نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

انبلاج

انبلاج
**
كانت واقفة هناك، في المدى الأبيض كجدار لا نهاية له. لا تعرف هل هي في المطار أم في حلم تأخر عن النوم. الحقائب كانت معها، لكنها لا تتذكر كيف وصلت. كل شيء ثقيل: الهواء، رأسها، الزمن، الذاكرة. قالوا إن الطائرة تأخرت، لكن صوتًا في داخلها همس: هو من تأخر، هو من لا يريدك.
لم يكن يُمسك يدها. حتى وهي صغيرة، كانت تسير إلى جواره كظلٍ خائفٍ من الضوء. كان قلبه يفيض حبًا، لكنها لا تذكر حضنًا. لماذا؟ لم يكن قاسيًا. كان فقط… رجلًا من زمن بلا لغة عاطفية.
كانت تبكي ليلًا، تحت البطانية القديمة، تتخيله يأتي ليطمئنها. ولم يأتِ. وفي المطار… رأته. لم يكن هناك، لكنها رأته. واقفًا على حافة الزمن، يراقبها. قالت له بعينيها: لماذا؟ فأدار وجهه، كأنه يهرب من دمعها المؤجل عشرين سنة.
اما زوجها فكان اول مارأت فيه ولمسته؛ لا مبالاته. تركها تنتظر، كأنها طرد بريد. عروسه، هكذا قالوا. لكنه كان يراها شيئًا آخر. دمية؟ نعم، دمية بلا ثمن.
كانت تظن أن الزواج سيمنحها دفئًا لم تنله. لكنه منحها بابًا جديدًا من العزلة. كان وجهه كلوحة طُمست منها الملامح. رائحة الخمر تسبقه، حتى قبل أن يدخل. هي لم تختره، لكنه أصبح قدرها.
المنزل لم يكن بيتًا. كان مساحة ضيقة من الخوف. كان يتحدث كأنه سيد، يتحرك كأنه جلاد، يضحك كأنما يسخر من وجعها. قال لها مرة: "أنتِ لي. اشتريتك." فضحكت. ضحكت ضحكة مجروحة كقنينة فارغة.
ثم فجأة… كانت في المطبخ. لا، في غرفة النوم. لا… في حمّام بارد يبكي فيه طفل. هل أنجبت؟ متى؟ الوقت مكسور. الذاكرة كمرآة سقطت. كل ما فيها مشروخ، لكن لم تُكسر تمامًا.
الحقير يدمر من حوله، وبخاصة من يراه أضعف منه. وإذا لم يجد من يدمره، أكل نفسه بشراهة، فهو دوما بحاجة إلى موضوع ينهش فيه ليؤكد وجوده. والنرجسي، حين يُمنع من الظهور، يصير وحشًا يلتهم من يقع تحت سلطته، رغم أنه يفتقد في الحقيقة لأي سلطة حقيقية. أما المجتمع المتطور، فهو مرآة قاتلة، تُشعره بفقره الداخلي وتزيد من غربته، ولذلك يكرهه سرًا.
كان الحب هو الغائب الأكبر. ملأت مكانه بالصمت الطويل. عانقت الظل حين لم تجد من يعانقها. كانت تمسح البلاط، وتغني بلا صوت. تُطعم زوجها، وتخفي وجعها تحت الملاعق. تُنفق عليه، وتخاف أن ينفجر.
هو يعلم أنها من نسل عريق. عائلتها كانت من أولئك الذين يُذكرون في المجالس. وكان يشعر أنه غريب حتى عن نفسه. زوجته الأولى لفظته. ابنه لا يذكره. القانون يُلزمه بالإنفاق، فحقد على كل النساء.
كان يدهن جسده المترهل بالزيوت، يذهب إلى المسبح، يحدّث نفسه أنه ما زال مرغوبًا. وكانت تراقبه بصمت، تسأله: "من تخدع؟" لكنه لم يسمع.
تعلمت لغتهم. خلسة. حصلت على عمل. خلسة. بنت نفسها قطعة قطعة. كل ما حرمه عنها، صار لها. وكل ما منّ به عليها، صار عبئًا عليه.
كانت تقف في المطار مرة أخرى. وحدها؟ ربما. خلفها ظلٌّ طويلٌ لا يخشى الضوء، أمامها هواء خفيف يشبه وعدًا غير مكتوب. لم تعد بحاجة إلى أحد. كانت تمشي، بخفة امرأة لم تعد تنتظر شيئًا، تحمل في قلبها سلامًا لا يعرف اسمه أحد..
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى