حيدرعاشور
كاتب
قصة قصيرة – شاهد عيانها – المواطن – عبد الرزاق مصطفى رضا كاسب
الانفاسُ الأخيرة في قرية سينوا
حيدر عاشور
فجأة فقدنا حساب الزمن، هذه هي النهاية اذن بهذا الموت الوحشي الداعشي سننتهي ويذهب الإنسان كالهباء لا يذكره ذاكر.. الموت، بعفوية نلفظها ومعها لفظت الرعب الذي اضافه القصف ليل ونهار بصواريخ كاتيوشية والقصف العشوائي بالمدفعية. ارواحنا انحبست في صدورنا التي امتلأت بالحشرجات وهي تتسابق الى الشهادة من أجل شرف القرية قبل ان يباح لشرذمة ملونة الدم والعرق، تكفيرية مقيدة. وحين لم نجد من وعود الحكومة شيئا حقيقيا ونحن في أنفاسنا الأخيرة في سينوا، وكأن القرية بدت منعزلة عن عالمها تلعفر والموصل. لا نعلم ماذا حل بالقرى المجاورة من الهمجية (داعش). الجوع والحاجة والتعب الجسدي والالم والخوف بكل صوره البشعة والغرائبية شمل الجميع كأنهم ينتظرون حيوانا اسطوريا عملاقا سيلتهمهم بمجرد دخوله القرية. قررنا ان نحمي انفسنا بأنفسنا من هذا الرعب واستمكنا من وضع خطط الخروج الجماعي تحت جنح الليل. الليل في هذه الظروف يكون الامتداد للهروب من جنتك. فجأة أعلن الليل عن صوت، انين بعيد فكان عبارة عن نزوح كبير لعوائل تلعفرية باتجاه قرية سينوا، استقبلناها واسكناها في نفس القرية، حتى أصبحت نفوس القرية عبارة عن نفوس تلعفر بأكملها.. وقد اضاف المشهد الجديد هولا لكارثة الموت الجماعي الذي ننتظره، ليضيف ايضا أملا لصنع اهداف دفاعية لتقليل التقهقر النفسي والانحدار السريع عبر القصف الوحشي الذي لم يسكت لحظة واحدة. أجمعنا عن الدفاع عن النفس، فما زال في العمر متسعّ للبقاء. كان تجمعنا المشترك له أثر الصمود فنحن في مواجهة عدو ظالم ونتوقع منه كل شيء. وكل شيء بدأ يتهاوى من حول القرية.. كانت الليلة الاولى بعد القصف الكثيف والحصار المميت، كأن الارض بدأت تتشقق بنا وهي تضع هوة عميقة يتخللها كل انواع الخوف والرعب، الذي بدأ ينفجر من داخل النفوس باستغاثات ينفطر لها القلب. فالموت امام العيون يحوم والاجساد تتطاير مع التراب والدخان وتتحول الى اشلاء مشوية. هكذا تزايد الموت في اليوم الثاني ونحن نحاول قدر المستطاع حماية ما يمكن حمايته من الاطفال والنساء والشيوخ. و(داعش) كان يتقدم نحو القرية بحذر، غير آبه بالناس ورصاصهم اخذ يجندل شجعان القرية والأرض تبتلع ابناءها.
وشدت الوطيس في اليوم الثالث، لم نعرف منه ليله من نهاره، والكارثة دخول الموت وسط القرية، وكانت (داعش) تعمل عمل القصاب في ذبح الذبيحة. ومجزرة الذبح والحرق توالت ليومها الرابع ببشاعة قلّ نظيرها والشبان يضحون بحياتهم من أجل النسوة وما يزيد الظلم ظلماُ كانت في القرية نساء ايزيديات تحت حمايتنا، وهذا ما كان يثير غيرة الشباب فلم يمكنوا (داعش) من نصب مشانقهم وأدواتهم التعذيبية.. وتسبب هذا الدفاع المستميت المزيد من الدم والموت، ومزيدا من شهوة القتل والاغتصاب لدى (داعش) التي بدأت تتصرف تصرفات منحلة لا اخلاقية، فاسدة كأنها تنتمي الى اسوأ انواع حيوانات الغابة المتوحشة.. تصرف همجي مستكلب.. يسرقون وينهبون وفوق كل ذلك يغتصبون الفتيات امام أهليهم بلا خوف او تردد، ومشهد تلك الايزيدية وهي ترفس الأرض بساقيها من الالم. لقد كانت فتية جميلة تكالبوا عليها يشوهون وجهها ويمزقون ملابسها، ويتخاصمون على نكاحها؛ وملأ فيض من المرارة السوداء الملتهبة فم بعض شباب سينوا وتدفق بين أسنانهم المنقبضة غضب حامي، والدواعش ما زالوا يمارسون حقدهم وضغينتهم ببشاعة الجنس لكسر شوكة أهالي القرية. فبدأت صولة غاضبة نحرت كل الدواعش حول الفتاة وفتحت علينا نار متوحشة، ولكن قوتنا التلعفرية صمدت فاصبحنا مجانين في حماية انفسنا. كان ذلك هو جنون الليلة الخامسة ونحن نذبح بشكل جماعي، منظر مخيف من أنهار الدم والجثث التي ملأت كل شبر من القرية.. جثث مقطعة واخرى محترقة واخرى مصلوبة. وفي حمم القتال والصبر على الابتلاء جاء الرجل الصالح (ملة غائب) مؤذن الجامع ومعه اسود القرى التلعفرية وقاموا بسحق الدواعش وتحريرنا من الحصار وما لاح الفجر حتى خرجنا من قريتنا سينوا الى سنجار ونحن في حالة يرثى لها لم نحمل معنا غير سلاح بسيط وسمائلنا الممزقة وأجسادنا الممتلئة بالدم. والمصيبة الكبرى كان (ملة غائب) قد حاصروه وهو في سيارة حوضية تنقل المياه الى المحاصرين وتم ذبحه علنا في منتصف الشارع كما تذبح الشاة. لقد ضحى الملة بنفسه فكان قربان القرية وقربان كل تلعفري وصل اليه ومدهُ بالمؤونة كي يصبر على محاربة طغاة العصر وغربان سواد النواصب وفئران خونة العراق...خمسة ايام تلفظنا بها انفاسنا الاخيرة في القرية وخرجنا بقوة سلاحنا وانقذنا ما يمكن انقاذه من العوائل واستشهد من لم نستطع انقاذه.. سيكتب التاريخ ملحمة قرية سينوا بدماء شهدائها الخلص، الذين هبوا عن بكرة ابيهم للقتال من جديد بعد ان دوّت أصوات الجهاد الكفائي للسيد السيستاني، ليكونوا في مقدمة طلائع الحشد الشعبي العشائري التلعفري لطرد (داعش)، ونجحنا بأخذ حقوق الدم، واسترجعنا ارضنا الحبية ورجعنا أمنين في سينوا.
* قصة قصيرة من مجموعة ( حدث هناك في تل عفران) حيدرعاشور
حيدر عاشور
فجأة فقدنا حساب الزمن، هذه هي النهاية اذن بهذا الموت الوحشي الداعشي سننتهي ويذهب الإنسان كالهباء لا يذكره ذاكر.. الموت، بعفوية نلفظها ومعها لفظت الرعب الذي اضافه القصف ليل ونهار بصواريخ كاتيوشية والقصف العشوائي بالمدفعية. ارواحنا انحبست في صدورنا التي امتلأت بالحشرجات وهي تتسابق الى الشهادة من أجل شرف القرية قبل ان يباح لشرذمة ملونة الدم والعرق، تكفيرية مقيدة. وحين لم نجد من وعود الحكومة شيئا حقيقيا ونحن في أنفاسنا الأخيرة في سينوا، وكأن القرية بدت منعزلة عن عالمها تلعفر والموصل. لا نعلم ماذا حل بالقرى المجاورة من الهمجية (داعش). الجوع والحاجة والتعب الجسدي والالم والخوف بكل صوره البشعة والغرائبية شمل الجميع كأنهم ينتظرون حيوانا اسطوريا عملاقا سيلتهمهم بمجرد دخوله القرية. قررنا ان نحمي انفسنا بأنفسنا من هذا الرعب واستمكنا من وضع خطط الخروج الجماعي تحت جنح الليل. الليل في هذه الظروف يكون الامتداد للهروب من جنتك. فجأة أعلن الليل عن صوت، انين بعيد فكان عبارة عن نزوح كبير لعوائل تلعفرية باتجاه قرية سينوا، استقبلناها واسكناها في نفس القرية، حتى أصبحت نفوس القرية عبارة عن نفوس تلعفر بأكملها.. وقد اضاف المشهد الجديد هولا لكارثة الموت الجماعي الذي ننتظره، ليضيف ايضا أملا لصنع اهداف دفاعية لتقليل التقهقر النفسي والانحدار السريع عبر القصف الوحشي الذي لم يسكت لحظة واحدة. أجمعنا عن الدفاع عن النفس، فما زال في العمر متسعّ للبقاء. كان تجمعنا المشترك له أثر الصمود فنحن في مواجهة عدو ظالم ونتوقع منه كل شيء. وكل شيء بدأ يتهاوى من حول القرية.. كانت الليلة الاولى بعد القصف الكثيف والحصار المميت، كأن الارض بدأت تتشقق بنا وهي تضع هوة عميقة يتخللها كل انواع الخوف والرعب، الذي بدأ ينفجر من داخل النفوس باستغاثات ينفطر لها القلب. فالموت امام العيون يحوم والاجساد تتطاير مع التراب والدخان وتتحول الى اشلاء مشوية. هكذا تزايد الموت في اليوم الثاني ونحن نحاول قدر المستطاع حماية ما يمكن حمايته من الاطفال والنساء والشيوخ. و(داعش) كان يتقدم نحو القرية بحذر، غير آبه بالناس ورصاصهم اخذ يجندل شجعان القرية والأرض تبتلع ابناءها.
