عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
كلما هم بالخروج باكرا إلى المسجد لأداء صلاة الفجر أمسك بيده اليمنى طربوشه الوطني الغائر من فوق بحفرة تشبه زورقا بدائيا، وبمرفقها ضغط على جلبابه البزيوي ناصع البياض رافعا إياه قليلا حتى لا يتسخ، وانحنى ليفتح الباب.
يرسل لعناته على هذا الزقاق الضيق والنتن، يكاد يقضي على كل أمل في التخلص منه، عقدان من الزمن وهو يقطنه من دون أن يطرأ عليه أي تغيير. تصطدم نظراته بلباس الظلام مازال يلقي بغلالته على الزقاق، فيعدل عن إلقاء اللوم على المنتخبين الذين أهملوا إنارة المكان، تاركين إياه مهمشا يعاني صروف الزمن لوحده، يغلق الباب وفمه، لا يريد أن يدنس لحظته الربانية المشرقة وهو الذي توضأ رافعا أكف الضراعة لينعم عليه بمنزل خارج هذا الزقاق اللعين. في طريقه ، وقبل أن يعرج دالفا الشارع الكبير، تعثر بشيء صلب تبين له أنه حقيبة، رفعها، كانت ثقيلة، عاد بها إلى منزله ووضعها خلف الباب، واتجه صوب المسجد بنفسية عامرة بالأحلام: لابد أنها مليئة بالأوراق النقدية، أو بالذهب. سأشتري قطعة أرضية أبني عليها منزلا بثلاث واجهات، تضيئها أشعة الشمس طوال النهار، وبالقرب حديقة أغرسها بأشجار مثمرة، وابني جنبها خما لتربية الديك الرومي والدجاج، سيكون المنزل بنوافذ تشرب الهواء النقي، فتنتعش النفس وتبتهج؛ منزله هو، لا منزل زوجته...أو أشتري دارة جاهزة، تتوفر على ما أريده وأحبه...ولم لا، تكون بإحدى المدن الساحلية.. سأشتري لزوجتي أساور من ذهب، وعقد لؤلؤ، والباقي أدخره، بعد أن أصرف القليل في البر..
وصل قبل الأذان بقليل، فصلى تحية للمسجد، ولما قام الإمام بالصلاة، انخرط فيها بنفس مهزوزة لأول مرة، ولأول مرة اكتشف نشاز صوت الرجل، كما شعر بضيق لطول تلاوته للقرآن، كيف لم يتنبه للأمر؟ أمر غريب أن يؤمنا رجل بهذا الصوت الخشن، ويطيل في السور، لو كان باستطاعتي لخنقته بيدي، هل يعرف عزمي على العودة سريعا لأتفقد محتويات الحقيبة؟ وكيف له أن يعرف؟ ربما رآني عائدا إلى المنزل على غير عادتي أحمل شيئا ثقيلا؟ ربما لمح ما بيدي؟ رما أكون واهما؟
ثم، من قال إن الحقيبة بها أوراق مالية، أو ذهبا؟ لم لا تكون حاملة شرا؛ مثلا: جثة مقطعة كتلك الجثة التي عثر عليها مرة بالقطار لأطراف امرأة في مقتبل العمر؟
وحين عبرته الفكرة، شعر بتعرق، وانقباض، وخفقان شديد، وترجى أن يفرغ الإمام من صلاته ليعود إلى منزله حتى يبعد عنه تهمة ما كان وراءها، ولا سعى إليها...لكن الإمام مصر على الإطالة...هذا ما شعر به وهو الرجل الذي كان يخشع في كل صلاة، غير مبال بالوقت...
لما سلم الإمام، تبعه بسرعة، ثم حمل خفيه وانصرف سريعا أمام استغراب معارفه، انتعلهما ، وانطلق مهرولا إلى أن بلغ المنزل، وهناك انتظرته مفاجأة جديدة لم يتوقعها، كانت زوجته، وهي التي تنهض متأخرة، في الصحن، جالسة على كنبة وقربها الحقيبة مفتوحة..كانت غاضبة، ملامحها تنذر بنار لا تكفي كل خراطم العالم من إخمادها.
ما إن لمحته حتى أخرجت من جوف الحقيبة كحاو أفاع فستانا ليليا حريري الملمس، أحمر اللون، من دون أكمام، قصيرا لا يصل الركبتين، تمنى في قرارة نفسه لو كان لها مثله، لكانت لياليه صاخبة، وقالت، بصوت صارخ، فيه غضب وغيرة وحقد: لمن هذا؟ تزلزل كيانه، واضطرب، فلم يعرف بما يرد، لدرجة أنه نسي الانحناء قبل الدخول، فاصطدم رأسه بعريضة الباب العليا، أسقطت طربوشه؛ شعر بدوخة، فبذل جهدا كي لا يسقط، تماسك، وسار باتجاه الحقيبة اللعينة، قائلا: هي ليست لي...
تكون هادئة كبحر، لكنها سرعان ما تتقلب لترتفع أمواجها؛ انطلق من فمها رذاذ الغضب يسعى إلى إغراقه، حيث قالت بحدة:
وتكذب علي من دون أن يرف لك جفن؟! أيها اللعين!!
ألقى نظرة على المحتويات: أساور من ذهب خالص، ومضمة عريضة{حزام} وخلخال، وعقد مرصع، ورزمة أوراق مالية، وعلبة صغيرة ملفوفة بورق صقيل، ومزينة بشريط حريري...وقبل أن تمتد يده إليها، واجهته بصورة له صحبة عروس، قائلة بقوة من بيده حجة دامغة: ولمن هذه، يا ترى؟
نظر بإمعان ودهشة، كانت الصورة له بالفعل، لكنها ليست له، حاول إقناعها بذلك، وأن الرجل يشبهه، لكنه ليس هو، فالله يخلق من الشبه أربعين...
لم تقتنع، فرمتنه بالخيانة، وعيرتنه بأنها صاحبة الفضل عليه: قبلت الزواج منه رغم عطالته، وأسكنته بيتها وقلبها، ومنحته دكانا ليمارس تجارة تحفظ له ماء وجهه...فهل بعد كل هذا، يقابل كرمها بغدره؟!!
ثم مدت يدها إلى العلبة تفتحها، وكم كانت دهشتها كبيرة وهي ترى بداخلها بنصر يد يسرى متيبسا وبه خاتم زواج...
قرفص، واضعا كفيه على خديه متأملا المشهد الغريب، فيما كانت زوجته تنظر إلى يسراه وقد نقصت أصبعا، وتتساءل مع نفسها باستغراب، متى تم الحذف؟
يرسل لعناته على هذا الزقاق الضيق والنتن، يكاد يقضي على كل أمل في التخلص منه، عقدان من الزمن وهو يقطنه من دون أن يطرأ عليه أي تغيير. تصطدم نظراته بلباس الظلام مازال يلقي بغلالته على الزقاق، فيعدل عن إلقاء اللوم على المنتخبين الذين أهملوا إنارة المكان، تاركين إياه مهمشا يعاني صروف الزمن لوحده، يغلق الباب وفمه، لا يريد أن يدنس لحظته الربانية المشرقة وهو الذي توضأ رافعا أكف الضراعة لينعم عليه بمنزل خارج هذا الزقاق اللعين. في طريقه ، وقبل أن يعرج دالفا الشارع الكبير، تعثر بشيء صلب تبين له أنه حقيبة، رفعها، كانت ثقيلة، عاد بها إلى منزله ووضعها خلف الباب، واتجه صوب المسجد بنفسية عامرة بالأحلام: لابد أنها مليئة بالأوراق النقدية، أو بالذهب. سأشتري قطعة أرضية أبني عليها منزلا بثلاث واجهات، تضيئها أشعة الشمس طوال النهار، وبالقرب حديقة أغرسها بأشجار مثمرة، وابني جنبها خما لتربية الديك الرومي والدجاج، سيكون المنزل بنوافذ تشرب الهواء النقي، فتنتعش النفس وتبتهج؛ منزله هو، لا منزل زوجته...أو أشتري دارة جاهزة، تتوفر على ما أريده وأحبه...ولم لا، تكون بإحدى المدن الساحلية.. سأشتري لزوجتي أساور من ذهب، وعقد لؤلؤ، والباقي أدخره، بعد أن أصرف القليل في البر..
