من منطق في إطاره …
منذ أن ابتكر الإنسان الأدب بأجناسه؛ وهو يطور عناصره جيلا بعد جيل … ويكفي هنا مراجعة مسيرة الشعر كيف كان قديمًا وكيف تحول وتغير حاليًا؛ والشيء نفسه نقوله عن السرد؛ فالرواية قديمًا ليست هي الرواية حديثا؛ والقصة القصيرة عند روادها أمثال غي دي موباسان وغيرها ليست هي نفسها عند روادها المحدثين: وقد ازدهر النقد الحديث في متابعة خصائص السرد وتقنياته؛ ودعا نقاده الرواد إلى تجديده وتطويره ضمن آليات نقدية راقية؛ تخضع لتقنيات هي جوهر السرد الذي يميزه ويحدد هويته؛ وضمن هذا التحديد يحدث التجريب والابتكار والتطوير …
ولا أحد من هؤلاء النقاد - بمن فيهم من تحدثت عنهم - دعا إلى التخلي عن تقنيات معينة؛ وقوانين منظمة …
السرد فن جميل ممتع من خلال أسلوبه وحبكته وخطاطته وحكايته ورهانه … فإذا انفلتت عناصره؛ ابتعد عن طريقه وغدا تداعيات وخواطر لا تخلو بدورها من جمال حسب لغتها وأسلوبها؛ لكنها لن تكون سردا إلا بإخلاصها لنظام يحدد السير والمسار
ولكن مني وافر التحية
 