وشدت الوطيس في اليوم الثالث، لم نعرف منه ليله من نهاره، والكارثة دخول الموت وسط القرية، وكانت (داعش) تعمل عمل القصاب في ذبح الذبيحة. ومجزرة الذبح والحرق توالت ليومها الرابع ببشاعة قلّ نظيرها والشبان يضحون بحياتهم من أجل النسوة وما يزيد الظلم ظلماُ كانت في القرية نساء ايزيديات تحت حمايتنا، وهذا ما كان يثير غيرة الشباب فلم يمكنوا (داعش) من نصب مشانقهم وأدواتهم التعذيبية.. وتسبب هذا الدفاع المستميت المزيد من الدم والموت، ومزيدا من شهوة القتل والاغتصاب لدى (داعش) التي بدأت تتصرف تصرفات منحلة لا اخلاقية، فاسدة كأنها تنتمي الى اسوأ انواع حيوانات الغابة المتوحشة.. تصرف همجي مستكلب.. يسرقون وينهبون وفوق كل ذلك يغتصبون الفتيات امام أهليهم بلا خوف او تردد، ومشهد تلك الايزيدية وهي ترفس الأرض بساقيها من الالم. لقد كانت فتية جميلة تكالبوا عليها يشوهون وجهها ويمزقون ملابسها، ويتخاصمون على نكاحها؛ وملأ فيض من المرارة السوداء الملتهبة فم بعض شباب سينوا وتدفق بين أسنانهم المنقبضة غضب حامي، والدواعش ما زالوا يمارسون حقدهم وضغينتهم ببشاعة الجنس لكسر شوكة أهالي القرية. فبدأت صولة غاضبة نحرت كل الدواعش حول الفتاة وفتحت علينا نار متوحشة، ولكن قوتنا التلعفرية صمدت فاصبحنا مجانين في حماية انفسنا. كان ذلك هو جنون الليلة الخامسة ونحن نذبح بشكل جماعي، منظر مخيف من أنهار الدم والجثث التي ملأت كل شبر من القرية.. جثث مقطعة واخرى محترقة واخرى مصلوبة. وفي حمم القتال والصبر على الابتلاء جاء الرجل الصالح (ملة غائب) مؤذن الجامع ومعه اسود القرى التلعفرية وقاموا بسحق الدواعش وتحريرنا من الحصار وما لاح الفجر حتى خرجنا من قريتنا سينوا الى سنجار ونحن في حالة يرثى لها لم نحمل معنا غير سلاح بسيط وسمائلنا الممزقة وأجسادنا الممتلئة بالدم. والمصيبة الكبرى كان (ملة غائب) قد حاصروه وهو في سيارة حوضية تنقل المياه الى المحاصرين وتم ذبحه علنا في منتصف الشارع كما تذبح الشاة. لقد ضحى الملة بنفسه فكان قربان القرية وقربان كل تلعفري وصل اليه ومدهُ بالمؤونة كي يصبر على محاربة طغاة العصر وغربان سواد النواصب وفئران خونة العراق...خمسة ايام تلفظنا بها انفاسنا الاخيرة في القرية وخرجنا بقوة سلاحنا وانقذنا ما يمكن انقاذه من العوائل واستشهد من لم نستطع انقاذه.. سيكتب التاريخ ملحمة قرية سينوا بدماء شهدائها الخلص، الذين هبوا عن بكرة ابيهم للقتال من جديد بعد ان دوّت أصوات الجهاد الكفائي للسيد السيستاني، ليكونوا في مقدمة طلائع الحشد الشعبي العشائري التلعفري لطرد (داعش)، ونجحنا بأخذ حقوق الدم، واسترجعنا ارضنا الحبية ورجعنا أمنين في سينوا.
* قصة قصيرة من مجموعة ( حدث هناك في تل عفران) حيدرعاشور