"شهود الحق في النساء أعظم الشهود"
محيي الدين بن عربي
تتفاوت المواقف من الإبداع من شخص لآخر، بحسب البيئة والتكوين والتجربة، ذلك ان الإبداع هم وجودي، يعشش في وجدان الكائن، ويحتاج لمران عظيم لصقل التجربة وتمامها، وقد يقضي الشاعر حياته بأكملها في مساءلة ذاته، منقبا في أعماقها عما يحفزه ويحثه على الكتابة والإبداع والعطاء، للوصول الى توازن روحي، ونفس تتصارع فيها كل هذه الاحاسيس الجياشة، لا يمكن ان تكون إلا "نفسا كبيرة تتعب في مرادها الأجسام".
تقول الشاعرة أفياء أمين الأسدي بصدد هذا الشعور:
«أنا شاعرة لأن الكتابة تغسل روحي، لأنها تنقذني من اللاجدوى.. الكتابة مطّهر للذنوب ولأنها رفیق جیّد للسجائر ونارها .. أظن أنني أملك من الجحيم أسفله ومن السماء أقصاها ولا خیار لي في موازنة ما أملكه إلّا بالكتابة.. أظنني قلما للقصيدة ومنفذها إلى العالم، نافذتها التي تستقّر عليها، ولا خيار إلّا أن أكون مصلوبة حين تفتح النافذة دون استئذان وتجعل الطير يأكل من رأسي وأنا راضية .. الكتابة ليست حبرا، إنها دم یسيل على الورق، یُنقل إلى السطور ویبّث فيها الروح. لذلك أكتب الشعر .. لأنه يبقيني حية ونضّاحة بالمعنى، إنّه ينقذ حياتي».
وهذا ليس غريبا عن شاعرتنا التي نشأت في بلد شهد أعظم الحضارات، ومنه انطلقت أنضج التجارب في الحداثة الشعرية لتغزو الكون كله، وأزهى القصائد التي عرفها ديوان الشعر العربي، وترعرعت في أرض الشعراء العظام الذين ملؤوا الدنيا بصيتهم العالي، وتظللت بفيء دوحة الشعر الظليلة، وقرات لمختلف المدارس الشعرية العربية والغربية تليدها وحديثها، وخاضت عدة تجارب وانشغالات ميدانية راوحت بين التمثيل وتقديم البرامج الثقافیة. والتدقيق اللغوي. والتحرير الصحفي، والتجربة المهنية، والمشاركة في شتى المسابقات الأدبية، والتظاهرات الشعرية، والنشر بمختلف المنابر والمنصات الثقافية، والنهل من عدة لغات ومدارس أدبية، واتجاهات فكرية وتجليات فلسفية.
وقد أتاحت لنا شرف تقديم عملها الشعري الذي اختارت له عنوان "وبكعبي العالي انام"، وما أشق تقديم الاعمال الشعرية على النفس لانها تعبر عن خاطر ومزاج المبدع، ووليدة لحظة وجدانية محتدمة بنفس الشاعر، الذي وحده ادرى بها، و«المرء مخبوء تحت لسانه» كما يقول الإمام علي. ومهمتنا تعليل الشكل الخارجي للمشاعر والصور الشعرية، لا تبرير المعنى الذاتي لها.
والعنوان على أية حال موغل في أرستقراطيته، عميق في رمزيته، وكبريائه وأنفته، وفي أنثويته أيضا، ويكتسب دلالات بليغة المغزى عميقة المعنى أيضا وأيضا، ذلك أن:
"الكعب العالي أهم اختراع بشري!"..
وأن "أنوثة المرأة تبدأ من الكعب العالي".
كما ورد في قولة قيل انها للفنان محمد عبدالوهاب
وانه “تمّ اختراع الكعب العالي من طرف امرأة سئمت تقبيلها على الجبين” كما تقول ساشا جيلتي
يضم الديوان أربعين نصا، مغلفا بغلالة من الرومانسية الجوانية الشفيفة التي تنبع من أعماق الذات الشاعرة، إذ لا حدود ولا تخوم للدفقات الوجدانية، ولا مواثيق تعقدها مع الذات، فالقصيدة تتكون صدفة، وتظهر بغتة نظير حالة جذب (ترانس) تجتاح الدواخل، هي نتيجة قراءات مكثفة، والاطلاع على تجارب عديدة. ومجايلة العديد من الحساسيات الشعرية، فكل قصيدة من قصائدها صورة لحالة من حالاتها المفعمة بالمتعة، تسعى من خلالها للقبض على اللحظة الشاعرية، بمعجم لغوي أرستقراطي، يفيض ألقا ودفئا وجاذبية، ومأهول بأحلام اليقظة الغضة، التي تبعث الدهشة في تفس المتلقي، وتبعث على الرعشة في كيمياء العبارة.
تقول الشاعرة أفياء أمين الأسدي، وهي المفتونة بسحر الكلمة الشاعرة، العاشقة لأسرار القصيدة الشعرية (الأدب الرومانسي بالنسبة لي هو القول الفصل في ميلي إلى الشعراء الذين أقرأ لهم، مَن لا يستطيع التعبير عن حبه لا يستطيع التعبير عن همّهِ وهمّ المجتمعات والبشرية، إنّهُ مفتاح الشاعرية).
تقول في نص: "سلالةُ شوك"
(على دكّة الليلِ
كنتُ أخيطُ ملابسَ نومِ شجونِ النهارِ
وأصنعُ قبّعةً مِنْ مساءٍ
تيقّظَ توّاً وفضَّ جروحي
وحتى أُستّرَ تلك الجروحَ ،
زرعتُ الورودَ على ساعديَّ
فكنتُ أطرّزُ كفّي بكفّي ،
وأبذرُ نجماً على مقلتيَّ
وأسترُ قلبي بورْقةِ سِدرٍ
فأبدو كخندقِ حربٍ على شكلِ مَرجْ
وحين يمرّ عزيزٌ علَيَّ
ويسأل عمّا خفا واستجدَّ، أ أنتِ بخيرٍ؟
أ أنتَ بخيرٍ؟ بقيتُ بخيرِ..
-أنا لستُ غيري-
يلوّحُ مثل الحصى حين تغرقُ في قاع نهرِ
ألوّحُ مثل الحقيقةِ في قعر بئرِ)
يحيل المتن الشعري عند شاعرتنا على عدة فضاءات تخييلية، باسطا ادواته من دون مكر او غموض، ماتحا معجمه من فيض وسخاء الطبيعة البكر، حيث تتواتر كلمات من قبيل "الليل، النهار، المساء، الليالي، والورود، النجم، المرج، النهر، البئر، الحرير، ورقة السدر ، قاع، قعر، حصى"، وظواهر طبيعية أخرى نائية عن كل تكليف إيديولوجي مما يفسد المعنى، أو يضفي مسحة من الغموض على النص، إنها واضحة كنقاء الطبيعة، صافية كماء النبع، او كما يقول أدونيس
"تستيقظ الحقيقةُ في الطبيعة عاريةً. في الكتاب، تلبس ثيابها"ا.
والقصيدة باعتقاد الشاعرة مختبر لشتى المعارف والتجارب والرؤى والتهيؤات والمزاج، ومعدن لصنوف الأخيلة، والانفعالات والانزياحات والمجاز.. عبر اعتناق اللغة المناسبة، لأن (اللغةُ بيتُ الوجود) بحسب تعبير هايدغر، تتيح لنا تأمل ما وراء النص، وفتح مغاليقه .
وليس غريبا في شيء، ما دام السياق شعرا أن نخلص إلى عمق التجربة الشعرية لديها.. مزاوجة بين النص الحر المنثور، وقصيدة الشعر الموزون، وهو ما يدفعنا لاستحضار قول لشيخ الفلاسفة وفيلسوف الأدباء ابو حيان التوحيدي: "أحسن الكلام، ما قامت صورته بين تظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم"
تلك هي بعض سمات المنجز الشعري للمبدعة العراقية أفياء الأسدي التي تحاول جاهدة بسطه عبر إبداعها الأنيق، الذي يطفح بالرقة والبداعة والجمال، وتسعى من خلالها للسمو بالرسالة الإنسانية للشعر، عاكسة قيمه الجمالية، مسلحة بترسانة من التعابير والصفات الأبيقورية التي تمتح معينها من حياض الطبيعة والسكينة الروحية...
تقوس المهدي / المغرب
محيي الدين بن عربي
تتفاوت المواقف من الإبداع من شخص لآخر، بحسب البيئة والتكوين والتجربة، ذلك ان الإبداع هم وجودي، يعشش في وجدان الكائن، ويحتاج لمران عظيم لصقل التجربة وتمامها، وقد يقضي الشاعر حياته بأكملها في مساءلة ذاته، منقبا في أعماقها عما يحفزه ويحثه على الكتابة والإبداع والعطاء، للوصول الى توازن روحي، ونفس تتصارع فيها كل هذه الاحاسيس الجياشة، لا يمكن ان تكون إلا "نفسا كبيرة تتعب في مرادها الأجسام".
تقول الشاعرة أفياء أمين الأسدي بصدد هذا الشعور:
«أنا شاعرة لأن الكتابة تغسل روحي، لأنها تنقذني من اللاجدوى.. الكتابة مطّهر للذنوب ولأنها رفیق جیّد للسجائر ونارها .. أظن أنني أملك من الجحيم أسفله ومن السماء أقصاها ولا خیار لي في موازنة ما أملكه إلّا بالكتابة.. أظنني قلما للقصيدة ومنفذها إلى العالم، نافذتها التي تستقّر عليها، ولا خيار إلّا أن أكون مصلوبة حين تفتح النافذة دون استئذان وتجعل الطير يأكل من رأسي وأنا راضية .. الكتابة ليست حبرا، إنها دم یسيل على الورق، یُنقل إلى السطور ویبّث فيها الروح. لذلك أكتب الشعر .. لأنه يبقيني حية ونضّاحة بالمعنى، إنّه ينقذ حياتي».
وهذا ليس غريبا عن شاعرتنا التي نشأت في بلد شهد أعظم الحضارات، ومنه انطلقت أنضج التجارب في الحداثة الشعرية لتغزو الكون كله، وأزهى القصائد التي عرفها ديوان الشعر العربي، وترعرعت في أرض الشعراء العظام الذين ملؤوا الدنيا بصيتهم العالي، وتظللت بفيء دوحة الشعر الظليلة، وقرات لمختلف المدارس الشعرية العربية والغربية تليدها وحديثها، وخاضت عدة تجارب وانشغالات ميدانية راوحت بين التمثيل وتقديم البرامج الثقافیة. والتدقيق اللغوي. والتحرير الصحفي، والتجربة المهنية، والمشاركة في شتى المسابقات الأدبية، والتظاهرات الشعرية، والنشر بمختلف المنابر والمنصات الثقافية، والنهل من عدة لغات ومدارس أدبية، واتجاهات فكرية وتجليات فلسفية.
وقد أتاحت لنا شرف تقديم عملها الشعري الذي اختارت له عنوان "وبكعبي العالي انام"، وما أشق تقديم الاعمال الشعرية على النفس لانها تعبر عن خاطر ومزاج المبدع، ووليدة لحظة وجدانية محتدمة بنفس الشاعر، الذي وحده ادرى بها، و«المرء مخبوء تحت لسانه» كما يقول الإمام علي. ومهمتنا تعليل الشكل الخارجي للمشاعر والصور الشعرية، لا تبرير المعنى الذاتي لها.
والعنوان على أية حال موغل في أرستقراطيته، عميق في رمزيته، وكبريائه وأنفته، وفي أنثويته أيضا، ويكتسب دلالات بليغة المغزى عميقة المعنى أيضا وأيضا، ذلك أن:
"الكعب العالي أهم اختراع بشري!"..
وأن "أنوثة المرأة تبدأ من الكعب العالي".
كما ورد في قولة قيل انها للفنان محمد عبدالوهاب
وانه “تمّ اختراع الكعب العالي من طرف امرأة سئمت تقبيلها على الجبين” كما تقول ساشا جيلتي
يضم الديوان أربعين نصا، مغلفا بغلالة من الرومانسية الجوانية الشفيفة التي تنبع من أعماق الذات الشاعرة، إذ لا حدود ولا تخوم للدفقات الوجدانية، ولا مواثيق تعقدها مع الذات، فالقصيدة تتكون صدفة، وتظهر بغتة نظير حالة جذب (ترانس) تجتاح الدواخل، هي نتيجة قراءات مكثفة، والاطلاع على تجارب عديدة. ومجايلة العديد من الحساسيات الشعرية، فكل قصيدة من قصائدها صورة لحالة من حالاتها المفعمة بالمتعة، تسعى من خلالها للقبض على اللحظة الشاعرية، بمعجم لغوي أرستقراطي، يفيض ألقا ودفئا وجاذبية، ومأهول بأحلام اليقظة الغضة، التي تبعث الدهشة في تفس المتلقي، وتبعث على الرعشة في كيمياء العبارة.
تقول الشاعرة أفياء أمين الأسدي، وهي المفتونة بسحر الكلمة الشاعرة، العاشقة لأسرار القصيدة الشعرية (الأدب الرومانسي بالنسبة لي هو القول الفصل في ميلي إلى الشعراء الذين أقرأ لهم، مَن لا يستطيع التعبير عن حبه لا يستطيع التعبير عن همّهِ وهمّ المجتمعات والبشرية، إنّهُ مفتاح الشاعرية).
تقول في نص: "سلالةُ شوك"
(على دكّة الليلِ
كنتُ أخيطُ ملابسَ نومِ شجونِ النهارِ
وأصنعُ قبّعةً مِنْ مساءٍ
تيقّظَ توّاً وفضَّ جروحي
وحتى أُستّرَ تلك الجروحَ ،
زرعتُ الورودَ على ساعديَّ
فكنتُ أطرّزُ كفّي بكفّي ،
وأبذرُ نجماً على مقلتيَّ
وأسترُ قلبي بورْقةِ سِدرٍ
فأبدو كخندقِ حربٍ على شكلِ مَرجْ
وحين يمرّ عزيزٌ علَيَّ
ويسأل عمّا خفا واستجدَّ، أ أنتِ بخيرٍ؟
أ أنتَ بخيرٍ؟ بقيتُ بخيرِ..
-أنا لستُ غيري-
يلوّحُ مثل الحصى حين تغرقُ في قاع نهرِ
ألوّحُ مثل الحقيقةِ في قعر بئرِ)
يحيل المتن الشعري عند شاعرتنا على عدة فضاءات تخييلية، باسطا ادواته من دون مكر او غموض، ماتحا معجمه من فيض وسخاء الطبيعة البكر، حيث تتواتر كلمات من قبيل "الليل، النهار، المساء، الليالي، والورود، النجم، المرج، النهر، البئر، الحرير، ورقة السدر ، قاع، قعر، حصى"، وظواهر طبيعية أخرى نائية عن كل تكليف إيديولوجي مما يفسد المعنى، أو يضفي مسحة من الغموض على النص، إنها واضحة كنقاء الطبيعة، صافية كماء النبع، او كما يقول أدونيس
"تستيقظ الحقيقةُ في الطبيعة عاريةً. في الكتاب، تلبس ثيابها"ا.
والقصيدة باعتقاد الشاعرة مختبر لشتى المعارف والتجارب والرؤى والتهيؤات والمزاج، ومعدن لصنوف الأخيلة، والانفعالات والانزياحات والمجاز.. عبر اعتناق اللغة المناسبة، لأن (اللغةُ بيتُ الوجود) بحسب تعبير هايدغر، تتيح لنا تأمل ما وراء النص، وفتح مغاليقه .
وليس غريبا في شيء، ما دام السياق شعرا أن نخلص إلى عمق التجربة الشعرية لديها.. مزاوجة بين النص الحر المنثور، وقصيدة الشعر الموزون، وهو ما يدفعنا لاستحضار قول لشيخ الفلاسفة وفيلسوف الأدباء ابو حيان التوحيدي: "أحسن الكلام، ما قامت صورته بين تظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم"
تلك هي بعض سمات المنجز الشعري للمبدعة العراقية أفياء الأسدي التي تحاول جاهدة بسطه عبر إبداعها الأنيق، الذي يطفح بالرقة والبداعة والجمال، وتسعى من خلالها للسمو بالرسالة الإنسانية للشعر، عاكسة قيمه الجمالية، مسلحة بترسانة من التعابير والصفات الأبيقورية التي تمتح معينها من حياض الطبيعة والسكينة الروحية...
تقوس المهدي / المغرب