تحية ود وتقدير كبيرين، سعيدٌ جدا - أخي الفاضل- بمقارباتك وصولاتك التي تشي وتنم عن المعرفة والتمكن من خصائص العملية الإبداعية في جوهرها وأسرارها، ناهيك بالشمولية والتي تثلج القلب والتي لانجدها متوافرة في الكثيرين ممن يشرفوا أو يديروا منتدى ما إلا لماما.
وبعد، فإنني سأنطلق مما انتهيت إليه، حقيقة إن السرد فن متميز ومرتبط بالإنسان، هذا الأخير الذي هو كائن سردي بامتياز، يمارسه منذ القدم وهو يحب السرد / الحكاية، وحفلت به كل أنواع الخطاب التي أنتجها الإنسان"الخبر، الخرافة، المقامة، والمقالة السردية، والأمثولة والقصة والرواية والملحمة والتاريخ والمأساة والملهاة والتمثيلية الإيمائية والمحادثة والفيلم السينمائي ...وما تفضلت به لايتنازع فيه اثنان، على الرغم من التجاوزات التي رأيناها الآن في الساحة الأدبية والتي فرضت ذاتها سواء اتفقنا أو اختلفنا، الساحة اليوم تعج بهذا، منطلقة من خلفيات ومرجعيات شتى بداعي التجريب/اللعب، الذي قد يصل حد الفوضى...واسمح لي سيدي الفاضل بالاستفاضة هنا أيضا - مرغما لابطل- فمنذ أن دخلت القصة القصيرة درب التجريب، بدأت بذور الشك والانحلال تينع وتزداد وتتراكم على ضفاف قضايا النوع الادبي والصفاء الأجناسي، لقد فقد التصنيف الاجناسي ما كان يتمتع به من يقين وحسم لإدراك العالم، بل لم يعد له أي معنى، وأن الحدود الفاصلة التي ما انفك النقاد يقيمونها بين الاجناس هي مجرد أوهام. ناهيك بالانتقالات العديدة ، ومد الجسور في اتجاه فنون أخرى، حتى وصلت إلى تداخلية الأجناس ثم حوارية الفنون...
وبغض النظر عن هذا التداخل والتفاعل بين الرواية والقصة والمسرح والسينما والشعر، وحتى الفلسفة، فقد عاش الأدب العربي بالخصوص ظواهر اندثار كثير من النماذج القصصية والتجارب الكبيرة، كنا نقر بها وبمعياريتها، مع الكبار ومع تجارب محمود تيمور ويحيى حقي ويوسف السباعي والطيب صالح ونجيب محفوظ ويوسف ادريس وغسان كنفاني... وحتى زكريا تامر وغيرهم، أين هي الآن؟؟
إن الكتابة عموما والقصة القصيرة خصوصا،لا تنفك تخترق نفسها وثوابتها وقواعدها التأسيسية، التي أصبحت بالنسبة لها مجرد ذكريات أو ملامح أولى ...بل هناك من يعتبر مسألة التجنيس أو مدى جوهرية التصنيفات مسألة كاريكاتورية ومخالفة لما هو أكاديمي صرف... واليوم في العالم بأسره نرى اتجاهات جديدة ورؤى تجريبية ومتنوعة، ولم نعد اليوم نسمع ما يسرده رواة القصص القصيرة من قضايا وأفكار فقط،، بل أصبحنا نراها انطلاقا من خلال خيارات انزياحية وخرق للمألوف مشحونة بالمجازات والاستعارات، التي تشكل حاستنا البصرية وتصحح رؤيتنا الفعلية لأنفسنا وللعالم. صارت بنيات السرود القصصية أكثر جمالا بمفارقاتها وانزياحاتها. لقد أصبحت اليوم بحلة جديدة، منتهية الدلالة. ضمن البحث عن فضاءات جديدة وعدم الخضوع إلى نموذج ..ولقد اصبح الجمال هو ذلك الشيء الباهر، الناتج عن الممارسة الفعلية التفاعلية بين اللغة والابداع والتلقي، كتابة فنية لحكاية ذهنية كامنة بين كلمات تتسرب من بين أصابع القراء، مراوغة وهجينة، متعددة، لا أساس لها ولا قاعدة. ويكفي أن نستشهد بقصة الكاتب الغواتيمالي أوغوستو مونتيروسو: (عندما استيقظ، كان الديناصور لايزال هناك)، قصة تتألف من سبع كلمات اعتبرت أجمل وأقصر قصة قصيرة.
أو قصة الكاتب «جيروم سالنجير»، والتي يقال بانها تلخص جميع القصص القصيرة، عنوانها فمي جميل وعيناي خضراوان...على أن السرد يبقى سردا احتكاما لدعامتين أساسيتين هما: أن يشمل قصة ما، ثم الطريقة التي تحكى بها تلك القصة. فضلا عن المكونات والخصائص" من وقائع/أحداث، وقوى فاعلة، وفضاء زمكاني..." وهنا تثار أشياء عديدة...قد تستدرجني لتفاصيل أخرى لايتسع لها المقام هنا، وأيضا حتى أبقى وفيا للقضايا التي طرحت أقول: ألم يعرف الشعر هذه المسارات وهذه الرياح...فأصبحنا أمام قصيدة شعر التفعيلة والتي استعاض فيها الشاعر بآليات أقل حدة ووطأة مما كان في القصيدة العمودية"أصول الشعر العربي التقليدي"، بل وجدنا أنفسنا اليوم أمام القصيدة النثرية على الرغم من الخلافات والرهانات حتى أثبت جدارته فيما بعد، وكسبت هذه القصائد الرهان، حتى أن القصيدة الحداثية أصبحت تطرب بموسيقاها الخاصة...
وبخصوص إدراج النص المنجز/المنطلق، ففي البداية لم أنتبه إطلاقا للتصنيف في عموديته، وأنا أعتبره نصا ليس إلاَّ، علما بأن هذا النص هو مقتطف من آخر إصدار لي"كأن لا أحد" وأدرجته ضمن "نصوص أدبية" على دفة الغلاف كما هو مبثوت، وضمن المقدمة أشار المرحوم ابن خالي عبده بتسميتها "ضمن مشروع نصوص منفلتة ومسافات" وضمنه استقطاب آليات الكتابة القصصية وآليات كتابة سيناريو الفبلم القصير...بإيجاز ترى ولاتسمع، ترى الحكاية. للإشارة فقط فقد استأذنني بعض الطلاب في تحوير نص آخر"أصبع صغير" إلى مسرحية....
هذا يثيرني ويقودني للحديث عن التجربة ككل فقد كنت متحرجا في البدايات الآولى مدة أربع سنوات قبل الإصدار الأول "باب لقلب الريح" ولم أتزحزح عن نصوصي قيد أنملة، وكنت محتارا في التصنيف، مؤمن كذلك بعدم تغييرها، كان التنقيح لكن ليس لدرجة تغييرها رأسا على عقب، حتى التقيت بالكثير من المبدعين المتميزين واستحسنوا ذلك فكان الاستشارات والتفكير الملي وتنقلت طويلا لألتقي بأصدقاء لي في النقد كذلك فتم حذف بعض النصوص وكان التصنيف والعنوان ثم النشر...ثم تلت ذلك مقاربات متميزة رائعة جعلتني شغوفا ومغتبطا بالتجربة...
ملاحظة: لقد غبت عن الساحة في غفوة من نفسي لسنوات عديدة نتيجة ظروف رومانسية اجتماعية وحياتية...وبعد سنوات وكأنني استيقظ من سبات عميق، - أقيم لي حفل تكريم وأنعشني معنويا وبشكل كبير- ثم أعود لأرى نصين من نصوصي وبعض المفاهيم يشتغل بها وعليها آخرون، في البداية بادرت لهذا العالم الآزرق منذ تقريبا أواخر شهر يونيو وبداية يوليوز خلال الموسم المنصرم، وكنت أوثق بعض تلك النصوص برقم الإيداع القانوني والترقيم الدولي، ليؤكد لي أحد الأصدقاء بوزارة الثقافة على أن الأمر عادي جدا...ومهما يكن من أمر صار الأمر بالنسبة لي سيان، وفي ظرف وجيز جدا حققت أشياء كثيرة ، آخرها حضور المعرض الدولي للكتاب بالبيضاء / المغرب، الدورة 26ضمن فضاء التوقيعات لوزارة الثقافة، واستمر الحضور من خلال منتديات وتوقف البرنامج مع هذا الوباء... هذا ومن بين المنتديات التي أنا مدينٌ لها وأعتز بالانتماء إليها، هذا المنتدى"مطر" و"الأونطولوجيا" من هنا أحييك أخي الفاضل، كما أحيي الجميع، ورمضان مبارك أهله الله عليكم باليمن والبركات، تحياتي الخالصة.
 