وصل قبل الأذان بقليل، فصلى تحية للمسجد، ولما قام الإمام بالصلاة، انخرط فيها بنفس مهزوزة لأول مرة، ولأول مرة اكتشف نشاز صوت الرجل، كما شعر بضيق لطول تلاوته للقرآن، كيف لم يتنبه للأمر؟ أمر غريب أن يؤمنا رجل بهذا الصوت الخشن، ويطيل في السور، لو كان باستطاعتي لخنقته بيدي، هل يعرف عزمي على العودة سريعا لأتفقد محتويات الحقيبة؟ وكيف له أن يعرف؟ ربما رآني عائدا إلى المنزل على غير عادتي أحمل شيئا ثقيلا؟ ربما لمح ما بيدي؟ رما أكون واهما؟
ثم، من قال إن الحقيبة بها أوراق مالية، أو ذهبا؟ لم لا تكون حاملة شرا؛ مثلا: جثة مقطعة كتلك الجثة التي عثر عليها مرة بالقطار لأطراف امرأة في مقتبل العمر؟
وحين عبرته الفكرة، شعر بتعرق، وانقباض، وخفقان شديد، وترجى أن يفرغ الإمام من صلاته ليعود إلى منزله حتى يبعد عنه تهمة ما كان وراءها، ولا سعى إليها...لكن الإمام مصر على الإطالة...هذا ما شعر به وهو الرجل الذي كان يخشع في كل صلاة، غير مبال بالوقت...
لما سلم الإمام، تبعه بسرعة، ثم حمل خفيه وانصرف سريعا أمام استغراب معارفه، انتعلهما ، وانطلق مهرولا إلى أن بلغ المنزل، وهناك انتظرته مفاجأة جديدة لم يتوقعها، كانت زوجته، وهي التي تنهض متأخرة، في الصحن، جالسة على كنبة وقربها الحقيبة مفتوحة..كانت غاضبة، ملامحها تنذر بنار لا تكفي كل خراطم العالم من إخمادها.
ما إن لمحته حتى أخرجت من جوف الحقيبة كحاو أفاع فستانا ليليا حريري الملمس، أحمر اللون، من دون أكمام، قصيرا لا يصل الركبتين، تمنى في قرارة نفسه لو كان لها مثله، لكانت لياليه صاخبة، وقالت، بصوت صارخ، فيه غضب وغيرة وحقد: لمن هذا؟ تزلزل كيانه، واضطرب، فلم يعرف بما يرد، لدرجة أنه نسي الانحناء قبل الدخول، فاصطدم رأسه بعريضة الباب العليا، أسقطت طربوشه؛ شعر بدوخة، فبذل جهدا كي لا يسقط، تماسك، وسار باتجاه الحقيبة اللعينة، قائلا: هي ليست لي...
تكون هادئة كبحر، لكنها سرعان ما تتقلب لترتفع أمواجها؛ انطلق من فمها رذاذ الغضب يسعى إلى إغراقه، حيث قالت بحدة:
وتكذب علي من دون أن يرف لك جفن؟! أيها اللعين!!
ألقى نظرة على المحتويات: أساور من ذهب خالص، ومضمة عريضة{حزام} وخلخال، وعقد مرصع، ورزمة أوراق مالية، وعلبة صغيرة ملفوفة بورق صقيل، ومزينة بشريط حريري...وقبل أن تمتد يده إليها، واجهته بصورة له صحبة عروس، قائلة بقوة من بيده حجة دامغة: ولمن هذه، يا ترى؟
نظر بإمعان ودهشة، كانت الصورة له بالفعل، لكنها ليست له، حاول إقناعها بذلك، وأن الرجل يشبهه، لكنه ليس هو، فالله يخلق من الشبه أربعين...
لم تقتنع، فرمتنه بالخيانة، وعيرتنه بأنها صاحبة الفضل عليه: قبلت الزواج منه رغم عطالته، وأسكنته بيتها وقلبها، ومنحته دكانا ليمارس تجارة تحفظ له ماء وجهه...فهل بعد كل هذا، يقابل كرمها بغدره؟!!
ثم مدت يدها إلى العلبة تفتحها، وكم كانت دهشتها كبيرة وهي ترى بداخلها بنصر يد يسرى متيبسا وبه خاتم زواج...
قرفص، واضعا كفيه على خديه متأملا المشهد الغريب، فيما كانت زوجته تنظر إلى يسراه وقد نقصت أصبعا، وتتساءل مع نفسها باستغراب، متى تم الحذف؟