عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
بداية ونهاية
**
حين رأيتها وسط جمع من الناس بمحطة القطار، وكانت الشمس تسير بطيئة نحو الغروب، وجدتها بأم عيني وحيدة بل فريدة في جمالها، قامة طويلة، وشعر ليلي منسدل في فوضى فاتنة على ظهرها المستقيم ينساب بعذوبة إلى وركها، وعينان واسعتان يتصارع فيهما الليل والنهار، وفم باسم كأنه نداء للحياة السعيدة، راهنت نفسي أنها لما تستدير ثانية إلى جهتي ستلقي علي سلامها الضاحك بغنج، وانها ستقبل علي كما تقبل الفراشة على الضوء وإن لم أكن ضوءا ولا أمثل لها تهديدا وجوديا يهدد كيانها.
لكنها حين استدارت وجدت وجهها يعلوه استغراب مأتاه من نظراتي البلهاء إليها، تجرأت، تذويبا لذلك الاستغراب، ودعوتها إلى فنجان قهوة وكنت متأكدا من خلال تجارب أصدقائي أنها ستطلب عصير برتقال..
سررت لأنها قبلت دعوتي بيسر، وطلبت من النادل، أمام دهشتي وخسارتي للرهان، فنجان قهوة شديدة السواد قوية العصر، بالغة المرارة، وزادت دهشتي أنها أخرجت علبة سجائر، ومدتني بواحدة، في هذه اللحظة شعرت بحرج شديد أمامها، فهل أقبل السيجارة وأشعل لها سيجارتها ونلقي كلامنا من بين الأدخة المتصاعدة أم أرفضها بكل أدب وأسبب لها في إحراج هي غير مستعدة له؟ بقيت للحظة أنظر ببلاهة إليها وإلى يدها الممدودة والسيجارة الصقيلة التي أطل رأسها من العلبة، ثم أخبرتها معتذرا أنني لا أدخن، ولم يسبق لي أن فعلت ذلك، ولم أخبرها أني أكره التدخين والمدخنين، وأن دخان السجائر يسبب لي دوارا واختناقا، كيف أفعل وقد سعدت بقبولها لدعوتي؟ كيف أفعل وهي الضيف الذي قبل الدعوة من دون تردد؟ فمول الدار ما يفرط..
ابتسمت، ضحكت، قهقهت، ثم قالت لي: الأكيد أنك لا تعاقر الخمرة، ولا تذهب إلى المراقص، ولم تجرب متعة السباحة عاريا، ولا العدو على الرمال من دون تبان؟ والأكيد أنها لم تتذوق أنثى من قبل!
ولما أجبتها بنعم، نهضت من كرسيها تكاد تقطر استغرابا، ثم أزاحته بعنف وكأنه صخرة تخنق أنفاسها، نظرت إلي بتحد، وقالت لي بعصبية جعلت حروفها تتناثر مصحوبة برذاذ يشبه رذاذ ماء البحر حين يصطدم بالصخر:
أعتذر منك سيدي، فأنت رجل من العصر الحجري، وأنا لا أحب التحف..
وانتقلت إلى طاولة بعيدة وجلست لتدخن سجائرها بشراهة ريثما يأتيها رجل من العصر الحديث.
ضربت كفا بكف فانبعثت شرارة كادت تحرق عشب قلبي. من يومها وأنا أنتقل من كهف إلى آخر باحثا عن المرأة التي تناسب زمني.
**
حين رأيتها وسط جمع من الناس بمحطة القطار، وكانت الشمس تسير بطيئة نحو الغروب، وجدتها بأم عيني وحيدة بل فريدة في جمالها، قامة طويلة، وشعر ليلي منسدل في فوضى فاتنة على ظهرها المستقيم ينساب بعذوبة إلى وركها، وعينان واسعتان يتصارع فيهما الليل والنهار، وفم باسم كأنه نداء للحياة السعيدة، راهنت نفسي أنها لما تستدير ثانية إلى جهتي ستلقي علي سلامها الضاحك بغنج، وانها ستقبل علي كما تقبل الفراشة على الضوء وإن لم أكن ضوءا ولا أمثل لها تهديدا وجوديا يهدد كيانها.
لكنها حين استدارت وجدت وجهها يعلوه استغراب مأتاه من نظراتي البلهاء إليها، تجرأت، تذويبا لذلك الاستغراب، ودعوتها إلى فنجان قهوة وكنت متأكدا من خلال تجارب أصدقائي أنها ستطلب عصير برتقال..
سررت لأنها قبلت دعوتي بيسر، وطلبت من النادل، أمام دهشتي وخسارتي للرهان، فنجان قهوة شديدة السواد قوية العصر، بالغة المرارة، وزادت دهشتي أنها أخرجت علبة سجائر، ومدتني بواحدة، في هذه اللحظة شعرت بحرج شديد أمامها، فهل أقبل السيجارة وأشعل لها سيجارتها ونلقي كلامنا من بين الأدخة المتصاعدة أم أرفضها بكل أدب وأسبب لها في إحراج هي غير مستعدة له؟ بقيت للحظة أنظر ببلاهة إليها وإلى يدها الممدودة والسيجارة الصقيلة التي أطل رأسها من العلبة، ثم أخبرتها معتذرا أنني لا أدخن، ولم يسبق لي أن فعلت ذلك، ولم أخبرها أني أكره التدخين والمدخنين، وأن دخان السجائر يسبب لي دوارا واختناقا، كيف أفعل وقد سعدت بقبولها لدعوتي؟ كيف أفعل وهي الضيف الذي قبل الدعوة من دون تردد؟ فمول الدار ما يفرط..
ابتسمت، ضحكت، قهقهت، ثم قالت لي: الأكيد أنك لا تعاقر الخمرة، ولا تذهب إلى المراقص، ولم تجرب متعة السباحة عاريا، ولا العدو على الرمال من دون تبان؟ والأكيد أنها لم تتذوق أنثى من قبل!
ولما أجبتها بنعم، نهضت من كرسيها تكاد تقطر استغرابا، ثم أزاحته بعنف وكأنه صخرة تخنق أنفاسها، نظرت إلي بتحد، وقالت لي بعصبية جعلت حروفها تتناثر مصحوبة برذاذ يشبه رذاذ ماء البحر حين يصطدم بالصخر:
أعتذر منك سيدي، فأنت رجل من العصر الحجري، وأنا لا أحب التحف..
وانتقلت إلى طاولة بعيدة وجلست لتدخن سجائرها بشراهة ريثما يأتيها رجل من العصر الحديث.
ضربت كفا بكف فانبعثت شرارة كادت تحرق عشب قلبي. من يومها وأنا أنتقل من كهف إلى آخر باحثا عن المرأة التي تناسب زمني.