محمد فري

المدير العام
طاقم الإدارة
سعيد ومتشرف بمعرفتك أخي السي محمد
أجدد اعترافي وإعجابي بالنص المنشور هنا؛ وبتعليقاتك التي تكشف عن أديب متمرس؛ يملك أناقة الأسلوب؛ وصفاء التصور والفكر؛ وغنى المعرفة..
ويسعد منتدى مطر ويشرفه أن تكون من أعضائه الأدباء المميزين
كما يشرف موقع الأنطلوجيا أن تكون من كتابها..
وانطلاقا من تعقيبك الأخير وما قبله؛ يتضح ويتأكد أن لا خلاف فيما ذكرته وأوضحته؛ وما نشرته هو فعلا من النصوص الأدبية الراقية؛ وما ملاحظاتي إلا من باب تصنيفات ترتيبية تخص تبويب خانات المنتدى ولا تخص النص؛ ولا يسعني إلا أن أجدد الترحيب بك أخا عزيزا؛ وأديبا راقيا؛ ننتظر نصوصه بشغف؛ ونترقب إبداعه بشوق...
ولك المودة الصافية أديبنا العزيز
 
تحية ود وتقدير كبيرين لك أخي الفاضل،
ولك مني كل الثناء والاحترام على هذا الإطراء اللطيف والكلمات الرقيقة، أنا في الحقيقة ممتن لك، فكم أسعدتني وشرفتني، كلماتك أبهجت قلبي كثيرا ولا سيما في هذا الوقت بالذات، فشكرا على هذا التقدير والثقة والترحاب فلك الحب والوفاء، وبأرق كلمات الثناء وجزيل الشكر يفوح بعبير المحبة نفحه...
هذا أخي وإنني باستمرار كنت أعتبر الانطولوجيا ومطر من المنتديات والمواقع المتميزة بحق، وربما كان ذلك نتيجة إحساس وحدس كبير، ومن خلال تواجد أسماء أعرفها وتعرفني، ليتعزز الآن بحضرتك أخي المثقف الجامع والشمولي والمقدر، فلا يعرف ولا يحس بالشوق إلا من يكابده والصبابة إلا من يعانيها... ولا الإبداع والكتابة إلا من يدرك أسرارها، ويحترق بنارها....فتحية إجلال لك راجيا لك متعة الصحة والعافية والسعادة...
ولا أخفيك سرا، ففي الأيام القليلة الماضية وأنا أزمع ترك صفحتي على الفيسبوك نهائيا، كنت قد رتبت مع بعض الأحبة والطلبة الأعزاء والذين يحبوننا، أربعة أوراق تحت عنوان"إلى هنا" وكانت حصيلة أسئلة عن آخر "حفل توقيع كتاب"، أجبت حينها عن بعض الأسئلة العالقة، نظرا لضيق الوقت آنذاك، وضمنت الورقة الأخيرة حديثي عن "المحبة" كقيمة أشتغل عليها، وللمحبة المتبادلة بيننا، وللمتابعين هنا ولتحقيق الاستفادة.... أقدم ذلك إهداء لكم ولمحبتكم...ولك أخي الفاضل كل المودة والتقدير.

إلى هنا...
أخيرا نلتقي أيها الأحبة على هذه الصفحة في محور أخير، وبدون فكرة مسبقة فقد جاءت على عفويتها مرة أخرى، مثل عفويتي في الحياة، وهي تركز على سؤال جوهري لبعض الإخوة المحترمين: من أين تستمدُّ هذه الطاقة وهذا الوهج في الكتابة على الرغم من العوائق وظروف النشر والواقع ...؟ وهنا الحديث عن بواعث الكتابة. ثم الغاية من الكتابة. باختزال إن الدافع هو ما يمكن أن نسميه قنبلة المحبة التي هي جوهر الحياة. وأن أعظم الأعمال الإنسانية تتمثل في جبر الخواطر. ولن يبق معك إلا من رأى الجمال في روحك في النهاية. فضلا عن القيم الإنسانية، والحلم البلسم الذي نرمم به دواخلنا المهجورة...
هذه المحبة التي نتغياها، هي محبة ليس فيها انتظار لأحد، فأنا لا أنتظر أحدا وسواء أتيت أو لم تأت فلن يتوقف القلب...من قال بأني أنتظرك؟ وها أَنَذَا أستطيعُ الحَياةَ وأَبذُلُ جُهدي ليستمر النَّبض وما يُقنعُ الروح بالعَيش، محكومٌ علينا بالمخيلة المبدعة لمعرفة ذواتنا وتجاوزها نحو الأجمل شجبا لقبح العالم ورفضه، وقدرتنا على تجميل حياتنا، ولكي يكون للإبداع قيمته الإنسانية فينبغي أن ينجز بما أشار إليه"رابلي" العلم بدون ضمير فليس إلا كارثة للروح" أي نفي المهزلة التي تتصف بها حياتنا في كثير من الأحيان.
نستمر في دردشتنا الآن لأذكر ما شهده العالم من دمار ونتائج مروعة فترة الحرب العالمية الثانية، فوقف آنشتاين ضد تلك الحرب المدمرة وضد من أشعلها، تلك الحرب التي طرحت على العلماء أسئلة مخيفة، عن مآل البشر وفقدان السيطرة على قوانين الكون، القوانين التي انقلبت ضدنا كما أسماها ألبرت آنشتاين، وأظهرت إغفال العلماء أهمية ودور العلوم والآداب الإنسانية والفنون في أنسنة البشر، ونقلهم من ثقافة وحالة الكراهية..ولذلك ذكر في رسالة موجهة لابنته"ليزرل"، ركز فيها على قوة كبيرة إلى الآن لم يجد لها العلم تفسيراً واضحاً، وهي قوة خارقة وسحرية تشمل وتسيرُ كل ما سواها من القوى، هذه القوة الكونية هي المحبة. وهي قوة تشرح كل شيء، وتعطي معنى للحياة، ونحن نتجاهلها باستمرار، ربما لأن المحبة تُخيفنا، فهي الطاقة الكونية التي لم يتمكن الإنسان من جعلها تحت سيطرته. ويسترسل في رسالته... لإعطاء المحبة بُعدا ملموساً، قمتُ بعملية تعويض بسيطة في نقبل أن طاقة شفاء العالم يمكن أن تتحقق من خلال E=mc2معادلتي الشهيرة، ضرب الحب في مربع سرعة الضوء، سنصل إلى نتيجة أن المحبة أكبر القوى الموجودة على الإطلاق، لأنه لا حدود لها. وإذا أردنا أن تستمر البشرية، إذا أردنا إيجاد معنى للحياة، إن أردنا إنقاذ العالم، وكل الكائنات الحساسة به، فالمحبة هي الجواب الوحيد. ربما لسنا بقادرين بعد على صناعة قنبلة محبة....محبة قوية تكفي لتدمير كل الكره والأنانية..لكن بالمقابل كل إنسان يحمل بداخله مفاعلا صغيراً وقويا جدا، طاقته تنتظر أن تتحرر...وعندما نتعلم كيف نعطي ونستقبل هذه الطاقة الكونية، يمكننا أن نقول: إن الحب ينتصر على كل شيء، وقادر على تجاوز أي شيء وكل شيء، لأن المحبة هي جوهرُ الحياة.
وعندنا أذكر ما أورده "أحمد أمين" في وحي الرسالة"... إذا كانت الحياة وردة، فإن الأمل في أكمامها الله في السماء والأمل في الأرض. وبين روح الله المؤاسي، ومدد الرجاء الآسي، تندمل الجفون القريحة، وتلتئم القلوب الجريحة، وتنتعش النفوس.. نعمتان لايطيب بدونهما العيش، ولا يبلغ إلا عليهما العمر"النسيان والأمل"...ماذا كان يفعل اليأس بالنفوس المكروبة، إذا لم يفتح الأمل أمامها فرجة في الأفق المطبق وفسحة من الغد المجهول؟... فإذا كان في اليوم قنوط، ففي الغد رجاء، وإذا لم تكن لي الأرض فستكون لي السماء..."
إلى هنا ربما تكون قد نابت عنا المواقف والعبارات...
إلى هنا وفي زمن الكورونا نقف هنا..
الايميل للضرورة:[email protected]
إلى الذين أحبهم...والذين لا....وأحبهم...وأعرف أني أغرق في شلالات محبنكم، وأقطر حنينا...
ورمضان مبارك، أهله الله على الجميع باليمن والبركات،
ختاما: ...غدا سنرفع الشراع كل إلى سبيل،
فطهروا بالحب
ساعة الوداع.
 

محمد فري

المدير العام
طاقم الإدارة
هناك حس مقالات مكتملة في تعليقاتك
لذا سمحت لنفسي اقتطاع بعضه ونشره مستقلا في خانة فكر ونقد
مودتي
 
شكرا جزيلا أخي الفاضل، خذ ما تراه، لك كامل حرية التصرف،
أحييك على تمكنك ونباهتك، وأهنيك على المبادرة والالتفاتة اللطيفة،
الله يحفظك ويسعدك، فأنت أهل لكل فضل،
في هذه اللحظة بالذات لا أعرف لم حضرني بيت شعري للمتنبي، ترددت قبل كتابته
لكن بكل عفوية وحب وللود والتقدير أبثه لك هنا:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به * فإن في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل.
قال النقاد لو أدرك سيف الدولة الحمداني هذا البيت لما تركه يرحل...
كل المودة والثناء الجميل....
 

نقوس المهدي

مشرف
طاقم الإدارة
قرأت هذا النص السردي الباذخ.. وتابعت الحوار الادبي الهادئ و الشائق الذي دار حوله وزاده رونقا،
انه نص مكتوب بعناية ونرو في معنى الوجود .. عبر سبع لوحات تنطلق من عالم الفراغ حيث الموت والمقبرة والبحر والغابة ورجل هائم يبحث عن كنهه .. انها دورة الحياة الاثمة اللاسرمدية .. حيث الهجر والالتيه والضياع مختومة بالفناء والرجوع الى العدم
راقني هذا النص المكتوب بلغة شاعرية جميلة ومتينة
 
معجب جدا بمقارباتك وتسجيلاتك المكثفة والعميقة والدقيقة في الآن نفسه- من خلال نصوص سابقة سواء في الانطولوجيا أو في مطر- احتشاد واضح بنظرة الأرب، نظرة المتبصر النافذة إلى مكامن وبواطن العمل الإبداعي نحو الأبعد والأعمق، وهذا لا يصدمنا في شيء حيث تصدر عن متمكن يتمتع بصفاء ذوق، وسمو تقدير، وعلو كعب في المضمار، إشارات كالبرق الخاطف، لكنها صائبة محفزة وذات دلالات عميقة، ذوق متأصل، ينم عن قوة إدراك وامتلاك رؤية وآليات كفيلة بالخلوص إلى الجوهر، وهذا يذكرنا ب:ت.إليوث "في القضايا التحليلية على المحلل أن لايسهب ..ولايشير للجمال أو القبح..عليه أن يوضح لاغير، وسيصل القارئ إلى الحكم الصحيح بنفسه..." فمن شأن هذا أن يثلج الصدر في تحقيق ذلك المتلقي الضمني الذي نناشده، فشكرا ، تحياتي القلبية لكل الطاقم الإداري والفني، ودمت أخي الفاضل مشرقا في الذاكرة، تحياتي القلبية الخالصة.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى